الغرب يعطل ولادة ديمقراطيات حديثة في العالم

أحمد شهاب

لا يمكن الاستغناء عن الديمقراطية، ولا يحق لجهة ما رسمية، أو شعبية، التنصل من التزاماتها، لكن لا ينبغي التوقف عند ما أنتجته وأبدعته العقول الأخرى مهما بدا ذلك المنتج مهما وأنموذجيا. ولا يمكن تعطيل ملكة التوليد الفكري والإبداع الذاتي عند الشعوب والأمم، فالخطوة الأولى لتحديث المجتمعات، هو فك تبعيتها للدول القوية، وتحريرها فكريا وثقافيا، والتخلص من تبعية دول الأطراف إلى دول المركز. إن هشاشة البُنى الفكرية والثقافية داخل المجتمعات، يؤدي إلى عجزها التام عن التحكم في مصائرها، وفشلها المتواصل عن توفير حلول جديدة لمشكلاتها.

إن الحديث عن تطوير الديمقراطية، والدعوة إلى البحث في صيغ جديدة ملائمة للظروف المحلية، لا يندرج في خانة الأفكار الشاذة، والدعوات المتطرفة والمنغلقة على ذاتها، وإنما هو قوام فلسفة الديمقراطية الحديثة التي تتغير وتتطور وتتشكل وفق حاجات المجتمع، وإرادة أفراده. ومن المعلوم أن ديمقراطية القرن العشرين مختلفة تماما عن ديمقراطية القرن التاسع عشر، ومتقدمه عليها. لقد وسعت الديمقراطية في نسختها الحديثة من الفئات المستفيدة من مزايا الديمقراطية، فشملت المرأة، وما يعرف بالفئات الحضرية وغير المالكة، بعدما كانت مقتصرة على الطبقات المالكة.

إن الديمقراطية الجماعية كانت ثمرة وانتفاضة على الديمقراطية الصناعية. لقد سعت الأولى إلى توزيع السلطة الاقتصادية والتحكم بالثروة، كانت الديمقراطية في نظرهم ليست أكثر من حركة لتنظيم السلطة بين المتسيدين بثرواتهم، بينما عملت الثانية على إلغاء الملكية الخاصة والدولة.. وهذه الانتفاضة الديمقراطية، على الرغم من حدتها وضراوتها، كانت ولاتزال مطلوبة وضرورية، ويمكن النظر إليها بوصفها تراكما معرفيا أضاف معاني جديدة لمفهوم الديمقراطية، وأطلقها من حدودها الضيقة، ومن خلالها حققت التجربة الديمقراطية تقدما ملحوظا في مشروع الرضا الجماعي.

يدفع ذلك إلى ضرورة التأمل في أهمية أن تطال الديمقراطية آفاقا أبعد من المساحات التي شملتها في الماضي، ليس على مستوى الأداء السياسي الداخلي وحسب، ولكن أيضا على مستوى العلاقة مع الخارج. فالديمقراطية في صيغتها الحالية استطاعت حسب منظري الديمقراطية إيقاف النزاعات بين الديمقراطيات القائمة، لكنها لم تنجح في لجم الحروب بين الأمم، بل نجد أن التقدم الديمقراطي في بعض «دول المركز» نزع بها إلى الشعور بالسيادة على العالم الآخر «دول الأطراف»، ووفر لها شرعية استهلاك أطنان القنابل والمواد المتفجرة على رؤوس الأبرياء، في خلط مريع بين الحاجة إلى دمقرطة العالم وسحقه، وبين تحرير الدول المتخلفة من حكم الاستبداد، واستعباد الشعوب من جديد، ورهن اقتصادات الدول لمصلحة الغول الأميركي أو الغربي.

إن تنميط دول العالم بثقافة الديمقراطية الغربية، يُؤدي إلى تعطيل ولادة ديمقراطيات حديثة في العالم، تتجاوز العناوين والمظاهر الديمقراطية إلى التطبيقات العملية. غاية التنميط هي تحويل دول الأطراف إلى مجتمعات يسيطر عليها الفكر الاستهلاكي، ما يسلب منها القدرة على الإبداع، ويحرمها من التعبير عن هويتها، في مقابل دول المركز، ويعيقها بالضرورة عن بناء مشاريع مستقلة عنها. لقد أثبتت التجارب أن توافر الاستعداد الداخلي للتغيير هو عصب التحول الحقيقي، ومن دونه لا يمكن للمجتمعات والدول أن تنهض بنفسها وتجربتها.

الديمقراطية ليست قيما مُجردة، وإنما هي نظام علاقات بين أفراد المجتمع الواحد، يقوم هذا النظام على الاعتراف المتبادل بالحقوق الدينية والثقافية والاقتصادية والسياسية، وهذه غير متوافرة في حدها الأدنى في العالم العربي والإسلامي، ربما يتمظهر المأزق لدينا في أقسى صوره بعدم قدرة العلمانيين والليبراليين أنفسهم على قبول التوجهات الوطنية الدينية، إن فكرة الشراكة الوطنية، وخلق رؤية وطنية جامعة تساعد الأفراد على التفكير فيما هو أبعد من مصالحهم الشخصية المباشرة، أمر غير وارد في ثقافة العلمانيين وأدعياء الديمقراطية، فما بالك بغيرهم؟

إن بعض الضيق الذي تظهره الديمقراطيات الغربية من المظاهر الدينية في المدارس والمؤسسات الرسمية، هو أحد صور التناقض الواضح بين دعوى الديمقراطية وتطبيقاتها العملية. نحن في مجتمعاتنا ينبغي أن نحرر الديمقراطية من تناقضاتها، وهذا الطرح على الرغم من جدته وجرأته، ليس طوباويا، بل هو سعي حثيث للتمتع بفضائل الديمقراطية والنأي بأنفسنا عن مضارها، وهذا لا يعني، ولا يجب أن يُفهم على أنه مفاضلة بين الديمقراطية والاستبداد، بل هي المفاضلة بين ديمقراطية نستوردها وأخرى ننتجها.

ما أهدف إليه تحديدا، هو الدفع في اتجاه التفكير الجماعي بمنظومة فكرية ديمقراطية تستجيب للوضعيات الاجتماعية والسياسية والثقافية للبلدان العربية والخليجية. وهو مطلب غير مستكثر، ولا ينبغي أن يُثير الكثير من الضجر، فالحقوق والحريات تُؤخذ ولا تُعطى، ولا يمكن التعامل والتفكير بالديمقراطية كمنحة غربية تُسوق بوسائل الإعلام الموجهة، أو عبر الآلات العسكرية المدمرة، وإنما هي مسيرة نضال للشعوب على الأصعدة كافة، ولاسيما الثقافية منها.

* كاتب من الكويت

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 22/تموز/2009 - 29/رجب/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م