لا تهدروا رصيدَ مستقبلكم

توفيق أبو شومر

هناك تعريفات عديدة للرصيد منها:

كلمة الرصيد تعني ما يملكه الأفراد والمؤسسات والدول والحكومات من ثروات مالية وهذا تعريف اقتصادي.

وهناك تعريفٌ آخرُ للرصيد وهو الثروة الذهبية التي تشكل غطاء للعملة المتداولة، لأن الذهب هو المعدن التراثي الذي اعتاد الناس أن يقرنوه بالحياة الزوجية كرمز للدوام والبقاء والرفاه وهذا تعريف اجتماعي.

وعرّف آخرون الرصيد بأنه الثروات الزراعية والصناعية والخامات المخبوءة في باطن الأرض من معادن ونفط وغاز، وهذا تعريفٌ جيولوجي.

وهناك تعريف جديدٌ للرصيد، وهو مجموع الإنتاج الفكري والعقلي المثمر الذي يتلاقح مع أفكار العالم ليُنجب تكنلوجيا جديدة، وهذا تعريف عولمي جديد.

غير أنني لم أقصدْ تعريفا واحدا مما سلف في عنوان مقالي، فقد كنتُ أقصد الرصيد المستقبلي البشري للأوطان، وأهم مكونات هذا الرصيد هو الأطفال!!

فالأطفال في كل دولة وأمة هم رصيدها المستقبلي الذي لا يماثله رصيدٌ آخر، فهم صانعو كل الثروات المستقبلية للأوطان، وهذا ليس من قبيل الأناشيد والأغاني الشعرية المحفوظة!

ولكنها الحقيقة التي يجب أن نضعها نصب أعيننا – نحن العرب- لأن الأطفال في كثير من دول العرب ما يزالون يعتبرون في الغالب ميداليات أسرية يُنجبهم الآباءُ ليُعززوا منزلة الأسرة ومكانتها الاجتماعية!

 وهم أيضا في دولٍ أخرى زائدون عن حاجة الدول، أي أنهم يشبهون النباتات الضارة التي يجب اقتلاعها، لذلك فإنهم مطاردون صباح مساء من رجال الشرطة والدرك والأمن باعتبارهم وراء كل مصيبة من المصائب!

 وهم في أماكن أخرى آلات للإنفاق على الآباء العاجزين، وهم في أوطان أخرى عبيدٌ رخيصو الثمن لتعزيز الأيدلوجيات الحزبية بأشكالها وأنواعها.

وقد ظنّتْ دولٌ كثيرة بأن توفير الغذاء والكساء والحد الأدنى من التعليم هو جُماع تربية الأطفال، ومنتهى الغاية منها، لذلك فقد ظلت هذه الدول التي تُهدر رصيدها المستقبلي تتغنى بالتعليم المجاني !

 حتى وإن كان التعليمُ المجاني خاليا من التربية المستقبلية، تعليما يقوم على حشو العقل، وليس على توسيعه وتدريبه على إنتاج الفكر، لذلك فقد حشوا المدارس والمعاهد والجامعات بالطلاب، وحشوها بالمدرسين والمحاضرين والأساتذة الجامعيين، وحشوا العقول بمواد لا تساعد على نمو الرصيد المعرفي، ونتيجة لهذا الحشو، الذي افتخرنا به وأسميناه ( التعليم المجاني) تحولت المدارس إلى سجونٍ ومعتقلات يقضي فيها أبناؤنا وأرصدتنا المستقبلية عقوباتٍ متعددة الأشكال والألوان، وها هي كثيرٌ من المدارس في كثير من دول العالم أصبحت بؤرا للإجرام والمجرمين، وأصبحت حاضناتٍ لتكثير عدد المجرمين والفاسقين والمخربين، وأصبحت المعاهد والجامعات أيضا بؤرا لتأطير الأحزاب والتيارات.

 ولم تعد الجامعات في كثير من الدول العربية وغيرها من الدول الأخرى التي تشبهها مراكز تُعلم الأبناء إنجاز الأبحاث والدراسات والاستبانات، وتدمجهم في خدمة مجتمعهم، بل أصبح كثير منها دفيئات لتخريج الموظفين والموظفات لإلحاقهم بركب الوظيفة ( الميري) ليتمكنوا من كسب رزقهم، بغض النظر عن دورهم كرصيد في مستقبل الأمة، هذه الأمة التي تسير في دربها المظلم الطويل.

وأصبح الرصيد المستقبلي من الأطفال عبئا ثقيلا في كثير من دول العالم، ولم تتمكن كثيرٌ من الدول من تشريع قوانين لحماية مخزونها من رصيدها المستقبلي من الأطفال، فانتشرت ظاهرةُ أطفال الشوارع، وتخلفتْ القوانين عن تجريم المتاجرين بالأطفال، فصار كثير منهم يبيعون الممنوعات، ويتاجرون بأجسادهم الغضة لمصلحة (تجَّار) الأطفال وقد يكون تجارُ الأبناء هم الآباء أنفسهم أو غيرهم، واستغلَّتْ بعض الأحزاب هذا الفلتان القانوني وسخَّرت الأطفال لخدمة أغراضها، فاشترتْ كثيرين منهم بوجبات غذاء ليرصدوا أعداء الأحزاب، ويقوموا بأقذر المهمات، واستغلّ كثيرٌ ممن ينسبون أنفسهم إلى الدين الأطفال كذلك فأرعبوهم ليستعبدوهم ويبقوهم خدما في بيوتهم، واستثمرهم آباءٌ جاهلون آخرون كعمال رخيصي الثمن في مشاغلهم ومعاملهم ومصانعهم، وبخلوا عليهم بالحد الأدنى من التعليم، بحجة أن التعليم لا يوفر لهم الحياة الكريمة.

لعلّ أخطر قضايا العرب، هو أنهم لا يؤمنون بعدم جدوى التخطيط والتقنين والإحصاء وسبر الآراء كطريق للنهوض والتقدم فقط، بل إنهم انتقلوا من مرحلة الاستسلام للقدرية في مجال إنجاب الأطفال، إلى مجال الرعب من الأطفال، فأصبح الأطفالُ [ كابوسا] مرعبا لكثير من الحكام والرؤساء، فهم مقتنعون بأن تربيتهم وتعليمهم ليصبحوا رصيد المستقبل،سيكون بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة على رؤوس الحكام العرب، الذين يعتمدون في إرساء حكوماتهم، وإطالة أعمار رئاساتهم، وتوريث أبائهم وأحفادهم على تجهيل النشء، وتخريب الرصيد المستقبلي للأوطان، وهم الأطفال.

فهناك دولٌ عربية لا تقبل أن تكون هناك قوانين وتشريعاتٌ لحماية الأطفال، وهناك دولٌ أخرى تُحرّم هذه التشريعات وتعتبرها خرقا لمبادئها المنسوبة إلى الدين، وهناك دول أخرى تعتبر كل قانون يهدف لحماية الرصيد المستقبلي من الأطفال إن هو إلا تمرُّدٌ عسكري على الحكومات والدول العربية.

لذلك فإن مسؤولية حماية الرصيد المستقبلي العربي تعتمد على الواعين والمثقفين، وعلى الجمعيات والمؤسسات غير الحكومية، والتي تُغلِّب مصلحة الجيل على برامج الدعم وشروط المنح والهبات التي تفرضها الدول المانحة.

لقطات أخيرة:

كل الدول قادرة على إنجاب الأبناء، غير أنها لا تستطيع تربيتهم باعتبارهم رصيدها المستقبلي الأساسي.

كما أن كل الدول قادرة على توفير التعليم للأطفال، غير أنها لا تنجح في توفير التعليم المطلوب لرصيدها المستقبلي.

وعلينا أن نرفع شعارا في العالم العربي يقول: [العناية بالأطفال كرصيد مستقبلي له الأولوية في كل البرامج الوطنية] بدلا من التغني في كل وسائل الإعلام العربية بشطر بيت الشعر التقليدي البائد:

 أولادنا أكبادنا، تمشي على الأرض !!

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 1/حزيران/2009 - 4/جمادى الآخرة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م