الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

ردك على هذا الموضوع

عن الثقافة والمثقفين

 أوجه وأدوار

ثائر ديب

للثقافة وجهها الرديء فضلاً عن وجهها الساطع المستنير، قد يبدو ذلك مستهجناً للوهلة الأولى، لكنّ واحدة من أبرز الظواهر التي تميّز زمننا بما يشهده من فورة وتعاظم في دور الثقافة وأهميتها، وهي ظاهرة يقتضي تبيّنها أن نتذكر أن الثقافة لا تقتصر، في تعريفها، على (أروع ما أنتجته البشرية) بل تتعدى ذلك إلى كونها تشير أيضاً إلى طرائق الحياة التي تحياها الجماعات المختلفة، وما تقيمه من علاقات متباينة مع تواريخها وتراثاتها وحاضرها ومستقبلها، الأمر الذي يسمح بالكلام على ثقافات الأمم المختلفة والمراحل المختلفة وكذلك على ثقافات مميزة ضمن المجتمع الواحد ذاته.

وإذ تشير الثقافة إلى نمط حياتي محدد فإنها تغدو مقترنة بالهوية أشدّ الاقتران، تلك الهوية التي لا تقتصر على ما يجمع ويوحدّ (في حال وضعها في سياق مستنير) بل تطول أيضاً ما يفرّق ويقيم الاختلاف العنيف (في حال وضعها خارج السياق السابق) وبذلك تغدو الهوية والثقافة (أو الثقافة بوصفها هوية) مصطلحاً مشحوناً بقيمة سلبية مؤذية يمكن أن تنشب الحروب وتطلق مخالب البشر وأنيابهم على حلاقيهم بعضهم بعضاً.. وإلا، كيف يمكن لنا أن نفهم ذلك الانتشار الواسع الآن للرؤية التي تردّ جميع الظواهر إلى تقاليد ثقافية معينة ربما ترجع في النهاية إلى دين بعينه يُرى على أنه القوى المحركة الأولى والأساسية التي تفسر كلاً من التاريخ والاجتماع بدل أن تنفسر بهما؟ كيف لنا أن نفهم ذلك البروز الهائل الذي تبرزه الأصوليات المختلفة، وتلك النزعة الانعزالية التي تقسم العالم إلى ثقافات مختلفة ومتناحرة (دينية أساساً) لا تلتقي إلا في ساحات المعارك؟ وكيف لنا أن نفهم أيضاً تلك النزعة التي تبدو عالمية أو كونية للوهلة الأولى في حين أنها لا تقصد بهذين المفهومين سوى توحيد الثقافة العالمية وتنميطها عن طريق فرض نموذج ثقافي واحد يُرى على أنه جدير بالحلول محلّ كل ما عداه؟ ألسنا أمام انتقال من إقامة العنصرية على أساس بيولوجي أو طبيعي إلى إقامتها على أساس ثقافي، كما في القول إن الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان هي قيم خاصة ومميزة تعبّر عن تركيبة خاصة بالثقافة الأمريكية أو الأوروبية دون أن تكون قيماً كلية تنطبق على البشر جميعاً؟ أليس من اللافت أن تلتقي على مثل هذه الرؤية جميع الأصوليات غرباً وشرقاً، شمالاً وجنوباً، وجميع الطغاة ومثقفوهم على نحو لا تكاد تعرف فيه من الذي يتكلم إذا ما أُخفي الاسم؟

لعلّ ما يجري أمام أعيننا أن يكون ضرباً من اتخاذ العنصريّة شكلاً جديداً يجد في الثقافة أساساً يستند إليه بعد أن تهاوى الأساس القديم المتمثل بالبيولوجيا ثم بالجغرافية والمناخ مما كان يُستخدم في تفسير التفاوت بين البشر وتبرير ترتيبهم في مراتب متباينة نوعاً وقيمة.. والحال، أنّ هذا الشكل الجديد يتكفّل بالحفاظ على جوهر العنصرية الذي يقوم على إنكار وحدة الجنس البشري، ذلك الإنكار الذي يزعم وجود فوارق أساسية بين البشر وإن تكن هذه المرّة فوارق تُقام على اختلاف الأديان والعادات والقيم الأخلاقية والتعليم والقدرة على التكيف الحضاري، فيكفي لكي تقوم العنصرية الثقافية أن يُقال إن هناك طبائع محددة وثابتة لا تُورّث بيولوجياً بل تُنقل عن طريق التعليم أو تنطوي عليها الأديان فتفرق بين البشر وتفسّر تفوّق بعضهم على بعضهم الآخر، وبذلك يتم الحفاظ على جوهر ثابت لا يخضع لتطور الظروف التاريخية والاجتماعية وتتمحور حوله الثقافات، التي تغدو، هي الأخرى، جواهر مطلقة متعدية للتاريخ ومتعالية عليه، لا يعتريها ما هو إنساني من تطور أو تغير أو تواصل أو تأثّر.

ومن بين المزايا التي تتسم بها العنصرية الثقافية الجديدة، ثمة أمران لافتان على نحو خاص. أولهما أنها ليست مقتصرة على أوروبا والعرق الأبيض الأوروبي (كما كانت العنصرية البيولوجية أو الطبيعية) بل شاعت لدى بقية المجتمعات أيضاً بدعوى (الخصوصية) و (العودة إلى الأصول). أما الأمر الثاني فيتمثل بالمفارقة التي مفادها أن تعاظم وانتشار هذا الشكل من العنصرية الثقافية، بإعلائه من شأن ما هو خصوصي أو قومي أو محلي أو أصولي، يأتي مترافقاً مع العولمة ونظامها العالمي الجديد، والسؤالان اللذان يطرحان نفسيهما هنا هما: ما الذي يدفع شعوباً تُمارس عليها العنصرية لأن تمارس هي أيضاً مثل ذلك؟ وكيف نُفسّر تلك المفارقة المتمثلة بأن تزايد عولمة العالم مقرون بازدياد الهويات فيه، بل مقرون – وهو الأهم – بازدياد تصلّب هذه الهويات وتعصّبها؟

لعل الإجابة عن هذين السؤالين تكمن في الظاهرة الواحدة ذاتها، ظاهرة العولمة السائدة التي تولّد هذه الضروب على وجه التحديد من ردود الفعل. فمن جهة أولى، لم يعد بحاجة إلى برهان أننا نعيش في نظام عالمي واحد لم يسبق أن عاشت البشرية في مثله من حيث الترابط واتساع المدى. وهذا النظام العالمي ليس نتاج مؤامرة، أمريكية أو سواها، بل نتاج تطور تاريخي موضوعي هو الذي يُفسر إمكانية قيام المؤامرات إذا ما وُجدت، ويعبّر هذا النظام عن عالميته عن طريق عدد من التدفقات لها تصريفها الثقافي سواء كان تصريفاً ثقافياً مباشراً أم غير مباشر، فنحن إزاء تدفق للتكنولوجيا والأموال والمعلومات والإيديولوجيات والصور والأفكار لا سابق له في التاريخ، فضلاً عن كوننا إزاء تدفق غير مسبوق للبشر يتجلى في نموّ الهجرة الدولية نموّاً دالاً على هيئة سيّاح ومهاجرين ولاجئين ومنفيين وعمال وافدين، بما يعنيه كل ذلك من وجود ثقافات عديدة بعيداً عن مواطنها الأصلية ومن نزوع إلى بلورة العالم بوصفه مكاناً واحداً وإلى بلورة العولمة بوصفها نشوءاً لشرط إنساني عالمي بالفعل. وهذا ما يقتضي نوعاً من إعادة بناء نظرية في الثقافة على مستوى عالمي وبحث الأبعاد العالمية للإنتاج الثقافي، ذلك أن النزوع الجاري إلى فكّ الارتباط بين الثقافة ومنطقة بعينها يجعل من غير الممكن التعامل بنجاح مع الظاهرة الثقافية دون إطار عالمي واسع متعدٍّ للمناطق والدول والخصوصيات الضيقة.

بيد أن هذه العولمة ذاتها، من جهة ثانية، توحّد العالم على أساس من التمايز بين مناطقه المتقدمة ومناطقه المتخلفة، أو بين مراكزه وأطرافه، على نحو يجعل اتجاه التدفقات السابقة اتجاهاً ظالماً واستغلالياً وليس نتاجاً لتفاعل المحلي والعالمي ذلك التفاعل المُخصب الندّي. وبعبارة أخرى، فإن العولمة السائدة الآن لا تنطوي على تزامن ثقافي على الرغم من إقامتها الأساس لثقافة عالمية. ففي حين يعيش الجميع داخل الحداثة، إلا أن بعضهم وحسب هم الذين يعيشون معها، في حين يعيش بعضهم الآخر بخلافها وإن يكن ليس خارجها. وليس هذا باللعب على الألفاظ بقدر ما هو إشارة معقدة إلى واقع معقد. والحال، أن هذه الآلية المعقدة الموحدة والمتباينة في آن معاً، هي الإطار الذي يفسرّ ما نواجهه من ظواهر ثقافية جديدة، ففي حين تجعل العولمة من الصعب فهم ما يحدث في مجتمع محدد دون الالتزام بتقديم تصوّر شامل، وفي حين تجعل العولمة العالم هو وحدة التحليل الاجتماعي والثقافي وتضع الهوية الثقافية القائمة على الدولة الوطنية تحت ضغط كبير وتعمل باتجاه تفكيك العلاقة بين الهوية والمحلّة أو المنطقة أو الدولة، نجد أنّ هذه العولمة ذاتها، بآثارها هذه، تولّد ردود فعل تسعى إلى تعريف الهوية تعريفاً ضيقاً وخطيراً تحدوه نزعة عنصرية عدوانية تكشف عن نوع من الارتداد الدفاعي. وهذا ما نجده في كل من المركز والأطراف، حيث يُضاف إليه في هذا الأخير ذلك الأثر الذي يولّده عدوان المركز، ما يخلق نزوعاً قوياً إلى التحصّن بالماضي والإيواء إلى التراث والأصول والانغلاق على هويات خاصة مضادة.

إننا، إذاً، حيال عدد من الأصوات، لكنها تصدر من المكان نفسه لا من أماكن متعددة. صوت أول، غربيّ، يدعو إلى العودة مرة أخرى إلى النزعة القومية والهوية الثقافية القومية بطريقة دفاعية وعدوانية إلى حدّ كبير. وصوت ثانٍ، غربيّ أيضاً، هو صوت العولمة السائدة الذي يفهم النظام العالمي الجديد على أنه فرض قيم مجتمعات محددة على بقية الدنيا وامتصاص بقية القيم أو تنحيتها تماماً، ما يفرض تجانساً قسرياً وأحادياً مقيتاً. وصوت ثالث، يأتي من العالم الفقير، هو صوت يدعو إلى العودة إلى المحلي أو القومي أو الديني وإلى الجذور في مواجهة عالم قوى العولمة الغامضة، ذلك العالم المجهول، واللاشخصي الذي يحطم هويات الأماكن المألوفة ويمتصها داخل تدفقاته الكثيفة.

بيد أن ارتفاع هذه الأصوات وما يرتبط به من فورة في أهمية الثقافة وبروز وجهها المؤذي لا ينبغي أن يحجب عن السمع صوتاً آخر هو صوت يجمع بين الاعتراف بأنه لم يعد ثمة مجال لعودة إلى الوراء، إلى ما قبل العولمة، وأن هذه العولمة تقتضي، إذاً، ردّاً عالميّ الأبعاد يكون نوعاً من المشروع المستقبلي وليس إيواء إلى مغاور الماضي، وبين القول إن العولمة السائدة الآن ليست الوحيدة الممكنة، دافعاً باتجاه عولمة لها أساس أخلاقي ينبع من أن الإنسان، بعامّة، جدير بالحرية والسعادة والعدالة... لأنه إنسان بكلّ بساطة، فالطبيعة البشرية المشتركة، والعالم الواحد المشترك يقتضيان أن تكون لنا مطالب أخلاقية وثقافية وسياسية بعضنا تجاه بعضنا الآخر. فمثل هذه المسائل أهم وأخطر بكثير من أن تترك لرحمة الأقوى، أو لرحمة ما هو محلي أو ثقافي محض، أو لرحمة العُرف والعادة والتقليد والتراث ونزوات الأسياد والطغاة الذين يُماهون بين ذواتهم والأوطان.

وإذا ما كان من المفهوم نوعاً ما أن تتمسّك الشعوب والأقوام المغلوبة والمنهوبة بأفكار الخصوصية وأن ترتاب بعالمية معينة تحاول التهام التنوع والتعدد وتحول العالم إلى مكان موحش في نمطيته الأحادية بدل أن تعمل على تعميق ما فيه من تميّز في إطار كونيته وما فيه من تعدد في إطار وحدته، فإنّ من الغريب وغير المفهوم ما تبديه تلك التيارات المندرجة عملياً في إطار العولمة من ارتياب وشكّ يمضيان إلى أبعد من ارتياب الشعوب ويصلان إلى درجة يجعلان فيها من الخصوصية وجه العملة الفاسد لكونية أو عالمية سائدة وفاسدة، فحين ترى هذه التيارات والقوى أن القيم الأخلاقية والحقوقية والديمقراطية لا تتجسّد إلا في تقاليد محلية أو خصوصية، وأنّ لا قوة لهذه القيم تتعدّى ذلك، فإنها تحوّل الأخلاق إلى ضرب من المحلية الضيقة أو الوطنية المزعومة التي تتطابق مع مصالحها الخاصة في حقيقة الأمر والتي عادة ما تكون مصالح معادية لمصالح مجتمعاتها. وإذا ما كانت العالمية السائدة الآن عالمية قاصرة هي عالمية المجتمعات الأوروبية والأمريكية التي تحاول أن تطبّق مفهومها الخاص عن الإنسانية على كل أحد آخر مما يمكن الاعتراض عليه فعلاً، إلا أنه ليس من النباهة في شيء أن نتصور أن هذا هو كل ما يمكن للعالمية أن تعنيه، فما بالك بأن نتصور إمكانية العودة إلى الوراء.

وبعبارة أخرى، فإن الأمر ليس أمر العالمية أو عدمها بل أمر صراع بين تصوّرات مختلفة للعالمية ذاتها، وإذا ما كان هنالك نوع رديء من العالمية، فإن هنالك نوعاً رديئاً من الخصوصية أيضاً. ولذا فإن الأمر ليس أيضاً أمر الخصوصية أو عدمها بل أمر صراع بين مفاهيم مختلفة للخصوصية ذاتها. ولا شكّ أن تصوراً نظيفاً وإنسانياً للكونية التي لا توجد إلا مخصوصة؛ وللخصوصية التي ليست سوى واحد من تجسيدات ما هو كوني، كفيل بأن يضعنا مباشرة إزاء ضرورة عدم التفكير بالعولمة على أنها عملية هادئة أو مسالمة تحدث في نهاية التاريخ، فهي عمل يتم على أرضية ثقافية شاملة لكنها متناقضة تماماً، مما يفسح المجال للمقاومة وللمستقبل والتاريخ، ولا شك أيضاً أن مثل هذا التصور كفيل بأن يضعنا إزاء ضرورة إبراز وجه إنساني شامل للثقافة، وجه يبدي عن قيمه الأخلاقية الشاملة التي تسري على الجميع مما يعيد إلى الأذهان صورة أولئك المثقفين الذين وقفوا بشجاعة دفاعاً عن قضايا بعيدة كل البعد عن بلدانهم ومناطقهم، تلك الصورة التي خبت في العقود الأخيرة مع بروز صورة المثقف الغربي الذي لا يتضامن سوى مع سكان الشارع الذي يقطن فيه أو صورة المثقف المحلي الذي يعادي كل فكرة عمومية وشاملة متهماً إياها بأنها مستوردة وخارجية في الوقت الذي يستهلك فيه أسوأ فضلات العولمة المادية والثقافية.

ولعل التركيز على الطبيعة البشرية المشتركة والعالم المشترك أن يذكّرنا بأن الثقافة قد غدت اليوم أبعد عن التواضع وأدنى إلى الغطرسة، وأنّ الوقت قد حان – ونحن نعترف بأهميتها – لأن نعيدها إلى مكانها المناسب وسياقها المستنير.

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا