إشكالية التحول الديمقراطي في العراق

ناجي الغزي

أزمة الديمقراطية

على الرغم من التحول الديمقراطي البطئ في العراق الجديد، الا ان العراق لايزال يعيش أزمة ديمقراطية بسبب تاريخه الشائك والمرير الذي عاشه لفترة طويلة تحت سلسلة من الاحتلالات المقيتة وما صاحبها من تدهور في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية, والتي خلفت سياسات استبدادية لاتعرف معنى للديمقراطية كمفهوم وممارسة وسلوك، ونظرا للموروث الاستبدادي في المؤسسة السياسية الحاكمة في المجتمع العراقي وتأثير الاطر السياسية الاقليمية والعربية على الحياة السياسية في العراق.

وأحتكار السلطة المطلقة من قبل الانظمة الاستبدادية والدكتاتورية خلفت أمراض وشوائب عديدة أصابة البيئة السياسية والاجتماعية والثقافية العراقية, مما تركت آثاراً سلبية سيئة على الثقافة والسلوك السياسي العراقي. حيث أصبحت ثقافة العنف والاقصاء والأستبداد الفكري والجسدي ثقافة شائعة في المجتمع العراقي, تمارس بشكل واسع في الأسرة والمدرسة والمؤسسات العراقية الاخرى. وأستخدام العنف في مسيرة الانظمة السياسية في العراق باعتباره وسيلة لحل المعضلات مع خصوم الرأئ والسياسة.

وفي ظل تلك الظروف القاهرة التي مارستها الانظمة ولدت ردود أفعال ثورية حماسية مشابهة لسلوك السلطة وغير ممنهجة, وهي عبارة عن تعبيرات مشحونة بالعاطفة والثأر ومبنية على العنف والتصفيات الجسدية ضد جبروت سلطان الحاكم. وتلك الظروف أنجبت حركات عسكرية وسياسية ليبرالية واسلامية، جعلت المجتمع يعيش في مسلسل الانقلابات العسكرية والسياسية، ادت الى تجديد أسطورة الاستبداد والسطوة والظلم على رقاب الشعب العراقي. وأن تسارع تلك الاحداث في تاريخ العراق المعاصر شكلت تراجعا حضاريا خطيرا في الوعي السياسي وانحدارا عميقا في مفهوم السلوك الأجتماعي.

وعلى الرغم من الوضع الاقتصادي العراقي الذي أخذ بالتسلق والصعود بين أقتصاديات دول العالم الثالث في سبعينيات القرن الماضي, الا ان أدارة الحكم السياسي وطبيعته التسلطية والاستبدادية وسلوكه الهمجي غير المسؤول, جعل العراق مستودع للاسلحة والذخائر, وسخر الطاقات البشرية الى وقود للحروب. وأدخل العراق وشعبه بحروب طاحنة أزهقت فيها البشروالحجر ودمرت البنية الخدمية والذاتية للانسان العراقي. ولحق ذلك حصار أقتصادي أكل الأخضر واليابس, مع عزلة اقليمية ودولية, مما جعل البلاد تهوي أقتصادياً وثقافياً الى هاوية الانهيار. وقد كرست تلك الظروف الحرجة قوة مضاعفة لشخصنة الدكتاتور وتقوية سطوته وتسلطه داخلياً, واضعاف قوة المجتمع ماديا ومعنويا.

وفي ظل تلك الظروف فقد العراق مفهوم الديمقراطية ومفهوم الولاء للوطن. وذلك بسبب الثقافة التي انتهجتها القيادة السياسية في ظل نظام الدكتاتور البائد. ثقافة العبودية والاستسلام لمقولات القائد والفكر البعثي السائدة آنذاك، مما تركت تلك الثقافات والسلوكيات تداعيات مشوه في ذهنية الفرد, وانطباعات مختلفة لمفهوم الوطن والولاء ولغة الحوار. حيث لم يكن هناك مفهوم للحوار والنقد والانتقاد، فقد عاش الفرد العراقي في تلك المرحلة لايفقه معنى للديمقراطية, بل كانت تلك المرحلة تشكل هدرا للفكرالبشري. وتعتبرالديمقراطية من أهم الازمات التي عاشها المواطن العراقي. وبعد مرحلة الاحتلال الامريكي للعراق 2003 تحول العراق من نظام الحزب الواحد الدكتاتوري الى نظام الاحزاب المتعددة, ومن الانغلاق المطبق الى الانفتاح المفرط. ولكن تبقى تلك الاحزاب فاقدة للرؤية السياسية العراقية ما بعد سقوط الدكتاتورية, بسبب ما تعانيه تلك الاحزاب من ضعف في نضوجها السياسي, وعدم وضوح في أنظمتها الفكرية وتشكيلاتها الداخلية. مما جعل البلاد تعيش في حالة من الفوضى والتخبط السياسي.

تحديات الديمقراطية

لكل تحَول ديمقراطي تحديات وعقبات تحُول دون تحقيق ذلك المشروع. والعراق الذي شهد بعد سقوط نظام صدام البائد تحولات ديمقراطية متسارعة في مشهده السياسي، وقد أكدت الانتخابات التي جرت في العراق على مستوى مجالس المحافظات والانتخابات البرلمانية التطور الديمقراطي الذي بات واقعا وحقيقة في المشهد السياسي العراقي. ويشهد العراق خطوات متسارعة وثابتة نحو مسيرة الديمقراطية والعدالة، وهذا ما جعل المجتمع الدولي أن يشيد بدولة العراق الجديد ونجاح تجربته السياسية وتسميتها " بالدولة الديمقراطيات الناشئة " وذلك من حيث حداثة نشأتها.

وعلى الرغم من التقدم والنجاح في مسيرة التحول الديمقراطي في العراق، ولكن هناك تحديات وعقبات تواجه الديمقراطية التي تؤثر على مستقبل التجربة السياسية الديمقراطية العراقية الوليدة. ويمكن أن تؤدي تلك العقبات إلى الاحتقان والتوتر السياسي. وعلى الكتل والاحزاب التي تشكل الخريطة السياسية للواقع السياسي العراقي ان تلطف الاجواء والمناخات السياسية من تلك الاحتقانات والاختناقات. وذلك من خلال المصارحة والمصالحة وتفعيل ورقة الاصلاح السياسي، والاعتراف بالخطأ الحاصل في العملية السياسية والاسراع بترميم الصدع الحاصل بها. وذلك عن طريق حل حزمة من الامور العالقة بين الكتل والاحزاب السياسية, ومن أهم تلك الامور:

1- المصالحة السياسية بين الفرقاء السياسيين, وحل الازمات السياسية بين القوى السياسية. وذلك عن طريق تفعيل ورقة الاصلاح السياسي وتوجيه العملية السياسية من الانحراف الحاصل نحو جادة الصواب. وتفعيل قانون العفو عن السجناء الذين لم يرتكبو جرائم بحق الشعب العراقي.

2- القضاء على ظاهرة الارهاب والعنف وإنهاء المظاهر المسلحة. وحث المسلحين بالانخراط في العمل السياسي, وذلك من خلال طرح ضمانات قانونية وأخلاقية لهؤلاء لممارسة حقهم السياسي والفكري بعيد عن لغة السلاح.

3- إنهاء المحاصصة الطائفية والحزبية والهيمنة والانفراد بالقرارات الادارية والسياسية. والايمان بالمشاركة السياسية في صنع القرار في إطار الديمقراطية.

4- القضاء على ظاهرة الفساد الاداري والمالي ومحاربة المفسدين وإصلاح الادارة.

5- التعديلات الدستورية وذلك عن طريق أدخال التعديلات على الدستور بما يلائم طبيعة المجتمع العراقي.

6- تشريع قانون الاحزاب الذي ينظم الفوضى السياسية ويقضي على البلطجة الحزبية.ويقنن من الظاهرة الحزبية الكبيرة, ويؤمن الحرية السياسية في المجتمع.

7- اصلاحها وترميم الازمات والاحتدامات الحزبية الداخلية من خلال تغيير ستراتيجتها الداخلية والتحرر من عقيدتها الايدلوجية الجامدة. وذلك من خلال ايمانهم بالمنهج الديمقراطي وبمنهج التداول السلمي لرئاسة الاحزاب السياسية, بعيد عن الزعامات الأبدية.

8- الحد من التدخلات الخارجية لدول الجوار من خلال التأثير على بعض المكونات السياسية.

وعلى الرغم من تلك المؤشرات التي تعطل وتعوق عملية التحول الديمقراطي في العراق، تبقى هناك بعض المتطلبات الضرورية للتحول, وهو تأييد الشخصيات والاحزاب التي تقود العمل السياسي للديمقراطية بالاتجاه الصحيح والتي تسعى لتاسيس دولة القانون والمؤسسات. إضافة الى وجود طبقة من النخب المثقفة الواعية لمرحلة التحول الديمقراطي، وتوفير الوعي الثقافي الكامل لطبقات المجتمع لمفهوم الديمقراطية, والاستفادة من تجارب الشعوب والامم في عملية التحول الديمقراطي.

آليات الديمقراطية

فالتحول والبناء الديمقراطية في العراق عملية شاقة, لايمكن ان تقوم على أساسات قديمة, وذلك بحاجة الى آليات وتلك الاليات محكومة بأسس وشروط ومستلزمات لايمكن تجاوزها, و تلك الآليات تتطلب علاقات مع المجتمع بكل المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ولايمكن تحقيق ذلك الا من خلال خلق بيئة سياسية أجتماعية ثقافية قابلة ومستعدة لهذا التحول. والمجتمع المدني هو الذي يمثل تلك الحصيلة من البيئة السياسة والأجتماعية والثقافية. وأن إحدى آليات التحول الديمقراطي هو:

• التحول والبناء الديمقراطي بحاجة الى إرادة جماهيرية واعية ومتفاعلة ومؤثرة في التعامل مع الديمقراطية كمفهوم وممارسة.

• دمقرطة المؤسسات الحكومة وهياكل السلطة, والتيارات والاحزاب السياسية. وترشيد أنظمتها الداخلية على أسس عقلانية تؤمن بمفهوم الديمقراطية وتجديد وتحديث قياداتها وتغيير خارطة الهرم الاداري لتلك الاحزاب. وان الخشية من نتائج تلك التغيرات يعتبر تعطيل للتحول الديمقراطي، لان علاقة تلك الاحزاب بجسم المجتمع لايمكن ان تستمر بشكل صحيح الا من خلال أحترام قواعد الممارسة الديمقراطية.

• توفير الامن اللازم من قبل الحكومة لمنظمات المجتمع المدني لممارسة دورها في توعية شرائح المجتمع عبر آليات تثقيفية متنوعة، كالندوات والمحاضرات وورشات العمل.

• أن الديمقراطية لاتكتسب الإ من خلال الممارسة لها, لانها عملية مستمرة تتضمن معاني ومفاهيم. لذلك فأن أفضل طريق لتعزيز الديمقراطية هو الايمان بمفاهيمها وممارسة سلوكها.

• التحول الديمقراطي يحتاج الى ضمانات قانونية وثقافية يكفلها الدستور ويفعلها المجتمع المدني. من خلال تعميق جذورها في بنى مؤسسات المجتمع السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.

• حماية حقوق الاقليات واحترام حقوقهم القومية والدينية. واحترام حقوق المرأة في ممارسة دورها في المجتمع سياسياً وثقافياً وأجتماعياً وتحريم سياسة التمييز بسبب الجنس.

• الديمقراطية تتطور بأساليب وآليات الحوار المتبادل والاعتراف والقبول بالتعدد السياسي والفكري على اساس احترام حقوق الانسان, واحترام مبدأ تداول السلطة في المجتمع, واحترام استقلالية القضاء، وإلغاء مبدأ القطيعة والعداء بين السلطة والمجتمع.

• القضاء على البطالة والفقر من خلال خلق فرص العمل, وتطوير الانشطة التجارية المتعددة وتشجيع الاستثمار ورفع مستوى الدخل الاجتماعي للفرد، وسن قانون التكافل الاجتماعي في المجتمع.

كل تلك الاليات تساعد وتساهم في تصحح مسار التحول والتطور الديمقراطي في العراق. والديمقراطية تبقى مطلب جماهيري مهم لتحقيق العدالة والمساواة, وتنمية الشعور والوطني, والولاء والانتماء للوطن.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 23/شباط/2009 - 27/صفر/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م