التّوجّه النّووي في منطقة الشّرق الأوسط

أسباب ومبرّرات

د. مؤيد الحسيني العابد

لقد مرّت منطقة الشرق الاوسط بعدة تقلبات في المجال السياسي والامني والعسكري كانت كلها محفّزة لان تفكّر العديد من الدول في تلك المنطقة، وهي دول فقيرة في القياسات العامة كالاردن ومصر وغيرها للدخول في حقل البحث والانتاج النووي ناهيك عن الدول الغنية التي تعتبر خارج نطاق الحسابات العلمية لاسباب كثيرة لا مجال لذكرها هنا! تجعلها مستعدة لتكون بهذا الاتجاه ولتقطع تذكرة للدخول في رحاب الدول النووية، ( من هذه الدول السعودية والامارات وقطر وغيرها).

ربّ سائل يسأل انّ من حقّ أي دولة ذات سيادة واستقلال ان تتجه الى هذا الجانب للحصول على الطاقة لشعبها وادامة الحياة، هذا صحيح لكنّ الشيء المتعلق بالطاقة النووية لا يترك المجال للحديث عن استقلال لوحده ولا لسيادة لوحدها لان الامر يتعلق بالبيئة العامة للعالم اجمع، فأي مشكلة تحدث ستنعكس على الجميع (ولنا في العديد من الحوادث المثل الواضح وسأحاول أن أسلّط ضوءاً يسيراً على بعض الحوادث النووية في مقال آخر!) لذلك فلا بدّ ان يطّلع العالم على ما يجري من امر الطاقة النووية على الاقل في الاطار الذي يشمل سياسة حماية البيئة من التأثيرات التي يحدثها المفاعل.

 لقد تعوّد المتخصّصون على اسلوب تقني دقيق او اساليب تقنيّة عامة متعارف عليها لا يمكن تجاوزها، تشمل هذه التقنية عمل المفاعل واساليب الحماية واساليب الحفاظ على البيئة من تأثير النفايات التي يطرحها المفاعل، علاوة على طرق التعامل مع اية مشكلة قد تحدث هنا او هناك. ثم اساليب التعامل مع وضع العاملين والفنيين. اي يمكن القول ان هناك ما يتعلق بالمفاعل نفسه وما يتعلق ببيئة المفاعل (من بيئة جامدة وبيئة متحركة). كذلك ان لمكان المفاعل اهمية كبرى لا تقل عن الاساليب المذكورة اعلاه، فباي مكان يتم تنفيذ البناء، افي بيئة تتعرض الى تغييرات جيولوجية ام غير ذلك؟ بالقرب من مجرى مائي أم لا؟ هل يجوز بناءه في منطقة جبلية أم سهلية ولماذا؟ الى آخره من الاسباب وطرق التعامل مع هكذا وضع.

لذلك ولاهمية هذا الموضوع على النطاق العام سنتطرق الى الاسباب التي جعلت من الدول الفقيرة أن تتجه الى هذا المجال بالرغم من صعوبة الولوج الى هذا المضمار لاسباب عديدة منها: أن الانظمة اليساسية التي تحكم هذه البلدان متغيرة في تطلعاتها مما يجعل الصعوبة في مسك الاسباب التي تجعل هذه الدول أن تتجه هذا الاتجاه وفي هذه المرحلة بالذات! إضافة الى تعقيد هذا المجال الذي سيكلف هذه الدول من مالها وجهدها الشيء الكثير.

ما الذي يجعل مصر البلد الفقير ان يتوجه هذا التوجّه؟ وما الذي يجعل الاردن البلد الشائك في توجّهاته السياسية والديموغرافية والاقتصادية بل وحتى الامنية ان يتجه هذا التوجّه؟ سنقوم بدراسة هذين البلدين بشكل تفصيلي لنطّلع اكثر على ما يحيط بنا وبهما من مسائل. لكن يجب أن نعلم بأنّه لا يمكن ان نتطرق الى الدول هذه كلها بنفس الاسباب والمبررات(كما أشرنا)، لذلك سنتطرق الى الدول ذات القدرة العلمية مثل مصر كموضوع مستقل ونبحث المجموعة المتبقية بشكل وممبررات تتناسب مع توجهها.

تقع جمهورية مصر العربية في الجهة الشمالية من أفريقيا، يحدّها البحر المتوسط من الشمال والبحرالاحمرمن الشرق وليبيا والسودان يحدّانها من الجنوب. تبلغ مساحتها حوالي مليون كيلومتر مربع. عاصمتها مدينة القاهرة. لها إمكانية علمية عالية على الدخول في المجال النووي بالاضافة الى تطلّع أنظمتها السياسية الى إمتلاك القدرة النووية على إختلاف مبادئهم السياسية عبر أكثر من خمسين عاماً. رغم ما مرّت به من مدّ وجزر في هذا التطلّع وفق ما تقتضيه التأثيرات الاقليمية(كما حصل لنظام حسني مبارك قبل عشر سنوات ونيف!).

تبدأ قصّة السعي النّوويّ في مصر عام1955 عندما تشكّلت سلطة الطاقة الذرية المصرية والتي تقدّم نشاطها الى الاعوام التالية بحيث قامت بالانفتاح على دول العالم الاشتراكي وخاصة الاتحاد السوفيتي آنذاك الذي قام بالفعل بتزويد مصر بمفاعل نووي للاغراض البحثية والتدريبية للكوادر المصرية العاملة بمركز الابحاث النووية في أنشاص الذي يبعد 40 كيلومترا عن القاهرة. وفي عام  1961 في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، إعتبرت مصر آنذاك من دول العالم الثالث التي سعت بكلّ قوة الى البدء بالمشروع النووي كردّ على ما وصلت إليه دويلة إسرائيل، خاصة بعد قيام نظام قومي كانت تطلعاته الى تشكيل كيان قومي عربي قوي، رغم التحفّظات على العديد من السلوكيات لهذه السياسة آنذاك!

لقد كانت قدرة المفاعل النووي الانتاجية 2 ميغاواط وكان وقوده من اليورانيوم المخصّب بنسبة %10 . وبهذه النسبة كما نعلم لا تستطيع مصر بأي حال من الاحوال أن تنتج البلوتونيوم للاغراض الاخرى! بل ويمكن القول أنّ نسبة التخصيب المذكورة غير كافية حتى لانتاج سلاح نووي من اليورانيوم المخصّب. وكان هذا المفاعل من المفاعلات البسيطة التي خصّصت للاغراض التي أشرنا إليها أعلاه ومنها لتدريب الكوادر التي ستعمل في المستقبل في هذا المجال. لقد كان تطلّع نظام عبد الناصر الى الاتحاد السوفييتي كبيراً دون الدول الاخرى في بداية سياسته النووية! علماً أنّ لمصر مصادر قليلة لليورانيوم القابل للانتاج الفعلي والكمية التي تذكرها السجلات هي 5000 طن (حسب ما ذكره فرانك بارنابي في كتابه القنبلة الخفية ـ الصفحة 129). ورغم ذلك كانت لدى عبد الناصر العلاقات الدولية الجيدة التي جعلته يتوجّه الى دول عديدة لاستيراد كميات من اليورانيوم من مصادر مختلفة.

من خلال هذه الاهداف المشروعة سعت وتسعى مصر الى بناء وتجهيز مفاعلات جديدة. فسعيها كان منذ ستينيات القرن الماضي (كما لاحظنا).

إنّ لمصر كما لبقية دول المنطقة طموحاً لانتاج الطاقة الكهربائية من المفاعل النووي حيث أصبح من الضرورات الملحّة التي تضغط على النظام في مصر بسبب متطلبات السكان المتزايد عددهم الذي بلغ قرابة 75 مليون نسمة. فهذا الكم البشري بحاجة الى تدوير إضافي لعجلات المصانع وإيجاد فرص عمل من مصانع أخرى، بالاضافة الى الحاجة الكبيرة لتحلية مياه البحرمن خلال الحرارة المنتجة من التفاعل الانشطاري داخل قلب المفاعل.

 ولا يمكن لمصر أن تهمل هذه المساحات الشاسعة من الصحراء لاستغلالها في الزراعة بعد إستصلاحها من خلال إستخدام الماء المحلّى العذب. لذلك توجّهت عبر السنين الى محاولات شراء وتعاقد مع دول وشركات لتمويلها وتشغيل مفاعلات داخل أرض مصر. لذلك حاولت شراء مفاعل نووي فرنسي بقدرة عالية وبإشراف مشترك مع فرنسا للاسباب المتعلقة بالواقع الامني النووي!! ولكن أريد لهذا التعاقد أن يكون تمويله من القدرات المالية لمصر لذا لم تستطع مصر حينذاك تمويل المشروع، بالاضافة الى رفض مصر لصيغة المراقبة المذكورة. وإستمرت المحاولات مع الولايات المتحدة الامريكية والصين والمانيا الغربية آنذاك ولكنّ المحاولات باءت بالفشل للاسباب السابقة نفسها.

وقد إستمرّت المحاولات المصرية للحصول على الامكانية النووية من خلال بناء عدد من المفاعلات في عموم مصر، ففي منتصف الثمانينيات قررت مصر بناء ثمانية مفاعلات قدرة الاربعة الاولى 3600 ميغاواط من الطاقة الكهربائية بينما تكون قدرة الاربعة الاخرى قرابة 4800 ميغاواط  كهرباء، لذلك ستكون الطاقة الناتجة من المفاعلات الثمانية قرابة %45 من إحتياجات مصر من الطاقة آنذاك ولغاية العام 2000. لقد أصبحت القدرة المالية التجهيزية لهذه المفاعلات العقبة الاساس أما تنفيذ هذا المشروع الضخم، حيث تكلّف المفاعلات الثمانية حوالي 40 الى 45 مليار دولار آنذاك! مما إضطر الدولة الى تقليص طموحها الى مفاعلين لبنائهما في مدينة الاسكندرية، رغم الديون المتفاقمة على مصر والتي تتزايد كلّ عام بزيادة فوائدها الكبيرة والمرهقة للاقتصاد المصري(رغم الجدل المستمر حول إلغاء المشروع ونية الحكومة إقامة منتجع سياحي على الارض المخصصة للمفاعل في الضبعة في مرسى مطروح، ووقوف علماء الطاقة النووية المصريين الى جانب تنفيذ المشروع وضدّ توجّه الحكومة المذكورالتي أرادت فيه الابتعاد عن تنفيذه في هذا المكان!).

  لقد إتّهمت العديد من الجهات السياسية والعلمية الحكومة المصرية بالرضوخ الى الضغوط الامريكية والاسرائيلية للتخلص من الموقع الصالح أصلاً لانشاء مفاعلات نووية وإبعاد مصر عن هذا المجال. علماً أن قراراً قد صدر من رئاسة الجمهورية عام 1981 لانشاء محطات لتوليد الكهرباء وتحلية مياه البحر في الموقع المذكور. وهو موقع جيد ضمن المواصفات العلمية العالمية ويصلح لبناء أربعة مفاعلات نووية لانتاج طاقة كهربائية تقدر بأربعة آلاف ميغاواط.

تشير كلّ تقديرات الوكالة الدولية للطاقة الذرية الى أنّ لمصر القدرة الجيدة على إمتلاك الفعالية المناسبة لزيادة قدراتها الانتاجية الكهربائية لوجود سياسة رصينة في الاكتفاء الذاتي من كوادر فنية وعلماء قادرين على تشغيل وإدامة العمل بهذا البرنامج.

لاشك إنّ لكيان إسرائيل أساليب عدة لابعاد مصر عن هذا التوجه، وهذا التصرف ليس بالغريب اذا ما لاحظنا من خلال العقود الاربعة الماضية كيف لعبت إسرائيل الدور الكبير في إلغاء العديد من الصفقات للتعاقد بين عدة دول ومصر لدعمها بهذا الجانب.

لقد مرّت السياسة النووية المصرية بعدّة إجتهادات وتغيّرات كما هي السياسة المصرية العامة، لذلك وصل مسار هذه السياسة المصرية الى أن تنفتح على الارجنتين في عام 1998 ليفتتح الرئيس المصري مع ضيفه الرئيس الارجنتيني مفاعل مصر البحثي الثاني ووحدة تصنيع الوقود النووي اللازم لتشغيل المفاعل المذكور. تكون قدرة المفاعل 22 ميغاواط وهو من النوع (MPR) وقد نفّذ في أنشاص بقدرة جيدة للفيض النيوتروني تبلغ 13^10×1.8 نيوترون لكلّ سنتمتر مربّع في الثانية الواحدة(حيث توضع العينات المراد تنشيطها خلال قلب المفاعل أو حوله. وتنقل العينات من قلب المفاعل إلى التحميل حيث توضع العينات فى أوان خاصة لتكون معدّة للنقل خارج الموقع. كما وأنّ للمفاعل أغراض أخرى منها لانتاج النظائر المشعّة  للتطبيقات الزراعية والصناعية والطبية التشخيصية والعلاجية. كما وينتج المفاعل مصادر نظير الكوبلت المشع المستخدمة في التشعيع النووي.

ويكون المفاعل مجهّزاً بمرافق لاختبار وتطوير الوقود النووي ومعالجة بلورات السيليكون بالنيوترونات لاكسابها خواصاً إلكترونية جديدة، وهناك العديد من الاستخدامات الاخرى. كما وتضيف الجهة المصرية بعض الاغراض الاخرى كلما إقتضت الحاجة لذلك وإستوعبها المفاعل.

ومن سمات هذا المفاعل أنّه من نوع الحوض المفتوح ويبرّد ويهديء بالماء الخفيف وفيه عاكس النيوترونات من نوع البيريليوم. وتكون نسبة تخصيب اليورانيوم 235 لوقود المفاعل %19.79 وكلّ وحدة من وحدات الوقود تحتوي على 19 لوحاً سمك الواحد منها 1.5 ميلليمتر،ويبلغ قطر وعاء قلب المفاعل  4.5 متر وإرتفاعه 12 متراً(يستقر قلب المفاعل على عمق 10 أمتار تقريباً تحت بحيرة من الماء حجمها يزيد على 160 متر مكعّب فى وعاء المفاعل الرئيس)، كما ويحيط بالمفاعل العديد من المنشآت المهمّة كالمختبرات الكيميائية الاشعاعية ومعمل إنتاج الوقود النووي. بالاضافة الى العديد من المنشآت الملحقة. وتدير المفاعل مجموعة من المنظومات المهمة وهي: منظومة تبريد قلب المفاعل والحوض ومنظومة التبريد الثانوي ومنظومة إدارة النفايات ويتمّ فيها تخزين الوقود المستهلك في حاويات خاصة حسب نوع النفايات المشعّة. وهناك منظومة الاشراف والتحكّم ومنظومة حماية المفاعل.

يتبع..

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 18/آب/2009 - 26/شعبان/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م