لم يكن من المستهجن أن يأمر رئيس سلطة رام الله محمود عباس بسحب
تقرير " غولدستون " من التداول في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم
المتحدة الذي دعا إلى تقديم مجرمي الحرب الإسرائيليين للمحاكمة
الدولية، لكن المستهجن حقاً هو أن يبدي الكثيرون استهجانهم واستغرابهم
لهذه الخطوة.
فقد كان من المستهجن حقاً أن تسلك سلطة رام الله غير هذا السلوك،
لأنها كانت شريكة فعلية في جرائم الحرب، كونها كانت طرفاً فيها. فقد
خشيت السلطة أن تقدم إسرائيل للرأي العام العالمي أدلة دامغة تدلل على
مطالبة قادة السلطة لقادة الإحتلال بمواصلة الحرب على القطاع حتى
القضاء على حركة حماس بغض النظر عن عدد المدنيين الفلسطينيين الذي
يسقطون قتلى وجرحى، ولا حاجة للإشارة إلى فيض الدلائل التي ساقتها
وسائل الإعلام الإسرائيلية لتأكيد ذلك.
أن ما أقدمت عليه السلطة من سلوك خياني مشين يدلل بما لا يدع مجالاً
للشك أن وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان كان محقاً تماماً
عندما صرح أكثر من مرة مؤخراً أن السلطة قد طالبت الحكومة الإسرائيلية
أبان الحرب الإجرامية على غزة بمواصلة الحرب حتى النهاية، علاوة على أن
ما أقدم عليه عباس يؤكد التقارير التي زخرت بها الصحف الإسرائيلية
والتي وثقت محاضر اللقاءات التي جمعت مسؤولي الأجهزة الأمنية التابعة
للسلطة وقادة جيش الإحتلال، حيث يستشف من هذه المحاضر أن سلطة رام الله
قد اتفقت على تفاصيل التقاسم الوظيفي مع الإحتلال في مجال محاربة حركات
المقاومة، لدرجة أنه يستدل من بعض هذه المحاضر أن أحد قادة الأجهزة
الأمنية التابعة لعباس كان يتباهى في هذه اللقاءات أن عناصر أمن السلطة
بإمكانهم تدنيس المساجد بأحذيتهم عندما مداهمتها بحثاً عن المقاومين،
في حين لم يصل جيش الإحتلال إلى هذا الدرك.
سلوا الشيوخ الذين نتفقت لحاهم
من يستهجن سلوك السلطة هذا وأجهزتها الأمنية تقوم بتعذيب المقاومين
ونسائهم لمنعهم من تنفيذ عمليات ضد الإحتلال، ولا مجال هنا لرواية ما
تعرض له أكثر من 1350 فلسطيني وفلسطينية اعتقلوا في سجون السلطة
وتعرضوا للتعذيب بسبب علاقة مزعومة مع المقاومة. لا حاجة هنا للإشارة
إلى الكثير من المجاهدين الذين يعذبون ويهانون وتنتف لحاهم في سجون
عباس ويجبرون تحت قهر التعذيب على قول وفعل أمور لا يفعلوها.
لقد دأبت السلطة على هذا السلوك منذ أن تأسست، فمن ينسى قيام جهاز
الأمن الوقائي الذي كان يتزعمه عضو اللجنة المركزية لحركة " فتح "
حالياً جبريل الرجوب بتسليم أعضاء خلية " صوريف " التابعة لـ " كتائب
القسام "، الجناح العسكري لحركة حماس عام 1997، بعدما كانوا محتجزين في
أحد سجون الرجوب للجيش الإسرائيلي، مع العلم أن هؤلاء الأبطال كانوا
مسؤولين عن تنفيذ عدد كبير من العمليات النوعية أسفرت عن مقتل وجرح عدد
كبير من جنود الاحتلال ومستوطنيه.
مهزلة لجان التحقيق
لكن المهزلة لا تقف عند هذا الحد، بل تصل إلى حدود غير معقولة عندما
يطالب عباس شخصياً بتشكيل لجنة للتحقيق في ملابسات طلب عدم بحث تقرير
غولدستون، مع أنه شخصياً هو الذي أرسل طلباً مكتوباً لممثل سلطته
إبراهيم خريشه لتقديم الطلب فوراً. ومن باب احترام وعي القراء يتوجب
عدم مناقشة مزاعم خريشه الذي برر عدم تقديم الطلب بالقول أن السلطة
كانت تخشى أن يؤثر التصويت على التقرير إلى توقف " عملية السلام " !!.
فـ " عملية السلام " التي يتشبث بها خريشه وسيده عباس هي تلك العملية
التي تضمن لإسرائيل مواصلة قضم المزيد من أراضي الضفة الغربية ببناء
آلاف الوحدات السكنية وتهويد القدس وتكريس حقائق العدوان على الأرض.
المهم أن يتضخم حساب ياسر عباس في البنك
بالإضافة إلى الشراكة مع إسرائيل في جرائم الحرب ضد الشعب الفلسطيني،
فإن أحد مسوغات عباس لطلب عدم بحث تقرير غولدستون هو حرصه على ضمان
الإمتيازات التي يحصل عليها هو والمحيطون به، حيث أن إسرائيل هددت بشكل
واضح وجلي بأنها ستمنع السلطة من إقامة شركة الجوال الثانية التي
يرأسها ياسر نجل عباس، فليذهب آلاف الشهداء وعشرات الآلاف من الجرحى
والمشردين للجحيم بشرط أن يتضخم حساب ياسر عباس في البنوك، هذه القاعدة
التي تحكم عباس، ولا شئ غيرها.ومع كل ما تقدم فإنه في أعقاب العار الذي
جلبه عباس على نفسه وعلى سلطته، مع تكراره جملة الأكاذيب التي لاكها
لتسويغ فعلته الدنيئة على مدى الأيام الماضية، تبين أنه ممتهن للكذب،
وبذلك نقيس على كل ما زعمه عباس في الماضي دعونا نعود إلى مزاعم عباس
أن حماس قد حفرت له نفقاً مفخخاً بالقرب من مقر إقامته في غزة، وجملة
الأكاذيب من هذا القبيل التي ساقها عباس.
مسؤولية فتح أيضاً
أولاً: أن ادعاء حركة فتح وممثليها أنها لا تتحمل المسؤولية عن عن
هذا الفعل الخياني، على اعتبار أن من قام بهذا الفعل المشين هم السلطة
وأدواتها هي صورة أخرى من صور الاستعباط المثير للغثيان. أليس عباس هو
رئيس حركة " فتح "، أليس كل المحيطين بعرفات هم من حركة " فتح "، ألم
يكن إبراهيم خريشه ممثل عباس في اجتماع مجلس حقوق الإنسان هو إبراهيم
خريشه الذي كان يمنع رئيس المجلس التشريعي المنتخب عزيز الدويك وبقية
ممثلي حماس في المجلس التشريعي من دخول المجلس بصفته مدير إداري في
المجلس بدعم وتفويض من حركته " فتح ".
أن الحل الوحيد لتبرئة فتح هو حل مستحيل بطبيعة الحال ويتمثل في
براءة الحركة ومؤسساتها ممن أقدموا على هذا الفعل المشين وعلى رأسهم
عباس.......وهذا الحل مستحيل، لأن معظم الذي يشغلون المواقع القيادية
في مؤسسات " فتح " الرسمية لهم سجل غير مشرف في ملفات لا تقل خطورة عن
هذا الملف، ومن لا يصدق فليستعرض! فقط أسماء أعضاء اللجنة المركزية
الجديدة الذين انتخبوا خلال انعقاد المؤتمر العام السادس للحركة الذي
صوره بعض الكتبة المأجورين بأنه " غير مجرى تاريخ حركة فتح وبعثها من
الرقاد ".
تعريف جديد للإنقسام
يتوجب الإنتهاء مرة وللأبد من تعريف الإنقسام الداخلي على أنه خلاف
بين حركتي فتح وحماس، بل هو إنقسام بين حركات مقاومة وسلطة عميلة
للاحتلال. إذ أن مواصلة التشبث بالمفهوم الحالي للإنقسام ينطوي على
تضليل كبير يخدم أجندات بعض الأطراف الفلسطينية التي تحاول جني الثمار
من كل المواقع. وعليه فإنه يتوجب أن يراعي أي اتفاق مصالحة هذا التعريف
الجديد. فعلى سبيل المثال لا الحصر يتوجب أن يكون من البديهي تجريد
سلطة رام الله من كل الأدوات التي تسمح بمواصلة عمالتها العلنية مع
الاحتلال عن طريق التنسيق الأمني، مع كل ما يتطلبه ذلك من ضرورة إعادة
صياغة الأجهزة الأمنية على أسس جديدة.
اليسار ومربع النفاق
أن قوى اليسار الفلسطيني أيضاً مطالبة بمغادرة مربع النفاق في
تعاملها مع الشأن الوطني. فعلى الرغم من أن أصوات ممثلي قوى اليسار
كانت الأعلى في التنديد بقرار السلطة، إلا أنها تأبي أن يترتب على هذا
التنديد فعل وطني عملي. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا قوة: بعد هذا الفعل
الخياني الذي أقدمت عليه قيادة السلطة ما هو مسوغ بقاء ممثلي اليسار في
اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي يرأسها عباس؟ أن بقاء
الجبهة الشعبية والديموقراطية غيرها من قوى اليسار في اللجنة التنفيذية
إلى جانب عباس وعبد ربه وعريقات يعني القبول بالفعل الخياني المشين
الذي أقدمت عليه قيادة السلطة، ولا يمكن العثور على تفاسير أخرى لذلك.
أن ممثلي اليسار على الرغم من إدراكهم أن عباس هو الذي يقف وراء قرار
طلب التأجيل على التصويت على تقرير غولدستون، إلا أنهم لم يوجهوا أي
انتقاد مباشر له، من هنا فإن أحد أعضاء اللجنة النفيذية لمنظمة ا!
لتحرير والذي يشغل في نفس الوقت منصب عضو مكتب سياسي لإحدى قوى اليسار
طالب التحقيق مع خريشه، مع أن خريشة أعلن بصريح العبارة أنه ما أقدم
عليه كان بالتشاور مع عباس.
استخلاصات حماس الخاطئة
لكن مشهد العبث لا يقف عند هذا الحد، بل يتعداه إلى سلوك بعض
الناطقين بإسم حركة حماس الذين قال أحدهم أن ما جرى سيضمن للحركة الفوز
مجدداً بالانتخابات فيما لو حدثت. وهذا يعطي صورة أخرى عن نمط
الاستنتاجات الخاطئة التي يهرع إليها بعض قادة الحركة. أن على حماس أن
تستغل ما جرى من أجل التوصل لإتفاق شامل محدد يضع حداً لحالة الإنقسام،
ويضمن تحقيق التوصل لبرنامج الحد الأدنى من التوافقات الوطنية على صعيد
كل القضايا، وفي نفس الوقت يضمن خروج حماس كطرف أوحد في حكم أي مكان في
الضفة الغربية وقطاع غزة.
فمن نافلة القول أن بقاء الوضع الحالي هو وصفة كارثية ليس للشعب
الفلسطيني فقط، بل لحماس أيضاً. على حماس أن تغادر المربع الحالي الذي
يجمع المقاومة والحكم، لأنها في النهاية ستدفع لترك المقاومة ولن تكون
قادرة على الحكم، فالحكم في ظل هذه الظروف هو حكم حسب قيود أوسلو. فلو
فازت حماس مرة أخرى وشكلت الحكومة بمفردها لتكررت نفس التجربة البائسة
التي نحياها حالياً...........فمن يجرب المجرب!!!
www.naamy.net |