الإمام الشيرازي.. أنموذج حي

يحظى عالم الدين في المجتمع الإسلامي من قديم الزمان بمكانة عظيمة بين الأوساط الإجتماعية بشكل عام والأوساط العلمية بشكل خاص، وكان العالِم يمثل الركن الأساسي في المجتمع الذي يعيش فيه، فقد كان يقدم كل مايملك في سبيل أن يسمو بالمجتمع الذي يعيش فيه الى الكمال بين الأوساط الإجتماعية الأخرى والرقي بأفراد ذلك المجتمع إلى أعلى المستويات، والعالِم لا يستطيع أن يعطي عطاءه في المجتمع الذي يحل ويستوطن فيه إلا إذا كان أفراد ذلك المجتمع من الذين يقدرون العلماء ويكنون لهم الحب والإحترام والتقدير، أما إذا كان ذلك المجتمع من الذين يطمسون الشخصية العلمية والدينية فلن يستطيع أي عالم أو مصلح أن يغير في ذلك المجتمع شيء. ولكي يقوم العالِم بذلك الدور الكبير في المجتمع لابد أن يتحلى بعدة صفات تؤهله إلى أن يكون في تلك المكانة المرموقة بين أوساط المجتمع الإسلامي.

وهانحن نعيش وفاة شخصية عظيمة هزَّ بموته قلوب كل المصلحين وكل العاملين في الساحة الإجتماعية. فلنتأمل حياة هذا العالم الجليل كيف كان يعيش؟! وكيف كان يتعبد؟! وكيف كان يتعاطى مع الحياة؟! وكيف هي أخلاقه مع الناس جميعاً؟! وكيف كان عطاؤه الإجتماعي والفكري؟! إن من يتصفح حياة هذا العالم الجليل يقف حائراً عند أمورٍ كثيرة وعند نقاط كثيرة لايتصورها الإنسان العادي بعقله البسيط. وعندما يفرغ من تصفح كتاب حياته يقف متسائلاً كيف كان يوفق هذا العالم بين كل هذه الأمور وكل واحدة منها تحتاج إلى تفرغ كامل. سوف نأخذ من هذا الإمام (قدس سره) مثالاً لنا في ذكر صفات العالم المصلح في المجتمع:  

الشخصية الأخلاقية:

إن الأخلاق هي العنصر الأساسي في نجاح الأفراد والعلماء والمصلحين في المجتمع لذلك ركز الله سبحانه وتعالى على هذه النقطة في القرآن، وكان النبي محمد (ص) والأئمة يركزون على زرعها في المجتمع وبالخصوص في العلماء والمصلحين الذين يتبنون القيادة في المجتمع، فقد قال الله سبحانه وتعالى في وصف نبيه في كتابه الكريم: {وإنك لعلى خلق عظيم}، وقال الرسول الأكرم (ص) في حديث شريف: "إنما بعثت لأتمم مكارم الإخلاق"، والأحاديث كثيرة التي توضح لنا هذه النقطة في الشارع الإسلامي.

فالأخلاق هي الشيء الأساس الذي لا بد أن يتحلى به الرجل المصلح قبل كل شيء لكي يستطيع أفراد ذلك المجتمع أن تقبل منه ما يقول فتتبعه وتأخذ منه قدوةً في حياتهم الدينية والإجتماعية.

والإمام الشيرازي -رحمة الله عليه- كان خير مثالٍ لنا في هذا المجال، ومن زاره رأى منه الكثير والكثير، فقد كان قمة في الأخلاق الإسلامية ومثالاً يحتذى به في الحياة، فقد تحلى بعدة صفات أهمها أنه كان متواضعاً جداً، فعندما يقبل عليه الناس كان يقف ويسلم على الكبير و الصغير على العالم والأمي من دون استثناء، وكان رحيماً ويعفو عن الذين يسيئون له من دون أن يسمع منهم الإساءة إذ دخل عليه مرة رجلاً وهو يبكي قال له ما يبكيك أيها الرجل قال لقد ظلمتك وأسأت لك فقال له لاتكمل قد عفوت عنك وعن كل الذين أسائوا لي. وقد كان يتسم بروح المبادرة في محادثة الزائر من قبل أن يبدأ بالكلام فهو لاينتظر مِن مَن يزوره أن يبدأ بالحديث هو كان يبادر بسؤاله عن منطقته وعن مايدور فيها لذلك كان خير مثالٍ لنا في هذا المجال. بعكس العلماء الذين يسكنون مجتمعاتنا الذين ينتظرون منا أن نسألهم ليجيبوا وإذا لم نسأل لم يسألونا عن شيء في ما يخص حياتنا اليومية والدينية.

القدرة على القيادة:

كذلك العالم أو المصلح الذي يعيش في المجتمع لابد أن يكون لديه القدرة على الإدارة والقيادة فيه. فالسفينة بدون ربان لايمكن ان تسير، كذلك المجتمع بدون قائد لايمكن أن يتقدم، والعمل الإحتماعي بدون قائد لا يمكن أن ينجح أبداً. ونحن في مجتمعاتنا نفتقر في كثير من الأحيان لهذه النقطة في أعمالنا الإحتماعية، لذلك الكثير من اللجان التي تبرز على الساحة فترة معينة ثم تزول وتتلاشى وتأتي لجان أخرى وهكذا هي دورة حياتهم، إن السبب الرئيس لفشل كل الأعمال الإجتماعية هو نقص العنصر القيادي في العمل وأيضاّ إذا وُجدت القيادة لابد أن يكون القائد يتحلى بأمور معينة لسنا في صدد الحديث عنها الآن هي التي تجعل من ذلك المشروع مشروعاً ناجحاً.

والإمام الشيرازي كان قائداً فذاً في كل الجوانب (السياسية، الإجتماعية، المرجعية) لذلك كانت المشاريع التي تحت قيادته ناجحة جداً وحققت الأهداف التي كانت تسعى من أجل تحقيقها، وكان  يحث -رحمة الله عليه- على بناء القادة في المجتمع وليس بناء أفراد فقط، حيث أن الفرد في المجتمع لن يستطيع أن يتحمل أعباء الخلافة في الأرض بعكس القائد، فلو نظرنا مثلاً إلى مشاريعه التي أنشأئها في العراق من مدارس دينية ومن مؤسسات إجتماعية نجدها قد اتسمت بالقوة والنجاح وذلك بسبب قوة قيادته لها، ومثالنا الآخر هو الكويت التي من أول وهلة دخلها بدأ بإعمارها من بناء مدرسة الرسول الأعظم إلى بناء مسجد إلى بناء مكتبة الرسول الأعظم التي من زارها عرف قوة قائدها ومؤسسها لذلك كان الإمام -قدس الله روحه الزكية- خير مثالٍ لنا وإنموذجاً نسير على نهجه في تحملنا مسألة القيادة في المجتمع وبالتالي الرقي ببرامجنا الإسلامية إلى النجاح والتقدم.

القدرة على العطاء:

بعد أن يتحلى العالِم أو المصلح بصفة القيادة يأتي دوره في المجتمع وهو العطاء الذي من دونه يبقى ماحصله ذلك العالِم أو المصلح في داخل ذاته فقط من دون أن يستفيذ منه أحد وبالتالي تنطبق عليه الآية الكريمة: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً}، والعطاء في جوانب كثيرة ولكننا نوصي بجوانب معينة فقط و هي الجوانب المشرقة في حياة المصلحين والعلماء:

1-الجانب الفقهي: العالم أو المصلح الذي يأتي إلى المجتمع لكي يغير و يصلح فيه لابد ان يكون في مستوىً عالٍ من الإلمام بالفقه لكي يستطيع أن يشرع إلى الناس الطريق الصحيح ويكون لكل أعماله التي يقوم بها ويأمر الناس بها مدعومة من قبل الشارع الإسلامي وليس من باب الأهواء أو من مفهومات الشخص نفسه للدين، وأفراد مجتمعاتنا بالذات حينما يعرض عليهم مسألة الإنضمام إلى مشروع إصلاحي أو برنامج ديني ويكون مدعوماً بتشريع اسلامي نجدهم لايترددون في المشاركة فيه، وقد حثنا الدين الإسلامي على التفقه في الدين ومدى اهمية هذه النقطة في حياة الإنسان في الدنيا والآخرة.

والإمام الشيرازي كان من الفقهاء العظام وينقل عنه بعض المقربين كيف أنه إذا أفتى في جوانب معينة هو أولاً يكون مطبقاً لتلك الفتوى وكان تمسكه بكل الأحكام شيء عجيب (المكروهات، المستحبات، الواجبات، ...)، وكان حينما يجد أن الشرع يملي عليه شيئاً ما كان لايتردد ولايتهاون في تطبيقه مهما كانت الظروف وأحياناً كان بعض المقربين يعارضونه على مايفعل وأحياناً الظروف لاتكون مناسبة للفكرة التي يتبناها ولكن كان سنده في ذلك هو شرع الله سبحانه وتعالى. لذلك مثل هذه الشخصية حينما تدعونا للإنضمام معها في عملٍ ما سوف لن نتردد لعلمنا بشخصه وقوة تمسكه بالدين الإسلامي الصحيح.

2-الجانب العلمي: إننا نعايش الآن تطوراً هائلاً في كل المجالات (الجانب الإعلامي، الجانب التعليمي، الجانب الحياتي) لذلك لابد أن يكون المصلح مهتماً بمراعاة هذه النقطة في مشروعه وأن يتماشى مع الحضارة الجديدة وتوضيح الإسلام عن طريق الخطابة والكتابة والتعليم بإسلوب مبسط وباستخدام الوسائل الحديثة التي أصبحنا نعايشها ونقضي عليه كل أوقاتنا. فالتلفزيون الآن هو الوسيلة الناجحة لإيصال المعلومة لأفراد المجتمع بسبب قضائهم أغلب أوقاتهم عليه، فمثلاً لو أجرينا إحصاءً عن عدد المتفرجين على التلفزيون في شهر رمضان فقط لوجدنا أن ثلاثة أرباع المجتمع من المدمنين عليه لذلك لماذا لانستغل هذه النقطة في بث  وروح الإسلام في المجتمع عن طريق فتح القنوات الإسلامية وعلى مستوى العالم بأجمعه.

أيضاً هناك وسيلة إعلامية جديدة و ناجحة وتشهد إقبالاً كبيراً من قبل الشباب بالخصوص وهي (الإنترنت) لذلك على المصلحين محاولة الإستفادة أيضاً من هذه الوسيلة وعلى مستوى العالم، وبالتالي تكون دائرة الإصلاح ليست مؤطرة بإطار معين أو بدولة معينة بل يكون إصلاحاً على مستوى كل العالم ودعوة غير الداخلين في الإسلام إلى الدخول فيه.

أيضاً على مستوى الكتابة نجد كيف أن بعض المصلحين من الشباب يعجز عن كتابة موضوع في الشهر وبعض العلماء يحتاج إلى سنة وأكثر ليصدر للعالم كتاب واحد فقط يتكون من مائة صفحة، وإذا ما كتب أحدهم كتاباً يجد الإنسان العادي صعوبة في التعرف على معانيه، إننا نعاني من مشكلة الكتابة في المجتمع وذلك بسبب عدم إطلاعنا على مجريات الأمور في العالم ومتابعة الأحداث وبسبب عدم الميل إلى القراءة. نحن لانزرع في الطفل عند إكتمال نموه مسألة القراءة بل نجعلها له حينما يصل عمره إلى الخامسة عشر و أحياناً إلى سن العشرين سنة ليبدأ هو بزرع تلك المسألة داخل ذاته ويكون مطالباً بإنتاجه. إن على الأهل أن يربوا الطفل على القراءة والمتابعة من أول وهلة يعي فيها هذه الدنيا، ومثل ما نعلمه كلمة (بابا وماما) نعلمه كيف يمسك الكتاب والقلم. بالمقابل أدر ناظريك نحو ذلك العالِم الجليل واسأل نفسك كيف بدأ حياته العلمية؟! وكيف ناضل إلى أن وصل إلى ماوصل إليه؟!

لقد تربى الإمام السيد في وسط عائلة متدينة وفي أحضان عالم رباني زرع فيه حب العلم والتعلم من أول وهلة وعى فيها الحياة الدنيا وهو الإمام مهدي الشيرازي -قدس الله نفسه الزكية-. ولننظر إلى قوة كتاباته وبأسلوبها المبسط الذي يفهمه الكبير والصغير والموجهة إلى كل الفئات (طلاب العلم، الشباب، الصغار، ...)، وكيف أنه كان يعكف على الكتابة في كل يوم. مَن مِنا يستطيع أن يضع نفسه في مكانه.

أيضاً من الناحية الإعلامية كيف كانت تطلاعاته إلى نشر الإسلام على مستوى العالم، ينقل أحد العلماء المقربين منه بأنه ذات مرة حضر مجلس عزاء في يوم عاشوراء لسماحة الشيخ عبدالزهراء الكعبي (رحمة الله عليه) فبعد إنتهائه قال له لماذا لاتقرأ هذا المقتل على بصوره عامة ليسمعها ملايين الأشخاص بدلاً من الإكتفاء على هذا العدد البسيط؟ فقيل له كيف و صحن الإمام الحسين لايتسع لهذا العدد الكبير من الناس؟ قال لهم يمكن ذلك عن طريق بثه في الإذاعة وفعلاً وَكَل المسألة إلى بعض العلماء ليعملوا على محاولة بثه في الإذاعة العراقية وفعلاً في العام الذي بعده عرض في المحطة العراقية. وهناك الكثير عنه في هذا المجال ولكن الوقت لايتسع لذلك.

3-الجانب الإجتماعي: لقد تحدثنا عن بعض الصفات التي يجب أن يتسم بها العالِم أو المصلح في المجتمع. ولكن كل تلك الصفات لاتنفع الإنسان إن لم يحولها إلى مشروع عمل في المنطقة التي يتواجد فيها. فما فائدة الإصلاح بدون عمل؟! ومافائدة الكتابة والقراءة بدون إقامة الندوات والبرامج التثقيفية في المجتمع؟! وما فائدة القيادة من دون توافر عمل إجتماعي يُقاد فيه؟! إننا في كثير من المدن نفتقد إلى البرنامج الديني ونكتفي بالتحصيل العلمي دون عمل ، ولو نظرنا إلى حالنا قليلاً لرأينا كيف أن هذه الحالة متأصلة فينا.

لنحاول إجراء عملية إحصاء في مجتمعاتنا الإسلامية عن عدد العلماء فيها وعدد المفكرين وعدد المصلحين وعدد الأفراد الذين يسكنون تلك المجتمعات. وبالمقابل لنقم بإجراء إحصاء لعدد العلماء الذين لهم مشروع عمل في المنطقة التي يسكنون فيها وعن عدد المفكرين التي لهم أفكارٌ جديدة يسعون لتطبيقها في المجتمع عن طريق برنامج عملي وعن عدد المصلحين الذي يقيمون البرامج الدينية لتوعية الجماهير المسلمة وعن عدد الأفراد الذين لهم دور في المجتمع. ماذا سنجد ؟!!!

إننا الآن نبكي على فقد عالمٍ ومفكرٍ ومصلحٍ وعالمٍ كان خير مثال و صنع من نفسه قصة وحجة تروى لكل المسلمين حين يعجزون عن شيء. كان -رحمة الله عليه- يحمل مشروعاً وأهدافاً يسعى من أجل تحقيقها في كل العالم وليس في العالم العربي أو المسلم فقط لذلك أحبه الكثير من العلماء والمصلحين وتمسكوا بنهجه وساروا على الخطى التي رسمها لهم في الإصلاح والتبليغ للإسلام. نحن لا نريد أن نكرر الكلام ولكن انظروا إلى كل بقعة يحل فيها ماذا يصنع؟! غير ذلك كان حينما ينتقد شيئاً ما لا يكتفي بذلك بل كان يضع خطة عمل لتجاوز ذلك الخطأ وحينما يطرح فكرة ما كان يطرح معها المشروع الذي يتبنى تنفيذ تلك الفكرة في المجتمع.

وآخر حياته وأيامه ماذا صنع؟! اجتمع مع مدراء المؤسسات الإجتماعية وإن دل ذلك على شيء دل على أهمية وقوة المؤسسات الدينية والتوعوية في المجتمع دون غيرها. وكل شخص كان يزوره كان يحثه على تبني أعمالٍ إجتماعية في المنطقة التي يسكن فيها.

إننا لو سطرنا ملايين الصفحات لن نستطيع أن نحصي فكره ومنطقه في العمل وعطائاته المتواصلة ودعمه للمشاريع الإجتماعية التربوية والتنموية. لذلك نكتفي بما قلناه عنه ونسأل الله أن يعوضنا عنه بأحسن خلف يستطيع أن يكون بمقامه. وأنا أعتقد بأننا لن نجد شخصاً مثله معطاءً يفكر بالمجتمع قبل أن يفكر بنفسه.

بقلم: زهير الصفار / عن موقع قطيفيات

أرشيف الأخبار  |  الصفحة الرئيسية  |  اتصلوا بنا