ثقافة الجدوى ومكافحة الفساد

لطيف القصاب/مركز المستقبل للدراسات والبحوث

إذا ما جربنا التفكير في حل لغز هذا التردي الحاد في مستوى الأداء ونسب الانجاز الذي تعاني منه ابرز المشاريع الحكومية المنفذ منها وما هو قيد التنفيذ لاسيما في بعض المحافظات الجنوبية لاستطعنا بقليل من الجهد أن نجمع عوامل كثيرة ليس أولها الفساد المالي والإداري وقلة الوازع الأخلاقي والافتقار إلى التخطيط والإدارة الإستراتيجيتين، وليس أخرها العوائق والمطبات التي يضعها كل فريق سياسي سواء في الحكومة الاتحادية أو الحكومات المحلية ضد الفريق الأخر المختلف من حيث التحزب والمرجعية الفكرية.

 وطبيعي أن الخوض في مجمل ما تقدم كان له نصيب وافر من أقلام الكتاب والباحثين العراقيين إلا أن اغلب الكتابات كانت تنحى منحى التشخيص وإظهار العيوب والتأشير على نقاط الخلل بطرق لا تخلو في بعضها من اتهام حقيقي لا لبس فيه فيما كانت في قسم منها تميل إلى الاختزال أحيانا والتهويل أحيانا أخرى تبعا للعاطفة أو تبعا لنظرية العرض والطلب السياسيين.

 ولم نجد في أكثر التحليلات الفكرية على كثرة إفاضاتها في تقصي هذه الظاهرة وصفة جاهزة أو خطة قصيرة الأمد من شانها تخطي حواجز الاختلافات السياسية الشائكة وبحيث يمكن الاستفادة منها من قبل من يدّعي النية الصادقة ويمتلك القدرة الدستورية على اتخاذ القرارات السياسية الحاسمة والمقصود بذلك السلطة التنفيذية التي آلت على نفسها تكرار الحديث منذ وقت ليس بالقصير عن تبنيها لمنهج الإصلاح بخاصة في قطاع البناء والاعمار وعجزت حتى الآن من بلوغ نتائج مقبولة في إطار منهجها المعلن.

إن من جملة الوصفات الجاهزة التي من شانها حرق مراحل الانجاز وقطع السبيل أمام مافيات الفساد ما يتمثل بالشروع بإستحصال دراسات جدوى اقتصادية من مناشي محلية أو عالمية رصينة قبل البدء بتنفيذ مشروع اقتصادي ما، وان يكون موضوع الحصول على دراسة الجدوى الاقتصادية شرطا رسميا ملزما ومحددا بسقف زمني لا يحتمل التأخير وان تكون خطة العمل في ما يتم إقراره من دراسات جدوى مبنية على معرفة كاملة بأساسيات المشروع المقترح وما يترتب عليه من عوائد و كلف وما يشتمل عليه من مراحل تنفيذ بالإضافة إلى تقييم نسبة المخاطرة في المشروع.

أن وجود دراسة جدوى اقتصادية بما تتفرع عنه من جدوى مالية واجتماعية وبيئية وما ترتكز عليه من معايير إدارة الجودة الشاملة أو ما يعبر عنها باللغة الانكليزية TQMيختصر الكثير من الجهد ويقلل إلى حد بعيد من احتمالات الهدر ومضاعفة النفقات بغير طائل ويضع علاجا شافيا لمرض فشل المشاريع الذي تعاني منه الغالبية العظمى من مدن البلاد سيما المناطق التي أحرزت ومنذ عهد طويل نسبيا تحقيق معدلات مناسبة من الاستقرار على الصعيد الأمني.

إن ثقافة حساب الجدوى الاقتصادية تعد ثقافة سائدة في جميع الدول المتطورة بل لدى سائر المجتمعات التي تنهج نهجا علميا متحضرا في نطاق حركتها الواعية ضمن دوائر السوق والعمل , وقد اختفى في الكثير من هذه المجتمعات التعويل على تمتع صاحب المشروع بحس تجاري مهما كان مؤيدا بسيرة حسنة وتجربة ناجحة ما لم يكن هذا الحس مستندا بدوره إلى خطة مدروسة تترجم الأفكار والمقترحات إلى لغة أرقام دقيقة تنأى عن الارتجال والاجتهاد وتقرر بالتالي مدى جداوئية المضي قدما في هذا المشروع أو ذاك فضلا عن تركه إلى بديل أفضل يحدده وبشكل حصري فريق من الخبراء.

 وقد سادت فكرة عامة في أذهان المجتمعات المتمدنة تنص على أن المشروع المنفذ على أكمل وجه ولكن بفترة زمنية ولو قليلة جدا بعد المهلة المحددة في عقد البناء يعد مشروعا في غاية الفشل ويستدعي محاسبة الجهة المنفذة حسابا قانونيا عسيرا.

لقد لمست من خلال الاحتكاك عن قرب ببعض مؤسساتنا الأكاديمية بخاصة كليات الإدارة والاقتصاد ميلا واضحا من قبل العديد من الأساتذة الجامعيين في تقديم خدمات استشارية مجانية كان على رأسها تزويد بعض مجالس المحافظات بدراسات جدوى في غاية الدقة والتنظيم تتعلق بمشاريع البناء والاعمار في عدد من المحافظات , إلا إن هؤلاء الاكادميين (المحسنين) وجدوا صدودا واضحا من قبل بعض الطواقم الإدارية في المحافظات وعند إلحاحي في السؤال عن السبب الحقيقي الذي يكمن خلف مثل هذا الإعراض الغريب من قبل الحكومات المحلية عن قبول عروض علمية ثمينة همس في أذني احدهم بان القائمين على مقاليد الأمور متشبثون بالإبقاء على حالة الضبابية التي تسود قطاعات المشاريع والأعمال لكي يبقى المسؤول الفعلي وراء ركام الخراب شخصية مجهولة وحتى يظل بمقدور هذا المسؤول المخرب دائما العثور على أكباش فداء يدفع بهم قرابين لنيران الأجهزة الرقابية في حالات الاضطرار القصوى بطبيعة الحال.

قد يكون مثل هذا التفسير ينطوي بدوره على دوافع شخصية أو غير مهنية لكنه أيضا قد يكون تفسيرا موضوعيا يضرب عميقا في علل الخراب المستشري في غير مكان من مشاريع البلاد الاقتصادية وهو في الفرضين السابقين يستحق أن يكون فكرة تستدعي التأمل فيها مليا ووضعها على المحك العملي كي تستبين آثار الحقيقة الغائبة، ومن جانب أخر سوف يسهم التطبيق الواقعي لهذه الفكرة بإشاعة ثقافة الجدوى الاقتصادية في أوساط المجتمع العراقي ويقطع الطريق أمام مافيا خبيثة تسعى جاهدة من اجل أن تبقى هذه الثقافة الجميلة وأمثالها غائبة عن وعي المجتمع العراقي.

* مركز المستقبل للدراسات والبحوث

http://mcsr.net

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 13/نيسان/2009 - 16/ربيع الثاني/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م