إبداع الديمقراطية في الخليج

أحمد شهاب

إنجاز المشروع الديمقراطي في دول الخليج العربي يتطلب تلاقي إرادتين في آن واحد، الأولى: إرادة جماعية تستهدف تحقيق الديمقراطية وتفعيل المشاركة السياسية، ويتضح ذلك من خلال الأجندة الإصلاحية التي تتبناها القوى السياسية والمجتمعية، وقدرتها على تحويل أفكار النخبة إلى قناعات مجتمعية تضغط في اتجاه الإصلاح والتغيير والمشاركة البناءة، والثانية: قبول النُّخبة الحاكمة للتعددية السياسية والفكرية، وقدرتها على التأقلم مع إرهاصات التحول والتغيير الديمقراطي، وتقبل حركة النقد والتقييم الداخلي مهما بدت قاسية وغير مألوفة.

الأطروحات المقدمة في هذا الشأن تنقسم إلى قسمين، الأول: القراءة المدرسية التي تحاكي النظريات الغربية ولا تخرج عن سياقاتها الفكرية، والتي يرى الكثيرون أنها تسير خارج النسق القيمي للمجتمع، وأنها تنقل سلطة التشريع المخصوصة لله -جل شأنه- إلى الناس أو جزء منهم، فيما يرى آخرون أن منشأ الديمقراطية في العالم العربي جاء كمطلب استعماري لتمكين المحتل من إدارة البلاد بصورة غير مباشرة. هذه القراءة المدرسية لم تُقدم معالجة حقيقية لإشكاليات الديمقراطية، ولم تلب الحاجات المتزايدة لدى الأجيال الحديثة، بل توقفت عند نقد الفكرة الغربية ورفضها.

والقسم الثاني توسع في البحث، لكنه توقف عند نقد الواقع السياسي القائم، والدعوة إلى تطبيق الديمقراطية، باعتبارها الحل الأمثل لمجتمعات الخليج، لكنهم لم يقدموا تصوراتهم وقراءتهم المحلية للديمقراطية، بل اكتفوا بالدعوة إلى استنساخ التجربة الغربية بكل تفاصيلها، وافترضوا أن نجاح الديمقراطية في دولة، يعني نجاحها في كل الدول دونما استثناء، وبغض النظر عن التفاوت الثقافي، واختلاف البيئات الاجتماعية، في تعميم مخل مازالت الدول غير الغربية تُعاني من آثاره.

ويسود اعتقاد عند منظري الديمقراطية بعدم إمكانية نقل الديمقراطية من بيئة إلى أخرى بكامل حمولتها. فالبيئة العربية بما فيها من تعقيدات، تختلف عن البيئات الأوروبية، والنمط الاجتماعي والثقافي السائد في الدول الآسيوية، مغاير لما هو موجود في الغرب، الأمر الذي يستدعي من النخب الخليجية المعنية بالمسألة الديمقراطية تجديد تفكيرها ورؤاها عند التعامل مع الوضع الخليجي، وإبداع ديمقراطية من نسيج هذه البيئة. وطبقا لمؤرخ الديمقراطية في القرن التاسع عشر «أليكسس توكفيل» فإن للنظام الديمقراطي أنواعا عديدة، يصح لكل شعب أن يختار منها النوع الذي يتفق مع تاريخه وتقاليده. وعرض المفكر البريطاني «ديفيد هيلد» في كتابه «نماذج الديمقراطية» الصادر في العام 2006 تسعة أنماط من الديمقراطية يتفرع بعضها إلى أجناس فرعية.

ولو أردنا تفحص أسباب غياب فرص التحول الديمقراطي في دولنا بصفة بعامة، فسنقف مطولا عند غياب نظرية محلية للديمقراطية.. فما لدينا حتى الآن، هو إيمان محدود بالديمقراطية، وإحاطة عمومية بآلياتها وأدواتها، ورغبة حالمة في تطبيقها وتنفيذها، لكن من دون وجود أي نظرية إسلامية، أو عربية، أو خليجية للديمقراطية، ويعزى ذلك لسببين: الأول ذاتي ويرتبط بالجمود الثقافي وسيادة الذهنية الدينية التقليدية، والقلق المزمن من تأثير رياح التغيير والتحول على إيمانيات ويقينيات الناس وقناعتهم الدينية والاجتماعية والسياسية.

السبب الثاني موضوعي، ويتعلق بغياب، أو تغييب مراكز الأبحاث والدراسات ومؤسسات المجتمع المدني، والتضييق على الحركة الفكرية في المجتمع، والتشكيك في نوايا وأهداف الحركات الديمقراطية النشطة، ولاسيما في علاقاتها مع الخارج، وتفاعلها مع الأطروحات الحديثة، ونقدها اللاذع للواقع القائم، والذي ينطلق من اعتبار «الحالة الديمقراطية» ليست مجرد عنوان حداثوي تنقله المجتمعات المتخلفة عن المجتمعات المتقدمة، وإنما هي موارد ومناهج وأساليب عمل جديدة ومختلفة بصورة كلية عن الموارد والمناهج وأساليب العمل السائدة.

الديمقراطية في هذا السياق مكونة من حركتين نشطتين «هدم وبناء» في آن واحد، فهي تعمد إلى تفكيك التسلطية من جهة، وبناء التعددية من جهة أخرى، وخنق الاستبداد وأدواته وإحياء العدالة وأدواتها.. وعليه فإن الديمقراطية ليست بضاعة تصدر من بلد إلى آخر، وإنما هي برنامج عمل منظم وجماعي يعنى بتغيير الواقع نحو الاختيارات السياسية والفكرية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية الكبرى التي تستهدفها الأمة الخليجية، أو الأمة العربية، أو الأمة الإيرانية، داخل الحواضر الإسلامية، أو الأمة الإسلامية بصفة عامة، والتي تختلف بالضرورة عن اختيارات الأمة الأوروبية أو الأميركية.

فوق هذا وذاك، انتهت الحملة التسويقية الأميركية من الترويج «للديمقراطية بصورتها الغربية»، وقبول النخب السياسية في المنطقة لها، إلى فشل فرص بناء نماذج محلية، وعطل الغرب بسياساته التعسفية القابلية الداخلية للتغيير عبر إصراره على نمذجة جميع الدول بالوصفة الغربية، فانتقلت لنا مظاهر الديمقراطية والحداثة، وغابت فلسفة الديمقراطية، وروح الحداثة، فأصبحت لدينا برلمانات شكلية لم تغير من الواقع شيئًا، ومجالس استشارية لا وزن سياسيا لها، بل يمكن القول إن الحكومات استفادت من مظاهر الديمقراطية كأحد مصادر شرعيتها الجديدة، فيما توارت تطبيقات الديمقراطية وروحها التي تبرز في التعددية وقبول الإختلاف وفاعلية المجتمع المدني.

* كاتب من الكويت

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 9/تموز/2009 - 16/رجب/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م