الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

 
ردك على هذا الموضوع

أثر التربية والتعليم في نمو ظاهرة الإرهاب

عقيل يوسف عيدان *

شهد العالم العربي والإسلامي خلال الأعوام القليلة الماضية ظاهرة لافتة تمثّلت في تصاعد نمو الإرهاب والتطرّف الديني الأمر الذي أثَّر على الاستقرار العام وانعكس بالتالي سلباً على التنمية والتقدّم، كما أظهرت الإنسان المسلم/العربي أمام المجتمع الدولي وكأنه كائن متخلّف يمارس القتل والترهيب دون رادع ديني أو أخلاقي أو إنساني.

يعود السبب في ذلك إلى أن المتطرّف قد تستَّر وراء الدين لتبرير أفعاله، وبالعودة إلى تاريخ نشوء هذه الظاهرة يتبيّن أن لها جذورها عبر التاريخ، إذ دائماً كانت تقوم جماعات بممارسة العنف ظناً منها أنها بذلك تحاول تغيير الواقع انطلاقاً من رفضها للصيغ السياسية القائمة أو لأنماط العلاقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية السائدة، وتفاقمت هذه الظاهرة بشكل لافت للنظر خلال الربع الأخير من القرن العشرين نتيجة نشوء جملة من التطوّرات أهمها:

أولاً: إخفاق النظريات القومية العربية في تحقيق الأهداف التي وجدت من أجلها بعد أن تجذّرت القُطرية وأصبح لكل دولة هويتها وسيادتها وتطلعاتها.

ثانياً: سقوط جدار برلين وتفكّك دول الاتحاد السوفييتي سابقاً بعد أن تبيّن الإخفاق الذريع الذي مُنيت به النظريات الماركسية ثم اللينينية - الماركسية التي عجزت عن تأسيس مجتمعات اشتراكية.

ثالثاً: فشل نظام الاقتصاد الحر في تلبية مطامح الدول النامية وانعكاس ذلك سلباً على المستوى المعيشي للمواطنين.

هذه التطوّرات - وربما غيرها- دفعت بالبعض إلى الترويج للإسلام باعتباره النظرية العالمية البديلة القادرة على تقديم الحلول الناجعة والناجحة للمجتمعات كافة بالنظر لما تشمل تعاليمه من تشريعات تنظّم الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وبما يكفل للفرد كما للجماعة حقوقهم كافة ويحدّد لهم كل واجباتهم، ولقد كثرت وتعدَّدت الحركات التي تتبنى هذا الطرح منطلقة في ذلك من التبريرات الآتية:

1- الوضع الاقتصادي المتردّي لقطاعات كبيرة من المواطنين الذين بالكاد يستطيعون توفير لقمة عيشهم أو عيش أولادهم.

2- ارتفاع نسبة البطالة حيث يتعذر معها على الأجيال الناشئة إيجاد العمل المناسب.

3- البَون الشاسع بين اهتمامات الأنظمة السياسية الحاكمة وبين اهتمامات المواطنين.

4- انعدام وجود حرية الرأي والتعبير.

5- ابتعاد الناس شيئاً فشيئاً عن دينهم وتعاليمه وتشريعاته.

6- كثرة الأنظمة العلمانية المتناقضة في وجودها مع الشريعة الإسلامية.

7- ارتهان العالم العربي والإسلامي للغرب غير المسلم والمعادي في تطلعاته وتوجهاته للإسلام.

هذه التبريرات وتبريرات أخرى كثيرة غيرها اتخذت منها الحركات الأصولية شعارات لإثبات وجودها ولكسب المناصرين لها ووجدت أن تنفيذها لا يتم بالحكمة والموعظة الحسنة بل باللجوء إلى القوة، لأنها الوحيدة برأي هذه الجماعات القادرة على إعادة الأمور إلى نصابها المفقود، وإذا كان الإسلام يحمل فعلاً في مضامينه حلولاً للأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فإن الحركات الأصولية إنما تستّرت بالإسلام لتبرير أفعالها وتصرفاتها الإرهابية ودأبت على إيجاد التفسيرات التي تخدمها معتمدة في ذلك على تأويل آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة بما يخدم أغراضها. وكان من الطبيعي أن تلقى دعوات الحركات الأصولية الإسلامية أو الإسلام السياسي أو الإسلاموية (كما يفضّل أن يطلق عليها معظم المراقبين الأكاديميين)، أصداء بين بعض الفئات من المواطنين وذلك نتيجة أسباب متعددة توصّلت إليها دراسة ميدانية أجريت على عدد كبير من الطلاب في مصر والكويت ونشرتها مجلة مركز البحوث التربوية بجامعة قطر في عددها الثالث عشر من السنة السابعة الصادرة في يناير عام 1998 وتتلخّص بالآتي:

- الخلل التربوي والتفكّك الأسري.

- الاتجاهات الرافضة.

- المشاكل السياسية والاقتصادية.

- المشاكل الاجتماعية التقليدية.

- العوامل الخارجية.

ولمزيد من التوضيح فإننا سنتطرق إلى كل نقطة من هذه النقاط بشيء من التفصيل.

الخلل التربوي: يفيد الكثير من الباحثين المختصين بالشؤون الإسلامية أن الإسلام الأكثر تداولاً هو ما يسمى بالإسلام الشعبي الذي ينتقل بالتواتر بين الأفراد ذات الثقافة المحدودة الذين لا يكلّفون أنفسهم عناء البحث والتمحيص والقراءة والمطالعة أو لأن مقدراتهم الثقافية لا تسمح لهم بذلك فيكتفون بالاقتناع بما تجتمع لديهم من معلومات وتفسيرات وتشريعات لا يشكّكون بصدقيتها ويسندونها إلى الإسلام دون سوء نية، كما يعملون على توريثها لبعض من يعيش في بيئتهم من أولاد وأحفاد وغيرهم. وإذا ما دخل في هذا الوسط أي متفقّه في شؤون الدين فإنه قادر بسهولة على الإقناع بما يريده. فينشأ من جرّاء ذلك في هذا الوسط فهم خاص للإسلام قد يتناقض في كثير من الحالات مع التعاليم الصحيحة للدين الحنيف. وهذا الوسط يملك قدرة هائلة على التعصّب الأعمى وعلى الانجراف إلى أي عمل إرهابي ظناً من أفراده أنهم يخدمون بذلك الإسلام ويتقرّبون إلى الله عزل وجل.

وإذا ما أحصينا أعداد الأميين المنتشرين في عالمنا العربي والإسلامي والمحدودية الثقافية والمعتقد الديني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي فإن النتيجة ستكون لمصلحة شيوع الإسلام الشعبي أكثر من الإسلام الحقيقي. يضاف إلى ذلك المناهج الدينية المعتمدة في مدارس العديد من الدول الإسلامية التي تحرص على تحفيظ التلميذ لديها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية دون شرح لما لذلك من أبعاد دينية واجتماعية واقتصادية وسياسية بل بالتركيز فقط على نص الدرس وعلى تفسيره الحرفي. ويتولّد عن ذلك محدودية في الوعي الديني لأن التلميذ يتحوّل إلى ببغاء يردّد الدرس ويحفظه لضمان نجاحه في الامتحانات وليس لفهمه وهضمه واستيعاب أبعاده. وهنا أيضاً من السهل على أي متفقّه أن يخترق هذا الوسط وأن يوصل الأفكار التي يريدها ووفق الخلفية التي تخدمه وتخدم أغراضه ومآربه. وهناك مشكلة أخرى مسؤول عنها بعض المثقفين الذين يتوجهون بكتاباتهم وطروحاتهم إلى النخبة متعالين بذلك عن تثقيف العامة الأمر الذي يحرمهم من فرصة الاطلاع والمعرفة. كما أن هناك مشكلة الغزو الثقافي المتأتية من الغرب والغريبة عن العادات والتقاليد والتعاليم العربية الإسلامية وتؤثر إلى حد كبير في النمو الثقافي لدى الأجيال الصاعدة بحيث ينجرف قسم معها ويبتعدون عن واقعهم ويرفضها قسم من موقع المتعصّب لثقافته، ويعقلنها البعض الآخر بحيث يأخذ منها ما يفيده ويبتعد عن كل ما يساهم في تغريبه فكرياً وحضارياً وثقافياً. والخلل التربوي ينجم أيضاً عن التفكّك الأسري وعن ضعف سيطرة الوالدين على الأبناء وعن لا وعي الأهل. ويرى بعض المختصين أن الحل في إيجاد حاجات الشباب الارشادية من ناحية التوعية والحرية الفكرية داخل إطار ثابت من المعايير، وباستخدام أسلوب تفكير سليم، وكذلك التركيز على بناء مجتمعي متماسك عبر تكوين الثقة في المؤسسات الاجتماعية وفي مقدمتها الأسرة وهذا كفيل بأن يؤدي في النهاية إلى انحسار هذه الموجة بين الشباب.

الاتجاهات الرافضة: والمقصود بها الاتجاهات الرافضة للسلطة أو الواقع أو المحيط بحيث أن بعضها يعبّر عن رفضه عبر اللجوء إلى الإرهاب والتمرّد على الواقع ورفض الانصياع إلى السلطة وإتباع الممنوع والإعجاب بالرأي الذاتي. وهذه الاتجاهات تتأطَّر ضمن حركات وتنظيمات ذات هرمية سلطوية ويتم شحن نفوس أعضائها بطروحات أيديولوجية تطرح نفسها بديلة عن طروحات السلطات وعن دساتيرها وقوانينها. والمنتمون لهذا التيار قد يكونون من المتعصبين دينياً أو من الراغبين بالتمرّد على السلطة أو الذين يفتشون عن مواقع لهم أو من المصابين بالإحباط والعجز عن التكيّف مع الواقع أو من الذين يحبّون الظهور والرغبة في مخالفة الآخرين. ونستثني في هذا السياق حركات التحرّر الوطني التي ترفع شعار إنقاذ الوطن من الوصاية أو الهيمنة أو الاستعمار أو الاحتلال أو حركات التحرّر التي تعبّر عن رأيها سلمياً طمعاً في تطوير بلادها وتحقيق أعلى درجات التقدّم والازدهار. وأيديولوجيات هذه الحركات هي أيديولوجيات تعليمية مسالمة تؤمن بالحوار وبالنقد الإيجابي وتعترف بالآخر.

المشاكل السياسية والاقتصادية: يرى جوزيف غولدبرغ أن محور ظاهرة التطرف هو العدوان وقابليته للتبرير، كما أن له علاقة بالعوامل الموقفية مثل انتماء الفرد إلى جماعة ذات اتجاهات معينة أو أفكار عقائدية خاصة، أو التعرّض لظروف عدوانية أو مظاهر الإحباط الديني أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي. ويقول د.عزت سيد إسماعيل في كتابه (سيكولوجيا الإرهاب وجرائم العنف) ما نصه: (وفي الواقع، فإن اهتمامنا بعملية (غسيل المخ) إنما ينبع أساساً- في رأينا- من أن الكثيرين يمارسون صور الإرهاب المختلفة، قد خضعوا لعمليات غسيل المخ بحيث أصبحوا مدفوعين في سلوكهم بدوافع عنيفة شرسة أملتها عليهم تلك المؤثرات الانفعالية الهائلة التي خضعوا لها، وأدَّت بهم- أحيانا - إلى التوحد بالقائد أو الزعيم أو رموزهما، فأصبحت تعاليم وأهداف الجماعة هي الغاية العظمى التي يسعى المرء إلى تحقيقها، أياً كانت طرائق تحقيق تلك التعاليم والأهداف)، وعلى هذا الأساس فإن المتفقِّهين يستغلون الأوضاع الاقتصادية والسياسية ليبنوا وفقها نظرياتهم ويدعموا طروحاتهم التي هي في فحواها نقد للواقع ورفض له مع الحرص دائماً على طرح البديل على أن يكون البديل ذا ثوب إسلامي لكي يلقى استقطاباً من الجماعات التي تعتبر نفسها متضررة من الواقع الاقتصادي أو السياسي المعاش، والمعلوم أن هناك علاقة متينة ما بين الدين والسياسة من حيث أن الإسلام في الفكر الجَمعي للمسلمين دين ودنيا، إيمان وسياسة، إدارة الحياة الدنيا والارتباط بالحياة الآخرة معاً. وفي التاريخ الإسلامي أمور كثيرة كانت مثار خلافات سياسية أدَّت إلى نشوء فِرق وأحزاب ذات أغراض سياسية امتزج فيها الديني والسياسي وبخاصة حينما كان الأمر يتعلّق بالإمامة والخلافة وأصول الحكم وفلسفته. وعلى هذا الأساس تستمد الحركات الإسلامية بعض عناصر تكوّنها من طبيعة الثقافة المسيطرة في المجتمعات العربية الإسلامية، وهي ثقافة يغلب عليها الطابع التقليدي وتحكمها المعايير الدينية سواء على مستوى القيم الفردية أو الجماعية. وفي هذا المحيط الثقافي تبرز فعالية الخطاب السياسي الإسلامي الذي تقدّمه الحركات الإسلامية. ولا ترجع هذه الفعالية إلى المهارة التنظيمية لهذه الحركات، بقدر ما ترجع إلى طبيعة البيئة الثقافية التقليدية التي تتجاوب مع الخطاب. ولهذا فليس ضرورياً دائماً أن تقدّم تلك الحركات برامج سياسية واجتماعية تعبّر عن ثقافة سائدة وتستغل أفكاراً ومفاصل معينة فيها تفسّرها تفسيراً يتلاءم مع غاياتها ووسائلها وتوظفها من أجل تلك الغايات وتسويغ وسائل العنف. من هنا فإن مواجهة الطروحات السياسية الأصولية تكمن في نشر ثقافة سياسية تساهم في توعية المواطنين وفي إتاحة المجال لهم لمناقشة قضاياهم المساهمة في معالجة معاناتهم باعتبارهم المعنيين الأساسيين ولأن أي أزمة سياسية واقتصادية حاصلة فإنها تمسّهم قبل غيرهم ولذلك عندما يشعرون بأنهم مغيّبون فإنهم يلجأون إلى التعبير عن امتعاضهم بطرق غير مشروعة وأقلها عبر الانتماء إلى تنظيمات أصولية تملك كل مقوّمات استغلالهم.

المشاكل الاجتماعية التقليدية: والمقصود هنا بها المشاكل المتعلقة بعدم الانضباط الأخلاقي وبالفساد والرشوة والتسيّب والإدمان على المخدرات والمنكرات واختلاف الآراء بين جيلي الآباء والأبناء ووفاة الأبوين أو أحدهما والتأثّر بأفلام العنف وشيوع الجهل والأمية. كل هذه العوامل هي أسباب كافية لشيوع التطرّف عبر الانتماء إلى الجماعات التي تتستّر بالدين التي يجيد قادتها تقديم أنفسهم على أنهم مصلحون اجتماعيون هدفهم إنقاذ بلادهم مما تغرق فيه. والمعلوم أن الحركات الأصولية ذات النزعة الإسلامية في الدول العربية والإسلامية في الوقت الراهن هي حركات اجتماعية سياسية بامتياز وليست حركات دينية كما قد يوحي بذلك الحرص الذي تُبديه على إثبات انتمائها ونسبتها إلى الإسلام عبر الأسماء التي تطلقها على نفسها. ومواجهة هذه الأوضاع تتطلّب بحسب آراء الباحثين المختصّين الانتباه إلى ثلاث قضايا هي: أولاً: الطريقة التي يتم بها اكتساب السلوك، ثانياً: العوامل التي تحفّز على قيامه، ثالثاً: الظروف التي تساند أداء هذا السلوك.

العوامل الخارجية: وتتعلّق بالمؤثرات الخارجية التي تلعب دوراً في إشاعة العنف في بلد. وهذه المؤثرات قد تكون فكرية تقوم جهات خارجية على بثّها أو مادية والغرض منها رغبة دولة أو قوى معينة بمدّ نفوذها وهيمنتها أو بهدف زعزعة نظام ما. وكثيراً ما تلقى هذه المحاولات جماعات مستعدة للاستجابة لها إما بفعل حاجة أو نتيجة قناعة. ويُرجع الكثير من المفكرين الأسباب إلى ضعف التنشئة الوطنية بحيث يسهل على أي فرد ضعيف أن يرتهن للخارج وأن ينفذ أوامر الخارج حتى وإن تكن ممارساته مضرة لبلاده لأنه لا يدرك حقيقة ذلك أو إذا أدرك فلأن إرادته مصادرة.

 ختاماً، إن الحركة الإسلامية على مستوى العالمين العربي والإسلامي ظاهرة متعددة الفروع ومتنوعة الألوان، بحيث يظهر فيها طرف معتدل متنوّر، يسلك سبيل الحِكمة والموعظة الحسنة والقدرة في الفكر والسلوك، كما يظهر في طرفها الآخر البعيد تحرّك احتجاجي سبيله العنف المسلّح، وتقع ما بين هذين القطبين تيارات يتجاذبها هذا الطرف أو ذاك حتى أن بعض الباحثين أحصى إحدى وتسعين جماعة إسلامية تتحرّك على الساحة العربية والإسلامية، وهو إحصاء لا يؤخذ به إذ لا قاعدة علمية له. وصلاحية أو فساد وجود الحركات الإسلامية تكمن بالدرجة الأولى بأساليب التربية والتعليم المعتمدة التي يجب أن تكون قادرة على إنشاء توعية جماعية تشكّل رادعاً أمام انتشار العنف والإرهاب. والتربية والتعليم أساسهما العلم الذي لا يمكن فصله عن الدين. ويقول بها الصدد المفكر الإسلامي محمد جواد مغنية ما نصه: (إن العلم والدين موصولان بالعمل. أي فكر أو قول لا يهدي إلى خير، ولا ينطوي على نتيجة عملية، ولا يسأل الله عنه غداً، فما هو من العلم والدين في شيء (...) وكل قول وإدراك وعمل صادف الواقع فهو حق وصدق سواء أكان عن علم، أم احتياط، أو عن تقليد، أو لا ذا ولا ذاك). والعلم كما قال الشيخ محمد عبده (ضوء يهدي إلى الخير في الاعتقاد والعمل).

* باحث في الفلسفة الإسلامية والفكر العربي، من الكويت.

[email protected]