عودة إلى صفحة مكتبة النبأ

إتصلوا بنا

شارك في الكتابة

الأعداد السابقة

الصفحة الرئيسية

 
 

فكرة الأضمحلال في التاريخ الغربي

الكتاب: فكرة الأضمحلال في التاريخ الغربي

الكاتب: آرثر هيرمان

الناشر: المجلس الأعلى للثقافة/ المشروع القومي للترجمة/ مصر / ط1/ 2000.

إن سقوط الحضارة، هو الظاهرة الأكثر وضوحاً، والأكثر غموضاً في الوقت نفسه، بين كل ظواهر التاريخ وأي تجمع بشري مهما كانت براعة شبكة العلاقات الاجتماعية التي تحميه، يحصل يوم مولده على بذرة الموت الحتمي مخبأة في عناصر حياته..

هذا النص كتبه (آرثر دوجوبينو) في كتابه (فصل المقال في لا تساوي الأجناس البشرية) الذي يرى في الأوروبيين البيض أرقى من نظرائهم الزنوج أو الشرقيين، ويرى أن الرجل الأبيض لديه توافق أعظم بين مكونات القوة الجسدية والذكاء والأخلاق ومن بين كل الأجناس الموجودة يظل هو الأكثر حيوية، تلك الحيوية التي هي قوة حياة أو جوهر تنتقل إلى ذريته، وهي أساس الحضارة والإبداع الإنساني.

من خلال هذا النص وغيره من نصوص للكثير من المفكرين الغربيين، يقدم هذا الكتاب الهام تحليلاً للفكر الغربي ومصادره من خلال تتبع فكرة الاضمحلال Decline في الحضارة الغربية، ويقدم دراسة هامة عن الإشكالية الرئيسية التي يطرحها الفكر المعاصر عن مستقبل الحضارة الإنسانية بشكل عام، والحضارة الغربية بشكل خاص. هذه الإشكالية تتضمن في ثناياها القضايا الرئيسية التي تهم كل متتبع للفكر الإنساني في حقوله المعرفية المختلفة، فالكتاب يمكن أن ينضوي تحت الدراسات المسماة بعلم الأفكار الذي يتتبع تاريخ فكرة ما، ويرصد تحولاتها وتغيراتها، وعلاقة هذه الفكرة بالسياق الحضاري والاجتماعي والثقافي، وهذا ما فعله المؤلف حين تناول هذه الفكرة، لأنه تتبعها منذ الحضارة اليونانية حتى الآن، والكتاب ينتمي أيضاً إلى فلسفة التاريخ، حيث يحلل الوعي بالمصير داخل هذه الحضارة من خلال استعراضه للنظريات الفلسفية حول مصير الحضارات، ويعرض لنظريات كل من: (آرثر دو جوبينو) و(جاكوب فرانكفورت) و(فرديدريك نيتشة) و(شبنجلر) و(توينبى) و(مدرسة فرانكفورت) و(جان بول سارتر)، و(ميشيل فوكو) و(فانون) وغيرهم، ولهذا فإن أهمية هذا الكتاب لا تقف عند تحليل فكرة الاضمحلال فحسب، وإنما يقدم المؤلف تاريخاً للفكر الغربي حول تصوراته عن الزمان، والتقدم، والاضمحلال، وبالتالي فإنه يقدم استعراضاً لمسيرة هذا الفكر.

والكتاب يقدم معالجة لموضوعين متوازيين، أولهما دراسة فكرة الاضمحلال وثانيهما دراسة الوعي الذاتي بقضايا الإنسان في عصرنا الحالي، فهو لا يتتبع فكرة الاضمحلال فحسب، وإنما يتتبع أيضاً اضمحلال الصورة الإنسانية ذات الطابع الليبرالي، وبالتالي يرصد تحولات الفكر حتى المرحلة الحالية التي ظهرت فيها فلسفات جديدة مثل فلسفة البيئة، وفلسفات التعدد الثقافي، والاتجاهات الفكرية مثل الاتجاه النسوي، وهو اتجاه فكري لا يقتصر على دراسة المرأة، وإنما يتجاوز هذا الأمر لدراسة الإنسان وقضاياه في المجتمع المعاصر.

ويزيد من أهمية الكتاب، أنه ليس دراسة تقليدية عن الفكر المعاصر وأحدث تياراته، وإنما هو دراسة من مؤرخ يطرح أسئلة عن واقع عالم اليوم بين التفاؤل والتشاؤم، فالكتاب ليس دعوى إيديولوجية، وإنما تحليل نقدي من مؤرخ لمستقبل الإنسان، ونقد الصورة التي يكونها الفكر الغربي عن العالم في مرحلته الراهنة.

ونتيجة لكون المؤلف مؤرخاً وليس من الدارسين للفكر الفلسفي بشكل مباشر، جعل الكتاب يربط بين الفكر والواقع التاريخي، فهو لا يقف عند الإتساق المطلق للأفكار، وإنما يراها في حالة صراع حضاري يعبر عن تيارات متباينة داخل الفكر الغربي، ولذلك فإن كثيراً من الفلسفات الصعبة والمعقدة تتحول إلى بناء فكري يمكن التواصل معه بيسر، ونجد هذا في الفصول التي تناولت فيها فلسفات هيجل ومدرسة فرانكفورت، وغيرها من الاتجاهات المعاصرة، وذلك لأن مصادره لم تكن الأفكار فحسب وإنما كل المصادر التي تضيء الفكرة – الاضمحلال – وجوانبها المختلفة.

والكتاب يدرس فكرة الاضمحلال كجزء من التفكير الحديث، وليس حكماً شخصياً عما إذا كان من الحتمي أن تضمحل الحضارة الغربية أو لا، ورغم أن كثيراً من الدراسات تتنبأ بالإنهيار الوشيك للحضارة الغربية، فإن النظرة الغربية تسود العالم وتحظى باحترام أكثر، فهل هذا يرجع إلى إسهامات الغرب الحالية التي تتمثل في العلم والتكنولوجيا، وتقديم نموذج ديمقراطي يجعل العمل من خلال المؤسسات يقوم على أساس من روح الفريق وتعاون الجماعة الإنسانية في إنجاز ما يوكل إليها من مهام، وحقوق الفرد، حتى صارت القيم الغربية – وليست طريقة الحياة الغربية – هي نموذج للعمل السياسي والاجتماعي والثقافي في كثير من بلدان العالم، فكيف نتحدث عن انهيار واضمحلال الغرب في وقت تسود فيه النظرة الغربية؟ هل هو تشاؤم؟، أو اتجاه فلسفي ونفسي تجاه حضارة لم يتحقق فيها الإنسان كما يرغب؟ أم هو استقراء للأزمات الحالية التي تتوالى على الغرب؟.

لقد اختار المؤلف التناول التاريخي لدراسة الموضوع، وهذا ما يجعلنا نرى أن الكتاب ينتمي إلى علم تاريخ الأفكار، لأنه يتتبع أصول فكرة الاضمحلال حتى عصرنا الحالي، وقد أختار المؤلف طريقة لعرض موضوعه تتسق مع رؤيته، ذلك لأن فكرة الاضمحلال لم تطرح بالمعنى المعاصر إلا في القرن التاسع عشر، وبالتالي فإن البدايات الأولى تفهم الاضمحلال في إطار فهمها لدورة الزمان، وفهمها لمعنى التقدم ولذلك فقد قسم المؤلف كتابه إلى ثلاثة أجزاء:

1- الجزء الأول: عن لغات الاضمحلال، ذلك أن معنى الاضمحلال لم يكن واحداً طوال التاريخ الحضاري، وإنما أخذ معان متعددة، أبرزها في تحليله للصور المختلفة التي عبرت عنها كتابات المفكرين في الحضارة اليونانية عن الاضمحلال، فقدمت تصوراً عن طبيعة الاضمحلال وهل هو ميتافيزيقي، أو طبيعي، أو نظرية تفسر من خلالها ظهور الحضارات.

2- الجزء الثاني: عن التنبؤ باضمحلال الغرب في تطور الفكر الغربي في وعيه بذاته.

3- الجزء الثالث: عن سيادة اتجاهات التشاؤمية الثقافية حتى إننا نطالعها في كل الأعمال الفنية والأدبية التي تنتقد الحياة المعاصرة، ونظرة الإنسان لها، حتى صارت التشاؤمية مكوناً من مكونات الحياة المعاصرة، وفي عرض المؤلف لمسيرة فكرة الاضمحلال لم يكن منحازاً لها، أو ناقداً لها، وقد يرجع هذا إلى طبيعة التخصص الأكاديمي الذي ينتمي إليه لأنه مؤرخ وليس فيلسوفاً ولا يطمح إلى تقديم نظرية خاصة به، وقد استطاع أن يسجل لنا ملامح الصورة التي يبدو عليها الفكر المعاصر، ولهذا فإنه يعرض لنا المواقف والرؤى فحسب، ولكن هذا لا يعني أنه محايد، لأن اختياره لهذا الموضوع ينفي حياده، ويؤكد خوفه على مصير الحضارة الغربية التي يسود نموذجها الإنساني في الحياة الدولية، وأصبحت على المستوى الاقتصادي والسياسي والعلمي.