الشيعية السياسية من الإصلاح الى الثورة

د ريتا فرج

منذ أن تلقى الإسلام التاريخي صدمته الأولى إثر الانشقاق السياسي الذي أعقب اجتماع السقيفة، وما تلاها من تداعيات على وقع فتن متنقلة، دخلت الحاضرة الإسلامية في متاهات التشرذم والصِدام، التي توسلت البعد الديني لإضفاء الشرعية على أنماطها العنفية المتفجرة بين ضفتي النهر، ونعني بهما الجدال المتواصل بين السنَّة والشيعة، على خلفية وراثة النبي، التي أعقبها إرث فقهي غني بإشكالياته أحدث تعارضاً ثقافياً تجلت نتائجه في الآداب السلطانية سابقاً، وبولاية الفقيه المتأخرة لاحقاً؛ وعندما تبنت الدولة الصفوية المذهب الشيعي كمرجعية دينية رسمية، في موازاة صراعها مع السلطنة العثمانية، تعمق الخلاف بين عترة أي جماعة المسلمين، وسلك طريقاً دموياً لم تنته مآلاتها وعواقبه حتى الوقت الراهن، الأمر الذي راكم من حركية الانتاج الفقهي بين الجدولين المتنازعين الذين فرقتهما السياسة وستجمعهما لاحقاً تحت إهاب أمة إسلامية حاضنة وتوحيدية.

تاريخياً لم تتأطر العلاقة بين المسلمين إلاَّ في سياق النزاعات السياسية التي وصلت الى ذروتها مع تفكك أواصر الخلافة الإسلامية عام 1924، وقبل هذه المرحلة الانتقالية تبلورت الوهابية المتحالفة مع آل سعود لتنتج نمطاً من العنف الرمزي والمادي لم يُضفِ على محيطه الجغرافي سوى التحارب، وفي الجهة المقابلة بدأت الحوزات الدينية الشيعية الموزعة بين قم والنجف تتبع نهجاً إصلاحياً بغية الاجابة عن إشكاليات الدولة، والقلق الذي يراودها بدءاً من سؤال الإمامة الخاصة بمجال علي كما يصنفها هشام جعيط ،وصولاً الى ظهور الخمينية كرافعة للشيعية السياسية مقابل الرافعة الوهابية.

مرت الشيعية السياسية بالعديد من المراحل فبدأت إصلاحية مع أهم روادها وعلمائها المنتشرين بين جبل عامل في لبنان، والنجف في العراق، وقم في إيران، وبعدها سلكت مدارج الثورية الخفية مع محمد باقر الصدر، الى أن وصلت الى ثوريتها الكاملة مع الإمام الخميني، الذي قاطع الفقه السياسي الانتظاري، وصاغ أطروحته حول ولاية الفقيه وصلاحياتها، وأقام الجمهورية الإسلامية عام 1979، كجواب على سؤال السلطة المفقودة منذ بيعة السقيفة؛ غير أن الشيعية التي تتزيا برداء الولي الفقيه لم يتقبلها الكثرون خاصة في لبنان والعراق والبحرين، مما عمّق السؤال الاشكالي، وأضفى مزيداً من الجدال بين المرجعيات الدينية الرافضة لهذا المبدأ وبين المرجعيات الأخرى الحاضنة له.

لم تنحصر الشيعية السياسية الثورية عند حدود الجمهورية الإسلامية الايرانية، بل تعدتها الى تخوم مقاومات في لبنان وفلسطين والعراق، فمن المعروف أن الإمام الخميني صاغ في أدبياته رؤية إنقلابية على الاستبداد والطاغوت في داخل مجاله الجغرافي وخارجه، ودشن لأحزاب مقاومة في الصراع مع الكيان الصهيوني، وقام بتوظيف رهاناته بوصفها ثورة اسلامية أممية، أي أنه نقل الثورة الى أطراف العالمين العربي والاسلامي تحت شعار " الموت لأميركا ... وإسرائيل ".

 غير أن تصدير الثورة أدخل شيعة لبنان والعراق تحديداً في توتر مع محيطهم بدعوى ولائهم لايران وانتمائهم العقائدي والسياسي اليها، والدليل على ذلك أن الحرب التي خاضعها الرئيس السابق صدام حسين مع جمهورية آيات الله عام 1981 كانت من أولى أهدافها إيقاف التمدد الثوري الخميني، أما على الجبهة اللبنانية حقق حزب الله في مقاومته انتصاراً تاريخياً على العدو الاسرائيلي عام 2000 و 2006، لكن هذا النصر أعاقه في الاندماج مع الدولة لأسباب تتعلق بمعاناة الشيعة في لبنان، وتغييبهم المتعمد عن المشاركة في صناعة القرار السياسي؛ وحين حاول الإمام المغيِّب موسى الصدر ومن بعده الإمام محمد مهدي شمس الدين، دمجهم في الدولة عبر المطالبة بحقوقهم المهدورة، في سياق نهج إصلاحي معتدل، فشلت تجربتهما بفعل ظروف إقليمية معينة، وليس كالنتيجة لعدم تقبلهم للكيان اللبناني القائم، فالشيعة في لبنان رفضوا دعوات الفيدرالية التي انتشرت خلال الحرب الأهلية، مما يعني أن ولاءهم لوطنهم أولاً، وبالتالي فالحديث عن التشكيك بوطنيتهم يندرج في لعبة التقاتل المحموم على إدارة شؤون البلاد.

في العراق استطاع الشيعة تجاوز أصعب اختبار لوطنيتهم خاصة في الحرب العراقية _ الايرانية، حيث حاربوا الى جانب الجيش العراقي ضد الخمينية وثوريتها، وفي مرحلة النظام السابق اكتفى أئمة الحوزة في النجف ومن بينهم محمد باقر الصدر بالشأن الاجتماعي تجنباً للاحتكاك مع صدام حسين، لكن تجربة الصدر التي تختزن أدبيات سياسية اعتمد عليها الإمام الخميني في بناء صرحه، أُفشلت حين تمّ إعدامه عام 1980؛ وبعد الاحتلال الاميركي حققت الشيعية السياسية المتمثلة برئيس الوزراء نوري المالكي المنتمي الى حزب الدعوة بعضاً من أهدافها، في حين تراجع مقتدى الصدر بعد دخوله العمل السياسي عام 2005، وإنخرط في أحداث عنفية وطائفية بعد تفجير مرقد الإمام العسكري عام 2006، حيث مارس الجناح العسكري للتيار الصدري أبشع ممارسات التطهير الديني، وتم إخضاعه لاحقاً من قبل حكومة المالكي.

والحال تكشف المراحل التي مرت بها الشيعية السياسية من الاصلاحية الى الثورية عن عدة معطيات، الأول، انتقالها من النهج الإصلاحي الذي أسس له روادها ودخولها في العمل الثوري الذي وصل الى ذروته مع آية الله الخميني؛ الثاني، احتكارها للعمل المقاوم في وجه إسرائيل والولايات المتحدة وهذا لا يعني غياب المقاومة عند الفئات الدينية والسياسية الأخرى؛ الثالث، فشلها في بناء الدولة المنشودة ورغم نجاحها في إيران فهي تتعرض للعديد من الهزات التي تفرضها أسئلة الداخل في نظام الملالي؛ الرابع، محاولتها الانتقال من العمل الثوري الى العمل السياسي، أي تحولها الى حزب سياسي ويبدو أن حزب الله في لبنان يسلك هذا الطريق بأسلوب بطيء ويتخلى عن الكثير من أطره العقائدية تحديداً بعد الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب.

فهل ستتبنى الشيعية السياسية المقاومة في لبنان خلاصات الإمام محمد مهدي شمس الدين؟ والى أي مدى بإمكانها فك ارتباطها البنيوي مع إيران الثورة؟ وهل الحديث عن هلال شيعي أمر وهمي؟ وأين الوهابية في ظل الحديث عن حركة التشيّع المتزايدة في الشرق الأوسط؟

إن هذه الاشكاليات تحتاج الى مزيد من الوقت لمعرفة نتائجها ومآلاتها، يبقى أن تاريخ الشيعية السياسية يبرهن على حقيقة أساسية مفادها: توسل الديني لصالح السياسي ليس فقط عند الأصولية الشيعية، بل أيضاً عند الوهابية، فكلا الطرفان يتقاذفان الاتهامات المنتجة للعنف التي تتسع دائرته على مرمى تذرير القوميات والأديان؛ فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله.

*كاتبة لبنانية

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 4/آب/2009 - 12/شعبان/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م