كيف نوظّف الاشياء الصغيرة في البناء والتطوّر

قبسات من فكر الامام الشيرازي

 

شبكة النبأ: يرى البعض ان التغيير هو امر معقد وصعب ومستحيل، لذلك فانهم ينعزلون ويتركون العمل، لكنهم لايدركون ان العمل والبناء والتغيير يبدأ من خطوة صغيرة تجتمع مع خطوات اخرى لتشكل موجا كبيرا يستطيع إحداث الفرق.

 وفي التفاتة مهمة وبالغة الدقة، يقدم لنا المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه الله في كتابه القيّم (القطرات والذرات) ملاحظات غاية في الاهمية لكي نستثمر الاشياء الصغيرة في بناء الاشياء الكبيرة الشامخة المفيدة لحياتنا، حيث يؤكد (قدس سره) على ان الاشياء مهما بلغ حجمها من الصغر فإنها (بالتراكم) ستنتج أشياءً بالغة الحجم والاهمية ايضا، فقطرة الماء لو تضاعفت اعدادها ستكوّن مادة البحر والنهر والبحيرة وغيرها، وذرة الرمل الواحد هي الجزيئة الصغيرة التي تتكون منها ملايين الكيلومترات من الصحاري واليابسة.

وهكذا ينبغي علينا كما يؤكد الامام الشيرازي رحمه الله ان لا ننظر للاشياء الصغيرة بعين الاستهزاء او السخرية بل ينبغي أن نستثمرها لصالحنا في كل الاحوال من خلال الاعتماد على ذكائنا وقدرتنا لتحويل صغار الاشياء الى كبارها، ويصح هذا المبدأ في الاقتصاد كما يصح في التعليم وغيرهما من مجالات الحياة المتشعبة، حيث يقول الامام الشيرازي في هذا الصدد كما ورد في كتاب (القطرات والذرات):

(هناك الكثير من أعداء المسلمين أخذوا بقانون -الذرات والقطرات- فتقدموا علينا، فعلى سبيل المثال: كانت في كربلاء المقدسة محلّة يسكنها بعض اليهود، وحمام لليهود، وقد شجّع البريطانيون  فتح سوق للدعارة في تلك المحلة ـ ولا زالت بعض آثارها باقية إلى الآن ـ وقبل نصف قرن مع ذهاب اليهود إلى فلسطين أغلق الجميع.

وإني أذكر أنه كان يأتي في كل أسبوع رجل من اليهود إلى أزقة كربلاء ومنها زقاقنا -زقاق المائية- وكان يصيح: أشتري الأشياء العتيقة –الخلقة-، فكان يشتري من كل بيت بيت.. على اصطلاحه: -أبطال مكسّرة، لحفان مشكَشكَة، حصران عتيقة- وما إلى ذلك.. مما يلزم إلقاؤها في النفايات، وكان يشتريها بأسعار رخيصة جداً.

فكانت النساء في البيوت يحضرن كل تلك الأشياء العطبة والخلقة، ليوم إتيان ذلك اليهودي فيبعنها له بأسعار زهيدة).

إن من مثل هذه الاشياء الصغيرة البالية لا تلفت انتباهنا ولانعيطيها اهمية تُذكر، غير ان هذا اليهودي يتجول في الازقة والشوارع ويبذل جهدا عضليا وماليا من اجل هذه الاشياء الصغيرة التي لا تلفت انتباهنا، إن قانون القطرات والذرات يؤكد لنا بأن هذا اليهودي قد وظّف الاشياء الصغيرة لتحقيق مردود اقتصادي مربح، وللاجابة عن كيفية نجاحه في تحقيق الربح من هذا العمل الذي قد لا يدخل ضمن اهتمامات الكثير منا، يقول الامام الشيرازي:

(وربما كان يتساءل البعض: ما فائدة هذه الأشياء التافهة لذلك اليهودي؟.

والجواب: أنه كان في محلة اليهود إدارة لتحويلها إلى أشياء حسنة أو إلى ما يدرّ عليهم الأموال، فمثلاً -الحصران المشكَشكَه- كانوا يبيعونها للحمامات وقوداً لها، و-الأبطال المكسرة- يرسلونها إلى بغداد لصبها من جديد و-اللحفان- بعد الغسل والتنظيف يجعلون لها أغطية جديدة، وما إلى ذلك..).

إذن يوجد عقل اقتصادي تعامل مع هذه الاشياء التافهة بذكاء وحوَّلها الى ربح مادي ملموس مستندا الى قانون القطرات والذرات ومستفيدا من قاعدة تراكم الاشياء الصغيرة لتصبح مشاريع كبيرة مربحة.

وثمة من يقول أن الامر فيه كثير من البطء ويتطلب كثيرا من الصبر، فحين تبدأ بالاشياء الصغيرة كالذرات او القطرات او غيرها فإنك ستحتاج الى كثير من الوقت قد يستغرق سنوات طويلة والى جهد وتعب متواصيل ناهيك عن الصبر الذي يتطلبه التعامل مع الاشياء الصغيرة لكي تبني منها شيئا ذا حجم كبير ومهم كالمشاريع الاقتصادية وغيرها، وفي هذا الصدد يقدم لنا الامام الشيرازي في كتابه (القطرات والذرات) قصة شخصين تعاملا مع الاشياء الصغيرة وقد نجح احدهما فيما أخفق الثاني:

(كان نفران في بغداد يعملان في طرفي الجسر، وكان كل واحد منهما يبيع البيض، ولكن أحدهما كان مزدحماً بالمشترين دون الآخر.

يقول الراوي: وبعد مدة غير قصيرة مررت على الجسر وإذا أرى أحد البائعين دون الآخر، فسألت عن الآخر؟

فقالوا: ترك هذا العمل وذهب إلى السوق وأصبح تاجراً كبيراً، فتعجبت من ذلك وذهبت إليه لأسأل عن السبب؟.

فقال التاجر الجديد: أنا كنت أفهم موازين العمل وصديقي لم يكن يفهم، ولذا لا زال باقياً على عمله ومستواه السابق.

قلت: وكيف؟

قال: كنت أشتري كل يوم عشرين صندوقاً من البيض ـ مثلاً ـ ومن اليوم الأول قررت أن لا أربح في البيض ولا لشروى نقير، وإنما أبيع بالثمن الذي أشتريه لا أزيد، وإنما كان ربحي من بيع الصندوق نفسه فكنت أشتري كل بيضين بفلس وأبيعهما بفلس أيضاً، ثم أبيع الصناديق الفارغة بأربعة فلوس، بينما كان صديقي يشتري كل بيضتين بفلس ويبيع ستة بيوض بأربعة فلوس؛ فيربح البيضين والصندوق، وحيث عرف الناس إني أبيع بالأرخص اجتمعوا حولي تدريجاً، بينما خفّ الازدحام حول صديقي..، وبعد عشر سنوات جمعت مالاً كثيراً وتمكنت بسببه من فتح هذا الدكان، وأخذت أتاجر شيئاً فشيئاً حتى أصبحت هكذا.. بينما صديقي بقي في محلّه يبيع البيض).

وهكذا نلاحظ أهمية التعامل مع صغار الاشياء بذكاء وصبر يقود حتما الى النجاح، ولا ينحصر هذا الامر في الجانب الاقتصادي بل يتعداه الى جوانب الحياة الكثيرة التي تتطلب من الانسان ان يتعامل مع (القطرات والذرات) بصبر ومثابرة وذكاء من اجل تحقيق النجاح المنشود.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 17/حزيران/2009 - 19/جمادى الآخرة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م