حكمة التاريخ

أحمد شهاب

يُعبّر تُراث أيّ أمة عن الحصيلة الثقافية والفكرية والدينية والأدبية التي يتوارثها أبناؤها من جيل إلى آخر، وهو قد لا يكون بالضرورة حافلا بالفوائد والمنافع وأوجه الصواب، أو معبأ بالأخطاء والمضار وصور التخلف، وإنما هو تعبير حيوي وواقعي عن تجربة بشرية ثرية مضت بمنافعها أو مضارها، قوتها أو ضعفها، خيرها أو شرها، وبغناها المعرفي أو تواضعها الثقافي.

وهو القالب الذي يلخص «حكمة التاريخ» في العوامل التي ساهمت في نهضة المجتمعات وتقدمها، أو أدت إلى تخلفها وإنهيارها، والكاشف الموضوعي عن تأثير العدل والظلم، العلم والجهل، الحرية والاستبداد، الايمان والكفر، المبدئية والمصلحية، بسير وتطور وحركة الأمم والمجتمعات.. هو بكلمة مختصرة القالب الذي تتكثف فيه المعاني الروحانية والمادية للأمم.

ليس مهما أن يكون التراث زاخرا بالجوانب الايجابية حتى يمكن الاستفادة منه واستثماره على أتم وجه، بل تكفي بعض جوانب الإضاءة للاستدلال به ومن خلاله لتأكيد المعاني الايجابية، ولاستلهام عوامل النصر والنجاح في التجارب السابقة، واستنطاق مكامن القوة والغلبة فيها، وهو أمر خاضع لدرجة الوعي والنضج الفكري عند المجتمع بعلمائه ومفكريه وقادته السياسيين والدينيين.

وفي كثير من الأوقات تستفيد المجتمعات من الصور السلبية والبغيضة في التاريخ، من خلال قراءة نتائجها وخواتيمها، لتعمل على تجنبها وعدم تكرارها، وقد حث الله –جلت قدرته- عباده على التفكر والتأمل في أحوال الأمم السالفة، والنظر في الآثار التي خلفتها أعمالهم السيئة ((قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين))، فأخطاء السابقين مثل فضائلهم يمكن الاستفادة منها، باعتبار التأمل أداة لاكتشاف قوانين الفعل الانساني.

على ان الاستفادة من هذا التراث الضخم، واستثمار دروسه وعبره، يحتاج إلى بيئة معرفية تتسم بالهدوء، والنضج العقلي والعاطفي، بيئة لديها القابلية لاستيعاب ومناقشة مختلف زوايا التاريخ وعلومه وأحداثه وأخباره بعقل مفتوح، والتعاطي مع التاريخ بوصفه مادة للدراسة والتأمل، وليس ميدانا للحرب والمناكفة.. فتنوع طرق الاستدلال، وتنوع القراءات التاريخية تمثل مادة للثراء المعرفي، ومساحة خصبة لإبداع العقل في استنباط معانٍ جديدة للحياة المعاصرة، وعدم الانغلاق على فهم واحد، وقراءة واحدة للتاريخ.

تحويل التراث إلى مادة للنزاع والشجار يقلل من القدرة الابداعية عند الافراد، ولذلك فكلما ارتفعت حدة الصدامات والمشاحنات حول الأحداث والسير التاريخية في المجتمع، أصبح ذلك المجتمع أكثر تخلفا وقابلية للتراجع والضمور، وكلما انخفضت حدة التعاطي مع أخبار الماضين، وتم التعامل معها بطريقة دراسية تسهدف التّعرف والسّبر، اكتسب المجتمع قدرة الانجاز والتقدم والفاعلية في الواقع المعاصر.

ويبدو لي أن ذلك نابع من جهتين، الأولى: جهة الاستفادة من السنن التاريخية باعتبارها دروسا وعبرا غزيرة تُستلهم من تجارب الماضين، وما وقعوا فيه من أخطاء، أو أصابوا فيه من خطوات وإجرات، والثانية: جهة انقطاع المجتمع التام في اولويات الحاضر وتحديات المستقبل، وعدم الاستغراق في الماضي إلا كالواقف على الجدول الذي يستفيد من خيرات الماء ويرحل إلى مقصده، والمقصد هو الراهن بكل متطلباته، والمستقبل بكل تحدياته.

القلقون من الحوار المفتوح والهادئ حول التراث وقضاياه، إنما ينطلق قلقهم من الخشية على إيمان الأتباع من الضمور، والخوف من تزعزع المثال التاريخي الذي انطبع في مخيلتهم حول بعض الرجال والمواقف والأحداث الماضية، وهو المبرر الذي يلجأ إليه فقهاء الطوائف لرفع بعض شخصيات التاريخ إلى درجة ما فوق النقد والتقييم، وقد تفننت عدة فرق ومدارس اسلامية في هذا الجانب، وقرنوا نقد الأشخاص والأفكار بنقد الدين وشريعته السماوية، حتى أضحت قراءة أحداث التاريخ الإسلامي أشبه بالدخول إلى حقل مليء بالألغام، لا يعرف الباحث متى يمكن أن ينفجر في وجهه؟!

هذا القلق ليس له ما يبرره، وذلك لسبب رئيس وهو أن إيمان الناس في العموم لم يصدر عن حوار علمي أو بحث تاريخي، أو معرفة دينية معمقة، وإنما هو صادر عن انفعال مع البيئة الاجتماعية والاعلامية المحيطة به، ولعل أبرز دليل على ذلك، أن عموم الناس في المجتمعات المتشحة بأثواب المذهبية يلتزمون مواقف متشنجة وحادة تجاه بعض الفترات التاريخية وضد بعض رجال التاريخ، بناء على الخلفيات الدينية والثقافية التي اكتسبوها في محيط العائلة او المدرسة، وليس تأثرا بمعطيات بحثية معمقة.

لو سألت أي مسلم متشح برداء المذهبية عن العلل التي تقف خلف بغضه لشخصيات تاريخية محددة، وعن أسباب كراهيته غير المبررة لأتباع المذاهب والمدارس الفقهية الأخرى، لما وجدت لديه جوابا وافيا، سوى الاستعانة بعدد من التراكيب اللغوية المحفوظة سلفا، والتي تنم عن قوة التلقين المذهبي، لا الدليل المرتكز على البحث والدراية.

تفسح تلك الحقيقة المجال لتطمين كل القلقين على ايمان الناس، من أن زرعهم لن تقتلعه حركة البحث الحر في التراث والمسائل التاريخية، بل هو سيثمر بالدرجة الأولى اعادة الاعتبار إلى التأمل في الآفاق والسنن التاريخية، وتصحيح علاقة الباحثين والمفكرين بماضيهم الاسلامي، وبالتالي تصحيح علاقتهم مع الحاضر والمستقبل، وسيعود ذلك أيضا بالنفع على المستوى الاجتماعي، حيث ستؤطر العلاقة المتوازنة مع التراث النزاعات بين المنتمين للمذاهب الاسلامية على اختلافها وتباينها، ويدفع كل طرف لتقبل الطرف الآخر كما هو، وليس بحسب تصنيفات تاريخية مجحفة في أحكامها.

* كاتب من الكويت

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 25/آب/2009 - 4/رمضان/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م