الهروب نحو مؤامرة الغرب الكبرى

نظرية المؤامرة احد اسهل الوسائل التي يستخدمها الفرد للهروب من واقعه ومسؤولياته والقاء اللوم على الاخرين، وهذا ينبع في الدرجة الاولى من الثقافة القدرية والاحساس بالجبرية المتجذر في كيانه. وقد كانت نظرية المؤامرة عند كثيرين لغزا كبيرا  توضع حوله هالة كبيرة من الغموض والضبابية.

للحديث عن المؤامرة في الخطاب العربي أكثر من اتجاه وغاية:

تبرير الانحطاط في واقعنا، وربطه بأسباب خارجية.

تبرير كسلنا، وتخاذلنا عن النهوض واستعادة أمجاد الماضي وجعلها حية متحركة في حاضرنا..

 وأخيراً نقض المسؤولية عن كواهلنا في ما آلت إليه أمورنا.

ودعاة الخطاب التأمري لا تنقصهم الشواهد والادلة على ما يخطط لنا سراً وان أنكشف بعد حين..

ويعطي التساؤل المشروع.. ليس لماذا يتآمرون علينا ولكن كيف نستطيع مواجهة هذا التآمر؟

يتم ذلك من خلال:

الكشف عن سلبياتنا ومعالجتها بحزم وجدية.

 التصميم والمثابرة على النهوض وامتلاك أدوات العصر الحالي.

 العودة إلى الجذور والينابيع النقية الصافية والتي لم يلحقها الدرن واستلهام مضامين الحداثة فيها وليس من مرجعيات غربية عنا نشأة وظروفاً ومحيطاً.

وقد نشر اخيرا بعنوان (مؤامرة الغرب الكبرى) لسوسن جورج يتحدث فيه المؤلف عن هذه الظاهرة ويحلل ابعادها، وقد قامت مجلة سطور بنشر الفصل الثالث من هذا الكتاب نذكر منه بعض المقتطفات:

 

تظل الهيمنة على الآخرين عنصراً مهماً من عناصر أي استراتيجية للحد من السكان، غير أنها لم يعد من الممكن أن تطبق بالأساليب الرومانية والأسبرطية، أساليب الفتح المباشر والاحتلال والإمبراطورية. لقد وصلت جدوى الفتح - الذي سمى الاستعمار في أحدث أشكاله - إلى نهاية الطريق، لأن الأرض المفتوحة والسكان المستعمرين لم تعد لهم أية قيمة عملية أو مادية.

كان الفاتحون أو المستعمرون مهتمين في وقت ما بأن يوفروا البقاء لهذه الشعوب عن طريق واردات الأغذية التي تستكمل إنتاجهم المحلي المتطلب، وبتشجيع سياسات الصحة العامة، إلا أن الأمر لم يعد كذلك، فطيلة عقدين على الأقل أصبحت هناك حاجة إلى عدد أقل - لكنه أفضل تأهيلاً - من العمال، وفائض السكان المترتب بالنسبة لاحتياجات الاقتصاد العالمي ليس مكلفاً للنظام فحسب، بل هو لا يتوافق مع الأساليب التقليدية وأينما وجدت أراض وأنشطة محلية مفيدة ساد الفتح غير المباشر، وبقيت السيطرة غير المرئية.

ففي ظل النظام الجديد يجب أن يتحمل الناس - على المستوى الفردي - المسؤولية عن أجسادهم هم، والسيادة عليها، وفي الواقع قهرها، إذا انتظروا أن ينجحوا ويبقوا في عالم تنافسي، فهم إن لم يكونوا مرنين في أجسادهم وأذهانهم وأرواحهم فإن من الممكن الاستغناء عنهم، وسرعان ما سيجعلهم العالم يدركون هذه الحقيقة.

وفي المجال الاجتماعي ينبغي أن يعاد تعريف السلطة الحيوية، وأن تقلب ظهراً لبطن إذا أمكن استخدام التغيير.

وينبغي للسلطة الحيوية والسياسة الحيوية ألا تركزا منذ الآن على الحيوية وإنما على الوفيات وألا تشجعا الإنجاب بل التحديد، وألا تسعيا إلى طول العمر وإنما إلى قصره، والمهمة مهمة تاريخية، وفلسفية، وحتى ميتافيزيقية، في نطاقها. ويجب أن تحول العقلية التي سادت الغرب طيلة قرنين، وأن تصبح وجه العملة الآخر، نقيض ذاتها السابقة، يجب أن تفهم ضرورة الموت وترحب بها، وتسعى إلى منع الحياة.

الحروب:

وجنباً إلى جنب مع المرض والمجاعة فإن الحروب الضروس استراتيجية مبشرة للغاية للحد من السكان في العالم الحديث بدوره. ولا ينبغي استخدام قوة خارجية (لقتلهم) إلا كملجأ أخير، فليس بوسعنا اليوم أن نقلد جنكيز خان أو نفوقه وما ينبغي لنا أن نفعل حتى لو استطعنا ذلك.

أين ينبغي أن تطبق وسيلة (يقتل بعضهم بعضاً) للحد من السكان؟ ليس في الشمال بالتأكيد، ربما باستثناء مناطق مختارة بأشد عناية، فثلاثة أرباع كل استثمار ومعظم طاقة العالم الإنتاجية تتركز في البلدان الغنية، وإشعال الحروب في هذه المناطق الغنية سيؤدي إلى عكس المراد ويتطلب موارد أساسية ومالية فائقة.

وبالرغم من بعض الاستثناءات العارضة المهجورة مثل البوسنة أو كوسوفو فإن احتمالات الحرب بين البلدان الأوروبية أو داخلها، أو حتى بين أوروبا الغربية وروسيا، قد أصبحت غير متصورة تقريباً كالحرب بين الولايات المتحدة وكندا. وعلى العكس ليست الحرب بأي حال موضة قديمة في الجنوب أو في الجمهوريات الإسلامية من الاتحاد السوفيتي السابق، فبوسعها هناك أن تظل أداة قوية (لتقليم النمو الزائد).

ويحتاج دفعهم إلى أن (يقتل بعضهم بعضا) أسلحة نفسية وفيزيائية معا، وخاصة وسائل تحديد (النفس) في (الدفاع عن النفس) فسياسات الهوية تطلق العنف، كما يضعف التضامن مع ضحايا هذا العنف، إذ يصبحون أجانب كلية، ذوي ماهية تختلف (عنك) و(عني) ويؤدي التمييز والقمع الموجهان إلى مجموعات محددة إلى تعزيز إحساسهم بهويتهم الذاتية، ومن ثم ينبغي تشجيعها بلباقة، فإحساسك بالتعرض للاضطهاد يؤدي إلى أن تبحث عمن تظلمهم.

فالناس الذين يشردون بسبب السدود الكبيرة، أو يحرمون نتيجة التآكل التجاري أو الإيكولوجي لقاعدة مواردهم، يصابون باليأس، ويصبحون هدفاً ممتازاً للقادة الشوفينيين أو الأصوليين أو القوميين أو الدينيين. وحالما يكتشفون ويصوغون (هوياتهم) المنفصلة يمكن إثارتهم ضد مجموعات أخرى.

وسينتهي معظم من كانوا من سكان الريف إلى أكواخ المدن وفائض السكان ذاته، الذي يستتبع الزحام الشديد، دافع آخر للشقاق. وتوجد في كثير من مدن العالم الثالث الكبيرة - زاوية النزاع (وكذلك الجوع والمرض اللذان سنبحثهما بعد قليل) - ظروف مبشرة لتطوير نماذج (بيروت) و(الجزائر) و(كولومبو) على قاعدة إثنية أو عرقية.

وبالرغم من أن الأبحاث تبين إن إثارة الحرب أمر معقد لأنه لم يكن لأي حرب سبب واحد فإننا نستطع تحديد بعض الأنماط السببية القوية، وتبين قوائم معهد أبحاث السلام في أوسلو أن تسعينيات القرن الماضي قد حفلت بالنزاعات المسلحة (98 نزاعاً من يناير 1990 حتى ديسمبر 1996م) وكانت الأغلبية الساحقة من هذه النزاعات حروباً أهلية وليست حروباً بين دول.

الحد من السكان:

يجب إقناع الحكومات أو إجبارها على السير قدماً بأهداف الحد من السكان، بما في ذلك التصرف السريع في عناصرها الإجرامية واللااجتماعية، وإدارة حوافر التعقيم ومنع الحمل. وطالما أن السلطات المحلية تؤدي هذه الوظائف أداءً سليماً، فليس ثمة حاجة أو مبرر للتدخل الأجنبي المباشر.

لقد انقضى عصر المعارضة السياسية القوية وجبهات التضامن الواسعة مثل الحركات المناهضة لحرب فيتنام أو المدافعة عن شيلي أو نيكاراجوا أو جنوب إفريقيا. وعلى المرء في عرضه لمعارك الفقراء المعاصرة - بسياستها المحيرة ومذابحها العشوائية - أن يوحي دائماً بأنها تحدث بين (برابرة) و(متوحشين). وينبغي أن ينظر (العالم المتحضر) لهذه النزاعات باعتبارها مزرية وطفولية وغير قابلة للحل، وبذا يصبح الغرب أكثر تماسكاً، وتلك فائدة إضافية.

تجارة الأسلحة:

ينبغي للمستهدفين باستراتيجيات تحديد السكان أينما وكيفما كانوا أن ينتقوا ويتعاملوا مع بعضهم بعضاً، ويفترض في هذا أن تكون لديهم الموارد للقيام بذلك، وربما كان بوسع الهوتو أن يدبروا أمورهم بالمناجل، لكن الإبادة اليدوية غير فعالة ومعيبة، وينبغي أن يكون العتاد الأرقى متاحاً عموماً.

المجاعة:

طيلة الجانب الكبر من التاريخ، وفي كل المجتمعات، كانت أزمات الطعام شائعة. وكان في أوروبا العصور الوسطى قد لا يغل مقداراً من البذور سوى مقدارين من الحبوب، وكانت المحاصيل ضئيلة، والاحتياطات سهلة النفاد، والمجاعات تحدث كل عشر سنوات أو اثنتي عشرة سنة تقريباً. ومع ذلك فبشكل عام (لم يكن أحد يتضور إلا إذا تضور الجميع).

أما المجاعات الحديثة فهي أكثر استجابة لقوى السوق منها للقدرات المادية المطلقة، ونادراً ما تصيب الميسورين، فأثناء مجاعة البطاطس الإيرلندية الكبرى في 1846-1847 التي قتلت ما يقرب من مليون شخص، كان كبار ملاك الأرض يصدرون روتينياً الطعام إلى بريطانيا في الوقت الذي يسقط فيه الفلاحون من حولهم.

وشاغلنا هنا هو اختبار قيمة سوط المجاعة التقليدية ككابح للسكان. فقد كان مالتس يعتبر عجز الإنتاج الغذائي عن مواكبة الإنجاب البشري (الكابح) الوحيد الذي يعتمد عليه لزيادات المواليد، أما من جانبنا فإننا نؤمن بأن (السلاح الأخضر) يمكن أن يوجه بدقة أكبر من ذي قبل لكنه ليس السلاح الوحيد في أيدينا، وينبغي ألا ننظر إليه معزولاً وإنما كجزء من ترسانة.

الطلب:

هل يستطيع (العالم) أن يطعم السكان الحاليين البالغين 6 مليارات بالمحاصيل الحالية؟ هذا السؤال بدوره لا معنى له، لأن كل شيء يتوقف على ما نعنيه بـ(يطعم). إذا كانت تعني أن يقسم الإنتاج بحيث يخصص كل امرئ حصة نباتية متطابقة من الحبوب أو الدرنات، مع حد أدنى من البروتين توفره البازلاء والفول واللوبياء بإجمالي يبلغ بالكاد 2350 سعراً حرارياً في اليوم فإن الإجابة هي نعم، ففي كل ظروف من المساواة المطلقة، واستعداد عالمي لاستهلاك غذاء أساسي رتيب يمسك الأود بالكاد، يستطيع (العالم) أن يطعم سكانه الحاليين وربما أكثر.

أما إذا كنت تعني أن يأتي ربع غذاء كل امرئ من المنتجات الحيوانية (وهي سعرات مركزة) وأن يستطيع الناس كذلك استهلاك أنواع مختلفة من الفواكه والخضروات والزيوت (ومن موقعنا المتميز يمكن أن نضيف النبيذ والبيرة)، فإن الإجابة بالقطع هي لا، ففي تلك الحالة - ومع افتراض المحاصيل الحالية - لا يستطيع (العالم) أن يطعم ما يزيد قليلاً على 3 مليارات نسمة، أي بالتقريب نحو نصف الأحياء حالياً. وأياً كان السيناريو فإنه لأمر أكاديمي خالص أن نتصور أن إمدادات الطعام ستوزع بنسب متعادلة، وكأن أولئك الذين يطيقون اتباع (ريجيم) أكثر إرضاء سيقنعون بما لا يزيد عن حصص ضئيلة من الحبوب والخضروات الأساسية.

ونحن لا تعنينا هنا الحاجة البيولوجية، أو لا تعنينا إلا بقدر ما يمكن لإنكارها أن يسهم به في ارتفاع معدل الوفيات، فالطلب على الطعام يجب أن يبحث على ضوء القوة الشرائية، لأن الطعام سلعة كغيره من السلع. وأولئك الذين يطيقون أن يأكلوا على هواهم نادراً ما يكونون نباتيين، ومن الناحية الإحصائية ليسوا كذلك بأي حال، ففي كل المجتمعات، وفي كل الأوقات حيثما يصبح الدخل الإضافي متاحاً فإنه ينفق في تحسين الغذاء. وإذ يعبر الميسورون عن طلبهم، نقداً، على مزيد من المنتجات الحيوانية فإن جانب العرض يتبع هذا الطلب.

وعندئذٍ تحول أراض قابلة للزراعة إلى مراعٍ، وعلى الرغم من وجود أعداد كبيرة من الجوعى أو سيئي التغذية في كثير من البلدان، فإن الطلب الوفير على الطعام يعني أن تزيح محاصيل العلف الحيواني المحاصيل الغذائية الأساسية: فيحل السورتوم للماشية محل الذرة للناس في المكسيك، ويحل فول الصويا محل الفول الأسود في البرازيل، وتزرع الكاسافا بدلاً من الأرز في تايلاند وهلم جراً.

وكثيراً ما تصدر هذه الحاصلات كأعلاف للماشية في الشمال، وتعكس التغيرات في استخدام الأرض بشكل مباشر النزاعات حول الطعام بين المستهلكين الأغنياء والفقراء، أينما كانوا يعيشون، ويخسر الفقراء خسارة مزدوجة، فلا يقتصر الأمر على أنهم لا يطيقون شراء المنتجات الحيوانية بل إن أسعار أغذيتهم الأساسية ترتفع مع تناقص مساحات إنتاجها.

ويتصرف دعاة الأخلاق وكأن كل امرئ (ينبغي) أن يأكل نفس الغذاء الأساسي الممل حتى يمن إعالة الفقراء. ويستمتع من ينصبون أنفسهم دعاة للفضيلة بالإشارة بأصابع الاتهام إلى حيوانات الغرب الأليفة الأفضل تغذية من كثير من البشر، وهي كذلك حقاً. لأن أصحابها أحرار في أن ينفقوا دخولهم كما يروق لهم.

طرق غير مطروقة:

ومن بين استراتيجيات الحد من السكان القائمة على الطعام والجوع فإننا نشدد على الاستراتيجيات التالية:

* زيادة تحرير التجارة، فالتجارة الزراعية الحرة تضع مزارعي العالم الثالث الأفقر والأضعف في منافسة أكثر مباشرة مع أقرانهم مرتفعي الميكنة في الشمال، وربما استمر هؤلاء الأخيرون كذلك - بالرغم من القواعد الدولية - في تلقي إعانات مستترة أو صريحة. وخلال بضع سنوات ستكتسح المقادير الكبيرة من الحبوب المستوردة المنخفضة السعر في الأسواق المحلية كثيراً من صغار الحائزين الحديين المتضررين.

* التقنيات الزراعية (الحديثة) وتقليل تنوع المحصول، يجب مواجهة ميل صغار المزارعين إلى توفير البذور من أجل ضمان التنوع الوراثي، وإذا دعت الحاجة بتوريد بذور (حديثة) موحدة جينياً بتكلفة أقل أو مجاناً، فالآفات تزدهر في ظروف التجانس، والزراعة الواحدة أكثر تعرضاً للأمراض من الزراعة المختلطة أو بين المحاصيل، وزراعة التصدير تكاد تكون قائمة دائماً على التماثل. وينبغي إجبار المحاصيل الغذائية على اتباع نفس النمط.

* تعزيز (الثورة الخضراء)؛ زادت تقنيات الثورة الخضراء الغلات في البداية، لكنها تتطلب بذوراً مشتراة، ومدخلات مصنعة عادة ما تكون في غير متناول الزراعيين الصغار الفقراء، كما يمكن إثناء الأخيرين عن طريق زيادة الإيجارات وإلغاء الحيازة وغير ذلك من التدابير المضادة للإصلاح الزراعي.

* ما زال من الممكن استخدام المعونة الغذائية على تناقصها، لتحقيق غاية طيبة إذا فهمت مسألة التوقيت شديدة الأهمية فهماً جيداً.. وينبغي أن تصل المعونة الغذائية قبل الحصاد المحلي مباشرة أو معه، فحتى إذا كان هذا الحصاد أقل من المتوقع فإن المقادير الكبيرة من الغذاء الأجنبية ستدفع الأسعار المحلية إلى ما دون المستويات المجزية للمزارعين المحليين. ويمكن تجنيد الوكالات الخيرية للمساعدة في التوزيع. وحيثما أصبح هناك اعتماد على البذور المستوردة فينبغي توقيت تسليمها كذلك بحيث يتوافق مع الفترات غير الملائمة للزراعة.

والمجاعات الكاملة نادرة نسبياً على عكس الاعتقاد الشائع، ولهذا فقد ركزنا بدرجة أكبر على إمكانات الحد من إمدادات الأغذية وإثارة الجوع وسوء التغذية، اللذين وإن لم تقبلا مباشرة، يوفران أرضية مواتية للفارس الرابع القديم؛ الطاعون.

إلا أن المجاعة يمكن أن تكون أداة مهمة لاستراتيجيات الحد من السكان في مناطق محدودة. ومن الأفكار الخاطئة الشائعة الأخرى أن المجاعة (يسببها) الجفاف أو السيول أو غير ذلك من الكوارث الطبيعية، فالجفاف في أيوا وفي إفريقيا حدثان مختلفان تماماً، ولا تحدث المجاعة إلا حين تكون أعداد كبيرة من الناس قد استنفدت بالفعل احتياطاتها من الطعام، أو المال، أو الجسم البشري. والنذر المبكرة للمجاعة معروفة جيداً: أسعار مرتفعة بشدة للطعام في السوق، بيع المجوهرات وغيرها من مخازن القيمة، الهجرة للخارج بحثاً عن عمل، استهلاك أطعمة لا تؤكل عادة.

وعندما تظهر هذه العلامات فإن من المهم في المقام الأول عدم التدخل، وفي هذه النقطة أيضاً يمكن لكارثة طبيعية أن تساعد في إطلاق أزمة غذائية. ومن ثم يجدر بنا التفكير في طرق تشويش عوامل معجلة مثل مقاومة السيول أو مكافحة الجراد. كذلك فإن الحرب - كما رأينا - أداة بالغة الفعالية لخلق كتل من الناس المتضررين.

ويوفر سلوك النخب المحلية الحاكمة حجة أخرى ضد المعونة (الإنسانية) في أوقات المجاعة، إذ يمكن الاعتماد على المواطنين الميسورين في تسهيل استراتيجياتنا للحد من السكان، وإثناء ذوي القلوب الطيبة في الشمال عن الدعوة إلى الإعانات، فكبار ملاك الأرض والتجار الذين يمتلكون احتياطيات من الحبوب يحققون ثروات في أوقات الأزمة الغذائية، ولن يتخلوا عن مخزوناتهم، ولوردات الحرب قد يبقون شعوبهم رهائن لكي يجتذبوا المعونة الإنسانية، وحين تصل يكونون هم من تحكم فيها.

الطاعون:

يقترح واضعو (العبء العالمي للمرض) تصنيفاً مريحاً للمرض والوفاة: ستكون المجموعة الأولى من الأمراض المعدية وظروف الأمومة والوضع والتغذية، والمجموعة الثانية من الأمراض غير المعدية، والمجموعة الثالثة من الإصابات (بما فيها الإصابات الذاتية) والحوادث. وفي البلدان المتقدمة توجد 86% من الوفيات في المجموعة الثانية، مجموعة الأمراض غير المعدية، والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن هذه الأمراض - كأسباب الوفاة - أكثر أهمية من الأمراض المعدية في كثير من الأقاليم النامية، بما فيها أمريكا اللاتينية، وبوجه خاص الصين.

وتستدعي نتائج دراسة (العبء العالمي للمرض) انتباهاً أكثر تفصيلاً لعوامل أسلوب الحياة، وخاصة العوامل ذات الصلة بأمراض القلب والسكتة.

وإمداد المدخنين نهج مبشر، فالإدمان ينتشر بسرعة في مجتمعات العالم الثالث متزايدة الوفرة في الصين، والشركات تركز ميزانيات الإعلان والترويج في المناطق التي يكون جمهورها أقل عداء لرسالتها، ويشير البنك الدولي إلى أن نحو مليوني حالة وفاة ترجع إلى التدخين سنوياً، ستكون هي المعدل في القرن القادم. وترى منظمة الصحة العالمية أن وباء التبغ سيسبب من الوفيات والإعاقات في عام 2020 أكثر من أي مرض مفرد، وخاصة في الصين والاقتصادات الاشتراكية السابقة، بل كذلك في البلدان المتقدمة.

وستزيد بالمثل الوفيات الراجعة إلى المياه الملوثة وسوء الإصحاح والوقاية الصحية المنزلية والشخصية، وتسهم العادات الشخصية السيئة الأخرى - نقص النشاط البدني والجنس غير الآمن والكحول والمخدرات في 3250000 حالة وفاة أخرى، 80% منها في الأقاليم النامية، كما يتنبأ واضعو العبء العالمي للمرض بثقة بزيادة في حوادث السيارات والإصابات الذاتية والعنف وإصابات الحروب.

وواضح أن أسباب الوفاة من المجموعة الأولى التي تشمل الأمراض القابلة للانتقال وظروف الوضع والأمومة والتقنية هي الأكثر تبشيراً بالنسبة لأغراضنا، وتشغل دائرة الأمراض المعدية/ الطفيلية نطاقاً خاصاً، فقد عزت لها منظمة الصحة العالمية أكثر من 17 مليون وفاة في عام 1996، كما تمثل وفيات الأمومة والوضع إمكانية بدورها.

ولا بد للعلم والطب أن يمارسا على نطاق العالم أسلوب الانتقاء الذي ابتكره جراحو الحرب العالمية الأولى الذين كانوا ينحون جانباً الحالات الميئوس منها لكي يركزوا على الجنود الذين يمكن إنقاذهم. ومن الطبيعي أن تكون الأمراض التي تلقي أعظم الانتباه هي تلك التي تصيب المجموعات الأقدر على تحمل تكاليف الأبحاث المعقدة ودفع مقابل الرعاية الجيدة. وأثناء ذلك يجب أن يتعلم الجمهور في الشمال، وبصورة أخص في الجنوب، قدراً أكبر من الجبرية في مواجهة المرض، وأن ينحني أمام ما هو مقدر، تماماً كما فعل الناس طيلة قرون.

ومن الناحية الأخرى يعد اختيار (كبش فداء) ميلاً طبيعياً يمكن تعزيزه بذكاء، فمنذ أثينا القديمة ألقى لوم الأوبئة على مجموعة منبوذة مثل الأقليات أو (العناصر غير الطاهرة) والنساء في أغلب الأحوال، وقد تؤمن المجتمعات المصابة بالطاعون بسهولة بأنها موضع انتقام إلهي من نواقص قادتهم، أو ربما بأنها ضحية مؤامرات دبرها أجانب، وينبغي أن يكون المرء مستعداً لاستغلال مثل هذه الشكوك والانقسامات.

السل:

الأمراض الاحتياطية القديمة:

يمكن زيادة وفيات الرضع والأطفال بالرضاعة الصناعية، وفي العالم الثالث تكفل بدائل الرضاعة الطبيعية عدم حصول نسبة كبيرة من الأطفال الذين يتغذون على هذا النحو على حصة غذاء كافية (غالية للغاية)، ويشربون مياهاً غير نقية من (بزازات) غير معقمة.

وعادت إلى الظهور أمراض التنفس التي يحملها الهواء مثل الالتهاب الرئوي المقاوم للأدوية؛ وكذلك أمراض أخرى مثل الحصبة (مليون حالة وفاة سنوياً) والسعال الديكي (300000)، ولا يستطيع المرء - والفيروسات سريعة التحور تحيط بنا في كل مكان - أن يستبعدوا إمكانية ظهور أنفلونزا (إسبانية) أخرى (والتي جاءت في الواقع من آسيا)، وقد تسببت في عام 1917-1918 في وفاة 25 مليون شخص؛ أي ثلاثة أمثال من قتلوا في مذبحة الحرب العالمية الأولى.

ومن بين الأمراض التي تحملها المياه يعد الإسهال أكثرها أساسية وفعالية، ففي غياب مساحيق معالجة الجفاف يمكنه أن يقضي على الأطفال الصغار في بضع ساعات ويكتسح عادة مليونين ونصف مليون من الأطفال سنوياً، إلى جانب أكثر من نصف مليون بالغ. ويتعرض نحو 80 مليون شخص حالياً لوباء الكوليرا.

وثمة عدد من الأمراض التي تعود إلى الظهور بسرعة، ومن بينها الجذام ودودة غينيا، وتعتقد منظمة الصحة العالمية أنها تستطيع أن تقضي على شلل الأطفال بحلول عام 2005م، وإن كانت الحروب وسوء نوعية اللقاح والافتقار إلى مخازن التبريد لحفظ اللقاح، قد يمنعها من بلوغ هدفها. وما زالت هناك 100000 حالة شلل أطفال سنوياً.

ومثل هذه النجاحات الصغيرة والجزئية يمكن أن تحبط بسهولة من خلال تضاعف النزاعات والازدحام، وكل نزاع محلي يعد إضافة لاستراتيجيات الحد من السكان، لأنه سيعقد العمليات اليومية لوكالات الصحة العامة، ويجعل تدخلها أصعب وأخطر، وأي تدابير تهبط بمناطق واسعة من الكوكب إلى أراض غير مأمونة ستشجع الوفيات بالضرورة.

لقد أدى العنف في الجزائر إلى إغلاق العيادات، وجعل ممارسات صحية عادية مثل التطعيم إشكالاً، وزادت وفيات الأطفال هناك للمرة الأولى بعد 20 عاماً من المعدلات المنخفضة، وجحيم منطقة البحيرات الإفريقية العظمى، المليء باللاجئين وغيرهم من ضحايا مذابح رواندا نموذج للعنف والفوضى باعتبارها أفضل ناقل للأمراض، من الحصبة إلى الملاريا.. وقد ألقيت أعداد لا تحصى من الجثث في بحيرة كيفو التي يشرب منها الناس، وكانت النتيجة 50000 من ضحايا الكوليرا.

أرشيف الأخبار  |  الصفحة الرئيسية  |  اتصلوا بنا