عودة إلى صفحة مكتبة النبأ

إتصلوا بنا

شارك في الكتابة

الأعداد السابقة

الصفحة الرئيسية

 
 

الصوت.. الوعي الذاتي نحو بوابة الكون

الكتاب: الصوت.. بوابة الكون

تأليف: ساميا ساندري

ترجمة وتحقيق: ماري بدين أبو سمح

الناشر: رياض الريس للكتب والنشر 

تاريخ النشر: 2002م

إن الأديان التوحيدية تعتبر الصوت بطبيعته مرتبطاً بالكون، وهو يستعمل في حالات عدّة، مثل تطوير النفس، أي الصوت الداخلي، في صلوات القلب (فيلوكالي عند الروم الأرثوذكس) أو في حلقات الذكر عند الصوفيين المسلمين، أو في الصلات والنصوص المقدسة، منطوقة كانت أو مرتلة أو مغناة. والصوت هو تعبير عن جوهر الذات المتصلة بالكون. ففي القديم لم يجرّد العقل المفكر الإنسان من فطرته الطبيعية؛ لأن المعرفة الفطرية، التي هي على اتصال بالصوت الداخلي، كانت تعبّر عن ذاتها بالصوت الخارجي (نطقاً أو غناءً)، وتنضم إلى المعرفة الكونية المقدّسة، المسيطرة على العقل.

لقد خسر الإنسان المعاصر، للأسف فطرته الطبيعية. إن قلق الإنسان المعاصر، وريث العصور الحديثة حيث ساد العقل (في العلوم والأديان والفنون) ناتج عن تحويل محوره الحيوي الذي لم يعد الأنا الداخلية الكامنة في وعيه الذاتي، بل صار الأنا الدنيوية التي تكبله. لقد أهمل الإنسان المعاصر صوته تدريجياً فخسر صلته بذاته، وبالمقدّسات، وبالكون.

وتساهم الإغواءات المفرطة والجامحة للحياة العصرية، والسيول الدائمة من المعلومات، تساهم في إبقائنا في حالة توتّر دائمة، وتخنقنا، وتقتل استعدادنا الطبيعي للعيش بحسب إيقاعنا. لقد أردنا أن نتحمل أعباء مجموعة من الأدوار، وأن نضع الأقنعة داخل العائلة، وفي العمل، ومع الأصدقاء، وفي الحياة الاجتماعية. أصبح الشكل في يومنا أهم بكثير من المضمون. ويشعر الإنسان حالياً بسيئات هذا الظاهرة في حياته. ومع تطور المشاكل الاجتماعية والاكتشافات العلمية، التي عادت بمعظمها تربط الله بالعلم، وفي نظرة شمولية (هولستية) للإنسان والكون، بدأ الإنسان يعي ذاته، وكل الذي يحيط به، مهتماً بالأبعاد الروحية من وجهة نظر كونية لكن هذا الوعي هو في الذهن والعقل فقط، لأن الفردية المفرطة استولت عليه، فانطوى على نفسه، ولم يعد يعرف التواصل، ولم تعد لديه أسرار تبادل الآراء والأحاديث، إذن ومن دون إهمال كل ما هو قيّم في عصرنا، لا بد لنا والحالة هذه العودة إلى تعلّم ما كنا دائماً نعرف، وما علينا أن نستعمل من دون تفكير: الصوت.

الصوت هو من دقائق طبيعة الإنسان الأكثر عمقاً. هو مرآة اللاوعي أو الحسّ الباطن عند الفرد. إنه يفضح العاطفة والإحساس والطبيعة. فهو إذن الجوهر المادي والمعنوي الأفصح. الصوت جسمٌ حيّ نشعر به. التعبير الصوتي هو فعل مادي. إن الصوت هو الجهاز البشري الوحيد الذي يسمح للإنسان أن يبلغ الكون. نستطيع من خلال صوتنا أن ندرك الله.

لكل صوت إمكانات مجهولة، في اكتشافها نشوة، تشبه اكتشافات كنز دفين وشديد القرب منا. ويحدث تحرير الأصوات وإطلاق الصوت السجين تحويلاً غريباً ومفاجئاً، بطريقة عجائبية، إذ يتحول الصوت وينتشر حراً متعدداً في أماكن لا تخطر في بال. إن نظرية "علم الصوت" كما ابتكرتها الباحثة ساميا ساندري في كتابها هذا والتي كانت بمثابة أطروحة قدمتها لدكتوراه الدولة عام 1982 في جامعة العلوم الإنسانية في باريس، أن نظريتها هذه هي معالجة علمية، وميتافيزيقية، وفلسفية، للواقع المنظور وغير المنظور، بواسطة الرنين أي الصوت. يكمن علم الصوت هذا في نظرية مسماة نظرية "الأجسام العليا" والمعالجة بالصوت.

إن تعريف الباحثة للصوت هو: هذه الأجسام التي تتيح للصوت الداخلي، وهو طاقة لا تنضب ويتجدد الإنسان بفضلها، بأن يبلغ الكون. إن الرنّة هي أساس الصوت وجوهر الكون. في نظرية الأجسام العليا التي تحدد تركيبة الصوت المتصل بالكون، يعتبر النَفَس عنصراً مهماً لأنه أساس إصدار الصوت، النفس هو الحياة.

عند قراءة هذا الكتاب، على القارئ استقراء ما بين السطور، وما أبعد من الكلمات؛ لأن الكلام بلغة محددة عن أشياء خارج حدود المكان والزمان، هو مهمة مستحيلة. إن المعنى التقليدي لكلمة ما يتبخر، لأنها إذا أرادت أن تفسّر الأشياء التي لا تفسر، تختار الصيغة المناسبة في الجملة، التي تصبح بدورها غير واضحة، وتقبل تأويلات متعددة. وكلما تقدم القارئ في قراءة هذا الكتاب، كلما توضحت له أبعاد الجملة والكلمات. وشيئاً فشيئاً ينجلي غموض الأفكار المطروحة، فتنقله إلى البعد المطلوب ليفهمها أكثر، وليعيشها أكثر. يقوده النص تدريجياً إلى طريق البحث عن المطلق. وهذا البحث لا تحدّه لغة معينة ولا تأسره بنية الكلمات. وتتم المشاركة بالأفكار من خلال موجات الجملة ومفرداتها. يفهم المعاني التي تصل مباشرة إلى فطرته في الخفاء. يشعر بها ولا يمكن أن يضعها في كلمات. عند دخوله عالم صدق التعبير، يسهل العمل ويصل إلى غايته. تتنوع التعابير والسبل لكن الهدف يبقى واحداً. (النيل والفرات)