الجلاء الأمريكي من مدن العراق

قراءة في العوامل الدافعة والمانعة

صباح جاسم

بعد ستة اعوام على التغيير يجاهد العراق للخروج من عنق الزجاجة في ظل أفق تمتزج فيه رائحة الدم المنبعثة من المفخخات التي يجمعها البعث والقاعدة ليطلقوها في مناسبات محددة كي يثبتوا انهم مستعدون لمرحلة مابعد الانسحاب الامريكي من المدن، مع دخان صراعات سياسية الغرض منها تثبيت موطئ قدم في الوقت الضائع لبدء مشروع بناء العراق الجديد، مصحوبة بتنافسات قومية من الممكن ان تتطور لتصبح مواجهة مستعرة عند تخوم كركوك الغنية بالنفط وحدود الموصل الشرقية والشمالية فضلا عن واقع تدخلات اقليمية تتزايد وطأته مع دخول اتفاقية سحب القوات الامريكية من المدن العراقية حيّز التنفيذ خلال الاسبوع الجاري.

ولايقف الامر عند هذا الحد بل ان الفساد يظل ينخر الجسد العراقي حاله حال الارهاب، واضعاً العصي في اية دواليب تُنشَأ لإدارة عجلة الدولة الى الامام.

من هنا تطرح العديد من الاسئلة الحساسة نفسها بقوة حول امكانية التغيير في العراق ومدى نجاعة الاساليب المتبَعة في ذلك، ولأجل تحديد افق الاجابات يمكن تشخيص العوامل الدافعة ومدى تاثيرها، والعوامل المانعة ومستوى العرقلة الذي تضعه في طريق الانسحاب الامريكي من مدن العراق والذي يأتي متزامنا مع توترات تشهدها الساحة الداخلية والاقليمية بالنسبة للعراق: 

العوامل الدافعة

- من اهم العوامل الدافعة للتغيير الايجابي هو وصول البلد الى سادس محطة انتخابية بصورة ديمقراطية يُنتظر ان يتحطم عندها الاختيار العشوائي والتاثير الايديولوجي او الاجتماعي على الناخب والذي كان مصاحبا للعملية السياسية منذ بدايتها وقد خلّف العديد من المطبّات كان من ابرزها المحاصصة الطائفية والحزبية التي أفرزت القصور في اختيار الأكثر نزاهة والاكفأ لإدارة الدولة ابتداءً من مجلس الرئاسة والوزراء وحتى الحكومات المحلية التي ظلّت قاصرة عن ادراك حاجات المواطن الماسة طيلة اربع سنوات مضت.

- ظهور قناعات لدى قطاعات واسعة من الشعب تفيد بأن التدخل الخارجي لم ولن يفيد القضية العراقية في شيء انما هو قد جاء لتحقيق اجندات معينة ليس إلا، وقد ظهر ذلك جلياً في ترك العديد من مجتمعات شمال بغداد والمنطقة الغربية السلاح، والانضمام الى العملية السياسية من خلال البحث عن موطئ قدم رسمي عن طريق صناديق الاقتراع، وقد دللت على ذلك الانتخابات المحلية التي جرت مؤخرا...

- رغم ان التغيير لم يمضِ عليه سوى ستة اعوام مليئة بالعنف والارهاب، إلا ان معالم البنى التحتية لقطاع فكري وثقافي واعلامي حر قد بانت الى حد كبير، وإن كانت هناك مؤسسات فكرية واعلامية مجيرة لجهات حزبية او فئوية معينة، إلا ان ذلك يعتبر نواة لخلق دولة مدنية تضطلع المنظمات المجتمعية والحقوقية والثقافية والتكافلية فيها بالدور الاساسي في توجيه المجتمع الوجهة السليمة بعيدا عن التسلط او الأدلجة او العسكرة.

- الوعي المتزايد لدى افراد المجتمع والذي تولّدَ نتيجة تداخل مجريات الاحداث في البلد تداخلا كبيرا خلال السنوات الست الاخيرة حتى أصبح المواطن حقلاً غنياً بالتجارب التي يمكنه من خلالها ان يرسم طريقه بوعي اكبر وشعور بالمسؤولية يتلاءم وحساسية المرحلة.

- ولوج العراق عتبة ثورة تكنولوجيا الاتصالات العالمية التي توفر أفقا غير محدود من وسائل العلم والمعرفة والتطور والدراية، حيث كان الشعب محروما من هذه الحقوق إبان عهد النظام السابق، وما توفره هذه الوسائل من تسهيلات تمكِّن الفرد من تطوير قابلياته الذهنية والعقلية بما يجعله مواكِبا للتطورات الثقافية والاجتماعية والحضارية التي يشهدها العالم. ويعود بالتالي الى زيادة وعيه في التفكير بمسألة الوطن والوطنية.

العوامل المانعة

في حالة كالتي نشهدها من تداخل الاجندات في الشأن العراقي فإن العوامل المانعة تتكون من خليط من عوامل خارجية واخرى داخلية:

- سعي دول الجوار الدؤوب لتثبيت موطئ قدم في الترتيب الجديد للعراق عن طريق وسائل ضغط علنية واخرى سرية يصل بعضها الى حد التاثير على وحدة العراق واللحمة التي تربط اطيافه والعمل على دعم الفصائل المسلحة بما فيها تنظيمات البعث والقاعدة ومايسمى بالجيش الاسلامي من اجل خلق اجواء فوضى يتم من خلالها التسرّب الى مفاصل الدولة والتاثير على القرار السياسي او الضرب في مفاصل حساسة جدا بما يديم شعور القلق وعدم الثقة بين العراقيين...

- قصور الاحزاب والكتل السياسية عن أدامة اواصر الاتصال مع الشعب وتقوّيتها عن طريق تنفيذ الالتزامات التي بعاتقها من خلال اكمال سَن القوانين المعلَّقة والبدء بمرحلة إعمار حقيقية لا كالتي شهدتها الاعوام الست السابقة وقد تخلل معظمها الفساد المالي والاداري بشكل جعل من العراق يتصدر قائمة دول العالم التي يستشري فيها الفساد.

- تباطؤ نشاطات منظمات المجتمع المدني وانكماش دورها وعدم التحامها مع بعضها البعض في سبيل الحصول على قوة تاثير اكبر وانجازات اكثر مدى وفاعلية، ومن جهة ثانية تحوّل اغلب هذه المنظمات الى واجهة او أداة بيد الكتل السياسية او المرجعيات الحزبية او الدينية او الفكرية المختلفة...

- تداخل الصلاحيات بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية وضبابية الحدود الفاصلة بينهما حيث لازالت العديد من الملفات المتعلقة بتوزيع الثروات، وصلاحيات الحكومة المركزية في بسط يدها على كافة الاراضي العراقية موضع شك، في ظل استمرار تمسّك الاكراد بكركوك كجزء من اقليم كردستان، واستحواذهم على اجزاء شاسعة من الموصل وديالى خلال حرب عام 2003 عندما تقدمت القوات الامريكية نحو بغداد من جهة الشمال.

- عدم تفعيل مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث الى الحد الذي يؤمِّن دور متكامل يجعل منها سلطات متكافئة ومكمّلة لبعضها البعض لاسلطات متنافرة او واقعة تحت تاثير الكتل الرئيسية التي أوجدتها.

ان سياسات الحكومة العراقية المندرجة تحت يافطة تعزيز دور القانون دون تمييز ودعم العمل المؤسساتي الذي يبتعد بالبلد عن الطغيان والانفرادية بالحكم، والتحركات الاخيرة نحو خطوات انفتاح اقتصادي على المستوى الاقليمي والدولي من الممكن ان تفتح الباب الذي بقى مغلقاً بوجه العراق الجديد لتجعل منه واقعاً يحتّم على الجميع التعامل معه من زاوية المصالح المشتركة والاحترام المتبادَل...

كما ان مناخ الحرية الذي أعقب عملية التغيير يجب أن لايتحول الى صورة شكلية تخفي بين طياتها رواسب الماضي المليئة بالتسلط ومحاولات التحكم بمقدرات المجتمع بمعنى ان شعارات الحرية والديمقراطية يجب ان تتجذر لتتحول الى ثقافة مجتمعية راسخة لا الى ثقافة سطحية طارئة قابلة للزوال في أية مناخات تغيير قسرية او طوعية. 

وبالتالي، من الممكن ان ترجِّح هذه السياسات كفّة العوامل الدافعة رجحاناً يجعل من الاخرى المانعة تتقهقر متراجعة الى الوراء...

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 30/حزيران/2009 - 7/رجب/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م