الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

ردك على هذا الموضوع

مراثي متمم بن نويرة

وثائق تجلي الحقيقة

د. خوله حسن يونس

طالما رددت كتب الأدب العربي إن الشعر ديوان العرب وسجل مآثرهم ومفاخرهم، فهو تاريخ بحد ذاته، وسأنطلق من هنا، لبيان مداهنة المؤرخين في نقل الحقائق على الرغم من رؤيتهم الحقيقية لتلك الحوادث، وذلك انحياز لجهة التزموها، أو لخليفة يرضونه، أو لوزير يأخذون نواله وعطاياه، ومن الشخصيات التي ظلمها المؤرخون، على الرغم من ظهور حقيقتها كضوء الشمس مالك بن نويرة تلك الشخصية التي أُتّهمتْ بالارتداد عن الدين الإسلامي بعد وفاة الرسول الأعظم محمد (ص) في خلافة أبي بكر، والحادثة مشهورة، وقد أردت بادئ ذي بدء أن أنسلخ من الحوادث التاريخية لإثبات عدم ارتداد مالك والانطلاق من مراثي أخيه متمم التي لم تنقطع منذ وفاة مالك إلى وفاة متمم، إلا أنني وجدت حقيقة الموضوع واضحة في كتب التاريخ المعتمدة، ومتجسدة فيها بطريق لا تبيح للباحث تجاوزها، ومن هنا كان لزاما عليّ أن أتناول الموضوع من جوانب ثلاثة ينطلق الجانب الأول من شعر متمم في رثائه لأخيه مالك، ويتضمن الثاني أخلاق مالك وإسلامه، والثالث سير الحادثة في كتب التاريخ.

أما الجانب الأول فالمدخل فيه سيكون من نقطة مهمة ويسيرة في الوقت نفسه، فلا يخفى على ذي لب إن الإيمان في نفوس المسلمين الأوائل كان قويا، ومن غير المعقول أن يكون مالك كافرا، والأدهى مرتدا، ويصر متمم على رثائه طيلة حياته، فالأولى به إن كان أخوه مرتدا أن يهجوه انتصارا للإسلام، أو أن يتبرأ منه كما فعل بجير بن زهير أخو كعب بن زهير الشاعر المعروف بقصيدته المشهورة المعروفة بالبردة، فعندما أهدر الرسول الأعظم (ص) دمه، ودخل على الرسول وفي حضرته عدد من المسلمين، وفيهم أخوه بجير، فكان سيف أخيه أوّل سيف سلّ في وجهه، امتثالا وتعظيما لأمر رسول الله (ص) بغض النظر عن أن كعبا أخوه والحالة معروفة، فكيف بمتمم بن نويرة الذي لم ترد عنه أية أخبار تقدح في صحة إسلامه[1]؟! وقد ورد ذكره في كتب الصحابة[2].

لقد عُدّت مراثي متمم لأخيه مالك من أجمل المراثي التي قيلت في مرثي، لصدق عاطفتها الحزينة، الملأى بحسرات لا تنتهي، فضلا عن الصور النبيلة التي رسمها متمم في وصف سجايا أخيه من كرم وحياء وشجاعة وحماية الجار، مما جعل ابن سلام (ت 231هـ) يصدّر به طبقة أصحاب المراثي في كتابه طبقات فحول الشعراء[3]. ولو تجاوزنا كل قصائد متمم في رثاء مالك ووقفنا عند أحد أبياته لكان دليلا كافيا على إسلام مالك وهو قوله:[4]

نعم القتيل إذا الرياح تناوحت

خلف البيوت قتلتَ يا ابن الأزور

أدعوته بالله ثم غدرتــــه

لو هو دعاك بذمة لم يغــــدر

لا يمسك الفحشاء تحت ثيابـه

حلو شمائله عفيف المئــــزر

أمن المعقول أن يوصف مشرك بالله، مرتد عن دين نبيه بأنه (نعم القتيل) وكيف يمدحه متمم بهذا المديح ولا يشك أحد في صحة إسلامه؟! وله في مطلع قصيدة أخرى:

أقول لها لما نهتني عن البكا

أفي مالك تلحينني أم خالد

 ففي البيت استفهام إنكاري ينكر فيه الشاعر على عاذلته ومتعجبا من نهيها له عن البكاء، لأن من يبكيه يستحق الحزن والبكاء فلماذا هو التعجب؟ ولماذا الإنكار؟ إن كان المرثي لا يستحق الرثاء؟! فهذا الاستفهام الإنكاري دليل على استحقاقه الرثاء وهذا لا يخفى على ذي عينين، وأسمعه في أخرى وهو يقول[5] في مديحه ووجوب البكاء عليه:

وما كان وقّافا إذا الخيل أحجمت

ولا طائشا عند اللقاء مدفعـــا

فعينيّ هلا تبكيان لمالـــــك

إذا أذرت الريح الكنيف المرفّعـا

وإن كان من المنطق أن يرثيه من عاش في كنفه وتحت ظله وهو أخوه، فلماذا يرثيه شاعر إسلامي آخر ويبكيه بحسرة وتألم، مؤكدا أنه إنما قُتل بسبب عشق خالد بن الوليد لزوجته الجميلة، وليس لكونه مرتدا، فقد رثاه أبو زهير السعدي فقال[6]:

ألا قل لحيّ أُطئوا بالسنابــك

تطاول هذا الليل من بعد مالـك

قضى خالد بغيا عليه لعرسـه

وكان له فيها هوى قبل ذلـــك

فأمضى هواه خالد غير عاطف

عنان الهوى عنها ولا متمالــك

وأصبح ذا أهل وأصبح مالـك

إلى غير شيء هالكا في الهوالـك

لا أظن أن هذه الأبيات تحتاج إلى تعليق، وهل يشك عاقل بعد هذا الرثاء وبعد تكرار مراثي متمم لأخيه أن مالكا مرتدٌ؟! وألا يقدح تكرار الرثاء والتأكيد على بكائه الأذهان إلى أن موت هذا الشخص مظلوما كان داعية للبكاء عليه، فربما لو مات في الحرب أو نتيجة لسقم أصابه ما بقي يرثيه عند رؤيته لحدث هالك فيقول:

فقلت لهم أن الشجا يبعث الشجا

دعوني فهذا كله قبر مالك

وهذا ما أكده متمم للخليفة الثاني عمر بن الخطاب عندما سأله عن شدة حزنه على أخيه، وقد كان متمم أعورا، فقال (كانت عيني هذه قد ذهبت وأشار إليها فبكيت بالصحيحة فأكثرت البكاء حتى ساعدتها الذاهبة)[7] ولو أمعنا النظر في قوله حتى ساعدتها الذاهبة سيتبين لنا أن عينه الأخرى التي يفترض أنها عوراء لا تبكي قد بكت أيضا من شدة حزنه على أخيه مما حدا بعمر بن الخطاب أن يعزيه فيه- وسنفصل القول لاحقا في موقف عمر من هذه الحادثة – وتمنى عمر لو كان شاعرا كمتمم ليرثي أخاه زيدا الذي قتل في يوم اليمامة، ونقل أمنيته هذه إلى متمم بأنه لو كان أخوه قتل كما قتل زيد يوم اليمامة ما حزن عليه[8]، والمتمعن في فحوى هذه الرواية يجد أن حزن متمم متأت من طريقة مقتل أخيه، فلو كان أخوه قد قتل في ساحة قتال ما حزن عليه، وقد حرّف عدد من المؤرخين هذه الرواية ونقلها بطريقة أخرى توهم أن سبب حزن متمم هو أن مالكا لم يمت على ما مات عليه زيد أخو عمر وهو الإسلام، ويبدو أن ابن سعد صاحب الطبقات الكبرى هو الذي سنّ هذه الرواية وتبعه كل من أتى بعده من القوم، ونص هذه الرواية هو أن متمما قال لعمر (لو إن أخي مات على ما مات عليه أخوك ما رثيته)[9]، ولا أرى صحة هذه الرواية، لأنه لا يجوز لمسلم أن يحزن على أخ له ترك الدين الإسلامي وهو من المسلمين الأوائل، ولا سيما أن القرآن الكريم لم يبح الحزن أو الشفاعة لولد عاق مشرك، من والده، وهو ابن النبي نوح (ع) حين عصاه وأراد النبي (ع) أن ينجيه من الغرق، إلا أن الباري عز وجل أوحى إليه أن (ولا تخاطبني في الذين ظلموا أنهم مغرقون) هود 37، وأكد له أنه (عمل غير صالح) هود 46، فكيف يبيح متمم لنفسه رثاء أخيه المشرك ولا يراعي أية حرمة للإسلام؟ والذي يثير الاستغراب أن الدكتورة ابتسام الصفار العالمة الجليلة تبعت هؤلاء المؤرخين في هذه الرواية من غير محاولة جادة لمناقشة تلك الآراء[10]، أما الدليل الآخر على صحة إسلام مالك فهو سيرته الحسنة في الإسلام ومصاحبته للرسول وعلمه في أصول الفقه، وسأكتفي بروايتين فقط تعزز هذا الحكم، أما الأولى فقد بعثه الرسول محمد (ص) على صدقات بني حنظلة، وكان في من بعثهم على جباية الصدقات الإمام علي (ع) وعدي بن حاتم[11]، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن الاختيار لم يكن عشوائيا، بل هو اختيار لصحابة ثقاة.

وللطبري رواية مهمة تدل على مكانة مالك عند رسول الله (ص) وإتقانه أصول الفقه، فقد شارك رسول الله (ص) في هديه في أحد مواسم الحج وبقي على إحرامه مع رسول الله (ص) حتى فرغا من الحج، ونحر رسول الله (ص) الهدي عنهما، وقد علّم عائشة بأنه يجوز لها القيام بأعمال الحج كلها ما عدا الطواف إن حدث لها عذر شرعي أثناء أيام الحج، حين تأوهت أمامه وأخبرته بأسفها على قدومها للحج هذا العام وتحملها مشاق الحج فأحدثت أثناءه، وظنّت أن لا حج لها فبيّن لها الحكم الشرعي منها[12]، أما الدليل الثالث فهو التاريخ، وسأستند فيه إلى كتب التاريخ التي أكدت أن سبب مقتل مالك هو امتناعه عن أداء الزكاة للخليفة الأول التزاما منه لعهده مع رسول الله (ص) يوم غدير خم، وانتظارا منه أن يحق الحق فتؤول الخلافة إلى أمير المؤمنين (ع) [13]، وسأكتفي بكتب التاريخ المعتمدة ولدى مؤلفي تاريخ الأدب العربي أمثال شوقي ضيف وغيره، ولن نتطرق إلى علاقة الموضوع بالخلافة، إذ إن هذا لا يعنينا بشيء، وما يعنينا هو مقتله مسلما أم كافرا، ومما يثير الاستغراب أن كتب التاريخ تذكر الحادثة بما يؤكد إسلام مالك ويصرون على تكفيره، ولا نعرف السر في الإصرار على هذا الاتهام! ويمكننا تقسيم أدلة التاريخ إلى قسمين، الأول: نص الحادثة، والآخر: ردة فعل الخليفة الثاني وتودية مالك (أي دفع ديّة دمه)، أما نص الحادثة، فقد كان توتر الحوار بين خالد بن الوليد ومالك بن نويرة دليل على وجود خلاف ما، إذ إن منع الزكاة ساعد خالدا على النيل من مالك، وكأنه فتح له بابا للانتقام، فقد قال له مالك بن نويرة عندما جاء ليأخذ أموال الزكاة أنه قد جمع أموال الزكاة وتصرف بها، وقد عرض على خالد الصلاة دون الزكاة، فقال له خالد (لا تقبل واحدة دون الأخرى) فقال مالك (قد كان صاحبك يقول ذلك) قال خالد (وما تراه لك صاحبا؟ والله قد هممت أن أضرب عنقك) ثم تجادلا في الكلام طويلا، فقال له خالد (أني قاتلك) قال (أو بذلك أمرك صاحبك) قال (وهذه بعد تلك والله لأقتلنك)[14]، والذي يمعن النظر في هذا النص يلتمس بوضوح لغة الانفعال التي كان يتكلم بها خالدا مع مالك، إذ أن مالكا لم يسب الخليفة الأول ليقسم خالد على قتله، وإن كان سبه أو شتمه أو تعرض لذكره بالسوء، فهل يوجد لدينا في شريعة الإسلام عقابا للشتم بالقتل؟ إذ أن القتل لم يكن قصاصا إلا للقتل كما هو معروف في قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب)، فأين أولوا الألباب الذين سوغوا هذا القتل؟ الذي يثير الاستغراب الإصرار على تزييف هذه الحادثة على الرغم من أن صحابيين جليلين شهدا هذه الواقعة، وكلّما خالدا في أمر مالك، وكره خالد كلامهما ولم يعره شيئا، فطلب منه مالك أن يحول أمره إلى الخليفة ليحكم بنفسه، ولا سيما أنه أوعز إليه أمر أناس آخرين، إلا أن خالدا رفض إيكال الأمر إلى أبي بكر مصرا على قتله، فقال خالد (لا أقالني الله أن أقلتك وتقدم إلى ضرار بن الأزور الأسدي بضرب عنقه فالتفت مالك إلى زوجته أم متمم وقال لخالد (هذه التي قتلتني) فقال خالد (يا ضرار اضرب عنقه، فضرب عنقه وجعل رأسه أُثفية لقدر)[15]، ألا يعد شواء رأس مالك عملا إرهابيا، وتمثيلا بجسد قتيل ينهى عنه الإسلام حتى وإن كان كافرا، بعد هذا الفعل حلف الصحابي أبو قتادة ألا يسير في جيش قائده خالد، لأنه لا يعر كلامه أهمية وسمع كلام الأعراب الذين فتنتهم الغنائم[16].

ولو تجاوزنا كل هذا وعدنا إلى موقف الخليفة أبي بكر وموقف عمر بن الخطاب مما حصل، نجد أن أبا بكر نفسه عندما سمع صنع خالد مع مالك جزع، وودّى مالكا أي دفع الديّة إلى أخيه متمم وأعاد السبايا التي أخذها خالد، إلا أنه حاول تسويغ فعلة خالد بأنه تأول فأخطأ[17] فإن دفع الديّة دليل على أنه مسلم وقُتِلَ عن عمد، فكيف تصمم كتب التاريخ وكتب الأدب على أنه قُتِلَ كافرا؟ والأدهى من هذا كله، موقف الخليفة عمر بن الخطاب، فعند سماعه شهادة من كان حاضرا الواقعة، بأن مالكا قد صلى مع القوم ولم يرتد عن دينه، وأن خالدا أصر على قتله لرؤيته زوجة مالك وإعجابه بها، متمسكا ومتذرعا بمنع مالك دفع الزكاة إليه، لأنه تصرف فيها، طلب من أبي بكر أن يعزله، وقال إن في سيفه رهقا إلا أن أبا بكر رفض ذلك بذريعة التأويل الخاطئ[18].

وقد بقي عمر في زمن أبي بكر يلح على أبي بكر أن يرجمه لأنه زنى حين أقام بزوجة مسلم قبل انقضاء المدة، أو أن يقتله لأنه قتل مسلما، أو أن يعزله، إلا أن أبا بكر رفض بذريعة التأويل الخاطئ، وأن خالد سيف رُفِعَ لنصرة الإسلام، وقد ذكر صاحب كتاب (وفيات الأعيان) أن الواقدي ذكر هذه الرواية والعهدة على القائل![19]، وقد بقي عمر ساخطا على خالد إلى أن تولى الخلافة فكان أول عمل قام به عزل خالدا وولّى أبا عبيدة قائلا أنه لا يلي لي عملا أبدا[20].


[1]. ينظر: الكامل: أبن الأثير 3/ 340، والإصابة في تمييز الصحابة للعسقلاني 3/ 1236

[2]. ينظر: الإصابة 3/340

[3]. ينظر: طبقات فحول الشعراء لابن سلام: 170

[4]. ينظر: وفيات الأعيان لابن خلكان 6/16

[5]. ينظر: الامالي في الأدب الإسلامي: د. ابتسام الصفار

[6]. وفيات الأعيان لابن خلكان 6/ 16

[7]. تاريخ خليفة بن خياط 1/ 104

[8]. نفسه

[9] ينظر: الطبقات الكبرى ج 2/ ق 27502، والكامل: المبرد 3/ 242، والفاضل: 62، والشعر والشعراء: ابن قتيبة: 255، وطبقات فحول الشعراء: 173، أمالي اليزيدي: 25.

[10]. ينظر: الأمالي في الأدب الإسلامي 104- 105

[11]. تاريخ الطبري 2/ 204

[12]. ينظر: نفس المصدر السابق 2/ 204- 205

[13]. وفيات الأعيان.

[14]. وفيات الأعيان/ 6/ 13.

[15]. نفسه.

.16 نفس المصدر السابق، 1/ 376- 378.

.17 ينظر: سير أعلام النبلاء 1/378.

18. نفسه

[19]. وفيات الأعيان 6/16.

[20]. تأريخ الطبري2 /602.

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا