حوار الثقافات و ليس صدام الحضارات

أشادت الباحثة السيدة هيلجا لاروش مؤسّسة ورئيسة مؤسسَة تشيلر للنشاطات الثقافية والإنسانية, وزوجة السيد ليندون لاروش مرشح الانتخابات الرئاسية القادمة في الولايات المتحدة, أشادت بالنهضة الكبيرة والشاملة التي حققتها دولة الإمارات العربية المتحدة على كافة الأصعدة وقالت إن هذه النهضة تمثل نموذجاً رائعاً لما يمكن أن تحققه من تنمية عن طريق النفط.

وجاء ذلك خلال المحاضرة التي ألقتها السيدة لاروش في مركز زايد للتنسيق والمتابعة مؤخرا تحت عنوان (حوار الثقافات وليس صدام الحضارات) وأكدت فيها أن ما شاهدته من صور للمذابح والفظائع التي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني الأعزل على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي هي نادرا ما ُترىعلى شاشة التلفزيون الأوروبي، كما أنها لا ترى مطلقا  في الولايات المتحدة. وتساءلت ما الذي يجعل الإعلام الغربي يخفي حقيقة المذابح الدائرة هناك .

وأشارت إلى أنه ينبغي  البحث عن الأسباب الإقليمية المتعددة وراء الرعب القائم ، فهناك الإطار الذي لم يكن من الممكن أن يقع كل ذلك بدونه، ذلك أن النظام المالي العالمي آخذ في الانهيار، وأن القوى التي تستفيد من هذا النظام تبذل كل ما في وسعها لتبقى صاحبة السيطرة على الأمور مهما كانت النتائج. كما أن ما نراه في منطقة الشرق الأوسط وفي أماكن أخرى من العالم هو بمثابة صور متنوعة لتحقيق المفهوم الاستعماري القديم الذي يأخذ من الحروب ذريعة لاستمرار السيطرة.

وفي حديثها عن الأوضاع المتأزمة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما أعقبها من حرب في أفغانستان، وتصعيد للموقف في الشرق الأوسط، واقتراب الهند والباكستان من حافة الخطر، أوضحت أنه أصبح من الحتمي أن يقع الصدام بين الحضارات. ووصفت كتاب صراع الحضارات للكاتب صامويل هنتنجتون بالكتاب الشيطاني كما وصفت كاتبه بالأحمق، وأكدت ان الكتاب ليس مجرد نظرية أكاديمية بل إنه سيناريو فعلي لسياسة أنجلوسكسونية, وأن الفكرة الأساسية للكتاب عن صدام الحضارات تقوم على أساس أن الحضارات الكبرى في العالم وهي المسيحية والإسلام واليهودية والهندوسية والكونفوشيوسية ليس بينها شيء مشترك على الإطلاق، وأن كل منها منفصل تماماً عن الآخر، ولذلك فإن الحرب بينها أمر حتمي. وأن ذلك المفهوم يكرَّس مبدأً استعمارياً قديماً يقوم على مبدأ  فرَّق تسـد .

وأوضحت السيدة لاروش أنه لو وقعت حرب المائة عام ضد الإرهاب كما تحدث بذلك الرئيس الأسبق للمخابرات المركزية الأمريكية فإنه لا مناص من أن تسقط الحضارة الإنسانية العالمية كلها في عصر مظلم لم تشهده منذ مئات السنين، وان من الأجدر البحث عن حل من نوع مختلف، وان أحد عناصر الحل هو في إطار ( معاهدة وستفاليا للسلام) التي ساهمت في إنهاء حرب دينية في أوروبا استمرت ثلاثين عاماً, وانتهت لأن كلا الطرفين المتحاربين قد وصلا إلى قناعة تامة بأن استمرار الحرب لن يُبقي أحداً على قيد الحياة. وأشارت إلى ان تلك المعاهدة هي من الوثائق الأساسية للقانون الدولي, وأنها مثيرة للغاية حيث أن المادة الأولى منها تقول  أن السياسة الخارجية لا ينبغي أن تقوم على الكراهية والانتقام بل ينبغي أن تقوم على الحب ، أما المادة الثانية فتقول من أجل السلام ينبغي أن نغفر وننسى للأبد كل الجرائم والخطايا التي ارتكبها طرف ضد الآخر.

وتساءلت السيدة لاروش هل نريدها حرباً أبدية حقيقيةً, وأشارت إلى ما قاله  كيسنجر مؤخراً من أن معاهدة سلام وستفاليا لا تنطبق على الشرق الأوسط . كما لو أن الشرق الأوسط كون مختلف لا تنطبق عليه قوانين الكون الآخر, وقالت إنني أعتقد أن ما يقصده كيسنجر هو نفس ما يقصده صامويل هنتنجتون. وأنه إذا عدنا بالذاكرة إلى التاريخ القديم بعد سقوط القسطنطينية عام 1453 حينما وقع وقتها صدام صغير بين الحضارات – كما كان يصفه الأوربيون في ذلك الوقت – وردت تقارير عن أعمال إرهاب واغتصاب وزندقة وغيرها، وكان ( نيكولاس أوف كوسا ) – أحد الفلاسفة العظام لمفهوم الدولة الأوروبية الحديثة والعلوم الطبيعية الحديثة – قد ذهب إلى القسطنطينية ليبحث عن وثائق للمجالس الكنسية القديمة تميداً لعقد مجلس فلورنسا الذي كان من المفترض أن يقوم بمحاولة توحيد الكنيستين الأرثوذكسية والرومانية، واستطاع أن يثبت في مجال بحثه في الوثائق الأصلية أن هناك أساساً للوحدة.

وأشارت إلى منهج التفكير الذي أسسه /نيكولاس كوسا / وهو التفكير أولاً في الوحدة قبل التنوع، و توافق الأضداد  الذي يعني أن تفكَّر بدءاً من الأعلى وليس من الأسفل, هذا المنهج الذي يمكن تطبيقه ليس فقط على الأديان بل على كل جوانب الحياة.

وفي حديثها عن الثقافات التي ساهمت في حياة البشرية ,أكدت السيدة لاروش أن كل ثقافة من هذه الثقافات تأثرت  ببعضها البعض. ففي الهند تم وضع التقويم الديني بين عام 6000 – 4000 ق.م.، وفقاً لما قاله ( تيلاك Tilak) الذي بنى حساباته على أساس أن فترة الاعتدال الربيعي جاءت مع دخول مجموعة برج الجوزاء، لذلك كان من السهل تحديد هذا التاريخ. وفي مصر حيث قامت الإمبراطورية القديمة وخاصة في عهد الأسرة الثالثة من 2665 – 2595 ق.م، كان الملك المخترع العظيم خوفو – باني الهرم الأكبر – يمثل علامة تاريخية هامة. فلم يكن في العالم كله وقتئذ ما يماثل الهرم الأكبر. ثم أصبح العصر الكلاسيكي الإغريقي بعد ذلك مهداً للحضارة الأوروبية بظهور سقراط الذي كان يؤمن أساساً بأن الإنسان قادر على استخدام العقل، ثم طوَّر أفلاطون هذه النظرية بالقول بأن الإنسان قادر على صياغة الأفكار، ثم جاءت المسيحية بفكرة مماثلة مفادها أن الإنسان هو صورة الله الخالق، وأنه المخلوق الأنبل إذا كان يحاكي صفة من أعظم صفات الله الخالق، بأن يواصل التكاثر في الأرض باعتباره أداة الله في ذلك. أي أنه عندما يطبَّق هويته المعرفية فإنه يستطيع أن يفهم قوانين الخلق، وقوانين الكون الطبيعي بطريقة أفضل, وأوضحت أن الإسلام  قد أبرز نفس هذه الفكرة فيما بعد، غير أن أفكار المسيحية بشأن تماثل الإنسان مع صورة الله لم تتحقق على الساحة السياسية بسبب الإمبراطورية الرومانية التي كانت تعتقد أنه لكي تبقى مسيطرة على الحكم فعليها أن تحافظ على تخلف الشعب.

وأضافت السيدة لاروش أنه ومـع قيام الدولة العباسية تقلّد العالم العربي الإسلامي تاج الحضارة العالمية. فبغداد التي تأسست من الصفر عام 762 أصبحت أكبر مدن العالم تقدماً، ومركزاً عالمياً للثقافة، وكانت تضم مئات الآلاف من المهندسين المعماريين والصناع وعمال البناء. كما قام كل من الخليفة هارون الرشيد والخليفة المأمون بإرسال بعثات إلى بيزنطة ومنطقة البحر المتوسط لكي تجمـع المخطوطات الموجودة هناك والمعارف المتاحة ثم يترجمونها. وكان المترجمون يتقاضون أجورهم بالذهب مما يؤكد القيمة الكبيرة التي كانت للعلم والمعرفة. وبهذه الطريقة أيضاً أمكن الحفاظ على العلوم الأوروبية والأعمال الطبية لأبوقراط وجالينوس والتي طورها فيما بعد العالم ابن سينا الذي لم يتمكن أحد من التفوق على خبراته الطبية في أوروبا حتى القرن السابع عشر، كما أمكن أيضاً حماية أعمال أفلاطون وأرسطو، وعلماء الهندسة البطالمة إقليديس وأرشميدس, وأكدت انه باتصال هارون الرشيد بشارل العظيم، التقت أوروبا بجذورها وتعرفت على علومها القديمة التي واجهت خطر الضياع خلال العصر المظلم الذي قام بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية.

كما أكدت أن الخلافة العباسية تعتبر نموذجاً ومثلاً يجب أن يحتذى في العالم العربي اليوم. و أشارت إلى أن من الإسهامات الهامة أيضاً ما قدمته الحضارة الأندلسية التي ساهمت في الصحوة الأوروبية خلال القرن الخامس عشر.

وشددت السيدة لاروش في ختام محاضرتها أنه بالإمكان قيام حوار بين الثقافات لأن ذلك كان دائماً سمة من سمات التاريخ الإنساني، حيث التقت عقول العالم دائماً عبر القرون. وقالت لقد وصلنا اليوم إلى منعطف تاريخي لأول مرة حيث أصبح التاريخ الإنساني كله في قارب واحد، ففي الماضي كان من الممكن أن تنهار حضارة في أحد أطراف الكرة الأرضية دون أن يعلم بها الطرف الآخر، ولكن بفضل التطورات الحديثة في عالم الاتصالات اليوم وبفضل الأسلحة الذرية وغيرها من المظاهر الحديثة,أصبح كل فرد منا متصلاً بالآخر، فإما أن نقوم معاً بالعمل كله، وإما أن نسقط جميعاً في عصر الظلمات, ولكي نواجه التهديد بصدام بين الحضارات والرعب الماثل بقيام حرب لمائة سنة،ينبغي علينا أن نعيد إحياء كل الثقافات العظمى للتاريخ الإنساني ، ولو استطعنا إحياء كل التقاليد الرائعة التي تشتمل عليها تلك الثقافات، وأقمنا حواراً بينها عبر مسيرات التاريخ المتعددة، فإن بإمكاننا أن نحل المشكلة، ونلمس أفكار أفلاطون وكونفوشيوس والفارابي والكندي وابن سينا ونيكولاس كوسا، وشيلر وغيرهم من العمالقة الذي لا يمثَّل هنتنجتون بالنسبة لهم إلاً شيئاً أدنى من القزم.

وأكدت ان الهدف ليس الاتفاق على مذهب معين، ولكن أن نمنع حجب ما يمكن أن يسفر عنه الحوار، والهدف الأساسي هو أن نتجنب الحرب، وأن نتفق على أن لا يقتل كل منا الآخر من أجل إسعاد عدونا المشترك. وأن هذا الحوار بين الثقافات يمكن أن يقود إلى أعظم نهضة في التاريخ.

أرشيف الأخبار  |  الصفحة الرئيسية  |  اتصلوا بنا