وكأن العالم – والإنسان خصوصاً – لا ينفك عن العودة إلى الوراء، وإحياء ما مات من تجارب في ميادين الحياة كافة ومحاولة بعثها من جديد.

إذا كان الفيلسوف الدانماركي سيرن كير كيغارد الرائد الأول للوجودية في القرن التاسع عشر، فإن له الفضل في اصطناع لفظة absurd التي تعني العبث.. حين ذهب هذا الفيلسوف إلى القول بأن النصرانية هي عبث من العبث، لأنه ليس في ميسور أيما أمرئ أن يفهمها أو يبررها وفقاً لمبادئها التقليدية.. فإن الفرنسي البير كامو يعتبر أول من أكد على هذه الفلسفة في حقل الأدب، عبر رواياته (الغريب) و(أسطورة سزيف) و(الإنسان المتمرد).. والتي طرحت فلسفة مبنية على أساس من الاعتقاد بأن الإنسان موجود في عالم لا عقلاني، خلو من المعنى، وبان محاولاته التي تقوم بها إلتماساً للنظام أو بحثاً عنه تجعله في صراع مع عالمه هذا..

واستطاع المسرح أيضاً أن يجسد هذه الفلسفة العبثية واللامعقولة في حقبة الخمسينيات وأنه كان قد أطلق على تكل المسرحيات تسميات عديدة منها (درامستا مغسلة المطبخ) الواقعة المحدثة – دراما اللاتوصيل – دراما اللامعقول – كوميديا المخاطر – الكوميديا المظلمة – دراما القسوة..

في مجال الفن التشكيلي جسدت السوريالية هذا النمط من اللامعقول في لوحات فنانيها، وإن كانت السوريالية قد أنطلقت للتعبير عن حركة فكرية تغوص أحياناً في اللاشعور وبرز منها في الرسم ماكس ارنست – وبيكاسو – وميرو – ودالي..

مناسبة هذا الحديث ما ذكرته الصحف البريطانية من أن أحد الفنانين الشباب المغمورين يستخدم أرخص الوسائل المتاحة لإداء رسوماته.. إلى هنا والخبر عادي جداً، ولكن الغريب فيه واللامعقول هو الادوات المستخدمة في هذه الرسومات.. فهو يعتمد على الأوساخ العالقة على أسطح خلفيات شاحنات البضائع من خلال تنفيذ رسوماته على الأبواب الخلفية لتلك الشاحنات وتظل تلك الرسول هناك ما بين يوم إلى عدة شهور في سوق نيوكوفنت جارون بجنوب لندن.

والمشكلة الوحيدة التي واجهت الفنان البريطاني هي في كيفية تقديم أعماله إلى أعضاء لجنة تحكيم جائزة بيتزا اكسبيريس بروسيكس للرسم والتي يطمح للفوز بها، إلى أن وافقت اللجنة على قبول شريط فيديو يظهر فيه الفنان وهو يرسم على شاحنة.. في عصر الفن المعولمة.. أصبحت الجوائز تقدم للأعمال العبثية واللامعقولة، وكأن تلك الجوائز تحيل جماليات الإنسان وما يبدعه إلى زوايا الهامش والنسيان.