الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

ردك على هذا الموضوع

الحداثة والعقلانية

محاولة لتأصيل المجتمع العربي والإسلامي

 محمد سعيد الأمجد *

لم تأت عملية اعادة النظر في الفكر العربي والإسلامي لتحديثه إلا بعد أن وعى الشرق تخلفه بإزاء عملية التطور التكنولوجي والحربي للدول الغازية، وإن كان للتحديث إرهاصات محدودة قبل ذلك، فقد كان دعاة النهضة ورواد الاصلاح يبحثون عن صيغ تقليدية ملائمة لإسلام معاصر، وراحوا يتساءلون: هل يمكن لنا أن نبني مجتمعاً حديثاً؟

وما تجمعات الاحيائيين والصحويين الا كردة فعل جاءت منفعلة في خضم الإجابة وحتمية الإنجاز الواعي الذي يلبي طموحات المرحلة ويجيب عن اشكالياتها...

والآن وبعد أن تهيكلت الأسس النظرية لمجتمع عربي وإسلامي حديث عبر انجازات فكرية جديرة بالاحترام وفعاليات سياسية ووطنية مختلفة، تحتم على النخب إعادة السؤال حول وجود امكانية لهذا المجتمع ان يتبلور قوياً وفعالاً ومتحضراً على أرض الواقع؟ أي أن التساؤل الذي ينبغي إثارته الآن يخص التطبيق وإمكانيته، بعد أن أنهكتنا الجدليات والشروح والصيغ النظرية.

إن الإجابة عن هذا التساؤل لم تعد تختص بالنخب وطاقاتها الفكرية كما هو الحال في السابق، إذ هي تستبطن التساؤل عن إمكانية قيام مجتمع فاضل حر دستوري متماسك تنبري فيه التحيزات الثقافية كانماط حياة وسلوكيات يحتل فيها الفرد محورية الدور ومركزية الفعل، وما النخب إلا موجّهات كفوءة ومراكز تطهير وصمامات أمان عن كل وافد ظاهراتي أو دخيل ثقافي أو انسلاخ ذاتي عن الهوية أو اغتراب عن العصر...

* المجتمع الغربي والشرقي: فوارق الحداثة والمفهوم

النقطة المهمة التي يثيرها الباحثون – هنا – هي ضرورة أن يقيم الإصلاحيون المعاصرون المعادل الموضوعي لنماذج الدول التي يغلب عليها الطابع الفصلي بين الدين والسياسة، فان المعنيين بشأن التطور من الغربيين يبحثون عن صيغة للمجتمع الحديث، والذي يساوق – عندهم – استخدام أحدث الأساليب التكنولوجية ومدى قدرة الدولة على إشاعتها من أجل رفاه المجتمع. فيما يبحثون– أيضاً– عن الآليات التي تطور بنية الوعي لدى الفرد من أجل تعاطٍ صحّي مع هذه المستهلكات والمنتجات والتقنيات. وهذا لا علاقة له بجوهر قيم الفرد أو المجتمع، كما إنه لا يعنيهم هذا بشيء فيما لو فرض بقاؤه مساحة مفتوحة حرة للتطبيق والممارسة.

أما بالنسبة للمجتمع الشرقي فإن أول شيء يبحث فيه الباحثون هو الاطار القيمي الذي يشكل هوية الأفراد في المجتمع، ثم يتساءلون عما يمكن أن يحرك تلك القيم على أرض الواقع من آليات وأفكار وأساليب ومناهج، أي انهم يصرّون على خلق مجتمع على أساس ثقافي وفكري وعقائدي، ثم يبحثون عما يمكن تطبيقه من صيغ تنأى بالمجتمع عن الجمود والاستبداد والتخلف، تماهياً مع وعيهم بالواقع بكل اشكالياته وتعقيداته ومستجداته ومتطلباته..

هذا، وإن كانت مجتمعاتنا العربية والإسلامية– اليوم– قد شاع فيها مفهوم خاطئ عن الحداثة– وهو ما ركزته خطأً الدراسات الحديثة المتأثرة بالنماذج الغربية– يتمثل في الاستخدام الأفضل تطوراً في إنجاز الأعمال ونيل الأهداف وتحقيق الطموحات، فالمجتمع العربي والإسلامي الحديث – اليوم– هو الذي يستخدم أرقى أنواع العلوم والمعلومات لتحليل قضاياه ومعالجه مشاكله السياسية والاقتصادية... الأمر الذي ألقى بظلال باهتة وشوهاء على الوعي العميق بمفهوم الحداثة وغموض سبل تأصيله في المجتمعات الشرقية.

وهكذا تم التمسك بقشور العملية التغييرية وشكلها الظاهري المتحول على حساب الامساك بجوهر المفهوم التغييري (الحداثة)!

ونحن لا نريد أن نردد حديث الروح الذي يجابه المادة، إذ استقصت أهميته دراساتنا التحليلية التقليدية كثيراً في سياق هدم التوجه المادي والتكنولوجي للحضارة الغربية، لكننا نود التاكيد على قيمة الاداء الحضاري والعمل الابداعي اللذين يتطلبهما أي مجتمع كأساس في نهضته وتحديثه، مع ما للوسائل التقنية الحديثة واجهزة الاتصال والمعلومات من أهمية في تنظيم الاداء وانضاج ثمرته الواقعية...

* بين العقلانية الاصيلة والعقلانية التقنية:

الاداء سواء كان فردياً أم جماعياً. ان اريد له يكون حداثوياً، فهذا بالضرورة يقتضي أن يكون عقلانياً بمعنى أن يكون للفعل الانساني أركان محددة مسبقاً كوضع البرنامج العملي ورسم الهدف المنشود ومتابعة نجاحات الفعل ورصد نقاط ضعفه وحقانية العمل وما هو دور الفعل بالنسبة لكمال الانسان وسعادته، وهي ما يطلق عليها (بالعقلانية الاصيلة) والتي تقوم على أساس التسليم بالحقيقة والغاية، في مقابل (العقلانية التقنية) المسيطرة على الفكر الليبرالي الغربي والتي تركز على الامكانيات المادية للفعل الإنساني (مدى نجاح برنامج العمل وهل الهدف قابل للتحصيل ام لا؟)، وتهمل الجوانب الاخرى للحداثة.

وعليه فالمجتمع الاكثر حداثةً هو المجتمع الذي تسود فيه القيم إلى جنب العقلانية الأصيلة (أو الموجبة كما يسميها ماكس فيبر) لا العقلانية المادية الخالية من القيم والجذور... فمن اليسير حينئذٍ أن يتحدث المصلحون الشرقيون (القوميون أو الإسلاميون) عن مجتمع حديث بإعتبار الأحاديث المتظافرة والنصوص الكثيرة التي تزخر بها كتبهم ومصادرهم بالإضافة إلى التجربة السياسية والفكرية والاجتماعية التي يختزنها تاريخهم القديم والحديث.. كلها تؤكد على العمل والارادة المرتكزين على العقل وتساؤلاته الهامة تلك، كقيمة حضارية ينبغي اتقانها وتحسينها ودراستها وتطبيقها وتبين موقعها من حركة الانسان والسنن التاريخية وما تؤدي اليه من أبعاد وانعكاسات في حياة الفرد والمجتمع والأمة.. هذا فيما نجد انفصالاً واضحاً في هذه الجوانب لدى تواريخ الآخرين وانجازاتهم، دون أن نغمط حقهم على صعيد الانجاز التقني والتحول العلمي منذ وقت مبكر.

وبما أن العقلانية الأصيلة تقوم على اساس التسليم بالحقيقة، فسوف يتدخل العنصر الغيبي والعامل المتيافيزيفي في المسألة، فتتضمن العقلانية الأصيلة أو الموجبة التسليم بالحقيقة المطلقة بكل ماتنطوي عليه من امدادات وتكاليف ومفاهيم ورؤى، فتكون العقلانية العربية والاسلامية الاصيلة على هذا الاساس لا تتقاطع مع العقلانية التقنية، غاية الامر انها توجّه الأخيرة وترشّد فعلها وتؤمّن الاستفادة الصحية منها والتوظيف الامثل لها لدفع عجلة التطور والانطلاق، مبرزة أنواعا من الأداءات الاجتماعية والمدنية الراقية التي لاتعرفها الأخيرة كاحكام ملزمة مثل إعانة المعوزين ودفع الحقوق الشرعية وترويج الأخلاق الإنسانية وغير ذلك مما هو مسطور في المنظومة المعرفية للعرب والمسلمين. القضية– إذن- بحاجة إلى نوع من التكامل والشمولية في الرؤية...

* ما هو سر العقلانية الحديثة؟

إن الإنسان الذي يبني المجتمع ويؤلف عنصراً بارزاً فيه بحاجة إلى قضية أساسية في التعامل مع التقنية الحديثة، فإن كان ذا أداء عقلانياً (العقلانية الأصيلة المرتكزة على الجذور والحقيقة) فسوف يضع في حساباته: ماذا يقرأ... ماذا عليه أن يستخرج من معلومات... في أي شيء يوظفها... ما هي الإغراض والأبعاد والنتائج... ماذا سيؤثر ذلك في حلحلة مشاكل حياته ومجتمعه.. كيف له أن يرسم آليات هذا الفعل لكي يكون مؤثراً اصيلاً؟ مقارناً ذلك كله بموقعه من الوجود والتأريخ والمستقبل...

قد يثير البعض إشكالية تهميش التقنية الحديثة بالخطاب النهضوي وهي إشكالية واقعية طبعت الخطاب النهضوي في الشرق ردحاً من الزمن ومازالت آثارها، ثم اثبتت فشلها في اختصار الزمن والجهود مع ماساهمت فيه من بناء لذات الفرد وتحصينه. فإن وافقنا على وجود مثل هذه الاشكالية فهذا ليس معناه أن التقنية الحديثة هي الوعي أو سر الوعي في النهضة المعاصرة ولاهي المقياس لتطور الفرد أو المجتمع. بل المقياس هو أن تكون للحداثة رسالة حقيقية تمتد إلى الجذور والأعماق وتحاسب العمل على أساس كينونته المؤثرة في عالم الوجود الواسع.

إن التجارب التاريخية للمجمتمعات أثبتت أن مشكلة الإنسان جذرية وأن العلم الحديث بكل اختراعاته وتقليعاته بمثابة منبّهات تشير إلى الوعي، لكنه لا يساوق الوعي والبصيرة والعقلانية. كما أثبتت التجارب إن الحداثة ليست شكلاً للمجتمع أو تطويراً لقشرته، بل تبقى بحاجة إلى حلقة مكملة تربط الاداء بالمسؤولية الحقيقية والعمل بجذوره الانسانية العميقة الممتدة في عالم الوجود (لذا فالعقلانية تحتاج حتماً إلى الوعي، والوعي الذي ينتهي إلى البصيرة. هنا يجب أن نقول ما هو الخلط العظيم الذي حدث والذي جعل الإنسان يغفل عن (جذوره) ويكتفي بنوع من الفاعلية والتأثير التقني وينظر إليهما على أنهما ذروة العقلانية!.

وهذا الوعي الذي يشكل أساس العقلانية المنتجة لحداثة المجتمع، أمر مستساغ عربياً وإسلامياً ومحبب من ناحية شرعية وأخلاقية، الأمر الذي يدعونا للتفكير المنطقي بإعادة صياغة الوعي– السر لننهض على أساسه. ومن شاء فليراجع مضان الفكرالعربي والإسلامي ليمسك بجوهر هذه العقلانية في مفردات الوعي– البصيرة– النظر– العقل– الفكر– محاسبة النفس– التدبر– العمل– الأداء...) هذا بعد أن يقطع الإنسان المطلع المتابع بضرورة الجانب التقني والإجرائي والإداري والتنظيمي...

فبالنظر إلى المبدأ القرآني– مثلاً-: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه)) نجد ربطاً لبنية الوعي هذه بالوعي الجماعي، لتتحول ظواهر السلوك الفردي والأداءات الخاصة إلى سلوك جماعي يشكل ذاتاً جماعيةً للمجتمع العقلاني الحديث وعنوانه ومرآة فكره الذي يسعى لتطبيقه بشكل معاصر، بعيداً عن تيارات التصوف السلبي الذي يسلك إلى مجتمعه خطاباً فردياً استهلاكياً لا ينقذ المجتمع ولا يمس جوهر الضرورة إلى تطويره في خضم صراع الحاضر الملتهب...

ويمكن الربط في المبدأ القرآني الآنف الذكر في توجيه الكدح الاجتماعي والإنساني باتجاه الحقيقة المطلقة والتي تشكل جذور التفكير الإنساني المحرك للفعل والراسم لوجوده وموقعه من خارطة السنن الكونية.. الحقيقة المطلقة بكل مالها من امتدادات في حياة الإنسان وأخلاقه، وهذه الحقيقة هي الجذر الذي يرتبط به الإنسان وجوداً وغاية وتفكيراً، وهي سر الوعي وأساس البصيرة وقاعدة الانطلاق..

فمعنى أن يكون أفراد المجتمع العربي والإسلامي حداثويين يعني أن يرتبط سلوكهم– مهما كان شكله ونوعه وأسلوبه- بتلك الحقيقة، وهو ما أغفلته العقلانية التقنية والمادية فتاهت في ضباب الاختراعات وانصهرت بحرارة الاكتشافات! ولم تبن مجتمعاً حديثاً متكاملاً بالمعنى العميق والدقيق والحقيقي...

ومن مداخل العقلانية بهذا الاتجاه يتشكل المسار المنطقي والحقيقي وينكشف السبيل القديم، لبناء مجتمع عربي إسلامي حديث ودراسة أسس تشكله الثقافي والمعرفي، ليكون (خير امة أخرجت للناس) دون ان يستبطن وعينا إلغاء الآخر ومنتجاته العلمية، ودون أن نغرد خارج سرب الحضارة المعاصرة أو أن نصهر هويتنا في حرارة اكتشافاتها...

* التعامل مع التراث

وفي الوقت الذي يجد الباحث في موضوعة الحداثة ضرورة وضع العقلانية الأصيلة كمفتاح سحري لعقلنة مفهوم الحداثة وتأصيله، من أجل الوصول إلى نحت ملامح صيغة تكاملية مابين بنية الوعي وخصائص العصر... يعترض طريقه اشكالية تتعلق بآلية النظرة إلى التراث بكل ما ينطوي عليه من انجازات ومعارف وآداب وأفكار وتواريخ. وهذه الاشكالية من الاحساس لضرورة وضع صمام امان في الطرف الآخر لكي لا تتحول العملية التغييرية إلى نوع من الجمود والتحجر والرجعية، وهي شكل آخر من أشكال الاغتراب يؤدي إلى العزلة أيضاً.

فهنالك اتجاهان يتعاملان مع الماضي والتراث والتاريخ، يتأرجحان بين الاتصال والانفصال، يرى الأول ان الماضي ليس إنجازات عادية عارضة ولايمكن استبدالها لأنها في صميمها روح ونمط في التفكير والفعل والعيش، فلابد من الاتصال العميق بها والتواصل المستمر معها! فيما يرى الآخر أن اطلاق قدرات الانسان الكامنة المبدعة يمكن أن يتفجر في أي عصر ليتمخض عن بناء جديد للانسان ويتسنى له تحقيق ما ينتظر منه مما لم يخطر في بال القدماء، فلابد من الانفصال عن عقدة الماضي، وأمام هذا التقابل الحاد وقف (المجددون) والداعون إلى (ما بعد الحداثة) ليتجاوزوا اغتراب الاتجاه الأول ويضعوا أمامهم الانفصال عنه هدفاً للالتحاق بركب التطور الحاضر الذي يسير بسرعة هائلة في كافة الاتجاهات..

والعقلانية الأصيلة التي تحدثنا عنها سابقاً هي الكفيلة بتطهير آثار هذه الثنائية وتبديد هواجس هذه الاشكالية، وفق النظرية التكاملية مابين التراث والمعاصرة، لا بشكل تلفيقي محض بل توفيقي ينتهج حركة تشذيبية تعقلن من خلالها أي مفهوم سواءً كان ماضوياً أم حداثوياً. وقد آن الاوان أن تبدد هذه الثنائيات التي تطبع راهن العقل العربي والإسلامي، وهي سمات قلقة متوزعة بين ثنائيات لاحصر لها.

من هنا فرضت هواجس المستقبل منطقها. ووعي الزمن العربي والاسلامي الراهن وتدبر جوانبه المتباينة المعقدة يبين ان هواجس الحاضر المستقبلية عند الإنسان المسلم يمكن أن ترتد إلى الأمور الأساسية التالية التي يمثل مجمل ماسواها فرعاً لها، وهي؛ التخلف، والتراث، والاغتراب، والعلم والعمل، والتغيير...

* الحل؛ التجذر والانطلاق

إن هذه الهواجس التي تشغل بال الباحثين العرب والإسلاميين منذ عقود من الزمن والتي تشكل معوقات حقيقية للحداثة، ترجع في ستراتيجية حلولها وسمات العملية الاصلاحية التي تحاول تشكيل عقلية عربية وإسلامية حديثة حاضرة ومستقبلية، إلى ثنائية جدلية تؤمّن من الوقوع في التخلف والاغتراب والعزلة عن خطى الركب العلمي الحاضر والقادم والنظرة إلى التراث بشكل ستاتيكي عقيم كما تؤمّن توفير حالة من العلم والعمل ومواكبة التغيرات المرتقبة، وهذه الثنائية الجدلية تتجاذب طرفيها قضيتا التجذر والانطلاق.

فالتجذر يعني طرحاً جديداً وصياغة أخرى لعملية التواصل مع التراث تكون من خلال عناصر التراث المتحولة، والانطلاق يعني قدرة هذه الصياغة لان تكون جزءاً من المستقبل، وفي هذا المجال ينبغي التفريق بين اندماج الذات في التراث واندماج التراث في الذات– كما يقول الجابري– وذلك يتطلب التمييز بين قراءة التراث كانتاج تاريخي فحسب وقراءته كعطاء إنساني ذاتي ايضاً.

فقراءة التراث كعطاء انساني وتاريخي في آن واحد، يفسح المجال لدراسة مكوناته الاساسية والتفريق بين المتحول منها والثابت، والمقصود من الثابت هي منابع الرؤيا ومصادر التفكير الثابتة كالقرآن والسنة. وأما المتحولة فهي عبارة عن القدرة العقلية الإنتاجية المقاربة للمقطع الزماني المحدد والمتعاطية مع الواقع بشكل موضوعي بحيث تنفتح على آفاق المستقبل وطرائق تفكيره وإنحاء فعله من الآن على غرار ماتفعل في واقعها بكل أشيائه وعلاقاته وتحولاته.

وعلى هذا الأساس، فاستشراف صيغة فضلى ومتحضرة وملائمة للحياة المعاصرة والمستقبلية إنما يتم عبر تشكيل عقلية عربية وإسلامية منفتحة ذات هواجس كثيرة، ومن ثم تفعيل هذه العقلية للانطلاق باتجاه بناء حياة حرة كريمة قابلة للتكيف مع التحولات المستمرة ونتاجاتها بشكل يؤمّن الذات والهوية من الذوبان والانسلاخ أو العزلة والموت، وهذا لا يلغي الماضي والتراث ولا الحاضر الراهن، بل هي نتيجة طبيعية للتراكمات الحضارية المتوالية تؤدي إلى استحضار المحتملات القادمة والاستعداد لها اما للقاؤها أو لإعداد البدائل لها في حالة عدم تحقيقها أو بعضها، إذ لا تحتمل جميعها حتمية التحقق.

أما قضية عدم أطراد وثبوت العلاقات والتحولات في الجوانب الثقافية والاجتماعية فهو لا يمنع من تفعيل العقلية العربية والاسلامية المنشودة ودخولها في صميم البحث المستقبلي واخضاعها لها من الكشف عن الكيفية المثلى التي يتم من خلالها تحكم الإنسان بانطلاقته في حركة البنى الثقافية والانساق الاجتماعية القادمة، وتحويلها باتجاه مصالحه ومتبنياته وهدفية وجوده على الارض، واعداد البدائل اللازمة لتخلف محتملات المستقبل التي هي في الأساس توقعاته العلمية المدروسة... لأن من سمات علم المستقبل اعتماده بصورة أساسية على العقل مقترناً بالخيال والعاطفة والحدس، ومعنى ذلك أن الأرضية الأساسية للتفكير المستقبلي هي أرض الوقائع والمعطيات لا أرض الأوهام والتخيلات، ومن سماته أيضاً وعي المشتغلين به وعياً تاماً باهمية الزمن، فهم يدركون أن لمشكلات اليوم جذوراً في الماضي، وإن المشكلات لا تنشأ بين يوم وليلة، وإنما تتكون تدريجياً وبصورة لا يلحظها غالباً الإنسان العادي.

وهكذا تكون العقلية العربية والاسلامية الحديثة الحاضرة والمستقبلية، التي يسعى المصلحون المعاصرون لتأسيسها هي عقلية منفتحة على الزمن بصيغه الثلاث، ولا تنقطع عنه في صيغة معينة: تجذر الارتباط بالتراث ولاتنصهر فيه، بل تتجاوزه بالتحاور مع قيمه المطلقة لامع أشكاله التاريخية، مؤسسة لنفسها فرصة للانطلاق عبره والامتداد معه إلى حيث رسم الآفاق البعيدة التي تحضر لديه، يجمع محتملاتها وبدائلها، لتتكيف معها من الآن تجاوزاً لحصار التخلف الحاضر واستعداداً لتغيرات المستقبل وصوره. وبهذا يمكن أن تشرئب أعناقنا لرؤية النور المطل علينا من كوّة الحداثة...

* باحث في (تجمع عراق المستقبل)

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا