الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

ردك على هذا الموضوع

مجال البحر المتوسط الثقافي صراع تأكيد الذات ومحاكاة الآخر

* وليد خالد أحمد حسن

كاتب و باحــث - بغــداد

عندما نتحدث نحن العرب عن الآخر فإنما نعني في المقام الأول أوربا أو العالم الغربي، ذلك العالم الذي يقع إلى الشمال والشمال الغربي من البحر المتوسط بينما نقع نحن إلى جنوبه والى الجنوب الشرقي منه. أما علاقتنا بالشرق البعيد أو بأعماق أفريقيا أو بأمريكا اللاتينية، فإننا نسلم بها بطبيعة الحال ولكنها تأتي في المقام الثاني ولا تكاد تسبب لنا قلقاً أو مصدراً للتساؤل. وصحيح أن لنا أعماقاً جغرافية وثقافية تترامى بعيداً نحو الجنوب والشرق والجنوب الغربي، وأن للعالم الغربي أطرافاً نائية إلى الشمال والشمال الغربي والغرب البعيد (أمريكا)، ولكننا رغم هذا الترامي من الجانبين نلتقي مع الآخر في هذه المنطقة التي نسميها البحر المتوسط. ولقد صدق طه حسين عندما ركز في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر، 2حـ، القاهرة، 1938) على منطقة الشرق الأدنى وأوربا وعلى المجال الثقافي الذي يتمحور حول البحر المتوسط فأقل ما يمكن أن يقال عن هذا المجال أنه ملتقى لثقافتين.

واستخدم مفردة (الملتقى) بصفة مؤقتة انتظاراً لمزيد من البحث والتحديد، وحتى نجيب عن السؤال الآتي: هل البحر المتوسط من الناحية الثقافية بحيرة سلام ووئام أم أنه ميدان اقتتال أو خط فاصل بين ثقافتين متصارعتين؟

ذلك هو إذن السؤال الأساسي الذي يشغلنا هنا وسأعرض بناء على ذلك لمذهبين متعارضين في هذه القضية احدهما (وفاقي) وثانيهما (صراعي)، وسأسلك بين هذين المذهبين طريقاً ثالثة، وفي رأيي أن هذا الحل الثالث أقرب إلى واقع التاريخ وأنسب لازدهار الثقافة المصرية والعربية بصفة عامة.

من السهل في الواقع أن يساء فهم طه حسين فيظن أنه من المنادين بإلحاق مصر بالعالم الغربي إلحاقاً يجعلها تابعة له، وذلك أن بعض أقوال طه حسين يمكن أن توحي بذلك، ومن هذا مقولته الشهيرة: (نريد أن نتصل بأوربا إتصالاً يزداد قوة من يوم إلى يوم حتى نصبح جزءاً منها لفظاً ومعنى وحقيقة وشكلاً) ([1])، ومن هذا رأيه أن السبيل إلى الأخذ بأسباب الحضارة الأوربية هي (أن نسلك سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب وما يكره وما يحمد منها وما يعاب) ([2]).

ولكننا إذا نظرنا إلى هذه الأقوال في سياقها الأوسع تبين لنا أنها لا تعبر إلا عن جانب واحد من موقف طه حسين، يتضح لنا هذا إذا قرأنا (مستقبل الثقافة في مصر) قراءة شاملة فاحصة، وإذا راعينا كما ينبغي سائر مواقف طه حسين في هذا المجال، وسوف نلحظ عند قراءة الكتاب قراءة فاحصة، إنه يقرن بين محاكاة الأوربيين والاستقلال، يقول مثلاً: (... إذا كنا نريد هذا الإستقلال، العقلي والنفسي الذي لا يكون إلا بالاستقلال العلمي والأدبي والفني فنحن نريد وسائله بالطبع. ووسائله أن نتعلم كما يتعلم الأوربي ثم لنعمل كما يعمل الأوربي ونصرف الحياة كما يصرفها) ([3]).

وطه حسين يكتب أحياناً وكأنه يريد أن يقول أن محاكاة غيرنا في مجال الثقافة يمكن وينبغي أن تكون محاكاة إبداعية، نرى هذا في بعض كتاباته الفرنسية، فهو في مقالة عن (غوته والشرق) يثني على الشاعر الألماني العظيم لأنه استطاع في استشراقه أن يحطم أطار الشعر الأوربي وأن ينظم الشعر في (ديوانه الشرقي) على غرار ما فعل شعراء الفرس والعرب، غير أن طه حسين يؤكد أيضاً أن هذه المحاكاة لم تكن من قبيل التقليد الأعمى وأن غوته بث في قصائده (الشرقية) شيئاً من نفسه كألماني وأوربي ([4]).

وفي مقابل هذا المثال الغربي يضرب طه حسين مثلاً آخر في مقالة فرنسية أخرى عن (بدايات الأدب المسرحي في مصر)، فهو يروي كيف ذهب توفيق الحكيم إلى فرنسا وعاد بعدد من المخطوطات التي أرسى فيها دعائم المسرح المصري، وهو يفترض أن توفيق الحكيم قد جلب هذا الفن من الغرب فلم يكن معروفاً لا في الجاهلية ولا في ظل الإسلام، ويشير إلى أن توفيق الحكيم قد تأثر بـ جيرودو وأناتولي فرانس، بيد أن الحكيم قد استطاع أن يجعل من هذا الفن المجلوب إبداعاً لا يمكن أن ينسب إلا إليه وصار جزءاً لا يتجزأ من الأدب العربي، فقد جعله مزاجاً رائعاً من عناصر إسلامية ومصرية وغربية ([5]).

وبإمكاننا إذن أن نكمل هذا الدرس فنقول: إذا كان غوته قد استشرق ليؤكد ذاته الألمانية والأوربية، فقد غرّب توفيق الحكيم ليؤكد ذاته المصرية الإسلامية الشرقية، وتلك إذن هي المحاكاة الإبداعية، بها يخرج الفنان عن الأطر الموروثة ويطرح شيئاً من ذاته لا لشيء إلا ليعيد إليها الحيوية والنضرة ويؤكدها من جديد.

وما يصدق على الفنان الفرد يصدق على الثقافات. فتجدد الثقافة العربية يعني في نظر طه حسين ، تحقيق مزيج أو تأليف رائع بينما لدينا وما لدى الآخر الذي هو أوربا، ولابد لهذا التأليف أن يشمل التراث العربي الإسلامي وخاصة الأدب القديم كما يشمل أحدث ما وصلت إليه أوربا، فنحن كما يقول: (ندرس الثقافة العربية لأنها تكوّن شخصيتنا، وندرس ثقافة الأوربيين لأنها تكمل شخصيتنا وتعدنا للمستقبل) ([6]).

فإذا أراد أحد أن ينقد هذه الآراء نقداً سديداً، فعليه أن يوجه سهامه إلى ما فيها من نزعة وفاقية، ومما قد يقال في هذا الصدد أن هذه الآراء إلى التجريد والمثالية إذ تغلب أوجه الاتفاق مع أوربا، وذلك مثل اشتراكنا معها في التراث الكلاسيكي، فمن المعروف أن هذا الاشتراك لم يحدث دون نزاع، وذلك أن العرب لم يتلقوا علوم اليونان دون مقاومة، وظلت الحرب معلنة على الفلسفة والفلاسفة حتى أَفَلت شمس الحضارة العربية القديمة ودب الجمود في أوصالها، ولم تتلق أوربا هذه العلوم عن العرب دون أن تحاول تخليصها من الطابع العربي الذي اكتسبته. كذلك لا ينبغي أن ننسى أن أوربا المعاصرة ليست مجرد امتداد لليونان القديمة.

ومما قد يقال في نقد الوفاقية أنها تسعى إلى عقد الصلح بسرعة دون نقد عميق للحضارة الأوربية، فقد كان طه حسين وغيره من الليبراليين المصريين يعتقدون أن المحتل الأجنبي لابد راحل، وأن رحيله يؤذن لا محالة بفتح صفحة جديدة من الوفاق والمودة مع العالم الغربي، ولم يدركوا يومئذ أن الاستعمار عن طريق الاحتلال ستتلوه صور أخرى من الهيمنة الأجنبية، ولم يعرفوا ما نعرفه اليوم من نقد للاستعمار الجديد والحضارة الصناعية والمجتمعات الاستهلاكية، وكانوا يجهلون أو يتجاهلون ما كان هنالك من نقد ماركسي لتلك الظواهر.

وفي مقابل المذهب الوفاقي نجد تياراً آخر يرسم نموذجاً صراعياً محضاً لمنطقة البحر المتوسط، ولهذا التيار جذور عريقة وصور متعددة... ولكن أبرز ممثليه اليوم هو محمود محمد شاكر، وقد اخترته لأننا نجد في كتاباته وخاصة في كتابه (المتنبي: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ط1، القاهرة، 1987) أوضح تعبير عن النموذج الصراعي، وليس من قبيل المصادفة أنه يقف على طرف نقيض من طه حسين. ولست أشير فقط إلى نقده لـ طه حسين في آخر رسالته وفي كتاباته الأخرى، وإنما أشير وفي المقام الأول إلى تلك الحرب الخفية التي يديرها على صفحات الكتاب كله نقضاً لمذهب أستاذه وخصمه اللدود وطرداً لشبحه.

البحر المتوسط وفقاً لهذا النموذج الصراعي ميدان قتال أو خط فاصل بين ثقافتين بينهما حرب لا هوادة فيها منذ انتشار الإسلام، فهناك الشمال المسيحي والجنوب الإسلامي، وكل من الثقافتين عالم قائم بذاته، فالثقافة في رأي شاكر كلٌ متكامل كالبنيان المرصوص أو النسيج المحكم، وهي تقوم أساساً على الدين أو ما كان في معنى الدين من أخلاق، ولها وعاء خاص بها هو لغتها، فليس لأحد لا يدين بدينها ولم يتعلم لغتها وأخلاقها منذ المهد أن يعرفها إلا من خارجها أو أن يحدّث أهلها عنها بخبر صادق أو يريد لهم الخير به، والحرب بين الثقافتين دينية أو لنقل صليبية على مر العصور، ومهما تغيرت الأشكال، فليس هناك فارق جوهري بين (الهمج الهامج) تجمعهم مسيحية الشمال من أصقاعها الشمالية لتلقي بهم في آتون المعركة وبين الاستعمار أو حملة نابليون أو التبشير أو الاستشراق، فلكلها أسلحة في معركة صليبية واحدة. وليس ثمة فارق من حيث المبدأ بين غزو ديار الإسلام ونقل معارفه، فكلاهما عمل من أعمال الغصب والاستيلاء.

       q         فماذا يمكن أن يقال تعليقاً على هذه الرؤية الصراعية ؟

لا يمكن بطبيعة الحال أن ننكر الصراع بين ثقافة الشمال وثقافة الجنوب حقيقة من حقائق التاريخ، ولكن تصور شاكر لتكامل الثقافتين كل في حد ذاتها ولطبيعة الصراع بينهما، ينطوي على الكثير من التبسيط والتعمية، فهو لم يتوصل إلى هذا التصور إلا بحذف ما لا يروق له من حقائق التاريخ، ومثال ذلك أنه بدأ قصته بانتشار الإسلام، وله أن يفعل ذلك، لولا أن هذا الاختيار لا مبرر له في هذه الحالة سوى أنه مناسب لرأيه، إن الدين هو محور الثقافة وان الحرب بين الثقافتين دينية بالضرورة على الدوام، وقد كان من المناسب له أيضاً أن يغفل تطور الثقافتين، وان يتجاهل الفوارق بين مرحلة الصليبية ومرحلة التوسع الاستعماري والرأسمالي في أوربا، ولقد نسلم بأن الدين أو ما كان في معنى الدين أساسي في كل ثقافة، ولكن هذا التسليم لا ينبغي أن يكون مطلقاً، فلم يكن الدين هو الدافع الوحيد أو الأساسي إلى الصراع في جميع المراحل، وسوف نرى فيما يلي أن الدين لم يكن في جميع الأحوال هو القوة المحركة الوحيدة على الصعيد الفكري.

غير أن أهم ما يستبعده شاكر في كتابه السالف الذكر هو انتقال التراث اليوناني إلى الثقافة العربية ثم انتقاله منها إلى الثقافة الأوربية، فهو يدرك أن العرب قد نقلوا علوم الأوائل ويفترض أنهم أفادوا منه، كما يدرك أن أوربا أخذت هذه العلوم عن العرب، ويرى صراحة أنها أفادت منها، ولكنه يمر على هذه الحقائق مر الكرام، ويخفي عليه مدلولها في ضجيج المعركة الكبرى وغبارها، ولو أنه توقف عند تلك الحقائق لرأى أنها لا تناسب القصة التي يرويها وأنها تؤدي إلى انهيارها.

إن أول نتيجة تترتب على انتقال التراث اليوناني من الشمال إلى الجنوب ثم من الجنوب إلى الشمال أن الفاصل بين الثقافتين ليس حاسماً كما يبدو لأول وهلة، وصحيح أن انتقال هذا التراث قد تم في الحالتين في إطار من علاقات القوى والصراع الإقليمي وان طريقة تمثله قد اختلفت على نحو أو آخر إلى أخرى وإن النتائج التي ترتبت على هذا التمثل قد اختلفت على نحو أو آخر بين الحالتين، ولكن تبادل هذا التراث واختلاف الثقافتين في تلقيه واستيعابه يدل على أن لهما تاريخاً مشتركاً ومصيراً مشتركاً في بعض الجوانب. فليس من الممكن عرض تطور إحدى الثقافتين دون التطرق إلى تطور الأخرى، وما اختلافهما في تلقي التراث اليوناني وتمثله إلا حلقتان في قصة واحدة، هي قصة النزاع الذي يفرقهما ويجمع بينهما.

والنتيجة الثانية التي تستخلص من دراسة انتقال التراث اليوناني هي أن تمثيل هذا التراث لم يتحقق في الحالتين دون ترتيب مقومات الثقافة المتلقية ترتيباً جديداً، وهو ما يعني بدوره اختلال التكامل على نحو أو آخر ولفترة تطول أو تقصر في نطاق هذه الثقافة، وذلك أن نقل علوم اليونان إلى الثقافة الإسلامية كان يعني إفساح المجال داخل هذه الثقافة لعامل جديد أو قوة دافعة جديدة، هي العقل، وبعد أن كان الإيمان سيداً لا منازع له وكان بهذا المعنى هو أساس الثقافة ومحور جميع العلوم فيها، ادخل عامل العقل وأصبحت المشكلة الأساسية منذ ذلك الحين هي تحديد مكانة العامل الجديد بالنسبة للدين، وقد حدث عندئذ ذلك التصدع بين النقل والعقل. ودارت المعركة المعروفة التي اختلفت فيها المذاهب ورجحت فيها كفة هذا الطرف أو ذاك حتى جاء الغزالي وانتصرت آراؤه في نهاية المطاف، وعندئذ عاد إلى الثقافة تكامل أو توازن من نوع جديد، وهو تكامل جديد لأنه يختلف عن التكامل الأول، فقد كان هذا بسيطاً خالياً من التعقيد والقسر، بينما كان التوازن الذي حققه الغزالي يقوم على إلجام الفلسفة وكبحها وقمعها، ولنا أن نقرأ تصنيف الغزالي للعلوم الفلسفية تصفية عنيفة فيرد بعضها إلى أدوات للدين ويطرد بعضها شر طردة.

إن التكامل الذي تناوله شاكر وتحدث عنه هو إذن ضرب من الأساطير. وتكامل الثقافة حول الدين ليس في أفضل الأحوال إلا مرحلة مؤقتة ولحظة عابرة في تاريخها، وهو نوع من التوازن الدقيق الذي لا يلبث أن يختل، وهو إذن مثل أعلى لا يتحقق في الواقع إلا على وجه التقريب وللحظة متلاشية، وما أن يحاول أهل دين ما أن يوقفوا بينه وبين أشياء أخرى مثل العقل أو مقتضيات التطور أو الواقع أو الحضارة حتى تكون المحاولة دليلاً على زوال لحظة البساطة الأولى وتشقق البناء المرصوص أو النسيج المحكم.

ولعلنا إذن أقرب إلى الصدق عندما نتخذ موقفاً وسطاً بين مذهب الوفاق ومذهب الصراع، فنقول أن العلاقة بين ثقافة الشمال وثقافة الجنوب علاقة التحام ونزاع عندما يعني هذا تداخل المواقع والتنافس على أرض مشتركة، فبين الثقافتين تراث مشترك ولكن هذا المجال المشترك هو نفسه موضوع نزاع بينهما، وذلك أن علوم اليونان لم تنتقل بين الثقافتين إلا في ظل التوسع السياسي والجغرافي والثقافي من جانب هذه الثقافة أو تلك، وهو لم يستقبل في كلتا الحالتين دون أن تحاول الثقافة المتلقية أن تحوره وفقاً لمتطلباتها وتأكيداتها لذاتها.

موقف وسط ولكنه يجمع بين المذهبين المذكورين ويتجاوزهما، فهو يبرز تعقيد الواقع الذي اختزله كل منهما واقتصر على جانب واحد منه، فـ طه حسين على سبيل المثال يركز على اتفاق الثقافتين ويهوّن من أوجه الخلاف بينهما، صحيح انه يقترب من الحقيقة عندما يضرب المثل بـ غوته وتوفيق الحكيم كأديبين حاول كل منهما أن يحاكي أهل الثقافة المقابلة لثقافته لكي يؤكد ذاتيته. ولكن طه حسين لا يكاد يرى انقطاعاً أو تضارباً بين لحظة المحاكاة ولحظة الإبداع، ولا يكاد يدرك أن تأكيد الذات يعني بالضرورة مقاومة واعية أو غير واعية لأساليب الغير، وهو على الصعيد النظري العام يكاد ينتهي إلى أن أوجه الخلاف بين الثقافة الإسلامية والثقافة الأوربية عارضة أو ثانوية، أو لنقل بالأحرى أنه يذيب هذه الفوارق ويبددها إذ يرى أن الثقافتين ترتدان بالتحليل إلى مقومات واحدة متماثلة ([7])، والأمر هنا شبيه بمن يسقط الخلاف بين الأديان السماوية الثلاث لأنها تتفق منطقياً على مبدأ واحد هو التوحيد، وينسى أن الدين اللاحق في هذه السلسلة يرمي إلى الأخذ مما تقدمه وتطويره.

أما شاكر، فهو يبسط العلاقات المعقدة بين الثقافتين عندما يفترض أن تصارعهما يعني انفصال كل منهما وتكامله في حد ذاته. وهو يقترب من الصدق عندما يرى كلتا الثقافتين قد أخذت أحداهما عن الأخرى وعندما يبرز الدافع في كلتا الحالتين إلى الاستحواذ على ما لدى الطرف الآخر ([8])، ولكنه لا يكاد يشير إلى هذه الحقائق حتى تغيب عنه دلالاتها، فعملية الأخذ والاستحواذ بين هذين الطرفين المتنازعين تعني بالضرورة اشتراكهما في عناصر واحدة – هي موضوع النزاع– وتداخلهما، كما تعني أن أخذ هذه العناصر قد أدى في الحالتين إلى اختلال في تكامل الثقافة المتلقية، وان تمثيلها لم يكتمل إلا وقد تحولت الثقافة عن طبيعتها الأولى.

وليس من قبيل المصادفة أن شاكر قد تجاهل هذه الحقائق التاريخية. فهو يستبعد التطور والتاريخ منذ البداية، ويتصور الثقافة الإسلامية كنظام مغلق من الأقوال أو النصوص التي لا تلتمس جذورها إلا في أنفس العرب. والمنهج الذي يقترحه منذ البداية منهج بياني يقتضي إجراء التذوق على كل ما أنتجه العرب من كلام منظوم أو منثور في أي علم من العلوم بوصفه (إبانة منهم عن خبايا أنفسهم بلغتهم) ([9])، والبحث بهذا المعنى دراسة لغوية تنصب على كلام العرب لتقصي معانيه ودلالاته في أنفسهم ودون الرجوع إلى واقع التاريخ. ولذلك تبدو الثقافة كنسيج واحد وان تعددت خيوطه وتنوعت فكأنها الشبكة التي تخرج من جوف العنكبوت.

ومن اللافت للنظر أن شاكر يكتب كما لو كان ابن خلدون لم يوجد أو كما لو كان ينتمي إلى ثقافة أخرى غير الثقافة الإسلامية. فـ شاكر لا يذكر ابن خلدون أصلاً ([10])، ويتمسك بمنهج في البحث رفضه هذا المفكر الإسلامي وأثبت قصوره، وذلك أن إبن خلدون قد رأى على وجه التحديد أنه لا ينبغي أن ندرس التاريخ كمجموعة من الأقوال والأخبار التي تمحص بالرجوع إلى قائليها ورواتها والى أخلاق هؤلاء دون الإشارة إلى الواقع. وأنه لمن حسن الحظ أن ابن خلدون يصلح مثالاً جيداً لتوضيح ما أعنيه بالاشتباك مع الثقافة الأوربية. وذلك أن مبدأ الواقع هذا مبدأ يوناني أصلا– وان كان ابن خلدون قد جعله عربياً.

لقد عاش ابن خلدون كما نعلم عند ملتقى الثقافتين، وفي لحظة حاسمة من تاريخ الالتحام بينهما. وكان يؤلف تاريخه وهو يدرك بوضوح أن العالم الإسلامي يتصدع ويضمحل بينما تنهض ثقافة الشمال وتزدهر. غير أن ابن خلدون لم يقنع بلملمة أطراف ثقافته ([11])، وبالتدثر بنسيجها، ولقد يبدو أن تأسيسه عندئذ لذلك العلم الجديد – علم العمران أو علم التاريخ– كان بمثابة محاولة للاشتباك مع الثقافة اليونانية في معركة أخيرة مثمرة، ولا ينبغي هنا أن ننخدع بنقد ابن خلدون للفلسفة والفلاسفة، فهذا العداء الصريح يخفي جدلاً عميقاً خصباً مع أرسطو على وجه التحديد. وكانت ثمرة الجدل تقرير مبدأ الواقع وإعادة تفسيره ووضع حجر الأساس لعلم التاريخ.

الخطوة الأولى في بناء هذا العلم هي نقد ابن خلدون للسُنة التي اتبعها أسلافه في التاريخ. فقد كانوا يكتفون بتمحيص الأقوال والأخبار عن طريق الجرح والتعديل أو نقد أخلاق الرواة، ورأى ابن خلدون إن الأولوية ينبغي أن تعطى لتمحيص الأخبار بالرجوع إلى (طبائع الأشياء) أو عن طريق التأكد من تطابقها مع (الواقعات) أو (طبائع العمران وأحواله)، فإذا أمعنا النظر في هذه الخطوة لاحظنا أولاً أنه اعتمد على المعلم الأول في تقرير مبدأ الواقع، وذلك أن فكرة طبائع الأشياء أو الأشياء ذات الماهيات والأعراض التي تتجاوز نطاق الأقوال والقائلين وتشكل المرجع الأساسي في التحقق من الصدق والكذب فكرة أرسطاليسية ما في ذلك شك ([12]).

غير أننا نلاحظ من جهة أخرى أن إبن خلدون لم يأخذ مبدأ الواقع عن أرسطو إلا وقد صرفه عن وجهته الأصلية وأعاد تفسيره بما يتفق ومتطلبات المعرفة التاريخية. فالواقع في نظر الفيلسوف اليوناني يتكون أساساً من (جواهر) أي أفراد– مثل سقراط أو هذا القلم الذي اكتب به– له ماهيات (مثل إنسانية سقراط) وأعراض (مثل سواد القلم)، ولا مكان في هذا التصور للمعرفة التاريخية. فالعلم الحقيقي في نظر أرسطو هو تناول الأفراد بالحد أو التعريف أي إدراك ما هو كلي فيها أو ماهيتها مجردة خالصة من شوائب الفردية وحدود المكان والزمان. وليس من قبيل المصادفة أن أرسطو كان يعتقد أن التاريخ– بما انه يعني بما هو فردي– أدنى مرتبة من الشعر، أما الواقع كما فسره ابن خلدون فهو يتكون أساساً من تجمعات بشرية – بدوية وحضرية– تجري عليه أحوال وأحداث تتصل فيما بينها برابطة العلة والمعلول وتخضع للقوانين السببية، وبذلك التفسير الجديد للواقع أصبح التاريخ ممكناً.

ومن الواضح أن إبن خلدون قد أحدث تصدعاً في الثقافة الإسلامية أو في التصور التقليدي لها عندما أدخل– مستعيناً بأرسطو– مبدأ الواقع الذي يتجاوز الأقوال وأنفس القوانين وأخلاقهم. غير أن إبن خلدون لم يدفع ثقافته إلى ما وراء حدودها المألوفة ولم يربطها بثقافة اليونان إلا وقد ميزها عنها وأحرز لها تفوقاً عليها، وذلك بإعادة تفسير الواقع بحيث يصبح نظاماً من الوقائع التي تخضع للقوانين السببية يعني أن الثقافة الإسلامية قد تجاوزت أرسطو وعالم العصور الوسطى وسبقت بهذا المعنى أوربا إلى العصر الحديث.

ويحق لنا بناء على هذه الحالة النموذجية أن نستخلص بعض النتائج العامة. وأولى هذه النتائج تتعلق بوحدة الثقافة الإسلامية. فالدين أساسي في هذه الثقافة ولكن هذا لا يعني أن الثقافة تنتظم على هذا الأساس كالبناء المرصوص أو النسق الفلسفي أو النسيج المحكم أو الجهاز العضوي. وتدل دراسة التاريخ على أن هذه الثقافة قد تعرضت في تاريخها لهزات وانقلابات وتحولات جذرية، وإنها تطورت واستقبلت أو استنبطت مبادئ أخرى كمبدأ العقل أو مبدأ الواقع.

وليس هنالك من وحدة أو تكامل أو منطق إلا ما أمكن ملاحظته في إطار هذا التطور من علاقات متغيرة غير متجانسة وغير متسقة بين مقومات هذه الثقافة سواء أكانت أصلية أو مجلوبة. وليس صحيحاً إن إزالة أي خيط من هذا النسيج يهدد بتفككه أو أن استبعاد أي حجر من البناء يعني تداعيه بأكمله. فتطور الثقافة – أية ثقافة – أو حياتها عملية مستمرة من الحذف والإضافة أو الهدم والبناء.

وتتعلق النتيجة العامة الثانية بثقافة البحر المتوسط أو بالثقافة العالمية أو الإنسانية، فقد أحاطت بهذا البحر المتوسط وما زالت تحيط به ثقافات متعددة، وليس هناك من وحدة تجمع بين هذه الثقافات أو من تراث مشترك بينها إلا ما كان ثمرة لتلاحمها وتشابكها عبر التاريخ، وليس من الممكن أن نعزل في هذا التعدد نواة صلبة ثابتة لنطلق عليها اسم الثقافة الإنسانية أو العالمية، ولكن هناك تراثاً فضفاضاً متعدد الجوانب والمراحل بحسب تعدد الثقافات التي تداولت هذا التراث وتنازعته عبر التاريخ. فقد جرت سُنة التطور على أن يؤول التراث المذكور إلى الثقافة الغالبة فتتناوله بالحذف والإضافة وتعيد تنظيم مقوماته وتطبعه لفترة بطابعها، وليس من الممكن أن نصف وحدة هذا التراث دون أن نروي قصة الجدل والنزاع الذي دار وما زال يدور بين الثقافات المذكورة، وإنا لنقترب من الصدق إذا شبهنا هذه الثقافات بالدوائر المتقاطعة. وتزداد الدقة إذا نحن أضفنا إلى هذا التشبيه الهندسي بعداً زمنياً ديناميكياً عن هذه الدوائر إنها دوائر نفوذ.

أما النتيجة العامة الثالثة فتتعلق بالموقف الذي ينبغي أن نتخذه اليوم من الثقافة الغربية، وهو موضوع معقد ويستحق دراسة قائمة بذاتها. ولكننا قد نقول بصفة مؤقتة وعلى سبيل الاختصار أنه لا مفر في هذه المرحلة من أن نشتبك مع الثقافة الغالبة فنتعلم عنها وننازعها بقدر الإمكان فيما لديها أو فيما آل إليها. ويبدو أن إبن خلدون هو خير مثال يحتذى في هذا الصدد. ويقتضي هذا أن نتخذ من الثقافة الغربية موقفاً ايجابياً فنشتبك معها في بناء العلوم والحضارة، فذلك هو الإطار الوحيد الذي يحدد لنا ماذا نأخذ وماذا ندع من التراث وماذا نأخذ وماذا ندع من الغرب دون تعسف أو تعصب أو تلفيق، ويترتب على ذلك، إن جميع الجهود التي تبذل اليوم لبحث مشكلة التراث والمعاصرة أو الأصالة والتجديد، تبقى علامة على العقم والتخلف طالما اقتصرت على المستوى النظري البحت ولم تنخرط في عملية البناء والالتزام بمقتضياتها.

وينبغي أن نتذكر في هذا الصدد أن ابن خلدون لم يكن يعنيه في المقام الأول أن يكون أصيلاً أو معاصراً أو أن يجمع بين أسلافه وبين أرسطو، وإنما اهتم بتقصي الشروط اللازمة لبناء علم التاريخ، كيف يصبح علم التاريخ ممكنا؟ ذلك هو السؤال الذي حدد لأبن خلدون اختياراته، ولقد كانت معاناة الضرورات التي تمليها عملية البناء هي طريقه إلى الحرية والإبداع. وما أشبهنا إذ نحاول حل المشكلة على المستوى النظري البحت بمن يتساءل عن أي المذاهب يتبع في الرقص وعن سبل الإبداع في هذا الفن دون أن يعاني ضروراته ودون أن يلتمس هنالك منافذ الحرية، وليس لأحد لم يتعلم قواعد اللعب ولم يتمرس بها أن يثور عليها.


الهوامـــــش

[1]ـ المجموعة الكاملة لمؤلفات طه حسين، المجلد التاسع، ص44.

[2]ـ المصدر نفسه، ص54.

[3]ـ المصدر نفسه، ص58.

[4]ـ انظر: من الشاطى الآخر: كتابات طه حسين الفرنسية، جمعها وترجمها وعلق عليها عبد الرشيد الصادق المحمودي، بيروت، 1990، ص75.

[5]ـ المصدر نفسه، ص43.

[6]ـ المصدر نفسه، ص185.

[7]ـ المجموعة الكاملة 200 ص38 و 39.

[8]ـ الواقع لا يبرز هذا الدافع إلا في حالة الثقافة الاوربية بوصفها الثقافة المعتدية الغاصبة.

[9]ـ محمود محمد شاكر – المتنبي: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، القاهرة، 1987، ص8 وكذلك ص6 وما بعدها.

[10]ـ ما كنا لنلتفت إلى هذا الإغفال لولا أن شاكر قد وضع في كتابه (انظر ص23 - 25 - قائمة مطولة للعلوم التي درسها وللأعلام الذين استقى منهم منهجه، ولولا انه ذكر في هذه القائمة أسماء فلاسفة مثل ابن سينا وابن رشد الفيلسوف.

[11]ـ وان حرص في – المقدمة- على جمع وتنظيم كل المعارف التي توصل إليها أسلافه.

[12]ـ التفرقة بين الألفاظ سواء أكانت منطوقة أو مكتوبة والقضايا من ناحية وبين الأشياء من ناحية أخرى تفرقة شائعة في كتب أرسطو المنطقية. انظر رأي أرسطو أن صدق القضايا أو كذبها يتوقف على تقرير ما (في الأشياءـ من تركيب أو انفصال)، كما يرد في (تفسير ما بعد الطبيعة ـ لابن رشد، تحقيق موريس بويج، المجلد الثاني، بيروت، 1967، ص1218-1219).

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا