يسألونك عن الأهلة

عبدالله بدر إسكندر المالكي

من الأسباب التي أدت إلى انتقاد القرآن الكريم بطريقة ليس لها مثيل في التأريخ، هو ما يحصل اليوم جراء ما يسمى بالتفسير العلمي للقرآن، وهذا التفسير لا يقوم على أساس إيماني نابع عن الأهداف التي نزل القرآن من أجلها، بل هو أقرب للتكلف الذي لا يرتضيه العقل ولا يقبله الشرع.

وهذا النوع من التفسير ما هو إلا إجتهاد منقطع عن المأثور ولا يؤدي إلا إلى إفساد المادة القرآنية، وفتح ثغرة لأعداء القرآن لأجل أن ينفذوا من خلالها دون صعوبة لتشكيك العامة من الناس بكتاب الله تعالى، وللأسف فإن علماء المسلمين لا يحاربون هذه الظواهر بقدر ما يزرعون الفتن الطائفية في نفوس الناس.

ولو أخذ العلماء هذا الأمر مأخذ الجد لفقد أعداء القرآن سلاحهم الذي يشهرونه مقابل القرآن الكريم بين الحين والأخر، ونحن إذ نشير إلى هذا الخطأ الفادح، لا يعني أننا نغلق الطرق على من يحاول الإجتهاد المشروع في تفسير كتاب الله تعالى، وإنما نقصد من بحثنا لهذا الأمر عدم التكلف الذي يؤدي إلى نظريات علمية تزول مع الأيام أو تبدل بأخرى غيرها.

فالأولى والأسلم أن نفسر القرآن الكريم بطريق يقبله العقل مهما إختلفت السبل إلى ذلك سواء كانت فلسفية أو تأريخية..علمية مشروعة أو أدبية..فقهية أو بلاغية أو غيرها من الطرق التي لا توجب تعقيد الظواهر القرآنية وإخراجها عن الغرض الذي نزلت لأجله.

لذلك فإن الحق تبارك وتعالى يرصد جميع الأبواب على السائلين الذين يريدون الترويج في أمور الكون والخروج عن المألوف، وإدخال الظواهر الكونية في متاهات هم في غنىً عنها، حيث أن السؤال عن تلك الظواهر لا يجدي نفعاً لمن لا يمتلك العلم الحقيقي في تسلسل الأحداث الكونية، ولذلك كلما وجه هؤلاء العامة من الناس أسئلتهم للنبي (ص) لا يأتي الجواب حسب أهوائهم وإنما يأتي بما يضمن لهم سلامة دينهم، وخير مثال على ذلك هو سؤالهم عن الأهلة كما في قوله تعالى: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون) البقرة 189. وفي الأية عدة مباحث أعرض لها على النحو التالي:

المبحث الأول: روي في أسباب نزول الآية عدة مواضيع أهمها ما ذكر في الدر المنثور وأخرجه إبن جرير عن البراء قوله: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية دخلوا البيت من ظهره فأنزل الله تعالى: [وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها] أما عن الشق الأول من الآية فهناك بعض الروايات تذكر أن مجموعة من الناس سألوا رسول الله (ص) عن الأهلة فنزلت هذه الآية: [يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس........الآية] لأجل أن يعلموا أجل دينهم من صيام وحج وعدة النساء. انتهى.

المبحث الثاني: سبب نزول الآية بشقيها التي إعتمدناها كمادة للبحث لا يوجب إستمرار السياق بنفس الموضوع وهذا دأب القرآن الكريم، فإن السياق لا يعتبر حجة إذا كان الموضوع يتضمن عدة أوجه، فإذا حصل هذا يحمل الوجه الثاني على أنه جملة اعتراضية وهذا كثير في القرآن الكريم كقوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق...........ثم غير القرآن السياق بجملة اعتراضية وهي قوله تعالى: اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً..........ثم عاد القرآن لإكمال الشق الأول من الآية بقوله: فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم) المائدة 3.

وعلى هذه القاعدة هناك آيات أخرى كثيرة منها آية التطهير وغيرها فليس هناك ما يمنع من أن تكون الآية المبحوث عنها من هذا النوع.

المبحث الثالث: الآيات التي يكون لها سبب للنزول لا يعني أن السبب يلازم الآية في كل زمان ومكان، وإنما تفسر الآية بسبب نزولها كمسألة وقت تأريخية لاغير، وليس من العدل أن نجعل القرآن خاضعاً لأسباب النزول، فإذا أردنا الأخذ بالسياق دون تفكيكه وهو الأرجح، يكون الشق الثاني مرتبطاً بالشق الأول ولا ينفك عنه.

وبناءً على هذا كان سؤالهم عن الأهلة فيه إشارة إلى مطلب آخر غير الذي جاءت به الإجابة كما هو حال من يسأل عن أشياء خارجة عن إختصاصه وليس لها كثير فائدة، لذلك كان توجيههم من هذا الباب، لأن القرآن كتاب هداية، فكأن الله تعالى حدد لهم فائدة الأهلة التي تنظم حياتهم العبادية دون النظر إلى مطالبهم الأخرى.

ولعمري هذا هو الهدف من نزول القرآن الكريم فليس من إختصاصه الخوض في الحديث عن علم الفلك أو الجيلوجيا أو العلوم الأخرى، وإن كنا لا نرفض بعض الإشارات التي هي حقائق علمية لا تقبل الشك.. ومن هنا يظهر أن المهمة التي جاء بها القرآن الكريم لا تستوجب التكلف في تدخل الإنسان بإمور خارجة عن مهامه العبادية. ولذلك فإن القرآن الكريم عندما يشير إلى حركة الأرض والقمر واختلاف الليل والنهار لا يتناولها بإسلوب علمي يثير الدهشة التي يروجها أصحاب هذا النوع من التفسير، وإنما يتناولها من حيث تأثيرها في حركة الإنسان العبادية، كما في قوله تعالى: (هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب......الآية) يونس 5.

وكذلك قوله: (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيءٍ فصلناه تفصيلاً) الإسراء 12. وكذا قوله: (الحج أشهر معلومات......الآية) البقرة 197. وقوله: (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً) البقرة 234. وكذلك قوله تعالى: (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً) الفرقان 62.

ولو تأملت الآيات التي مرت جميعها لوجدتها تشير إلى المسألة العبادية التي ترتبط في القمر والأشهر والليل والنهار وهكذا، فهو تعالى لا يحدثنا بأمور فلكية أو جيلوجية، أو غيرها من العلوم الطبيعية، ومن هنا يظهر أن الشق الثاني من آية البحث يشير إلى هذا المعنى ولكن من باب التعريض والتحذير لهؤلاء الذين يريدون صرف القرآن إلى أمور خارجة عن الأهداف التي نزل من أجلها، وهذا التفسير في منتهى الظهور فليس في الكلام غموض أو باطن أو إشارات خارجة عن الذوق العربي السليم، وإنما هذه هي الأساليب البلاغية التي إتبعها العرب في كلامهم بل حتى في حياتنا اليومية فنحن لا زلنا نتفاهم بهذه الأساليب فعندما تكون بينك وبين غريمك بعض المشاكل التي تريد حلاً لها فليس لك إلا أن تقول له دعنا نخرج من الباب كما دخلنا منه، ولغة العرب بنيت على المجاز والكناية، وهذا النوع من المجاز كثير في القرآن الكريم ولو أردنا التطرق للأمثلة نكون قد إبتعدنا عن الموضوع الذي نحن فيه.

وما ذهبت إليه ليس بدعاً من التفسير بل أن الكبار من المفسرين قد استفاضوا الحديث فيه فهذا الفخر الرازي يقول في التفسير الكبير: [وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها] يعني أنكم لما لم تعلموا حكمته في اختلاف نور القمر صرتم شاكين في حكمة الخالق، فقد أتيتم الشيء لا من البر ولا من كمال العقل إنما البر بأن تأتوا البيوت من أبوابها فتستدلوا بالمعلوم المتيقن وهو حكمة خالقها على هذا المجهول فتقطعوا بأن فيه حكمة بالغة، وإن كنتم لا تعلمونها، فجعل إتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح، وإتيانها من أبوابها كناية عن التمسك بالطريق المستقيم، وهذا طريق مشهور في الكناية، فإن من أرشد غيره إلى الوجه الصواب يقول له [ينبغي أن تأتي الأمر من بابه] وفي ضده يقال إنه [ذهب إلى الشيء من غير بابه] قال تعالى: (فنبذوه وراء ظهورهم) آل عمران 187. وقال: (واتخذتموه وراءكم) هود 92. فلما كان هذا طريقاً مشهوراً معتاداً في الكنايات، ذكره الله تعالى ههنا وهذا تأويل المتكلمين.

ثم يضيف الفخر الرازي: فإن تفسيرها [يقصد الآية بكاملها] بالوجه الأول يطرق إلى الآية سوء الترتيب وكلام الله منزه عنه. انتهى. أقول: هو أراد بالمقطع الأخير من كلامه أن هناك آراءً أخرى سبقت الرأي الذي ارتضاه في آخر الوجوه التي عرضها ويتضمن كلامه أيضاً الأخذ بتفسير الآية بكامل سياقها دون العدول إلى الجملة الاعتراضية.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 23/آب/2009 - 2/رمضان/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م