|
العنف وليد النفسية السلبية العلامة السيد أحمد صادق الشيرازي |
|||||||
المقدمة.. بسم الله الرحمن الرحيم
الصفات النفسية هي مصدر أعمال الإنسان ومستودع أفعاله، والعمل انعكاس لتلك الصفات؛ فما يحمله الإنسان في سريرته ينعكس ويظهر على أعماله. ربما يتمكن شخص أن يتظاهر بالكرم أو يتحلم أو يتشجع، ولكن لو لم تكن هذه الصفات متجذرة في نفسه، فإنه في المواقع الحساسة الهامة تظهر سفاهته بدل حلمه، ويظهر جبنه بدل شجاعته، وبخله بدل كرمه؛ إذاً أعمال الإنسان إنما تعكس تلك الصفات التي يحملها في ضميره. ومن تلك الصفات النفسية التي تظهر على أعمال الإنسان شاء أم أبى، هي الصفة الإيجابية، وتقابلها الصفة السلبية.
الناس السلبيون إناس عنيفون في العادة؛ فالأب الذي يربي أبناءه إذا كان سلبياً، كثيراً ما يصرخ في وجوهم وكثيراً ما يضربهم؛ فالعنف من الأمور الوليدة لتلك النفسية السلبية، والإنسان العنيف يندم كثيراً إن رجع إلى عقلانيته. في حديث عن مولانا الإمام أمير المؤمنين (ع) يقول ((الحدة ضرب من الجنون لأن صاحبه يندم فإن لم يندم فجنونه مستحكم))، فالإنسان العنيف كثير الندم، إن رجع إلى عقلانتيه، وكثير الاعتذار.. نقرأ في الشقشقية العظيمة لأمير المؤمنين (ع) في وصف الثاني حيث يقول: فصيرها (أي الخلافة) في حوزة خشناء، يغلض حلمه، ويخشن مسّه، ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها.. صيرها في حوزة خشناء أي عنيفة، وكثرة العثار أي السقوط، ونتيجة كثرة السقوط الاعتذار. إذن يضطر الإنسان الذي يخطئ لأن يعتذر، فيكثر اعتذار الإنسان العنيف. علاقة العنف بالنفسية السلبية: إن أحد أهم أسباب العنف، هي النفسية السلبية.. ترى بعض الناس عند تربية أبنائهم يفكرون أولاً وقبل كل شيء في المنع، لكن البعض الآخر عندما يريد أن يمنع أبناءه من شيء، يحاول أن يجد لهم طريق صحيحاً، ثم يمنعهم عن الطريق الفاسد والأشياء المضرة؛ مثل هؤلاء الأشخاص إيجابي يفكر أولاً في إيجاد الطريق الصحيح، ثم يمنع عن الباطل. والفرق بين هاتين الصفتين أن الإنسان السلبي إن كانت له قوة تدعمه فإنه ربما يصل إلى النتيجة أسرع من الإنسان الإيجابي، ولكن تلك النتيجة سريعة الزوال أيضاً، هذا إن كانت له قوة تدعمه، وإلا فمع عدم وجودها فالإنسان السلبي لا يصل إلى نتيجة، والذي ينتهي إليه من تلك السلبية إنما هو الانكسار، إنما هي الفضيحة.. ولكن الإنسان الإيجابي ربما يتأخر في الوصول إلى النتيجة، وربما تكون الثمار أبطأ، لكنها تكون متجذرة، ونتيجة العمل الإيجابي أقوى وأبقى. أهمية التوعية بالبدائل الإسلامية المطلوبة: في هذه الأيام كثيراً ما نسمع ونقرأ عن نداءات متعددة لمقاطعة بضائع خاصة، نسمع كثيراً ونقرأ أنه يجب علينا أن نقاطع هذه أو تلك البضاعة أو مجموعة من البضائع.. أنا لست مخالفاً لهذه النداءات، بل إن بعضها صحيح وفي محله، وإن كان البعض قد خلط بين الحابل والنابل، ولكن أريد أن أقول إننا كمسلمين ما دمنا لا نملك بدائل بمستوى تلك البدائل، فيلزم أن لا نتوقع من كثير من الناس الاستجابة لتلك النداءات، لماذا؟ لأنه ليس لنا نحن كمسلمين منتجات بمستوى تلك البضاعة.. أنا لا أريد الدفاع عن الذين يستخدمون البضائع المحرمة كلا، طبعاً ليس كل ما يقال أنه محرم، فهو حقيقة محرم، بل إن بعض ما يقال إنه محرم صحيح.. هناك شرائط إذا اجتمعت تكون هذه البضاعة محرمة ويحرم استخدامها، يعني أن استخدامها جريمة وجناية
النبي (ص) شّرف يثرب وطيبها بقدومه المقدس إليها غير أنه في بداية الأمر لم يقل أن التعامل مع اليهود محرم، رغم أن اليهود في يثرب قد استغلوا أهلها استغلال بشعاً، لكن النبي (ص) لم يحرم التعامل معهم، بل بدأ بتأسيس بدائل يحتاجها أهل يثرب، فأرسل أولاً مجموعة إلى اليمن - على ما في بعض التواريخ -ليتعلموا صنع السلاح؛ لأن تسليح أهل يثرب كان يتم عن طريق اليهود، فأرسل مجموعة ليتعلموا صنع السلاح، ثم أرسل مجموعة أخرى ليتاجروا من غير أن يعبروا عن طريق اليهود؛ فأسس سوقاً في المدينة وحرض الناس على الاكتساب كما حرضهم على تعلم المهن المختلفة، وبعد أن أغناهم عن اليهود عسكرياً، لأنهم تعلموا صنع السلاح بأنفسهم، وبعد أن أغناهم عن اليهود اقتصادياً، قاطع اليهود، ونجح في ذلك أكبر نجاح. فهو (ص) أعطى أولاً البدائل المناسبة التي يحتاجها أهل يثرب، ثم فرض المقاطعة.. إذا أردنا النجاح في مقاطعة هذا العدو وذاك العدو، فإنه يلزمنا أن نعطي أولاً البدائل المناسبة، بمستوى تلك البضائع، ثم نحرمها، لنتوقع من الناس الاستجابة؛ إذْ إن أكثر الناس ليسوا متدينين مئة في المئة؛ فهم لا يستجيبون لهذه النداءات، حتى لو عرفوا صحتها؛ فيلزم أن نفكر في البدائل المناسبة، وإلا فلا طائل من هذه النداءات، وقد لاحظنا فشلنا في هذه النداءات في البلاد الإسلامية.
وهكذا فعلى الإنسان أن يفكر في البدائل، لا المنع عن الشيء فحسب. وهذه هي طريقة القرآن الكريم حتى بالنسبة إلى كثير من الأحكام الشرعية؛ لاحظ هذه الآيات، يقول الله سبحانه وتعالى: (أحل الله البيع وحرّم الربا) فعلينا أولاً إعطاء طريقة صحيحة للتجارة والكسب، ثم بعد ذلك يصار إلى المنع من الطريقة المضرة والفاسدة. يقول الله سبحانه في آية أخرى (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم أن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم) وفي آية أخرى(ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء) فينبغي أولاً توجيه أولياء البنات إلى الطريقة الصحية، وهي طريقة الإنكاح، أي التزويج للفتيات، هذا أولاً ثم بعد ذلك المنع عن الطريقة المضرة القذرة، وورد في آية قرآنية أخرى، في وصف النبي الأكرم (ص) (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) يعني أولاً تحليل الطيبات، وثانياً تحريم الخبائث.. وهناك آيات أخرى كثيرة تشير إلى هذا المعنى؛ فيجب أولاً إعطاء البديل، ثم بعد ذلك المنع. هذه الطريقة الإيجابية التي يجب أن نتعلمها من القرآن الكريم.. فلنكن إيجابيين في كل شيء، لنقتدي بالنبي (ص) وبأهل بيته، لنقتدي بالقرآن الكريم، ولا نفكر دائماً بالمنع. منهج الإمام الراحل (ره) في التعامل مع المخالف: قبل سنوات عندما بدأت بعض الصرخات في التنقيص من مقام سيدة نساء العالمين الصديقة الكبرى السيدة العظمى سيدتنا فاطمة الزهراء (ع) حاول المؤمنون أن يصدوا هذه الهجمة، كل حاول بطريقته، الإمام الراحل رضوان الله عليه ماذا صنع في صد هذه الهجمة؟ كان بإمكانه أن يكتب كتاباً يملأه بالسب والشتم لأصحاب تلك الأراجيف، لكنه لم يصنع هذا، وإنما كتب كتاباً في فقه الزهراء، كتب في بيان عظمة الزهراء، في استفادة الأحكام الشرعية من كل كلمة قالتها الزهراء (ع) هذا الكتاب ربما بلغ أكثر من خمسة مجلدات أو ستة، وبالنسبة لحديث الكساء كتب مجلداً كاملاً في استفادة الأحكام الشرعية من هذا الحديث الشريف، وقدم لهذا الكتاب مقدمة رائعة جداً في بيان عظمة الزهراء، وكان لهذا الكتاب وقع عظيم في صد تلك الهجمة، حتى أن بعض قادتهم انزعجوا كثيراً من هذا الكتاب، وكانوا يستهزؤن به وحاولوا أن يمنعوا نشره في المناطق التي يسيطرون عليها.. وهكذا حرض الإمام الراحل رحمه الله أولاده وأقرباءه وأصدقاءه وتلاميذه أن يكتبوا عن عظمة الزهراء وقد استجابوا لذلك فمن هؤلاء من كتب كتباً كثيرة عن عظمة الزهراء ومنهم من أسس مؤسسات باسم الزهراء.. هذا العمل كان ذا أثر إيجابي في صد تلك الهجمة وكان بإمكانه أن يسب وأن يشتم وأن يمنع وأن يحرم، ولكن لا شك في أن أثر التحريم والسب والشتم أقل، وربما أسرع إلى الزوال، إلا أنه صنع شيئاً في بيان عظمة الزهراء ليعرف الناس أن الزهراء ليست امرأة عادية، أن الزهراء فوق مستوى البشر، أن الزهراء حجة فوق حجج الله. أنقل هذه القضية باختصار وربما قد شهدها البعض من قبل، وهي أنه قبل حوالي أربعين عاماً، عندما بدأ بعض الناس يمنعون من شعيرة التطبير, وكانوا قد صبوا كل جهودهم للحيلولة دون ممارسة هذه الشعيرة، ومن جملة ما أشاعوه في بداية الأمر أن المطبرين أناس لا يصلّون، وقد غفلوا عن أنه لو كان الأمر كذلك، فهو لا يعني أن التطبير عمل محرم، وإلا فالصلاة المستحبة أيضاً محرمة؛ لأن بعض الناس يصلون الصلوات المستحبة ويغتابون، فهل يعني ذلك أن الصلاة محرمة، بعض الناس مرابون، ويذهبون بأموال الربا إلى العمرة، فهل يعني ذلك أن العمرة محرمة؟! إذا صنع بعض الناس شيئاً محرماً فلا يعني أن كل ما يصنعونه محرم.. على أي حال، أشاعوا هذه الإشاعة، والسذج من الناس صدق هذه الإشاعة. الإمام الشهيد السيد حسن الشيرازي (رحمه الله) وجمع من العلماء، فكروا في المنع من هذه الإشاعة، وقرروا أن يصلوا صلاة الفجر في يوم عاشوراء جماعةً، وحرضوا المطبرين أن يأتوا إلى صلاة الجماعة، أن لا يصلوا في بيوتهم فرادى، وكان في يوم عاشوراء أن اجتمع الآلاف في حرم سيد الشهداء (ع)، وفيهم المئات بل آلاف المطبرين، وكثيرون قد لبسوا الأكفان وصلوا صلاة الفجر جماعة، وبعد ذلك انطلقت مواكب التطبير المهيبة، وصارت هذه سنة، بحيث أن هذه الشعيرة صارت لا تقام إلا بعد أداء صلاة الفجر جماعةً أولاً، ومن ثم التوجه لزيارة سيد الشهداء بقراءة زيارة عاشوراء، ثم بعد ذلك تنطلق مواكب التطبير.. وهكذا منعوا من انتشار تلك الإشاعة.. هذا عمل إيجابي.. أولئك يزعمون أن المطبرين لا يصلون، في حين أنهم يجتمعون للصلاة في مكان واضح، في مكان يراه الناس، فيعرفون أنهم يصلون، فلا حاجة لأن تسب ولا حاجة لأن تشتم، اعمل عملاً إيجابياً لتفهم الناس الحقيقة وهكذا في كل شيء.. هذه النماذج ليست قليلة في تاريخ سيدنا ومولانا رسول الله (ص) والأئمة الطاهرين (ع) وفي تاريخ العلماء الأبرار، هذه النماذج كثيرة جداً أنهم يلجأون إلى الأعمال الإيجابية، فإذا رأينا كتاباً مليئاً بالأكاذيب والأباطيل فلا نحاول أن نسب مؤلف هذا الكتاب بل نكتب كتاباً في ردّه ونبين الحقائق للناس حتى يعرفوا أن ذلك الكتاب عبارة عن أباطيل. إذا رأينا مجلة أو نشرة فاسدة فلنؤسس مجلة طاهرة وإذا رأينا مؤسسة تعمل أعمالاً محرمة، فلنؤسس مؤسسة تعمل أعمالاً محللة. لنفكر دائماً في إعطاء البديل وإذا أعطينا البديل، ففي كثير من الأحيان نستغني حتى عن المنع والمقاطعة إذا كان البديل بالمستوى يقولون إذا أردت أن تبين أن فلاناً قصيراً فلا حاجة لأن تصرح بذلك، أنت في غنى عن ذلك، بل قف بجنبه حتى يعرف الناس أنه قصير. دور الإرادة في تغيير الصفات النفسية السلبية: لنعطي بدائل مناسبة، لنفكر تفكيراً إيجابياً في العمل، لنبتعد عن التفكير السلبي، ربما كثير منا في نفسه إنسان سلبي، ولكن الله وهبه القوة ليغير صفاته؛ غاندي محرر الهند يكتب عن نفسه أنه كان جباناً ويكتب قصصاً في هذا المجال، ومن يطالع تلك القصص يعلم أنه كان جباناً، ولكنه حاول وحاول حتى وصل إلى مراتب لا بأس بها من الشجاعة؛ فالإنسان يستطيع أن يغير من صفاته السلبية؛ فإذا كنا إناساً سلبيين، فلنحاول أن نكون إيجابيين، لنحاول أن نغير تلك الصفة لأنها ما دامت موجودة في الإنسان، فأعمال الإنسان تنطبق على تلك الصفة، فيلزمه أن يغير تلك الصفة ويفكر تفكيراً إيجابياً في الأعمال.. يقول الله سبحانه وتعالى (ادعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).. وصلى الله على محمد وآله الطاهرين. |