الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

غرانيق في سماء الاستشراق

(الأصول التاريخية لحكاية الغرانيق)

 

حسن عبيد عيسى

كنا قد نشرنا في العدد السابق القسم الأول من هذه الدراسة وبيّنا كيفية توظيفها من قبل بعض المسيئين للإسلام لأغراضهم التخريبية وخاصة ما نهج عليه (سلمان رشدي) في رواية (آيات شيطانية) وما دأب عليه (صادق جلال العظم) من تكريس لذلك التوظيف والدفاع عنه.

في هذا القسم يبين الباحث أصل حكاية (الغرانيق) كما وردت في كتب التاريخ والتفسير الأسس التي بنى عليها المستشرقين مزاعمهم.

النبأ

فما هي الغرانيق

الغرانيق جمع، ومفردها (غرنيق) بضم الغين وفتح النون. يعرّف (الدميري) الغرنيق نقلا عن (الجوهري والزمخشري) بأنه (طائر أبيض طويل العنق من طير الماء وجاء في نهاية الغريب انه الذكر من طير الماء ويقال له غرنيق وغرنوق، وقيل هو الكركي. وعن أبي صميرة الإعرابي انه إنما سمي بذلك لبياضه) ثم ينقل رأيا لم يسنده يقول فيه (وقيل: الغرانيق والغرانقة طيور سود في قدر البط)(1)0 وعلى الرغم من المناقشة المستفيضة التي خص بها (رينهارت دوزي) الغرانيق تحت باب (غرنق) وقطعه في مستهلها إن الغرنوق (تعني الكركي) وانه نقل عن عرب ومستشرقين ومعاجم شتى، الاانه لم يلمس من قريب ولا من بعيد حكاية (الغرانيق العلى) على الرغم من انه نقل عن (الدميري) الذي تناولها وضعّفها، وعن غيره، فقد اكتفى في سرده المسهب برواية (أبي عمر) التي يدّعي فيها إن غرنوقا دخل نعش (ابن عباس) ولم يخرج حتى دفن (2)، وسنأتي على ذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى0وأقل من ذلك اختصارا جاء تناول (الفراهيدي) للغرنق، فقد اكتفى بان (الغرنيق والغرنوق: طائر ابيض، والغرنوق الرجل الشاب الأبيض الجميل) ولم يجمعها بهذا المعنى حيث لم يذكر الغرانيق الاجمعا للغرنوق الذي يكون في اصل العوسج اللين (3) وبذا فقد تحاشى أي ذكر للقضية. ولغاية في نفس (بروكلمان) فقد ادّعى متفردا في ادعائه إن (الغرنوق) هو مالك الحزين الأبيض، وقد تكون الغاية هي رغبته في أن يخلق علاقة بين الطائر المقدس عند المصريين القدماء الذي هو (العنقاء) والذي يقول انه (مالك الحزين الأبيض) وبين رواية الغرانيق، حيث يزعم باحتمال (معرفة غامضة قد اتصلت بالنبي عن الطائر المقدس عند المصريين، العنقاء أو مالك الحزين ألكدري) (4) وهذا الوهم كاف لتأسيس نقطة هامة في قاعدة المعلومات الاستشراقية المضللة.

وعودة إلى تصنيف (الغرانيق) فان (الجاحظ) في (الحيوان) يعزلها عن فصيلة الكراكي عندما يورد مستطردا (الكراكي والغرانيق والثيران) وانه عند ذكر التسافد بين الذكور يشير إلى إن ذكور الغرانيق تسفد بعضها كما الكراكي (5) في حين عدّها محقق الكتاب في هامشه (اوزا عراقيا) (6) ثم يرتد في الجزء الخامس فيحسبها (كراكيا) ويذكران اسمها العلمي هو (Balearica Pavonina)و(7) وكما تجاهل (الفراهيدي) رواية الغرانيق العلى، كذلك تجاهلها (الجاحظ).

الأصل في الرواية

لقد كان الأصل في هذه الرواية ما ذكره (محمد بن عمرالواقدي) وهو مؤرخ عباسي تتلمذ على يديه عدد من الأعلام في مقدمتهم كاتبه (محمد بن سعد) الذي نهج على خطاه في أمور عديدة منها ترسيخ قضية (الغرانيق) في كتابه (الطبقات الكبرى).

و (الواقدي) أساسا متهم بأنه يسرد الإسرائيليات ويسرد الخرافات كما ينقل (عمر فروخ) عن (مولانا محمد علي) (8) وما رواية حضور (إبليس) معركة (بدر) متقمصا هيئة (سراقة بن جشعم المدلجي) وانه كان يدعو الله عز وجل (يارب وعدك الذي وعدتني) هادفا نصرة المشركين، وان بعضهم لم ير إبليس وإنما (سمع لإبليس يومئذ خوارا ودعاءا بالثبور والويل) (9) التي اهتم (الواقدي) بها وناقض نفسه في أكثر من موضع منها كما رأينا إلا بعض ما يؤاخذ عليه الرجل الساعي إلى التميّز والتفرّد فلعب بالتاريخ وشوّه الحقائق. وعلى خطا (الواقدي) سار جمهور من المؤرخين والمفسرين بعضهم ممن حظي بإجلالنا واحترامنا الكبيرين، وفي مقدمة ركبهم (الطبري) و (ابن الأثير) وغيرهما ممن كانت شروطهم في التدوين اقل تشددا، ولم يشذ (القرطبي) عن تلك الجمهرة التي قد يطول ذكر رجالها ولكنه ضعّف الرواية مع الإيحاء بان الشيطان ربما ترصد لسكنات الرسول (ص) وهو يرتّل القرآن فدسّ فيها ما اختلقه من تلك الكلمات كما سنرى ذلك مفصلا.

أما المفسرون فإنهم يتناولونها ضمن أسباب نزول الآية الكريمة (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم)(10) وقد تكون ترسبات الرواية التي أسسها (الواقدي) وتلميذه سبب ذلك، في حين عافها كتّاب السيرة، فلم يقترب منها (أبو بكر محمد بن اسحق) المتوفى عام 151 للهجرة، وهو أقدم من كتب في السيرة وألف في المغازي، وإنما أجاب عندما سؤل عنها، إنها (من وضع الزنادقة) (11) ثم انه صنّف كتابا في هذا الأمر. وقد يكون من بين هؤلاء الزنادقة أتباع فرقتي (الكرامية والحشوية) اللتين خصهما (ابن أبي الحديد) بالإقرار بان الرسول (ص) (قد اخطأ في التبليغ حيث قال (تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجى)) (12) و (الكرامية) هي فرقة أسسها (محمد بن كرّام) الذي من (سجستان) والمتوفى عام 255للهجرة. وهي من الفرق التي تنتهي إلى (التجسيم والتشبيه) (13) أما (الحشوية) فهم (يجوّزون الكبائر على الأنبياء كالزنا واللواط وغيرهما حتى بعد أن يبعثهم الله تعالى) كما ذكر (ابن أبي الحديد) (14)، فهاتان الفرقتان تقرران إن النبي (ص) قال تلك العبارة، وانه أخطأ في تبليغ الرسالة، فما أجرئهم على شخص الرسول (ص) وإلا فكيف تكون الزندقة؟.

لقد تصدى بعض المحققين للتفاسير التي اعتمدت وثوقية قصة الغرانيق، فقد عد (الشيخ قاسم القيسي) قصة الغرانيق (كذبة وضعها اليهود، وهي كقصة إرم ذات العماد) وذلك عندما أخضع تفسير الخازن للنقد (15) وبمثل ذلك اتهم تفسير (روح البيان) المنسوب (لأبي الفداء إسماعيل حقي) عندما قال (انه لا يتحاشى عن ذكر الأحاديث الضعيفة والموضوعة والحكايات الواهية الباطلة المصنوعة) (16) ويأتي على ذكر واحدة من تلك القصص فيقول (وذكره قصة الغرانيق في قوله تعالى (وما أرسلنا.. الآية) التي اشتملت على خبر تمجه الأسماع وينزه عن الاتصاف به سيد الأنبياء مما لهج به بعض المفسرين إسراء التقليد) (17)، ثم تناول تفسير (الإمام البغوي) الذي قال عنه وعاب عليه (ذكره قصة الغرانيق مقلدا غيره من المفسرين الذين لا يبالون من نقل أشياء لا تناسب مقام النبيين ومقام سيد المرسلين من أن النبي قرأ بعد قوله (أفرأيتم اللات.. الآية) وقرأ فيما يزعمون (تلك الغرانيق…الخ) إلى آخر ما قيل من الأباطيل والترهات) (18) ولم يترك (ابن جرير) على حاله القابل برواية الغرانيق فيقول عنه (على أن ابن جرير ليس بمعصوم إذ لم يخل تفسيره عن الروايات الواهية، فقد ذكر قصة الغرانيق في قوله تعالى (وما أرسلنا من رسول.. الآية) ومضمونها أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لما قرأ الآيات من سورة النجم ووصل إلى قوله (افرأيتم اللات.. الآية) ألقى الشيطان على لسانه الغرانيق العلى، مدحا للاصنام، أو قرأ باختياره تأليفا للكفرة اللئام وذلك مناف لمقام الرسالة المشروط فيها الأمانة في التبليغ، وشايعه على هذه الرواية كثير من المفسرين المقلدين الذين لا يتفكرون ولا يتدبرون في المقامات المناسبة لعصمة الرسل لاسيما الرسول الأكرم والحبيب الأعظم) (19).

روايتا الطبري

فالطبري المتوفى عام 310 للهجرة يروي في تاريخه كما يذكر في تفسيره ما حدّثه به (ابن حميد) من أن (سلمة) حدثه، إن (محمد بن اسحق) حدثه عن (يزيد بن زياد المدني عن محمد بن كعب القرظي) قال (لما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تولي قومه عنه وشق عليه ما يرى من مباعدتهم ما جاء به من الله تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه (في رواية ابن سعد انه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتمنى أن لا ينزل عليه شئ ينفِّرهم عنه) وكان يسره مع حبه قومه وحرصه عليهم أن يلين له بعض ما قد غلظ عليه من أمرهم حتى حدّث بذلك نفسه وتمناه وأحبه فانزل الله عز وجل (والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى) فلما انتهى إلى قوله (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) ألقى الشيطان على لسانه لما كان يحدث نفسه به ويتمنى أن يأتي به قومه (تلك الغرانيق العلى وان شفا عتهن ترتضى) فلما سمعت ذلك قريش فرحوا وسرهم وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم فأصاخوا له والمؤمنون مصدقون نبيهم فيما جاءهم به عن ربهم ولا يتهمونه على خطأ ولا وهم ولا زلل فلما انتهى إلى السجدة منها وختم السورة سجد فيها فسجد المسلمون بسجود نبيهم تصديقا لما جاء به وإتباعا لأمره وسجد من في المسجد من المشركين من قريش وغيرهم لما سمعوا من ذكر آلهتهم فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد. ثم انه يعيد روايتها بما حدثه به (القاسم بن الحسن) عن محدثه (الحسين بن داود) الذي حدثه (حجاج عن أبي معشر عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس) مع خلاف يبين فيه انه لما أمسى أتاه جبريل عليه السلام فعرض عليه السورة فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال ما جئتك بهاتين فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم افتريت على الله وقلت على الله مالم يقل فأوحى الله إليه (وان كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره) (20) إلى قوله تعالى (ثم لا تجد لك علينا نصيرا) (21) فما زال مغموما مهموما (22) حتى نزلت الآية (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي)إلى قوله (والله عليم حكيم).

رواية ابن الأثير

وهو (أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد الشيباني المعروف بابن الأثير) ولد وتعلم بالموصل ورحل إلى (دمشق) و (القدس) وألف كتابه (الكامل في التاريخ) الذي يُعَدّ في طليعة مصادر المستشرق (موير) كما مر بنا وكذلك كتابه (أولي الأبصار) الذي رجا به الحظوة عند الاتابكة، وله (أسد الغابة في معرفة الصحابة) كما ألف في الأنساب. فالرجل يتناول الرواية وكأنها أمر مفروغ منه حتى انه لم يسندها خصوصا وان (الطبري) كان قد ذكرها من غير نفي في تفسيره كما في تاريخه. يقول (ابن الأثير) وهو يبرر عودة رهط من مهاجري المسلمين من (الحبشة) في شوال سنة خمس من النبوة (السنة الثانية من إعلان الدعوة)، إن (سبب قدومهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه لما رأى مباعدة قومه شق عليه وتمنى أن يأتيه الله بشئ يقاربهم به وحدّث نفسه بذلك. فانزل الله (والنجم إذا هوى) فلما وصل إلى قوله (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) ألقى الشيطان على لسانه لما كان تحدث به نفسه (تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجى). فلما سمعت قريش سرهم والمسلمون مصدقون بذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يتهمونه ولا يظنون به سهوا ولا خطأ فلما انتهى إلى سجدة سجد معه المسلمون والمشركون إلا الوليد بن المغيرة، فانه لم يطق السجود لكبره فأخذ كفا من البطحاء فسجد عليها، ثم تفرق الناس. وبلغ الخبر من بالحبشة من المسلمين أن قريشا أسلمت فعاد قوم منهم وتخلف قوم، واتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاخبره بما قرأ فحزن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخاف فانزل الله تعالى (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) فذهب عنه الحزن والخوف) (22).

رواية الزمخشري

ولم أجد من المعتزلة من صدّق بتلك الفرية ووظفها غير (محمود بن عمر الزمخشري) المتوفى عام 538 للهجرة، فهذا الرجل الذي كان إمام عصره واليه تشد الرحال حتى قيل (لولا الكوسج الأعرج لبقي القرآن بكرا) ولُقِّب بالأعرج لبتر رجله، يفسر سبب نزول الآية الكريمة (وما أرسلنا من رسول) (الآية)، بان (رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أعرض عنه قومه وشاقّوه وخالفه عشيرته ولم يشايعوه على ما جاء به تمنى لفرط ضجره من إعراضهم ولحرصه وتهالكه على إسلامهم أن لا ينزل عليه ما ينفرهم لعله يتخذ ذلك طريقا إلى استمالتهم واستنزالهم عن غيهم وعنادهم، فاستمر به ما تمناه حتى نزلت عليه سورة والنجم وهو في نادي قومه وذلك التمني في نفسه، فأخذ يقرأها فلما بلغ قوله (ومناة الثالثة الأخرى)- (ألقى الشيطان في أمنيته) التي تمناها: أي وسوس إليه بما شيعها به، فسبق لسانه على سبيل السهو والغلط إلى ان قال: تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجى. وروى الغرانقة ولم يفطن له حتى أدركته العصمة فتنبه عليه. وقيل نبهه عليه جبريل عليه السلام (24).

فالرجل الذي فسر القرآن ليكشف عن حقائق التنزيل، ناقلا عيون الأقاويل في وجوه التأويل، لم يكن موفقا في هذا الغرض الذي اشترطه لتفسيره. عموما فان لنا أن نستغرب في رواية يرويها ويبني عليها عالم كهذا الرجل ويفسر القرآن بها وهو لا يعرف مصدرها مع انه جدير بان يأخذ عنه لولا تلك القناعة المرفوضة برواية الغرانيق العلى، فهو قد عاش في زمن يعد فيه فحص وتدقيق الإسناد من الأمور المفروغ منها وإن إسقاط وإهمال مالا سند له أو يشك في بعض حلقات إسناده، أمر مؤكد.

تضعيف القرطبي للرواية

روى (القرطبي) عن (الليث عن يونس عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام) قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (والنجم إذا هوى) فلما بلغ (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) سها فقال (إن شفاعتهن ترتجى) فلقيه المشركون والذين في قلوبهم مرض فسلموا عليه ومزحوا فقال (إن ذلك من الشيطان) فأنزل الله تعالى (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي) (الآية). قال (النحاس) وهذا حديث منقطع وفيه هذا الأمر العظيم. وكذا حديث (قتادة) وزاد فيه (وإنهنّ لهنّ الغرانيق العلى).

ثم يروي عن أستاذه (أبي بكر بن البزار) الذي قرأ عليه الحديث، قوله: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره إلا ما رواه (شعبة) عن (أبي بشر) عن (سعيد بن جبير) عن (ابن عباس) فيما أحسب0 الشك في الحديث إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان بمكة.. وذكر القصة، ولم يسنده عن (شعبة) إلا (أمية بن خالد) وغيره يرسله عن (سعيد بن جبير). وإنما يعرف (الكلبي) عن (أبي صالح) عن (ابن عباس).

إلا إن (القرطبي) يخفف من حماسته بسبب تأثره بثقافة زمانه حيث يقول مشيرا إلى ترتيل الرسول (ص) للقرآن وتفصيله الآي تفصيلا (وكما رواه الثقات، فيمكن ترصد الشيطان لتلك السكنات ودسّه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات، محاكيا نغمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولم يقدح ذلك عند المسلمين لحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله، وتحققهم من حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذم الأوثان وعيبها ما عرف عنه) (25). فمما لاشك فيه إن قناعته بقدرة الشيطان على فعل ذلك (بسبب تأثره بثقافة ذلك الزمان)، أكسبت الرواية بعض الواقعية (حسب اعتقاده الذي نلمسه من خلال تناوله الرواية) وان كان قد اسند الفعل للشيطان وان الرسول (ص) لم يتفوه بذلك. وكأن (القرطبي) لم يستذكر ما قاله (ابن عباس) برواية (الشيخين الترمذي والنسائي) وهو يتكلم عن استماع الجن لتلاوة القرآن فيقول (وقد حيل بين الشياطين بين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب) ولو أن (القرطبي) رحمه الله قد استدرك بوصف المشركين الذين كانوا وقتها (يلغون) في القرآن كما يرى مولانا (شبلي نعماني) من رأي ينقله عنه (الدكتور عبد العزيز كامل) لكان قد قارب المرام، والرأي الذي أشرنا إليه يقول (والحقيقة هي ان المشركين كان من عاداتهم إذا سمعوا الرسول عليه الصلاة والسلام يقرأ القرآن صاحوا، وأضافوا بعض قولهم إلى ما يسمعون، ويوضح القرآن ذلك في قول الله تعالى (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه لعلكم تغلبون).. وإن بعض هؤلاء الشياطين كرر هذه الكلمات أو صاح بها عندما قرأ الرسول صلى الله عليه آله وسلم سورة النجم. وظن بعض الحاضرين ممن كانوا بعيدين عن الرسول انه هو الذي قالها)(26).

بقي أن نشير إلى إن كون (الزهري) المتوفى عام 124 للهجرة يشكل إحدى حلقات إسناد الرواية التي إعتمدها (القرطبي) يستحق منا وقفة، فثمة شهادة لأبي الزناد يرويها (الذهبي) بحق (الزهري) لابد من توثيقها هنا، فهو يقول (كنا نطوف مع الزهري على العلماء ومعه ألواح يكتب كل ما سمع) (27) فالتطواف الكثير وغزارة التدوين، لا يتركان متسعا من وقت يستثمر في تدقيق وتمحيص، مما يسمح بتسرب الغث بإزاء السمين، وما رواية (الزهري) لفرية (الغرانيق) غير دليل على ماذهبنا اليه.

تناقض السيوطي

على الرغم من التخصص القرآني الذي انماز به (جلال الدين عبد الرحمن السيوطي) إلا انه وقع في تناقض وهو يتناول هذا الأمر، فهو قد ضعّفه في أسباب النزول قائلا (إن طرق هذه الرواية كلها ضعيفة أو منقطعة سوى طريق واحد لسعيد بن جبير) ثم قال نقلا عن (ابن حجر) انه (حكي عن ابن العربي وعياض إن هذه الروايات باطلة لا أصل لها) مع إن (الدميري) يسند الرواية ذاتها إلى (عياض) كما سنرى ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. في حين يتخلى عن تحفظاته التضعيفية تلك عندما يتصدى لتفسير القرآن في (تفسيرالجلالين) حيث يقطع بصحة الرواية (ربما لتوهمه بصحة إسنادها إلى سعيد بن جبير) قائلا (وقد قرأ النبي صلى الله وآله عليه وسلم في سورة النجم بمجلس من قريش بعد أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى بالقاء الشيطان على لسانه من غير علمه صلى الله عليه وآله وسلم، به، تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجى ففرحوا بذلك ثم اخبره جبرائيل بما ألقاه الشيطان على لسانه فحزن فسلّي بهذه الآية ليطمئن) (28).

الكلبي المتهم

رأينا (القرطبي) فيما تقدم وهو يتهم ما ذكره (الواقدي) بأنه (منكر ومنقطع) وإن (الواقدي) ذاته متهم بانه (يسرد الإسرائيليات ويسرد الخرافات) كما نقلنا عن (عمر فروخ) في موضع سابق. ولكن ما ينبغي التحري عنه هو التهمة التي وجهها (القرطبي) إلى (الكلبي) فهو أقدم من روى تلك الحكاية، وان المؤرخين الولعين بالشاذ والغريب كالواقدي إنما اعتمدوا على ما وضع الرجل فوثّقوه. فالتعمق في هذا التحري قد يقودنا إلى أساس الفرية ويضعنا في موضع متقدم من فهم أصولها وحيثياتها.

فعندما يأتي (ياقوت) على ذكر (العزّى) يقول (وكانت أعظم الأصنام عند قريش، وكانوا يزورونها ويهدون لها ويتقربون عندها بالذبائح، قال أبو المنذر: وقد بلغنا إن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم ذكرها يوما فقال: لقد اهتديت للعزى شاة عفراء وأنا على دين قومي، وكانت قريش تطوف بالكعبة وتقول: واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى فإنهن الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، وكانوا يقولون بنات الله، عز وجل، وهن يشفعن إليه (40) فلما بعث رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أنزل عليه: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى الكم الذكر وله الأنثى تلك إذن قسمة ضيزى. إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وإباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان).

البضاعة الكلبية في معرض ياقوت

لاحظنا من استعراض النزر القليل الذي نقلناه عن (هشام الكلبي)، إنه ابن رجل غير حريص على الإسلام، فهو من (الغلاة) عبّاد (علي بن أبي طالب)، مع إنه يروي عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس، وان ذلك أوهى طرق الحديث، وأن (ياقوت) الرجل المولع بالنشاز قد وجد فيه الضالة المنشودة، فلو رجعنا إلى ما رواه (ياقوت) من إن (في الصخرة (التي تمثل اللات) وفي العزى شيطانان يكلمان الناس) (29) وانه لم يسند قوله ذلك لأحد من الرواة، ثم حكاية تلك الخنّاسة التي برزت لخالد من اصل وثن (العزى) فإننا سنكون أمام تلفيق تاريخي ضخم يساعد في مروره نوع الثقافة السائدة بين الناس عصر ذاك، وما يعمر عقولهم من خرافات تشكل اللاوعي عندهم فقد (كان في العصور الأولى للإسلام نزعات جاهلية) كما يجزم (احمد أمين)، وإن مما يؤيد ما ذهبنا إليه خرافة (الغرانيق) التي اقتحمت نعش (ابن عباس) التي مر بنا ذكر منها، ربما ليشفعن له عند الله تعالى!!

نلاحظ إذن الترابط بين الأوثان والشياطين والغرانيق في صنع تلك الخرافات التي لاشك إن بعضها مفبرك من قبل من في نفسه مرض. فالناس لم يروا الشياطين جهرة، وإلا لما كان سبحانه وتعالى قد استخدمها للتشبيه عندما وصف شجرة الزقوم فإن (طلعها كأنه رؤوس الشياطين) (30) مع إن سورة الصافات (مكية) أي إن نزولها بين الناس الذين يفترض إن الشياطين تتقافز أمامهم من وثن لآخر وتكلمهم.

أما جرأة (هشام بن الكلبي) على شخص الرسول (ص) وادعائه انه (قد بلغه) إن النبي (ص) ذكر (العزّى) يوما فقال (لقد اهتديت للعزى شاة عفراء وأنا على دين قومي) كما مر بنا في موضع سابق، فهو أمر منفر لا ينبغي الرد عليه لولا إن السكوت عليه أكثر مرارة واشد تنفيرا، فهل نصدق هذا الحديث أم ذلك الذي يقول فيه (ص) إنه (والله ما بغضت بغض هذه الأصنام شيئا قط) (31). وكان المسلمون متحققون من حال النبي (ص) في ذم الأوثان وعيبها ما عرف عنه كما مربنا من قول للقرطبي. ثم إن ثمة (شيعة من العرب تدعى بالحنيفية، أبت أن تقر بالألوهية لأصنام الكعبة وقامت تنادي باله واحد يجب أن يكون البشر جميعا عبيدا له وان يعبدوه راضين) (32)، فلماذا لم يختر سبحانه وتعالى واحدا من تلك الشيعة ليبلغ رسالته لو إن (محمدا عليه الصلاة والسلام) كان على دين قومه وانه كان قد قارب تلك الأصنام وأهدى لها والعياذ بالله؟.

مناقشة الرواية

سنناقش الرواية بحسب ذكرها من قبل المؤرخين والمفسرين عدا عما ذكرناه في موضعه، مما سوف لن نكرره تحاشيا للإطالة:

أولا: على الرغم من إن (الطبري)، يدّعي إن (محمد بن اسحق) يشكل حلقة في سلسلة الإسناد، وان (ابن اسحق) يزندق من يرى صحة تلك الحكاية كما مربنا، وان (أبو بكر احمد بن الحسين البيهقي) نفى صحة تلك الرواية وطعن في رواتها (33) مما يعد طعنا لادعاء (الطبري)، فان كلا الروايتين تنتهيان عند (القرظي)، والرجل مثله مثل (كعب الأحبار) و (النعمان السبأي) وهم جميعا يهود اسلموا و (إن في اغلب الروايات التي يتصل سندها بأي منهم وبغيرهم من مسلمة يهود طابع القصص الإسرائيلي. وفي أغلبه دس على الرسول وعلى الإسلام كما في قصة الغرانيق وفي أمور أخرى. ويظهر من دراسة هذا النوع من القصص إن أصحابه كانوا يريدون من روايته ونشره وإدخاله بين المسلمين أمرا، وان قلوبهم لم تكن مسلمة كألسنتهم) (34) فهم حاولوا تكرار تجربة سلفهم (شاؤول) مع النصرانية والذي عرف بعد (تنصره) بإسم (بولص) وغذى الديانة الجديدة بما شاء تغذيتها به، ولكن محاولتهم فشلت وبقي الإسلام كما هو ناصعا إلا من بعض روايات دسوها في تراثه يعرف الجميع إنها لا تستحق غير الازدراء كالتي تروي فرية (الغرانيق).

ثانيا: أثيرت طعون شتى بخصوص صدقية مصادر معلومات (الطبري) في تفسيره كما في تاريخه، ومنها (ابن جريج)، فان (الكثير مما يرويه (الطبري) عن (ابن جريج)، و (ابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، نصراني الأصل، يقول عنه بعض العلماء انه كان يضع الحديث) (35) وإنه (في جمعه لم يقصد الصحة وإنما روى ما ذكر في كل آية من الصحيح والسقيم)(36). وبظني فان هذا الأمر وحده كاف للتروي عند الأخذ عن (الطبري).

ثالثا: لا يعقل إن (جبرائيل عليه السلام) كان نازلا بالآية على النبي (ص) و(إبليس) حاضرا كأنه يسابق الوحي في تلقين النبي (ص) مع وجود حديث في صحيحي (البخاري) و (مسلم) إنه (ص) قال لعمر (يابن الخطاب ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك غير فجك) فهل إن الشيطان يخاف (عمرا) ويهرب عن طريقه بينما يتجرأ على الرسول فيدس على لسانه الكريم؟، وإلا فأين صار المنع المفروض على الشياطين بخصوص الاستماع إلى التنزيل (فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا) (37) وأين كان الرصد الذي يسلك بين يدي الرسول ومن خلفه (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا* إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا* ليعلم إن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شئ عددا)(38) وان الله تعالى كان يراقب حركة لسان النبي (ص) وهو يتلقى الوحي (لا تحرك به لسانك لتعجل به) (39) فكيف وهو يضيف على التنزيل شيئا من كفر (والعياذ بالله)؟ أما قوله (سنقرؤك فلا تنسى* إلا ما شاء الله انه يعلم الجهر وما يخفى) (40) فتدلل على انه (ص) لن ينس الآيات فما بالك بحاله ساعة النزول؟ ثم إنه لم يثبت إن (جبريل عليه السلام) كان ينزل مساءً ليدقق استيعاب الرسول لما لقنه إياه ضحى.

رابعا: إن حشر (الطبري) لآيتين في هذه المسألة (الأولى: وما أرسلنا من قبلك (الآية)، والثانية: وان كادوا (الآية)) من شأنه خلق إرباك في تحديد أسباب النزول وتأثر ثقة المسلمين بما يذكره المفسرون، مع اختلاف المفسرين في أسباب نزول كل منهما ولو إن (الطبري) حاول إيجاد حل لهذه المشكلة عندما وضع تسلسلا من فقرتين لتينك الآيتين. أما المسلمون الذين ينكرون حصول قضية (الغرانيق) فان مسألة أسباب نزول الآيتين عندهم ستكون مشكلة عويصة قد يصعب حلها مع إصرار المفسرين الآخرين على صحة الرواية، مع الأخذ بالاعتبار الإرباك الذي ساهم به (الواقدي) عندما ادعى إن الآية التي نزلت عقب ذلك هي (ولولا أن نثبتك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) (41)، وان الإصرار على الربط بين تلك الآيات وفرية (الغرانيق) يجعل المرء غير المعني بالتحقق على شئ من الوثوق، خصوصا لو انه حل إشكال الآية التي نزلت لهذا السبب.

خامسا: لم يسند (ابن الأثير) ولا (الزمخشري) الرواية، وقد بدا وكأنهما مصدريها، مع إن (الزمخشري) استعمل كلمة (قيل) عندما حاول أن يشرح كيف انه (ص) أحس بما حصل (حسب زعمه) ولربما بسبب الطعن الذي وجه لرواتها، فان (البخاري) عندما يعرض لنزول سورة (النجم)، فانه لم يتطرق إلى فرية الغرانيق.

سادسا: إن تفسير معنى (الأمنية) الواردة في الآية بالتلاوة أو القراءة كرّس من زعم الزاعمين بصحة رواية (الغرانيق) باعتداد إن لإبليس القدرة على إدخال ما يشاء على تلاوة كل نبي أو رسول، وان هذا أمر متحقق (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم) وهذا زعم خطير، وانه لم يعلم احد انه تكرر في غير قضية نزول آية (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى).. الصحيح هو إن المراد بالأمنية هو (التمني)، يقول (الفيروز آبادي) عندما يعلل تسمية (منى) البقعة التي بمكة، فيقول (لما أراد جبريل عليه السلام أن يفارق آدم قال له تمنّ، قال أتمنى الجنة، فسميت منى لأمنية آدم) (42)، فلو صح إن النبي (ص) تمنى صلاح ذات البين وكسب ود قومه (سواء تمنيه نزول ما يليّنهم أو بعدم نزول ما ينفّرهم، مع الاختلاف في ذلك)، فلا ينبغي أن ينصرف تفكيرنا إلى إن الأمنية هنا (التلاوة)، والا لماذا ألقى الشيطان في هذه التلاوة بالذات دون سواها؟ مع وجود ربط لدى الجميع بين تمني الرسول (ص) صلاح قومه وبين هذه الآية مما لا يجب إغفاله، فان إغفاله كان بعض تكريس فرية (الغرانيق). ان المراد بالنسخ هو ما ينطوي عليه التمني من وسوسة بالباطل والحديث بمعصية وإغراء بها، حيث ينسخ تعالى ذلك كله ويبدله بما يخالف الشيطان ويقوي القلب على عصيان أمره.

سابعا: لو صح إن (إبليس) ألقى ماالقى، فكيف نفسر (إسلام شيطان النبي) في حديث (عائشة) برواية (مسلم) عندما غارت على الرسول (ص) فقال لها (أقد جاءك شيطانك؟) وعقب حوار طويل سألته عما إذا كان معه شيطان فقال (نعم، ولكن ربي أعانني عليه حتى اسلم)؟ ثم لنتساءل عن موقف ذلك الشيطان المسلم والذي يرافق النبي (ص) كما يفهم من الحديث ودوره عندما جاء شيطان واضعي رواية (الغرانيق) ليوسوس أو يضع ما وضع على لسان الرسول، فنقول أفلم يكن جديرا به أن يدفع بالشيطان الكافر الذي جاء يوسوس ويشوش؟.

الجرأة على شخص الرسول (ص)

لقد مارس البعض أسلوب التجريح في شخص الرسول (ص) وتعاملوا مع أخباره كما يتعاملون مع أخبار أي من الناس من غير أعتبار لمكانة خصه الله تعالى بها، ولا تمحيص لقول قد ينطوي على إساءة، الم يدعي البعض بان آية (عبس وتولى*أن جاءه الأعمى) (43) نزلت بحق الرسول (ص) وبذا فانهم تجاهلوا الشهادة الكبرى التي شرّفه بها سبحانه وتعالى (وانك لعلى خلق عظيم) (44) والأمر الإلهي للناس جميعا (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)(45) وانه (ص) كان يفخر بأن (أدبني ربي فأحسن تأديبي) فأين هذا العبوس والتولي من الخلق الرباني العظيم والأدب الذي يفخر به (ص) الذي برأه من هذا السلوك الفظ (لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) (46).

اما حديث السهو الذي أصابه (ص) فهو إن عرض على عقل يعي شخصية الرسول (ص) وفلسفة الصلاة حق الوعي فلن يصدقه، فقد روى (النسائي) انه (ص) صلى بالمسلمين إحدى صلاتي العشي (وفي رواية أخرى صلاة العصر) وسلّم بعد ركعتين وعندما سأله (ذو اليدين) ما إذا قصرت الصلاة أم انه نسى، فانكر (ص) وسأل الحاضرين (أصدق ذو اليدين؟) فقالوا: نعم، فأتم رسول الله (ص) ما بقي من الصلاة ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم (47)، ويعيد (النسائي) الرواية بوجوه عدة كلها تسئ إلى شخص الرسول (ص). ثم يورد حكاية مماثلة وإذا به (ص) يصلي الظهر خمسا وانه قال (إنما أنا بشر أنسى كما تنسون) (48) وهنا نتساءل، ماذا بقي من قيمة للصلاة والمثول بين يدي رب العزة إذا كان الرسول (ص) يقف في صلاته شارد الذهن متشاغلا عن (قرة عينه) الصلاة، إذا كان ضميرنا (نحن المقصرين) يؤنبنا عندما يشرد منا الذهن في الصلاة ولو لبرهة، فما بالك بالرسول (ص)؟

لقد شجعت (النزعة الوثنية) التي حاول (الكلبي) ومن نهج على خطاه إلصاقها بشخص الرسول (ص) المستشرقين على تأسيس قواعد وثنية للفكر الإسلامي، فقد زعم (كرونباوم) أن النبي (ص) نفسه أحدث سابقة بخصوص تقليد الوثنيين (حين أسبغ الصفة الإسلامية على شعائر الحج الجاهلية وأدخلها في الحج الإسلامي بمكة وعرفة ومنى. وعلى هذا النحو تُعَدّ زيارة منطقة المسجد في بيت المقدس) (49). وعلى الرغم من تميز (جوزيف شاخت) بما وصفه (عبد الرحمن بدوي) بالحرص (على الدقة العلمية في عرض المذاهب الفقهية وفي دراسة أمور الفقه) (50) إلا انه تجرد عن كل ذلك التميز عندما عد المواريث والقصاص والرهن و (الأسوة الحسنة) والقضاء من أمور وردت في القرآن إنما هي من ترسبات الفكر الجاهلي في عقل النبي الذي (لم يك يهدف برسالته إلى وضع نظام جديد للقانون، بل كان هدفه ان يعلّم الناس كيف يتصرفون وماذا يجتنبون لينالوا الفوز يوم الحساب ويدخلوا الجنة) واستشهد بمزاعم عدو الإسلام الذي طعن فيه كثيرا (يوحنا الدمشقي) ومنها (ان الإصرار على طلب الشهود كان من العادات التي تميز بها العرب) بينما يدّعي (إن تحريم الإسلام للربا لم يكن بسبب أحوال مكة بقدر ما هو راجع إلى معرفة الرسول الوثيقة بعقائد اليهود وأعمالهم في المدينة) (51) ولم يشذ عن هذا التخريب (هاملتون جب) الذي عد الحجر الأسود من الرموز الروحية الجاهلية التي نقل النبي (ص) تقديسها إلى الإسلام عادا اياه شعيرة مرتبطة بالاله الواحد، وبذا يخلص وهو مرتاح الضميرالى انه (ما تزال بعض المواقف والمعتقدات المستمدة من الروحية البدائية راسبة في مبنى الفكر الديني بين جميع الشعوب الإسلامية) (52) فهو نقل مبطن لا يخفي دواخله وأهدافه تنميق الأسلوب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* كاتب ومؤرخ عراقي

الهوامش

1- كمال الدين الدميري، حياة الحيوان الكبرى، دار الفكر، بيروت بلا ج2 ص181

2- رينهارت دوزي، تكملة المعاجم العربية، ترجمة محمد سليم ألنعيمي،، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد1992ج7ص402

3- الخليل بن احمد الفراهيدي، كتاب العين، تحقيق الدكتور مهدي المخزومي والدكتورابراهيم السامرائي، الشؤون الثقافية العامة، بغداد1985ج8 ص458

4- بروكلمان (مصدر سابق) هامش ص34

5- عمر بن بحر الجاحظ، كتاب الحيوان، تحقيق عبد السلام محمد هارون، المجمع العلمي العربي الإسلامي، بيروت1969، ج4ص51

6- المصدر السابق ج3ص328

7- المصدر السابق، ج5ص538

8- انظر هامش عمر فروخ، تاريخ الشعوب الإسلامية (مصدر سابق) ص35

9- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربيةط2 1967 ج14 ص158

10- الحج: 52        

11- محمد حسين هيكل، حياة محمد، مطبعة مصر، القاهرة 1354ص125

12- ابن أبي الحديد، (مصدر سابق) ج7 ص19

13- أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، الملل والنحل، دار المعرفة، بيروت، بلا ج1 ص 108

14- ابن أبي الحديد، (مصدر سابق) ج7 ص19

15- السيخ قاسم القيسي (تاريخ التفسير) المجمع العلمي العراقي ـبغداد 1955 ص126

16- المرجع السابق ص138  

17- المرجع السابق ص139-140

18- نفس المرجع ص141    

19- المرجع السابق ص149

20- الإسراء: 73     

21- الإسراء: 75

22- أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك، دارا لقاموس الحديث، بلا، ج2ص226 ـ228

23- علي بن أبي الكرم محمد ابن الأثير، الكامل في التاريخ، دار الفكر، بيروت1978ج2ص52 ـ53

24- أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، طباعة: انتشارات آفتاب، طهران، بلا ج3 ص19

25- أبو عبد الله القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق احمد عبد العليم البرد وني وأبو اسحق اطيفش، دارا لكتب، القاهرة، ط2، ج12 ص80 ـ81

26- راجع بحث الدكتور عبد العزيز كامل آنفا (ص75). أما (وقال الذين كفروا)فهي الآية 26 من سورة فصلت.

27- شاكر مصطفى، التاريخ العربي والمؤرخون، دار العلم للملايين، بيروت ط3 1983ج1ص95

28- جلال الدين السيوطي، تفسير الجلالين ص

29- ياقوت الحموي، معجم البلدان، دار صادربيروت1979ج5ص4

30- الصافات: 65    

31- محمد جميل بيهم، فلسفة تاريخ محمد، بيروت بلا ص190

32- وول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران، الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، بلا ج13 ص24

33- محسن الأمين، معادن الجوهر ونزهة الخواطر في علوم الأوائل والأواخر، المكتبة العصرية، صيدا، بلا ص101

34- د. جواد علي (مصدر سابق) ص33

35- احمد أمين، فجر الإسلام، دار الكتاب العربي بيروت بلا ص205

36- المصدر السابق ص203             37- الجن: 9

38- الجن: 26 28             39- القيامة: 16

40- الأعلى: 6 7              41- الإسراء: 74

42- مجد الدين بن يعقوب الفيروز آبادي، القاموس المحيط، مكتبة مصطفى ألبابي الحلبي، مصر ط2 1952ج4 ص394                43- عبس: 1 2

44- القلم: 4   ف      45- الأحزاب: 21

46- آل عمران: 159

47- النسائي، سنن النسائي بشرح السيوطي الجزء الثالث، كتاب السهو، ص22 ـ23.

48- المصدر السابق: ص32.

49- كرونباوم، (مصدر سابق) ص48.

50- د. عبد الرحمن بدوي (مصدر سابق) ص255.

51- لمزيد من التفاصيل راجع بحثه الموسوم (القانون) في (الوحدة والتنوع في الحضارة الإسلامية) (مصدر سابق) ص95ـ120.

52- هاملتون جب، دراسات في حضارة الإسلام، تحرير ستانفورد شو، و وليم بولك، ترجمة د. إحسان عباس و د. محمد يوسف.

نجم و د. محمود زايد، دار العلم للملايين، بيروت1964 ص243 ـ244  

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا