الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

     تراث

أداء الحسينيات

 ابراهيم السالم*

 لا يختلف اثنان على قول ان الاناشيد التعبيرية هي المعبر الصادق، بل هي اروع تعبير عن احاسيس الانسان ومشاعره واخلاقه وعاداته وتقاليده وحزنه وفرحه، فهي التي رافقته في كل مفردات حياته حتى في اغراضه الدينية وانتماءاته العقائدية.

على هذا فليس هناك اي وجه غرابه وتعجب حينما نرى ونسمع هذه السمفونيات الرائعة المنظمة والمحسوبة حسابا دقيقا في الصوت والزمن، التي صنعها اهل العراق في التعبير عن حزنهم العميق لما جرى لآل بيت رسول الله صلاة الله وسلامه عليهم اجمعين، وفي نظرة سريعة نلقيها على تاريخ نشأة المواكب الحسينية (اللطم) نراها حركة منظمة شملت كل الفنون الصوتية والايقاعية والالقائية والمسرحية باسلوب راق يعبر بوضوح عن مأساة كربلاء، وينقل لنا صورة حية عن تلك الحادثة المفجعة، وهذه الحركة العظيمة المقدسة سارت منذ نشأتها بجماليتها رغم جور الحكام ومحاربتهم لآل البيت وانصارهم وعبرت كل الصعوبات وهي تواكب التطور العلمي بنصوصها والحانها، وهذا التمسك والاصرار على ديمومة هذا العمل الفني المقدس وتطويره، وجعله يماشي الثقافات المتطورة لم يات من الفراغ لاسباب عديدة، اهمها؛ انك لو فتشت كل بقاع الارض لن تجد شعبا مؤمنا مواليا لآل البيت عليهم افضل الصلاة واتم السلام خيرا من اهل العراق وبالتحديد منطقة الفرات الاوسط نزولا الى الجنوب.

وهؤلاء تشربوا عشق آل البيت وانتموا اليهم انتماءا صميماً وهذا التشخيص ليس من باب التعصب وليس من باب انكار حب الاخرين لاولياء الله، ولكن هناك حقائق ووقائع فرضت نفسها اهمها؛ ان المواكب الحسينية بكل ما تحمله من اداءات راقية هي من صنع اهلنا في العراق دفعوا من اجل ديمومتها ابناءهم قرابين، وتحدوا بها اعتى الجبابرة، فهي بالنسبة لهم ثقافة وعقيدة واحياء ذكرى عاشت في قلوبهم وسرت في دمائهم وعقولهم حتى اصبحت مبدءاً لا يمكن التخلي عنه. ومن المعروف ان منطقة الفرات الاوسط وجنوب العراق ورثت ثقافات متعددة من حضارات تعاقبت عليها على مر العصور، ومن هذه الثقافات الاداء المعبر الصادق الراقي المرتمي في احضان الانسانية المتربية على النبل والطهارة والخير، لهذا عانق ذلك الاداء العقيدة وتجلى معها في قدسية وهدف ايماني مطلق واظهرت نغماته وايقاعاته ذلك الحب المتفرد، واستخدمت كل هذه الاسباب في اعز واسمى مناسبة تمر على المسلمين الا وهي واقعة الطف المؤلمة التي استشهد فيها الامام الحسين سيد الشهداء ونخبة من آل بيته الاطهار وبعض من اهل الايمان الذين صرعوا من اجل نصرته، وهذه الذكرى هي من صنعت اروع فن مقدس الا وهو المواكب الحسينية.

اختلفت الروايات والاراء عن نشأة الاداءات الحسينية والاقرب الى المنطق الذي اذهب اليه واؤيده هو ان اول المنشدين لال البيت هو سيد الشهداء الامام الحسين صلوات الله وسلامه عليه في قصيدته المعروفة:

خيرة الله من الخلق ابي

بعد جدي وانا ابن الخيرتين

وتقول بعض الروايات ايضا ان الامام زين العابدين قد رثى ال بيته وانشد نصوصا تتحدث عن واقعة الطف، وهو اول من ضرب في كفه على صدره، كان يصنع ذلك هو ويبكي معه كل من حوله، وقد طلب الامام الرضا عليه السلام ان يلحن له الشاعر دعبل الخزاعي قصيدته التائية وكان دعبل قد نظمها لال البيت وقرأها على الامام قراءة اولية، فقال له الامام: اقرأها لي باسلوب اهل العراق، فلحنها دعبل فلما سمعها الامام خر مغشيا عليه ومطلع القصيده يقول:

افاطم لو خلت الحسين مجدلا

وقد مات عطشانا بشط فرات

اذن للطمتي الخد فاطم عنده

واجريت دمع العين بالوجنات

ويقال من هنا بدأ ما يسمى بالنعي وهي كلمة تطلق اذا ما وضع بناء لحني منغم كتب في هذا المنحنى، وبمرور الزمن اصبحت الايدي والصدور هي الايقاعات المستخدمة في التنغيم للمراثي الحسينية ولان الطبل او الدمام له تاثيره الواضح والموروث على الانسان بمرور العصور، وقد فرض نفسه في هذه الاعمال الراقية، فالايقاع يضيف دفقة حماسية للانسان، كما يسهل له ممارسة الحركة التعبيرية والقدرة على الاداء، وهنا اكتملت ادوات الاداء التعبيري في هذا التنغيم الراقي، كما وظف صانعوا القوالب الادائية للحسينيات آلة البوق التي غالبا ما تستخدم في الالحان الجنائزية منذ القدم، ومن جانب اخر فقد نسج الشعراء اروع القصائد والازجال لهذه المناسبات الزكية واعتصروا من خلجاتهم ارق كلمات الرثاء التى لامست مشاعر المسلمين، واصبحت هذه الاعمال سنة يمارسها الموالون كل عام، ولم تنقطع رغم كل الممارسات القاسية، وعبرت هذه الاعمال كل الصعاب، وحينما تتوغل في الحسينيات تجدها اداء من اروع الاداءات الصادقة التي تعبر بك كل القرون وتصور لك باسمى صورة ما حدث للامام الحسين وال بيته واصحابه. ونذكر بعض الاعمال التي جاشت بها قرائح الشرائح ونسجتها اداء رائعا حناجر الموالين، ولو كان هناك منصفون في علم الموسيقى والاصوات لما ترددوا عن القول: ان هذه الاعمال هي ارقى سيمفونية ناطقة بالولاء والحب لسادة الارض عليهم السلام من قبل اهل العراق، وتوزعت الحسينيات من تركيبات ادائية ملونة ومختلفة من الناحية الايقاعية كما توزعت الحركات بين الوقوف والجلوس والمسير.

ومثالنا الاول هو الضربة الثلاثية يقول النص وهو من الزجل:

يبن امي علتربان عفتك رميه

عين العمه ولا شوف ذيج المسيه

اداء هذا النص من الحجاز (عياش) ووضع له ايقاع الجورجينه (16/10) (دم تتك دم تك) وهناك من غير وزنها وقرأها على ايقاع الوحدة الكبيرة، ولكنه لم يخرج عن السياق اللحني لها. اما اسلوب الاداء فيجتمع حول الرادود آلاف الاشخاص والرادود هو المسؤول عن هؤلاء الذين يتوجب عليهم ضبط الصوت والزمن في اداء المذهب، يبقى الرادود يكرر المذهب حتى ينضبط اخر مردد، وليس هناك في كل الشعوب كورال بهذه الضخامة، آلاف مألفة تنشد بانسجام بالصوت وضربة واحدة موحدة بالايقاع، وهكذا وبعد ان يحفظ الحضور اداء القصيدة ينتقل الرادود الى ابيات القصيدة الاخرى، وغالبا ما تكون القصيدة مؤلفة من اكثر من عشرين بيتا.

اما القالب الاخر لهذا الاداء المقدس فهو الزنجيل، والزنجيل هو حزمة من الشرائط الحديدية مربوطة في خشبة طولها لا يتعدى قبضة اليد، يضرب فيه اعلى الظهر يمينا وشمالا ضربات ايقاعية منسجمة ثابتة محسوبة على زمن القالب الايقاعي للقصيدة.

 يستخدم الطبل او الدمام لتثبيت الاداء ودفع الحركة الايقاعية اثناء استخدام الزنجيل في الضرب وتحفيز المشتركين وتنشيطهم. وغالبا ما يستخدم ايقاع الحدي، ومن اشهر القصائد التي رددتها حلقات الزنجيل هي:

اخبرك يا رسول الله

الجفن ما فارك الدمعه

اما القصيدة الثانية فهي:

اهز مهدك يعبد الله

اهزن والمهد خالي

يبني وثمر دلالي

وتؤدى هذه القصائد وغيرها في حلقات الزنجيل على الهزام (العنيسي) اما الوزن الايقاعي فهو (دم تك تك تك دم) وهناك ايقاع يستخدم للمسير مع البوق وهو الايقاع المركب (دم دم، دم دم، دم دم) وهناك جمع المشاركين بصوت واحد (حيدر) وبعد ان يصمت البوق والايقاع. وهناك قالب ادائي اخر يعتمد على ضربة الصدر الموحدة، وتكون القيادة هنا للرادود الذي يقود المجاميع من اول القصيدة الى اخرها، باستثناء المذهب الذي يردده الرجال بصوت واحد، والقصيدة المعروفة في هذا الاداء هي:

جينه ننشـد كربلا واعليه نعتب

ادكول هـاي ارجال ودار الغلب

حرمة زينب بيش مطلوبه بذنب

فوك جتـــل حسينه ميسرينها

وقد ركب هذا الاداء على ايقاع الجورجينة الثقيلة (10/16) ومن الرست. كذلك فان هناك قصائد لحنت على ايقاع الوحدة (دم تك، دم تك) ودخلت عليها اوزان مختلفة كقصيدة:

يا هلي الخله يستروها العمام

وما على الذله نواظرهم تنام

يا علي هاي الارامل وليتام

تعتـب وما تسمعون اعتابها

اما الكعدة او الكعدية فلها اسلوب خاص في الوضع وفي الاداء يبدأ الرادود بارتجال المذهب دون مصاحبة الايقاع، ويسلم اداء المجاميع في محطات ثابتة، ويتصرف هو بالكوبليهات حيث يغير النمط اللحني للقصيدة، وقد اخترنا هذه القصيدة التي ينتقل بها الرادود من محطته الثابته في البيات الى الرست في الاغصان وهي في الترتيب كما يلي الفالت هو:

دنيـــــاك هاذي كنطره

لا تامن بهاي يا واسع الراي

وهنا تدخل المجاميع بترديد:

شنهو السعاده ابهلوكت

اوين راعيها

ثم ينفرد الرادود مستخدما اعلى درجات الرست ويردد:

وين عينك وينك ابيا وادي هايم

انجان هايم اصحه ساعه عل اقل ولا تظل للتالي نايم

ثم يتدرج بالنزول في قوله:

الدنيه لا يغرك هواها الدنيه

 خـداعه للوادم

لا تنجرف لا تنخدع صحح افكارك

يا واهم

ثم يغير الايقاع من اجل دخول الكورس معه فيبدأ بقوله:

لصير مثل الناكه لمحمله بالماي

ويستلم منه الجمع:

بالماي هي امحمله والعطش ماذيها

مع ضربة ايقاعية موحدة على الصدر على البيات وهكذا تستمر القصيدة.

اما ردات المسير فتاخذ طابعا اخر في تركيباتها الادائية، وهي تختلف عن كل القوالب التي ذكرناها، لانها عبارة عن لوحة متحركة تتكون من عدة مجاميع تتوزع كوبليهات القصيدة عليهم جميعا، يستلم الثاني من الاول والثالث من الثاني وهكذا، وتسير القصيدة على نمط واحد في مسارها الايقاعي، وهذا نموذج من النهاوند على ايقاع الجورجينه الخفيف (5/8) وضعف سرعة الجورجينة الثقيلة التي ذكرناها فيما سبق:

المجموعة الاولى:

زينب تنادي ابكربلا

يحسين يعيوني يحسين يعيوني

هيهات ترضه شيمتك

عدواني يولوني عدواني يولوني

صد الي شوف اديه

وهنا تكمل المجموعة الثانية مع ضربات ايقاعية على الصدر:

ابحبل شدوني يا ضوه عيوني

هكذا تسير القصيدة كل المجاميع وتتقدم المجاميع بعد انتهاء كل مجموعة واستلام المجموعة الاخرى. اما المسيرة الطلابية، فترتكز على قصيدة الشريف الرضي والتي مطلعها يقول:

كربلا لازلت كر وبلا

ما لقي عندك ال المصطفى

هذه بعض النماذج ذكرتها من اجل التوضيح، وهناك نماذج رائعة اخرى يعرفها اهل الاختصاص والموالون لآل البيت عليهم صلاة الله وسلامه، حيث لايستطيع الباحث ان يتوغل بها لانها تحتاج الى دراسة موسعة، ففيها كتب وبحوث عديدة ولم يتوقف الحال عند ما ذكرناه، وانما يستمر التجديد والابداع في هذا الفن الراقي، ولكل زمان انماط متطورة تختلف في مضمونها وحركاتها ونصوصها عن المدارس السابقة، وفي كل عصر تظهر رموز لفن الاداءات الحسينية، وقد نحينا ذكر الاسماء جانبا لكي لا نقع في مطبات الاهمال لبعض الاسماء، ولكننا نثبت لهؤلاء الرموز الابداع ونشهد لهم بالعبقرية والعلمية، فانهم اسسوا اسمى وارقى مدرسة للاداءات التعبيرية انشدت لال البيت واحيت ذكرهم وابكت ملايين المسلمين، وستبقى خالدة مادامت السماوات والارض.

* خبير صوت

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا