تقرير حقوقي: العالم اليوم يجلس فوق قنبلة موقوتة

منظمة العفو الدولية: الكرامة لسجناء الفقر وحل مشاكل العالم ضمن إطار عام لحقوق الإنسان

اعداد: صباح جاسم

 

- تزايد الفقر وبؤس الظروف الاقتصادية والاجتماعية يؤدي إلى انعدام الاستقرار السياسي والعنف الجماعي

 

شبكة النبأ: يعتبر الحرمان وانعدام المساواة والظلم وانعدام الأمن والقمع من علامات الفقر، وهي تمثل بوضوح مشكلات في مجال حقوق الإنسان، ولا تخضع للمقاييس الاقتصادية وحدها، كما أنها تتطلب إرادة سياسية قوية ورداً شاملاً يدمج القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية، ضمن إطار عام لحقوق الإنسان وحكم القانون، وتقتضي عملاً جماعياً ونوعاً جديداً من القيادة يضع نصب عينيه خدمة البشرية بغضّ النظر عن المصالح والأهواء.

وقالت منظمة العفو الدولية (امنستي انترناشونال) في تقريرها السنوي لعام 2008 إن الصراع بين الاسرائيليين والفلسطينيين ووجود القوات الامريكية في العراق والقلق بشأن المقاصد النووية الإيرانية من العوامل التي أدت لانعدام الأمن السياسي في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا.

وأشارت المنظمة في تقريرها إلى ثلاثة عوامل أخرى هي الانقسام بين العلمانيين والاسلاميين والتوتر بين التقاليد الثقافية والطموحات الشعبية وزيادة الاحساس بانعدام الأمن الاقتصادي والاجتماعي بسبب الأزمة المالية العالمية.

واعتبرت المنظمة الحرب الأخيرة في قطاع غزة في كانون الأول والثاني الماضيين تأكيداً "لانعدام الأمن في المنطقة"، مضيفاً أن هذه الحرب أكدت "عجز الجانبين والمجتمع الدولي عن حل الصراع المرير".

وحول الأوضاع في العراق قالت المنظمة إن القوات الأمريكية لاتزال "تعتقل آلاف العراقيين دون تهمة أو محاكمة، كما اعتقلت قوات الحكومة العراقية آلافاً أخرى".

وأشارت المنظمة إلى استخدام السلطات "عقوبة الاعدام على نطاق واسع في ايران والعراق والسعودية واليمن". لكنها رحبت كذلك بـ "بوادر ازدياد النفور من هذه العقوبة بين دول عربية أخرى".

وقالت المنظمة إن أشد حالات العنف ضد المرأة تبدت فيما يعرف بـ "جرائم الشرف"، والتي "قتل في إطارها نساء في الاردن وأراضي السلطة الفلسطينية وسورية والعراق".

وادان التقرير كذلك حالات "توفيت فيها بعض العاملات في المنازل" في الاردن ولبنان. لكن المنظمة أشادت بالمقابل بحدوث "تطورات ايجابية" تجلى فيها تقدير الحكومات للمرأة، مشيرة في هذا الصدد إلى حظر السلطات المصرية عادة ختان الاناث. بحسب رويترز.

واثنت المنظمة كذلك على ادخال السلطات العمانية والقطرية تعديلات في القوانين "لمساواة المرأة بالرجل".

وحول الأوضاع في السودان، الذي تضعه المنظمة ضمن افريقيا وليس الشرق الأوسط، قالت المنظمة إن حالات الاعتداء على المدنيين والاغتصاب وتدمير القرى ظلت مستمرة.

واضافت منظمة العفو أن السلطات السودانية "قامت باضطهاد كل من ترى أنه ينحدر من دارفور" بعد هجوم حركة العدل والمساواة على العاصمة الخرطوم في مايو/ أيار 2008. كما نددت المنظمة باندلاع القتال بين شمال السودان وجنوبه في مننطقة ابيي الغنية بالنفط.

وقدرت المنظمة عدد القتلى الذين سقطوا بسبب القتال في العاصمة الصومالية وما حولها منذ يناير/ كانون الثاني 2007 بحوالي 16 ألف شخص. وأضافت العفو الدولية أن قدرة المنظمات الدولية كانت محدودة على الوصول إلى المحتاجين.

وعرض التقرير الذي يقع في 400 صفحة نظرة عامة عن أوضاع حقوق الانسان، قبل أن يتعرض بالتفصيل للاوضاع السائدة في 150 بلداً.

واستهلت الأمينة العامة للمنظمة إيرين خان الجزء الأول من التقرير بمقدمة عنوانها "ليست مجرد أزمة اقتصادية، بل هي أزمة لحقوق الإنسان"، وخصصتها لبيان العلاقة بين الأزمة المالية التي تعصف باقتصادات العالم ومعاناة شرائح واسعة من السكان.

وتسعى خان في مقدمتها إلى الكشف عن شكل آخر من انتهاك حقوق الإنسان يخفى عن العين المجردة ولكنه قد يكون أشد فتكا. وتشير خان في هذا الصدد إلى "انانية وجشع" أقلية من الأغنياء، تؤثر على مصير الملايين من بني البشر.

وتثير الأمينة العامة لأمنستي إلى تماطل حكومات الدول الثرية وتقصيرها عندما يتعلق الأمر بمساعدة المجتمعات الفقيرة.

ولكن ما إن اندلعت الأزمة المالية حتى "أصبحت الحكومات الثرية فجأة قادرة على توفير مبالغ أضخم مرات عدة من المبالغ اللازمة للقضاء على الفقر، وقامت بضخها بسخاء في المصارف الفاشلة".

وتضيف خان قائلة: " الأغنياء مسؤولون عن معظم الأعمال المدمرة، ولكن الفقراء هم الذين يكابدون أسوأ عواقبها."

وتعتبر في مقدمتها أن انعدام المساواة في العالم يتخذ عدة أوجه، وتعاني منه جميع المجتمعات بما فيها المجتمعات المتقدمة كالولايات المتحدة مثلا.

ويمس انعدام المساواة كل القطاعات وليس فقط القطاع الاقتصادي. وتسوق الكاتبة مثالا على ذلك القضاء وحرصه على رعاية مصالح الطبقة الثرية على حساب الطبقات الأخرى.

وتقول خان: "قامت المؤسسات المالية الدولية بتمويل الإصلاحات القانونية في القطاع التجاري في عدد من البلدان النامية. بيد أنها لم تبذل مساع مماثلة لضمان قدرة الفقراء على تأكيد حقوقهم وطلب الإنصاف عن طريق المحاكم على الانتهاكات التي ترتكبها الحكومات أو الشركات."

وتعتبر خان أن تحرير الاقتصاد بالطريقة الراهنة عامل من عوامل الإفقار وبالتالي قيام الاضطرابات والأزمات الاجتماعية.

وأدت سياسات التقويم الهيكلي التي قادتها مؤسستا صندوق النقد والبنك الدوليين -حسب رئيسة أمنستي- إلى "إضعاف الدولى إلى الحد الأدنى، وتخلي الحكومات عن التزاماتها المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية لمصلحة السوق."

ومن أوجه هذه السياسة التي أثرت على المستوى المعيشي لشرائح واسعة من مجتمعات العالم "خصخصة المرافق العامة وإلغاء تقنين علاقات العمل وتقليص شبكات الضمان الاجتماعي."

يضاف إلى هذه العوامل عامل آخر أشد وطأة وهو أسلوب الاستثمار المعتمد والذي لا يبدي اهتماماً بسلامة البيئة وينسف مصالح القطاعات المحلية التي لا تستطيع المنافسة أو الوقوف أمام اكتساح الشركات الكبرى.

وتتخوف خان من أن "يؤدي تزايد الفقر والبؤس إلى انعدام الاستقرار السياسي والعنف الاجتماعي وتشدد بعض الحكومات ذات النزعة الاستبدادية."

وتشير خان في هذا الصدد إلى ما حدث في تونس وزيمبابوي والكاميرون العام الماضي عندما فرقت السلطات بعنف مظاهرات قامت احتجاجا على ارتفاع تكاليف المعيشة، فقتلت عددا من المتظاهرين وجرحت عددا آخر واعتقلت العشرات وأصدرت أحكاما بالسجن لفترات طويلة على بعضهم.

وتطالب خان مجموعة العشرين باحترام "القيم العالمية وأن تواجه سجلاتها الملطخة بالانتهاكات وازدواجية المعايير خاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان".

وترى كذلك أن "العالم بحاجة إلى نوع مختلف من القيادة، ونوع مختلف من السياسة والاقتصاد - نوع يعمل لمصلحة الجميع وليس للأقلية ذات الامتيازات."

وتقول كذلك" إننا نجلس على برميل بارود من انعدام المساواة وانعدام العدالة وانعدام الأمن وهو على وشك الانفجار."

وتطالب في هذا السياق بإنهاء "التحالفات بين الحكومات والمؤسسات التي تقوم على توقعات التحسن المالي على حساب الفئات الأشد تهميشا... وتلك التي تحمي الحكومات من المحاسبة على الانتهاكات التي ترتكبها."

التقرير يصف سجل اوباما في مكافحة الارهاب بأنه متباين

وفيما يخص سجل الرئيس الاميركي باراك اوباما المتعلّق بتغيير سياسات الادارة السابقة الخاصة بمكافحة الارهاب قال تقرير منظمة العفو الدولية انه "متباين"، حيث ان فيه نقاط سلبية واخرى ايجابية. واوضحت المنظمة ان "سياسة الاعتقالات المرتبطة بمكافحة الارهاب (...) وسجل الادارة الجديدة متباين".

واشار التقرير الى "الامال في تغيرات كبيرة" التي اثارتها كلمة اوباما اثناء تنصيبه في كانون الثاني/يناير بعد ثماني سنوات من حكم ادارة الرئيس الاميركي السابق جورج بوش.

وقالت المنظمة ان "الوعد المبكر والخطوات الاولية المهمة التي اتخذت لاصلاح الانتهاكات لم يتبعها سوى تحرك محدود".

إلا ان المنظمة اشارت الى بعض النقاط الايجابية مثل اعلان اوباما في كانون الثاني/يناير انه سينهي سياسات اساليب "التحقيق المكثف" التي انتهجتها ادارة بوش والتي يقول معارضوها انها ترقى الى درجة التعذيب، اضافة الى وعده باغلاق معتقل غوانتانامو في كوبا. إلا ان المنظمة اعربت عن اسفها لأن ادارة اوباما "لم تتخذ سوى تحركات محدودة لضمان تطابق هذه الاعتقالات مع التزامات الولايات المتحدة الدولية". وقالت ان "غياب المسؤولية ونقص معالجة الانتهاكات السابقة لحقوق الانسان امور لا تزال متأصلة".

ومن بين الاخطاء التي اوردتها المنظمة قرار ادارة اوباما في شباط الماضي تفعيل "امتياز اسرار الدولة" وذلك للتخلص من دعوى قضائية قدمها ضحايا برامج وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية (سي اي ايه) لنقل المعتقلين، كما فعلت ادارة بوش سابقا".

كما دانت المنظمة طعن الادارة الاميركية في قرار اصدره قاض فدرالي اميركي في نيسان/ابريل جاء فيه ان ثلاثة معتقلين محتجزين في قاعدة باغرام الجوية يمكن ان يطعنوا في قانونية اعتقالهم امام محكمة اميركية.

إلا ان المنظمة اشادت بإعلان اوباما عزمه اغلاق غوانتانامو خلال عام وانهاء استخدام السي اي ايه للسجون السرية واسلوب الاعتقال "المكثف" ومراجعة سياسات الاعتقال والتحقيق ونقل المعتقلين.

الأزمة الاقتصادية تكشف النقاب عن المشكلات الأكثر عمقاً لحقوق الإنسان

وقالت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية في تقريرها، إن الأزمة الاقتصادية العالمية فاقمت الويلات التي جرها على البشرية تقاعس الحكومات لأكثر من ستة عقود عن إيفاء حقوق الإنسان حقها، حيث كشفت الأزمة الغطاء عن مشكلات الفقر وعدم المساواة ودفعتها إلى سطح الأحداث.

وقالت آيرين خان، إن "الأمر لا يتعلق بالاقتصاد فحسب، فثمة أزمة لحقوق الإنسان: وعالم اليوم يجلس فوق قنبلة اجتماعية وسياسية واقتصادية موقوتة".

فمليارات البشر يعانون من انعدام الأمن والعدالة والكرامة في شتى أنحاء العالم. وفي العديد من الحالات، جعلت الأزمة الاقتصادية الأمر أكثر سوءاً، مع انزلاق ملايين جديدة نحو هاوية الفقر. وقد أدى تزايد الفقر والحرمان إلى التنكر للحقوق الاقتصادية والاجتماعية  للبشر – بما في ذلك افتقارهم إلى الغذاء؛  واستخدام الغذاء كسلاح سياسي؛ وعمليات الإجلاء القسري؛ وانتهاك حقوق السكان الأصليين. ومع ذلك، فقد جرى إلقاء مشكلات حقوق الإنسان في العربة الأخيرة لقطار زعماء السياسة ورجال الأعمال وهم يصارعون ضد الأزمة الاقتصادية.

لقد شهد عام 2008 ارتفاعات فلكية في أسعار أكثر السلع ضرورة – أي الطعام – ما دفع الفئات الأكثر فقراً في العالم نحو أعماق جديدة من الفاقة. فكان أن خرج الناس إلى الشوارع في شتى أنحاء العالم، وليس دون أن يواجهوا بالقمع الشرس في العديد من البلدان.

ففي زمبابوي، بلغ عدد من يحتاجون إلى المساعدات الغذائية في نهاية 2008 أكثر من خمسة ملايين شخص، بحسب تقارير الأمم المتحدة. واستخدمت الحكومة الطعام كسلاح ضد خصومها السياسيين. وفي أنحاء شتى من البلاد، تعرض الخصوم السياسيون وناشطو حقوق الإنسان وممثلو نقابات العمال للهجمات والاختطاف والاعتقال، وحتى القتل، وأفلت الجناة من العقاب.

كما اعتقل مئات الناشطين الذين كانوا يحتجون ضد التدهور الاقتصادي والظروف الاجتماعية للاعتقال والاحتجاز دون اتهام.

وفي أنحاء مختلفة من أفريقيا، تظاهر الناس ضد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية البائسة والارتفاع الحاد في تكاليف المعيشة. وفي علامة على ما يمكن أن يأتي، تحول بعض المظاهرات إلى العنف؛ وغالباً ما ردت السلطات بقمعها مستخدمة القوة المفرطة.

وأدت التوترات الاجتماعية والتمايزات الاقتصادية إلى آلاف مظاهرات الاحتجاج في أنحاء شتى من الصين. وفي الأمريكيتين، تزايدت الاحتجاجات الاجتماعية على الأوضاع الاقتصادية في بيرو؛ بينما خرجت مظاهرات في مختلف أنحاء شيلي في 2008 لتطالب بحقوق السكان الأصليين وتحتج على ارتفاع تكاليف المعيشة.

وفي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، سلطت الإضرابات ومظاهرات الاحتجاج الأضواء على انعدام الأمن الاجتماعي والاقتصادي في عدة بلدان، بما فيها مصر. وفي تونس، قُمعت الإضرابات والاحتجاجات بالقوة، ما أدى إلى وفاة شخصين وإصابة عديدين بجروح ومقاضاة ما يربو على 2,000 من منظمي التظاهرات المزعومين، الذين صدرت بحق بعضهم أحكام بالسجن لمدد طويلة.

واختتمت آيرين خان بالقول: "إن الأحداث التي شهدناها في 2008، وعلى رأسها الأزمة الاقتصادية العالمية، تتطلب من قادة العالم نوعاً جديداً من القيادة. وعليهم أن يقوموا بعمل جدي وحقيقي يتخذ من حقوق الإنسان مرتكزاً لمعالجة الفقر المتنامي في شتى أنحاء العالم. كما يتعين عليهم الاستثمار في حقوق الإنسان بالحماسة نفسها التي يهرعون بها نحو الاستثمار في النمو الاقتصادي". 

لانعدام المساواة وجوه عدة

واوضح التقرير، يشير العديد من الخبراء إلى ملايين البشر الذين انتُشلوا من ربقة الفقر بفضل النمو الاقتصادي، ولكن الحقيقة هي أن أعداداً أكبر من هؤلاء تُركت عالقة في براثنه، وأن المكتسبات كانت هشة - مثلما أظهرت الأزمة الاقتصادية الأخيرة– وثمن حقوق الإنسان كان باهظاً جداً. وغالباً ما أُزيحت حقوق الإنسان إلى المقعد الخلفي مع قيام طاغوت العولمة المنفلت من عقاله بدفع العالم إلى حالة هيجان في النمو في السنوات الأخيرة. فكانت العواقب واضحة: تنامي انعدامالمساواة والحرمان والتهميش وانعدام الأمن؛ وقمع أصوات المحتجين معتطاول وإفلات الجناة من العقاب؛ وبقاء الجهات المسؤولة عن الانتهاكات-الحكومات والشركات الكبرى والمؤسسات المالية الدولية – غير نادمة وغيرخاضعة للمحاسبة على تلك الانتهاكات. وثمة علامات متنامية على الاضطراباتالسياسية وأعمال العنف التي تضاف إلى حالة انعدام الأمن في العالم الموجودةأصلاً بسبب النزاعات المميتة التي يبدو أن المجتمع الدولي غير قادر على حلهاأو غير راغب في ذلك. بعبارة أخرى، إننا نجلس على برميل بارود من انعدامالمساواة وانعدام العدالة وانعدام الأمن، وهو على وشك الانفجار.

وعلى الرغم من استمرار النمو الاقتصادي في العديد من بلدان أفريقيا، فإنملايين البشر هناك مازالوا تحت خط الفقر، يصارعون من أجل تلبية احتياجاتهمالأساسية. وتعتبر أمريكا اللاتينية المنطقة الأشد معاناة من انعدام المساواةفي العالم، حيث السكان الأصليون وغيرهم من أفراد المجتمعات المهمشةفي المناطق الريفية والحضرية محرومون من حقهم في الرعاية الصحيةوالمياه النظيفة والتعليم والسكن الملائم؛ على الرغم من النمو الكبير فياقتصاداتها الوطنية. وتنطلق الهند كعملاق آسيوي قوي، ولكنها لم تتصدَّ بعدلحالة الحرمان التي يكابدها فقراء المدن أو المجتمعات المهمشة في المناطقالريفية. وتصبح الفجوة في مستويات المعيشة في الصين بين العمال الريفيينوالمهاجرين وبين الطبقات الحضرية الموسرة أكثر اتساعاً ووضوحاً.

إن أغلبية سكان العالم اليوم تقطن في المناطق الحضرية، ويعيش أكثر منمليار نسمة من بين هؤلاء في مدن الصفيح الفقيرة، أي أن واحداً من كل ثلاثةأشخاص من سكان المدن يعيش في مسكن غير ملائم لا تتوفر فيه الخدماتالأساسية، وتحت التهديد اليومي لحالة انعدام الأمن وحوادث العنف والإجلاءالقسري. دعوني أعطي مثالاً واحداً على ذلك: فثمة نحو 150,000 كمبودييعيشون في ظل خطر الإجلاء القسري في أعقاب نشوب النزاعات على الأرضوالاستيلاء على الأراضي والمشاريع الزراعية – الصناعية وإعادة تطويرالمناطق الحضرية.

ولم يقتصر انعدام المساواة، كمنتَج ثانوي للعولمة، على السكان الذين يعيشون في البلدان النامية. فقد أظهر تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الصادرفي أكتوبر/تشرين الأول 2008 ، أن «النمو الاقتصادي الذي حدث في العقودالأخيرة قد عاد بالفائدة على الأغنياء أكثر من الفقراء » في البلدان الصناعية. واحتلت الولايات المتحدة، وهي أغنى بلد في العالم، المرتبة السابعة والعشرينمن أصل الدول الثلاثين الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية منحيث استحكام الفقر وتزايد التفاوت في الدخل.

ومن فقراء المدن في أحياء الصفيح في ريو دي جانيرو بالبرازيل إلى طوائف«الروما » في البلدان الأوروبية، تقف الحقيقة المُرة بأن العديد من البشر يقاسون الفقر بسبب سياسات التمييز، الظاهرة والمستترة، والتهميشوالإقصاء التي تمارسها الدولة أو تتغاضى عنها، مع تواطؤ الشركات أو الفاعلينالخاصين. وليست محض صدفة أن العديد من فقراء العالم هم من النساءوالمهاجرين والأقليات الدينية أو العرقية. وليست محض صدفة أن وفياتالأمهات عند الولادة مازالت تشكل واحدة من أشد القتَلة فتكاً في عصرنا هذا، معأن إنفاق الحد الأدنى من الأموال على الرعاية الطارئة في مجال الولادة من شأنهأن ينقذ أرواح مئات الآلاف من النساء في سن الحمل.

لانعدام الأمن أشكال عدة

ويشير التقرير الى أنه من المرجح أن تزداد أعداد الأشخاص الذين يعيشون تحت نير الفقرويتعرضون لانتهاكات حقوق الإنسان مع تضافر عدة عوامل في مناخ الركودالاقتصادي. فأولاً، أدت سياسات التكييف الهيكلي التي دامت ثلاثة عقود، بقيادةصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، إلى إفراغ شبكات الضمان الاجتماعي فيالبلدان النامية والمتطورة على السواء. وكانت سياسات التكييف الهيكلي قدصُممت لخلق ظروف داخل الدول من شأنها أن تدعم اقتصاد السوق وتفتحالأسواق الوطنية أمام التجارة الدولية. وأدت إلى إضعاف الدولة إلى الحد الأدنى،حيث تخلَّت الحكومات عن التزاماتها المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعيةلمصلحة السوق. وبالإضافة إلى الدعوة إلى تحرير الاقتصاد، فإن سياساتالتكييف الهيكلي دفعت باتجاه خصخصة الخدمات العامة، وإلغاء تقنين علاقاتالعمل وتقليص شبكات الضمان الاجتماعي. وغالباً ما أدى ارتفاع تكاليفخدمات التعليم والرعاية الصحية، الناجم عن سياسات البنك الدولي وصندوقالنقد الدولي، إلى وضع هذه الخدمات بعيداً عن متناول الفئات الأشد فقراً.والآن، مع فوضى الاقتصاد وارتفاع معدلات البطالة، أخذ العديد من الأشخاصيواجهون فقدان تأمينهم الاجتماعي، وليس دخلهم فحسب، من دون وجودشبكات ضمان تساعدهم في الأوقات العصيبة.

وثانياً، إن انعدام الأمن الغذائي العالمي، على الرغم من خطورته، يكاد لا يحظىباهتمام يُذكر من جانب المجتمع الدولي. ووفقاً لتقديرات منظمة الأمم المتحدةللأغذية والزراعة، فإن نحو مليار إنسان يكابدون الجوع وسوء التغذية. وشهدتمعدلات الجوع ارتفاعاً حاداً نتيجة لنقص الغذاء الناجم عن عقود من خفضالاستثمار في الزراعة، والسياسات الخاصة بالتجارة التي شجعت على إغراقالسوق، وما ترتب على ذلك من تدمير للمزارعين المحليين، وتغير المناخ الذيأدى إلى نقص المياه بصورة متزايدة وإفقار الأرض، وزيادة الضغط السكاني،وارتفاع تكاليف الطاقة والاندفاع نحو الوقود الحيوي.

وفي العديد من الأماكن تفاقمت أزمة الغذاء بسبب التمييز والتلاعب بعمليةتوزيع الغذاء، ومنع وصول المساعدات الإنسانية الضرورية للغاية، وانعدامالأمن والنزاع المسلح، مما يؤدي إلى تدمير إمكانات الزراعة، أو يحرمالناس من الحصول على الموارد التي يحتاجونها لإنتاج الغذاء أو شرائه. ففيزمبابوي، حيث كان خمسة ملايين إنسان بحاجة إلى مساعدات غذائية بحلولنهاية عام 2008 ، استخدمت الحكومة المواد الغذائية كسلاح ضد معارضيهاالسياسيين. وفي كوريا الشمالية، وضعت السلطات قيوداً على المساعداتالغذائية بشكل متعمد لقمع الناس وإدامة جوعهم. وأسفرت أساليب «الأرضالمحروقة »، التي استخدمتها القوات المسلحة السودانية ومليشيا الجنجويدالمدعومة من الحكومة لمكافحة التمرد، إلى تدمير وسائل المعيشة، فضلاً عنإزهاق أرواح العديد من الأشخاص في دارفور. وحُرم المدنيون النازحونالعالقون في شمال سري لنكا، بسبب النزاع الدائر هناك ، من المساعداتالغذائية وغيرها من المساعدات الإنسانية لأن الجماعة المسلحة المعروفة باسم«نمور تحرير تاميل عيلام » لم تسمح للسكان بالمغادرة، ولأن القوات المسلحةالسريلانكية لم تسمح بدخول منظمات الإغاثة بحرية تامة. ولعل إحدى أبشعحالات الحرمان من الحق في الحصول على الغذاء، في عام 2008 ، تمثلت فيرفض سلطات ميانمار وصول المساعدات الدولية إلى 2.4 مليون إنسان ممنهم بحاجة ماسة للغاية إليها في «سايكلون نرجيس » لمدة ثلاثة أسابيع، فيالوقت الذي عمدت الحكومة إلى تحويل مواردها من أجل إجراء استفتاء مشوببالمثالب على دستور تشوبه مثالب أكثر.

ويضاف إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية تسريح مئات الآلاف من العمالالمهاجرين أو الأجانب. كما تتباطأ الاقتصادات الموجهة نحو التصدير، وتطلُّسياسة الحماية الاقتصادية برأسها. وتعتبر حوالات العمال الأجانب، التي تصلقيمتها إلى 200 مليار دولار أمريكي سنوياً – ما يعادل عدة أضعاف المستوىالعالمي لمساعدات التنمية فيما وراء البحار – مصدراً مهماً للدخل بالنسبةللبلدان ذات الدخل المتدني والمتوسط، من قبيل بنغلاديش والفلبين وكينياوالمكسيك. ولذا فإن تناقص الحوالات يعني تناقص العوائد لهذه الحكوماتوانخفاض المبالغ النقدية التي تُنفق على السلع والخدمات الأساسية. وعلاوةعلى ذلك، فإن هبوط معدلات تصدير القوى العاملة يؤدي إلى ترك مزيد منالشباب العاطلين عن العمل في قراهم في حالة من خيبة الأمل والغضب،ويجعلهم فريسة سهلة للتطرف والعنف.

في هذه الأثناء، وحتى مع انكماش أسواق العمل، يستمر ضغط الهجرة فيالازدياد، وتلجأ البلدان المستقبِلة للمهاجرين إلى استخدام أساليب أقسى لإبقائهمبعيدين عنها. ففي يونيو/حزيران 2008 ، قمتُ بزيارة إلى المقبرة العامة في تناريف في جزر الكناري، حيث تنطق القبور المجهولة بشهادات صامتة عنفشل المهاجرين الأفارقة في دخول أسبانيا. ففي عام 2008 وحده، شقَّ 67,000شخص طريقهم في عمليات عبور مهلِكة للبحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا، حيثغرق عدد غير معروف منهم في تلك العمليات. أما الذين نجحوا في العبور، فإنهم يعيشون حياتهم في الظل من دون أوراق هوية، وهم عرضة للاستغلال وإساءة المعاملة، وتحت التهديد الدائم بالترحيل، الذي تسبقه فترة اعتقال طويلة؛ وذلك نتيجة توجهات الاتحاد الأوروبي الخاصة بعمليات الإعادة لعام 2008.

من الركود إلى القمع

وحذر التقرير السلطات في كافة انحاء العالم بالقول، إننا نواجه خطراً كبيراً من أن يؤدي تزايد الفقر وبؤس الظروف الاقتصادية والاجتماعية إلى انعدام الاستقرار السياسي والعنف الجماعي، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، ربما ينتهي بنا المطاف إلى وضع يكون فيه الركود مصحوباً بمزيد من القمع، حيث تعمد الحكومات المحاصرة – ولاسيما الحكومات ذات النزعة الاستبدادية – إلى شن حملة قمعية قاسية ضد المعارضة والنقد وفضحالفساد وسوء الإدارة الاقتصادية على الملأ.

في عام 2008 حاولنا التنبؤ بما ينتظرنا في عام 2009 وما بعده. وعندما خرج الناس إلى الشوارع احتجاجاً على ارتفاع أسعار المواد الغذائية والظروف الاقتصادية المزرية، تم التعامل مع تلك الاحتجاجات، وحتى السلمية منها، بصورة قاسية في العديد من البلدان. ففي تونس أُخمدت الإضرابات والمظاهرات بالقوة، مما أسفر عن مقتل شخصين وجرح عدد آخر، ومحاكمة أكثر من 200 شخص من المنظِّمين المزعومين، تُوِّج بعضها بإصدار أحكام بالسجن مدداً طويلة على عدد منهم. وفي زمبابوي، تعرض المعارضون السياسيون ونشطاء حقوق الإنسان وممثلو النقابات العمالية للهجوم والاختطاف والاعتقال والقتل مع إفلات الجناة من العقاب. وفي الكاميرون، إثر اندلاع مظاهرات عنيفة، قُتل بالرصاص قرابة100 شخص من المتظاهرين، بينما سُجن عدد أكبر.

في أوقات الشدائد الاقتصادية والتوترات السياسية، تكون ثمة حاجة إلى الانفتاح والتسامح، لكي يتم توجيه مشاعر عدم الرضا وعدم الاقتناع نحو الحوار البناء والبحث عن الحلول. ومع ذلك، فإنه في هذه الظروف بالضبط تنكمش المساحة المتاحة للمجتمع المدني في العديد من البلدان. إذ يتعرض نشطاء حقوق الإنسان والصحفيون والمحامون والنقابيون وغيرهم من قادة المجتمع المدني للمضايقة والتهديد والاعتداء والملاحقة القضائية من دون مبررات، أو للقتل مع إفلات الجناة من العقاب في سائر أنحاء العالم.

ومن المرجح أن يتم تشديد الرقابة على وسائل الإعلام مع محاولة الحكومات خنق الانتقادات لسياساتها، وهو أمر يُضاف إلى التهديدات التي يواجهها الصحفيون أصلاً في العديد من البلدان. وتتمتع سري لانكا بأحد أسوأ السجلات في هذا المجال، حيث قُتل 14 صحفياً منذ عام 2006 . وشددت إيران القيودعلى حرية استخدام الشبكة الدولية، بينما قامت كل من سوريا ومصر بحبس المدونين. وعمدت الصين إلى تخفيف السيطرة على وسائل الإعلام في فترة التحضير لدورة الألعاب الأولمبية في بكين، ولكنها سرعان ما عادت إلى عادتها القديمة بإسكات منتقديها وترهيبهم. وحظرت الحكومة الماليزية جريدتين معارضتين بارزتين خوفاً من الانتقادات في فترة التحضير للانتخابات.

ولم تؤد الأسواق المفتوحة بالضرورة إلى مجتمعات مفتوحة. فقد تجرأت الحكومة الروسية، بفضل قوتها الاقتصادية المستمدة من ارتفاع أسعارالنفط والغاز، على تبني موقف قومي واستبدادي في السنوات الأخيرة على نحو متزايد، وعملت جاهدةً على تآكل حرية التعبير ومهاجمة منتقديها. ومع تعرض الاقتصاد الروسي للمشاكل بسبب هبوط أسعار النفط وارتفاع معدلات التضخم، ومع انتشار التذمر الاجتماعي على نطاق واسع، فقد أصبحت الاتجاهات الاستبدادية أكثر وضوحاً وعلنية.

نوع جديد من القيادة

ويؤكد التقرير على ان الحرمان وانعدام المساواة والظلم وانعدام الأمن والقمع تعتبر من علامات الفقر. وهي تمثل بوضوح مشكلات في مجال حقوق الإنسان، ولا تخضع للمقاييس الاقتصادية وحدها. كما أنها تتطلب إرادة سياسية قوية ورداً شاملاً يدمج القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية ضمن إطار عام لحقوق الإنسان وحكم القانون. كما تقتضي عملاً جماعياً ونوعاً جديداً من القيادة.

لقد أحدثت العولمة الاقتصادية تحولاً في ميزان القوى الجيو- سياسية، ويتسلم جيل جديد من الدول، على شكل مجموعة العشرين G20 ، زمام قيادة العالم.وهذه المجموعة المؤلفة من الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وغيرها من البلدان ذات الاقتصادات الناشئة من جنوب الكرة الأرضية، إلى جانب روسياوالولايات المتحدة والبلدان الغربية ذات الاقتصادات القائدة، تدعي أنها تشكل تمثيلاً أكثر دقة للقوة السياسية والنفوذ الاقتصادي في عالم اليوم. وقد يكون ذلك صحيحاً، ولكن كي تصبح دول مجموعة العشرين قيادات عالمية حقاً، فإنها يجب أن تحترم القيم العالمية، وأن تواجه سجلاتها الملطخة بالانتهاكات وازدواجية معاييرها الخاصة بحقوق الإنسان.

حقاً، إن الإدارة الأمريكية الجديدة تشق طريقاً مختلفاً مميَّزاً في مجال حقوقالإنسان مقارنةً بإدارة بوش. فقرار الرئيس أوباما، في الساعات الثمانيةوالأربعين الأولى من توليه منصب الرئاسة، بإغلاق معسكر الاعتقال فيغوانتنامو في غضون سنتين، ونبذ التعذيب بلا مواربة ووضع حد للاعتقالاتالسرية على أيدي وكالة المخابرات المركزية، كان قراراً يستحق الترحيب، مثلماكان قرار إدارته بالسعي إلى أن تنتخب الولايات المتحدة في مجلس حقوق الإنسان. بيد أنه من السابق لأوانه القول إن هذه الإدارة ستدعو الدول الصديقة لها، كإسرائيل والصين، إلى احترام حقوق الإنسان بنفس الصراحة والقوة اللتين تدعو بهما دولاً أخرى كإيران والسودان.

ولا يزال التزام الاتحاد الأوروبي بحقوق الإنسان يتسم بالمواربة. فعلى الرغم من موقفه الصلب تجاه قضايا، من قبيل عقوبة الإعدام وحرية التعبير وحماية المدافعين عن حقوق الإنسان، فإن العديد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أقل استعداداً للالتزام بالمعايير الدولية المتعلقة بحماية اللاجئين والقضاء على العنصرية والتمييز داخل حدودها، أو الاعتراف بتواطؤها مع وكالة المخابرات المركزية في عمليات تسليم ونقل المعتقلين المشتبه في ضلوعهم بالإرهاب بصورة غير قانونية.

وتعتبر البرازيل والمكسيك من المؤيدين الأقوياء لحقوق الإنسان على المستوى الدولي، ولكنهما للأسف غالباً ما لا تمارسان داخل حدودهما ما تدعوان إليه في الخارج. ومنعت جنوب أفريقيا بشكل مستمر الضغوط الدولية على حكومة زمبابوي من أجل وضع حد للاضطهاد السياسي والتلاعب بالانتخابات. وتعتقل المملكة السعودية آلاف الأشخاص الذين يُشتبه في أنهم إرهابيون من دون محاكمة، وتحتجز المعارضين السياسيين، وتفرض قيوداً قاسية على حقوق العمال المهاجرين والنساء وتضيّق الحريات المدنية والدينية للأقليات الى حدود لاتطاق. ولدى الصين نظام عدالة جنائية تشوبه المثالب، وتستخدم أشكالاً عقابية من الاعتقال الإداري بهدف إسكات منتقديها، وتُعتبر الدولة الأولى في تنفيذ عمليات الإعدام في العالم. وتسمح الحكومة الروسية بانتعاش عمليات الاعتقال التعسفي والتعذيب وإساءة المعاملة والإعدام خارج نطاق القضاء في مناطق شمال القوقاز، وتهديد الأشخاص الذين يتجرؤون على انتقادها، مع إفلات الجناة من العقاب.

فرص جديدة للتغيير

ويختم التقرير بياناته بالدعوة للتغيير مبيناً، لقد خلق الفقر- الذي تفاقم نتيجةً للأوضاع الاقتصادية - منصة مشتعلة للانطلاق منها لتغيير أوضاع حقوق الإنسان. وفي الوقت نفسه، أشعلت الأزمة الاقتصادية فتيل تحول نموذجي من شأنه أن يتيح الفرص لإحداث تغيير منهجي.

فعلى مدى العقدين الماضيين، ما فتئت معظم الدول تتراجع عن التزاماتها في مجال حقوق الإنسان أو تتنكر لها لمصلحة السوق، اعتقاداً منها بأن النمو الاقتصادي من شأنه أن يحمل جميع السفن. ومع انحسار المد وثقب السفن وتسرب الماء إليها، بدأت الحكومات بتغيير مواقفها جذرياً والحديث عن بنية مالية عالمية جديدة ونظام حاكمية دولي جديد، تلعب فيه الدولة دوراً أقوى. وهذا الأمر يتيح فرصة لوقف تراجع الدولة عن المجال الاجتماعي، وإعادة رسم نموذج للدولة أكثر مراعاة لحقوق الإنسان من النموذج الذي ظل يصنع القرار الدولي على مدى السنوات العشرين الماضية. كما أنه يخلق إمكانية إعادة التفكير بدور المؤسسات المالية الدولية من حيث احترام حقوق الإنسان، ومنها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وحمايتها والإيفاء بها.

ويتعين على الحكومات أن تستمر في الإيفاء بحقوق الإنسان مثلما تستمر في النمو الاقتصادي، وينبغي أن تعمد إلى توسيع نطاق الفرص الصحية والتعليمية ودعمها؛ ووضع حد للتمييز؛ وتمكين المرأة؛ ووضع معايير عالمية وأنظمة فعالة لمساءلة الشركات على انتهاكات حقوق الإنسان؛ وبناء مجتمعات مفتوحة يكون فيها مبدأ حكم القانون محترماً، والتماسك الاجتماعي قوياً، والفساد خاضعاً للتدقيق والمراقبة والحكومات خاضعة للمساءلة والمحاسبة. وينبغي ألاتصبح الأزمة الاقتصادية ذريعة للبلدان الأكثر غنى لخفض مساعداتها التنموية. بل إن المساعدات الدولية أصبحت اليوم، في ظروف الهبوط الاقتصادي، أكثرأهمية من ذي قبل، وذلك لمساعدة بعض البلدان الأشد فقراً على توفير الخدمات الأساسية في مجالات الصحة والتعليم والصرف الصحي والإسكان.

كما يتعين على الحكومات أن تعمل معاً على حل النزاعات المميتة؛ إذ أن تجاهل أزمة ما للتركيز على أخرى إنما هو بمثابة وصفة أكيدة لتفاقم الأزمتين على السواء.

فهل تغتنم الحكومات هذه الفرص لتعزيز حقوق الإنسان؟ وهل تقبل الشركات والمؤسسات المالية الدولية مسؤولياتها في مجال حقوق الإنسان وتلتزم بها؟ حتى الآن، لم تظهر حقوق الإنسان في عمليات التشخيص أو الوصفات المقترحة من قبل المجتمع الدولي.

ويُظهر التاريخ أن معظم النضالات من أجل التغييرات الكبرى - من قبيل إلغاء الرق أو تحرير المرأة - لم يبدأ كمبادرات من قبل الدول، وإنما كجهود للناس العاديين. فالنجاحات في مجال إقامة العدالة الدولية أو الحد من تجارة الأسلحة أو إلغاء عقوبة الإعدام أو مكافحة العنف ضد المرأة أو إدراج قضية الفقرالعالمي والتغير المناخي في جدول الأعمال الدولي، إنما أُحرزت نتيجة للطاقات والإبداع والمثابرة التي تحلى بها ملايين النشطاء من سائر أنحاء الكوكب.

يجب أن نعود الآن إلى قوة الناس كي نمارس ضغوطاً على زعمائنا السياسيين. ولهذا السبب ستطلق منظمة العفو الدولية حملة جديدة في عام 2009 ، بالتعاون مع العديد من المنظمات المحلية والوطنية والدولية الشريكة. وتحت شعار«فلنطالب بالكرامة»، سنقوم بتعبئة الأشخاص من أجل المطالبة بمساءلة الفاعلين الوطنيين والدوليين على انتهاكات حقوق الإنسان التي تسبب الفقروتؤدي إلى تفاقمه. وسنطعن في القوانين والسياسات والممارسات التيتنطوي على تمييز، ونطالب باتخاذ تدابير ملموسة من أجل التغلب على العوامل التي تؤدي إلى إفقار الناس وتحافظ على ديمومة فقرهم. وسننقل أصوات الناس الذين يعيشون تحت نير الفقر إلى قلب الحوار الهادف إلى وضع حدللفقر، وسنصرُّ على السماح لهم بالمشاركة بشكل فعال في اتخاذ القرارات التي تؤثر على حياتهم. "كما أننا «نطالب بالكرامة» لسجناء الفقر، كي يتمكنوا من تغيير حياتهم."

قبل نحو خمسين عاماً، رأت منظمة العفو الدولية النور عبر نداء من أجل إطلاق سراح سجناء الرأي. أما اليوم، فإننا «نطالب بالكرامة» لسجناء الفقر، كي يتمكنوا من تغيير حياتهم. وإننا على ثقة بأن جهودنا، بمساعدة ودعم ملايين الأعضاء والمؤازرين والشركاء في سائر أنحاء العالم، ستتكلل بالنجاح.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 31/آيار/2009 - 3/جمادى الآخرة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م