ردك على هذا الموضوع

ندوة بيت الحوار العراقي

البحث عن تأصيل للمختلف في اللغة والأدب - صالح زامل*

(والاختلاف في الرأي والنظر والبحث والمسألة والجواب سِنْخ وطبيعة)

أبو حيان التوحيدي/ الإمتاع والمؤانسة(1)

 

 

الدلالة اللغوية:

على الرغم من الوعي المبكر بالمختلف أو الاختلاف أو ما يقابله، إلا أننا لا نجد المعجم يعنى كثير عناية في رصد تطور هذا المصطلح، وهو يورد لفظا مرادفا أو مماهيا له وهو (التخالف، واختلف، خلفة)، ونحن نرصد الجذر اللغوي للكلمة في (خلف) لاحظنا المعجم يتجاهل ذكر (الاختلاف) بهذا اللفظ، وإن تداولها في مواضع أخرى، مما يؤكد أنه لم يتركها لعدم فصاحتها، ولكنه اكتفى بلفظة (التخالف) جذرا وكان منها تفريع (اختلف ومختلف)، وهي تحقق المعنى الذي نريده، ولعل مرد ذلك إنما يرجع إلى جملة القصورات التي تؤخذ على المعجم العربي عموما، وذلك واضح في معجم مهم مثل (لسان العرب) فيقول (تخالف الأمران واختلفا: لم يتفقا، وكل ما لم يتساو، فقد تخالف واختلف) (1).

وهو من جهة أخرى يحيط بالجانب المتداول في اللغة المبنينة من اللفظ الذي نريد وهو التخالف، لكنه يحتقر أحد طرفيه من خلال تكريس (عدم التساوي) على أنها سمة للتخالف وبالتالي للاختلاف، فضلا عن الفراق (لم يتفقا)، ويؤكد ما نذهب إليه قول ابن منظور في موضع آخر (القوم خلفة أي مختلفون، وهما خلفان أي مختلفان، وقال دلواي خلفان وساقياهما أي أحدهما مصعدة ملأى والأخرى منحدرة فارغة، أو إحداهما جديدة والأخرى خلق... ويقال لكل شيئين هما خلفان وخلفتان، وحكي: لها ولدان خلفان وخلفتان، وله عبدان خلفان، إذا كان أحدهما طويلا والآخر قصيرا، أو كان أحدهما أبيض والآخر أسود)(2).

ونخلص من هذا النص لحدود يمكن أن نفترضها لدلالة الاختلاف اللغوية التي يكرسها المعجم، وهو يمثل المبنين من الكلام:

1- إنه يفترض طرفين للاختلاف.

2- أن يكونا غير متساويين، وعدم التساوي قد يكون في المعنوي والمادي، وعموما عبر تكريس قيمة بعينها (طويل/ قصير- ملآن/ فارغ - ابيض/ اسود).

في حين يتجاوز المعجم القيمة الجمالية التي تتصل بالحوار والفكر إلا إذا فهمنا (تخالف الأمران) و (القوم خلفة) بأن الأمر يتصل بالعقل والفكر وتحديدا بالرأي وهو ما نبحثه.

وفي المعجم الحديث لا تغادر مفردة (الاختلاف) المعنى السابق عندما وضعها في مقابل اتفاق الرأي، فينقل مرادفات الاختلاف (اختلفوا في الأمر، وتخالفوا، وتنادوا، واختلفت كلمتهم، وتفرقت كلمتهم، وتعارضت أهواؤهم، وتشعبت آراؤهم، وتباينت مذاهبهم، وانتقصت عقدتهم، واضطرب حبلهم....) (3)، وهي توحي بالفرقة وعدم التساوي بالمحصلة.

والمترادف الذي ساقه لا يغادر المعنى الذي دار حوله المعجم من 1311م وهي سنة وفاة ابن منظور صاحب (لسان العرب)، ومعجم (نجعة الرائد وشرعة الوارد في المترادف والمتوارد) للشيخ إبراهيم اليازجي المطبوع سنة 1904م، وبين المعجمين أكثر من قرن، لكن المعجم عجز عن رصد أي تحول أو إضافة متسامحة تقارب المصطلح الذي نبحث عن حدوده.

لقد بدأنا بالمختلف وتركنا المؤتلف، ومسوغنا لأن الأخير تغلب عليه الاتباعية والنقلية واللا إبداع، وهو تسليمي لا يولد حوارا فاعلا ومنتجا، فالمؤتلف يصدر عن لسان واحد وهو موافقة لفلان، ورؤية رأيه، والميل لمذهبه، والذهاب لرأيه، والنزوع إلى مقالته، وواضح أن فيه ذاتا واحدة فاعلة، وأخرى لا تتجاوز الموافقة، وذلك يطرد أحد عناصر الكلام، والكلام أعم وأشمل من اللغة، وأقل قيودا، وفاعلية الكلام لا تكون إلا بالحوار، وفاعلية الحوار إنما تكون بالاختلاف.

الاختلاف اصطلاحا

الاختلاف هو الاعتراف بالآخر، والقبول بالحوار وبالتعدد، شرط أن لا يكون الاختلاف للاختلاف وحسب، وإنما للنهوض بقضية خلافية لكي تتكامل من كل وجوهها، وهو في كل ذلك يرتكز فضلا عن العقل والعلم، على شرط أخلاقي يرتقي بالإنسان إلى احترام كيانه وكيان الآخرين من خلال التعزيز للإنساني.

إذن يمكن أن نخلص بحدود من هذا التعريف:

1- الاعتراف بالآخرية؛ وهي شرط لاكتمال أي حوار الذي يفترض الطرفين، وهذا الاعتراف يحقق الندية وعدم الاحتقار، إن وعي الاختلاف يمكّن من خلق تركيب فكري وسياسي يسمح له بشروط تسمية الذات والآخر (4).

2- قبول الحوار؛ لان الحوار مع الاتفاق ليس حقيقة كلامية أصلية وإنما حقيقة متفرعة على حقيقة الحوار مع الاختلاف (5)، وأن يتسم هذا الحوار بالتكافؤ- من حيث المنطلق- بين الأطراف المتحاورة، لكل طرف الحق المبدئي في بسط رأيه والدفاع عنه، أما حين يفرض طرف فرضا مسبقا أن رأيه سلطة، وأن رأي الآخر مجرد رأي، فإنه يلغي الحوار من الأساس (6)، وبالحوار يستبعد العنف والإقصاء المحمول على أحكام مسبقة.

3- التعدد وفيه يتعين التفاوض مع مختلف عناصر المغايرة (7)، وهذا يفترض الاعتراف بأن لكل قضية خلافية آراء أو أوجه لا يمكن إن يكون أي منها مطلقا، والتعدد يمكن إن نقاربه بنسبية الأشياء بمعنى أن ما أملكه لا يمكن أن يكون مطلقا بأي حال من الأحوال.

4- إن الاختلاف يتجاوز أن يكون ترفا، ولكنه يسعى إلى خلق التكامل، فيستبعد بذلك التوفيقية والجماعة التي تحاول أن تغمط الوجهتين الأساسيتين للحوار.

الاختلاف في كتب النحل والفرق الإسلامية

إن الكتّاب الإسلاميين قد اثبتوا أن الاختلاف حقيقة واقعة، وقد عرفها الإسلام من عهده الأول (8)، وقد مثل الاختلاف الديني أحد أهم مظاهر الاختلاف بين الأفراد والجماعات آنذاك على الرغم من وجود لغات وأعراق، إلا إذا حملنا ظاهرة الحِجاج التي رافقت دعاوى الشعوبية على أنها صورة من صور الاختلاف بين الأعراق، فهذه الظاهرة كانت في مبدئها تقدمية عندما حاولت رفع التمييز والاضطهاد وتحقيق المساواة فسمّوا بأهل التسوية، لكنها صارت مع احتدام التطرف دعوة للبحث عن المثالب والعيوب من لدن الطرفين فانتفى عنها روح الحوار الاختلافي، وقد ألفت الكتب في تفضيل العرب وأخرى في تفضيل العجم، ومقابل قصيدة لامية العرب كانت لامية العجم، أما على صعيد الاختلاف الديني فيمكن أن نفحص أكثر من وجهة، الأولى هي نظرة المسلمين لبعضهم كسنة وشيعة مع تفريعاتهما وهم يؤولون النص القرآني، وقد كان الاختلاف حادا وتكفيريا، والثانية نظرة المسلمين لغير المسلمين، وقد كانت في الغالب موضوعية ومتسامحة تعترف باختلافهم وذلك يخضع أيضا لبعد الأمكنة وقربها فالنظر للبوذية غير النظر للزرادشتية، ونجد تآليف عنت بذلك مثل كتاب (الملل والنحل) للشهرستاني، و (الفصل بين الملل والأهواء والنحل) لابن حزم، وكتاب (الفرق بين الفرق) للبغدادي، وكل منها معجم في الأديان والفرق، وكان أكثرها تسامحا وموضوعية في عرضه لعقائد وأديان البشر كتاب الشهرستاني، لكنه مع ذلك لا يمكنه إن يفهم الاختلاف إلا بأنه عدم التكافؤ، خاصة عندما يتحدث عن الملل الإسلامية، إذ يقطع كما الآخرين إلى أن الحق لا يمكن إن يكون إلا مع الفرقة الناجية وإن لم يحددها، وتكون بعد ذلك الحقيقة لها وجهة واحدة يملكها أحد الأطراف، ولكن هذه الموضوعية المتسامحة التي نقيدها للشهرستاني يلغيها ابن حزم بدءا من عنوان كتابه، الذي بدأ بكلمة (الفصل) والفصل يعني من وجهة فض الاشتباك بسلطة الكتابة التي تدعي الحياد، وفي متنه مصادرة قبول الآخر، لأنها اشتغلت على نيّة العزل والتفريق لا المجاورة التي يحفظها الاختلاف، وهو واضح أيضا في (الفرق بين الفرق).

هذا الاتجاه الالغائي كان غالبا ومتسيدا إلى الحد الذي يكون فيه محنة، كما نجدها في الموقف من القضية الاعتزالية في القول بخلق القرآن التي بدأت زمن الخليفة العباسي المأمون، إذ أحضر كل من له علاقة بهذه القضية ليقر بأن القرآن حادث وليس قديما، وصودرت معه كل وجهات النظر المغايرة، كما نجدها تتمظهر بشكل آخر في محنة رجل مثل ابن أبي الحديد، فقد احتاجت أسرته لكي تتقلد مناصب الدولة العباسية أن تنتحل غير مذهبها عندما تشفّعت وهي شيعية الأصل، ولما ألف ابن أبي الحديد كتابه شرح النهج كان ينظر بعين إلى الخليفة العباسي الشافعي، وبعين للوزير الشيعي، وحاول يراعه أن يحافظ على هذه المعادلة وهو يرقم شرح النهج، وبعد ذلك فهو مخضرم في التشيع والتشفع والاعتزال (9)، هذه المحنة تستمر لعصر رجل مصلح مثل جمال الدين الأفغاني، فقد وعى الأخير بأن من (الخير لك في عالم التعبير بالعربية أحيانا أن تكون سنيا من أن تكون شيعيا، حتى تجد متنفسا لأفكارك وحسن استقبال لها يزيد ألف مرة عما لو كنت غير سني) (10).

وهذا الوعي لا يقوم إلا على إدراك أن الآخر يرفضك ابتداء، فتجد المبرر إن تنتحل بالظاهر مذهبه، فيقارب (التقية)، لتتحرر من الحكم المسبق، وتتحقق لك الحرية بالحركة وأنت تعرض رؤاك أمامه.

الاختلاف في المناظرات والتآليف الأدبية

وفي مجال الأدب نجد هناك المجالس الأدبية التي هي صورة للحوار، ومظهرا للاختلاف خاصة عندما تعززت فيما بعد بما يسمى (المناظرات) مع اتساع رقعة المشتغلين بعلم الكلام في العصر العباسي، فكان للبرامكة مجلس للمتكلمين من أهل النحل، يتباحثون في الكون والقدم والحدوث والإثبات والنفي للصفات والجبر والاختيار وغيرها من الأبحاث الفلسفية أو قضايا علم الكلام، واهتم الخلفاء بهذه المجالس، ولاسيما بعد أن ظهر القول بخلق القرآن وقام به المأمون كما ذكرنا، فأخذ يعقد المجالس للمناظرة فيه وفي سواه وعين الثلاثاء من كل أسبوع يوما لهذا اللقاء.

لقد كانت هذه المناظرات تعقد كلما دعت الحاجة إلى إثبات رأي أو مذهب جديد، والإثبات يمكن إن يحمل بين طياته إصرار على إلغاء آخر فيكون اصطراع الجديد والقديم، ولم تقف مجالس المناظرات عند الخلفاء والملوك بل اقتدى بهم أهل العلم والوجهاء والأطباء، وأطلقت حرية البحث في كل شيء، وكان رواد هذه المجالس من العلماء بمختلف طبقاتهم، ومجلس مثل أبي حامد الاسفراييني كان يحضره ثلاثمائة فقيه (11).

وفي مجال التأليف اللغوي والأدبي كانت موضوعة الخلاف من المظاهر التي عالجتها الكثير من التآليف فهناك كتاب (الإنصاف في مسائل الخلاف) بين البصريين والكوفيين، وهو حوار حول مسائل خلافية نحوية كانت محاولة الإنصاف فيها رغبة في تفضيل أحد الوجهتين، وهناك (الموازنة بين الطائيين) وهما أبو تمام والبحتري، وهي محاولة لتذليل الهوة بين فريقين كان كل منهما يناصر أحد الشاعرين، فضلا عن تآليف أبي حيان التوحيدي التي يغلب عليها طابع المناظرة، وهي تعرض حوارات حول قضايا فلسفية وكلامية وأدبية عامة.

لقد مثل الثقافي على صعيد المناظرة والتأليف، إلى حد ما، وعيا بالاختلاف متفاوتا بحسب القضية التي يعالجها، لكنه ارتقى كثيرا على الممارسة السياسية وحتى على الفكر العقلي أحيانا الذي تبنته المؤسسة حقبة معينة كقضية المعتزلة.

الاختلاف ممارسة في الواقعة التاريخية

يذكر المبرد في أخباره عن الخوارج (ولقيهم عبد الله بن خَبَّاب وفي عُنقه مصحف، ومعه امرأته وهي حامل، فقالوا له: إن هذا الذي في عنقك ليأمُرُنا أن نقتُلك. فقال: ما أحيا القرآنُ فأحيوه، وما أماته فأميتوه.

فوثب رجل منهم على رُطبةِ فوضعها في فيه، فصاحوا به، فلَفَظَها تَورُّعا، وعرض لرجل منهم خنزير فضربه الرجل فقتله، فقالوا: هذا فساد في الأرض. فقال عبد الله بن خباب: ما عليَّ منكم بأسٌ، إني لمُسلمٌ.

قالوا له: حدثنا عن أبيك؟ قال: سمعت أبي يقول، سمعت رسول الله (ص) يقول:( تكون فتنةٌ يموتُ فيها قلبُ الرجلِ كما يموتُ بدنُه، يُمسي مؤمنا ويُصبح كافرا، فكُن عبد الله المقتولَ ولا تكن عبد الله القاتلَ).

قالوا: فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى خيرا. فقالوا: ما تقول في علي أمير المؤمنين قبل التحكيم، وفي عثمانَ ستّ سنين؟ فأثنى خيرا، قالوا: فما تقول في الحكومة والتحكيم؟ قال: أقول: إن عليا أعلمُ بكتاب الله منكم، وأشدُّ توقيا على دينه، وأبعد بصيرة. قالوا: إنك لستَ تتَّبعُ الهُدى، إنما تتبعُ الرجالَ على أسمائها.

ثم قربوه إلى شاطئ النهر فذبحوه، فامْذَقَرَّ دمه، أي جرى مستطيلا على دِقَّةٍ.

وساموا رجلا نصرانيا بنخلة له، فقال: هي لكم. فقالوا: ما كنا نأخذها إلا بثمن. قال: ما أعجب هذا أتقتلون مثل عبد الله بن خباب، ولا تقبلون منا جنى نخلة) (12).

تعمدنا أن ننقل هذا النص كاملا لنقف عند مفاصله، ويحمل لنا سرد الخبر تصورا مسبقا عن جماعة معينة (الخوارج) ينقله الراوي، ويبدأ الخبر بتعيين الشخص الذي يمر بأرض يعرف بأنها تكمن فيها، فلذلك يحترز بأن يحمل المصحف في عنقه، والمصحف إنما يدفع كل شر، لكن يواجه بأن ما يحمله يكون سببا لحكمهم عليه، بل يقطعون بأن المصحف يأمرهم بقتله قبل أي حوار، وهو يحمل القرآن وزوجته حامل، إذن هناك محمولان محرمان، القرآن والمرأة الحامل، القرآن يوقظ المقدس، وأخوة الإسلام، وحفظ روح المسلم، المرأة الحامل توقظ الإنساني إذا لم يكن القرآن شفيعا.

يبدأ بعد الحكم الحوار بالتسليم للقرآن لكن في الحوار هناك توافق لا اختلاف لكنه يسحب إلى منطقة خلاف معينة لا تقود لحوار اختلافي كما يفترض ولكنها مبيتة من السارد والمتحاورين على الوصول لنهاية غائية، فالسارد مدجج بنقل حكاية تبدأ من سطورها الأولى بالمصادرة (قاتل ومقتول يدعيان أنهما مُؤتَمَران بالقرآن ويتحصنان به كل من وجهته وكلاهما يدعي التسليم للمحمول)، وتظل تتكثف الرواية بهذه الوجهة، فحمل المصحف إثارة للخوارج لأنها قرينة بحادثة التحكيم ورفع المصاحف في وقعة صفين، وهناك المرأة الحامل التي ينسى السارد مصيرها لكنها ستكسب ترميلا ويتما لما تحمله، وهو يشبه مصير القرآن والإسلام الذي نسيته هذه الأمة ما يقرأ من رؤية السارد، فسيكون الإسلام غريبا وليس بأحسن حال من اليتم والترمل، والحديث الذي يرويه عبد الله عن النبي يؤكد ذات الوجهة، وعي عبد الله بأنه مقتول، والمقتول خير من القاتل، فيمعن في الذبح هو الآخر لذاته بدون أن يداهن، ثم يزيد من إثارتهم عندما يؤكد أن عليّا أعلم بالمحمول، فهل كانت النهاية ستكون غير ذلك لو أن عبد الله أجابهم بما يريدون، يبدو أن للسرد هنا غاية واحدة، هي إظهار البشاعة والإلغاء بين بني الإسلام، فالحيوان والخنزير تحديدا بما يمثله من نجاسة بالنسبة للمسلم قتله فساد، والتمرة التي يلقفها جائع يصرخ به أكثر من صوت ينهاه، ويفضل إن لا يأكلها تورّعا، في حين يذبح المسلم بدم بارد، والمفارقة تكون في تحوّل غير ذي صلة أصلا بالحدث، ليمعن في الفضيحة عندما يساومون ذميَّا في نخلة، وهو الشاهد على الجريمة أيضا، ويظهر في الرواية أكثر ارتكازا وحضارة محتكما للعقل، عندما يبدي احتجاجه وهو يتعجب من أمرهم، وهم يساومونه على تمرة هي بلا شك مسألة أقل قيمة من رجل يعرف الذمي قدره، وهم قد تجاهلوه.

إذن يمكن أن نأصل للاختلاف في الثقافة العربية لكن إلى أي حد يلتزم بالحدود التي وضعناها في تعريف الاصطلاح، بلا شك أن سيادة فكر إلغائي حتى في أفضل تقاليده التي تستعاد الآن على أنها منجز حضاري إلى حد إن تطرح على أنها متبنيات تعرض للحوار الحضاري، أقول إن هذا الفكر لا يمكنه أن يخلق اختلافا يقف على خلفية الاعتراف بالتكافؤ، لقد رأى هذا الفكر في الاختلاف خلافا، وفي التعدد فتنة وتجزئة، ووضع حدودا وتابوات لا يمكن التعدد فيها، وإن اعترف بأوجهها، فالخوارج فرصة أن يتناقشوا في تأويل آية مع مخالفيهم في لحظة احتدام المعركة، وأن يقرأوا القرآن حتى يغشوا بالبكاء، لكن ليس لديهم لحظة للتفكير بجدوى الاحتراب، فمن طريف أخبارهم أنهم أصابوا مسلما ونصرانيا، فقتلوا المسلم وأوصوا بالنصراني، فقالوا احفظوا ذمة نبيكم (13)، وفضاعة المشهد الذي صلب به الحلاج عندما قطعت أطرافه ثم علق رأسه بجهة وجسده بجهة على جسر بمرأى من الناس، إمعان في إلغاء الآخر وتصفيته بعنف، هذا عدا الأمان للضعيف ثم قتله غيلة من قبل القوي كفعل السفاح بالأمويين بعد انتصاره، وحرق كتب الفلاسفة في الأندلس، هذه المفارقة وهذا العنف يجد له صدى في ظاهرة تشغل الشارع العراقي آنيا، التي لا تعي قيمة وحضارية الاختلاف إلا من خلال ثقافة العنف، التي لا ترى سوى صورة شوهاء واحدة، وتصر على أنها الصورة المثلى، تحتاج هذه الثقافة بين قطاع كبير منها إلى تنمية الاستعداد الذهني لتتعلم قبول الآخر من خلال تحرير العقل من الاستبداد والاستعباد.

المناقشات:

- سعدون ضمد: قراءة نقدية جميلة، بودي أن أشير إلى أن فقر المعجم اللغوي- وربما أكون متجنيا - يرتبط بكون اللغة العربية ذات منبع صحراوي، والصحراء لا تقبل المختلف.

- مزهر: الحقيقة أيضا أضيف إعجابي بالموضوع- كما تفضل الأستاذ سعدون - ليس لدي الكثير من التعليق، ربما هنالك مسألتان، الأولى قضية المعجم، التي يشير الأستاذ صالح فيها إلى فقر هذه المعاجم، ولكن أود أن أركز على أن هذا الطرح انطبق من تعميم استند على معجم واحد وهو (لسان العرب)، لو تتوقف عند مدرسة التقفية ربما تخرج بنتيجة أخرى، الثانية قضية الاختلاف، الحقيقة هي ثقافة وجذور وشجاعة هذا الأمر في تاريخنا كله لم نجد له قبول إلا عند فئات معينة من المجتمع الإسلامي، ولهذا تحتاج إلى تكوين ثقافة تزرع الاختلاف وقبول المختلف، أتمنى أن تدرس عملية إنتاج ثقافة الاختلاف بمعزل عن الإرث التاريخي، كذلك أود التنبيه إلى أن الإنسان لا يسمع إلا نفسه هو، وهذا الجانب لابد من المحاولة لمعالجته، لذا نحن بحاجة إلى تأصيل وبناء جديد.

- د. باسم الغبان: ربما أسعى للتركيز على الجماعة والاختلاف، حيث هناك فقرات تشير (أن الاختلاف وسطي بين الآراء) المختلف لماذا لا تسير الجماعة مع رأي واحد حول قضية الخوارج والنص ربما يحتاج إلى تأصيل موثوقية المدح التاريخي الذي أورد، كذلك قضية جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي والاختلاف الذي أسسا له في مسيرة حياتهما.

- د. متعب مناف: أحيي الأستاذ صالح حول الورقة، وانتقل إلى السطور الأخيرة من الورقة، حول مطالبة قبول الاختلاف، ربما هذه المطالبة نوع ما كبيرة على الشارع العراقي، وهو شارع محدود في فعالياته، هل باستطاعة الإنسان الشارعي أن يقترب من قيمة الاختلاف وهو محدود وبسيط في رؤيته، كأنك تضع الشارع العراقي بين كماشتين أما أن يكون غير واع للقيمة الحضارية، أو أن يكون عنيفا، فهل هذا توصيف قريب إلى الشارع العراقي، وهل يمكن أن نؤسس في الشارع ثقافة عالية رغم أنه ذو محدودية، هل أن هناك حالة مبيته بحيث يبقى الشارع العراقي مختلفا، هل أن العنف الذي يمارس في الشارع العراقي عنف غبي أم عنف مبرر، إذا كان عنفا غبيا ربما يعالج عن طريق الإعلام والثقافة والتعبئة الفكرية، أما إذا كان مبنيا على أساس اعتقاد وحقيقة بأن العنف هو الوسيلة الوحيدة للوقوف بوجه القوة الكاسحة بالنسبة له، وهي قوة الحاكم، أرجع وأقول أن الشارع العراقي ليس شارعا غبيا، ولكنه يفهم الاختلاف بأنه خلاف وتخالف، إذن للشارع العراقي قاموسه الذي يحركه وهو ذو فاعلية عالية، ولهذا أنتج الشارع ثورات منها الثورة الفرنسية (حرية، إخاء، مساواة) ولهذا هل نستطيع أن نوزن الشارع العراقي كعامل فاعل ومتحرك في التغير، ربما نجد مفردة (خالف) في اللهجة العامية، يجب أن لا ننسى أن الشارع أكثر الجهات احتكاكا بالناس وأكثر الجهات اختبارا للناس، لهذا حينما يقبل يقبل، وعندما يرفض يرفض، لكنه يقبل ويرفض الآليات التي هي غير اعتيادية، ولهذا ربما يكون حكم الشارع أكثر شفافية لأنه لا يوجد فيه خوف، ربما نحاول التركيز على سؤال: لماذا الفرد العراقي خائف؟ أما عندما نصل إلى عبارة (كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل) لماذا هذه التسليمية في الشخصية العراقية.

- سعدون ضمد: الخوارج أيضا شخصية عراقية.

- د. متعب مناف: لقد قلت في أكثر من ندوة وبحث، إن الشخصية العراقية قد جمعت بين شخصية الحسين والحجاج مع تنافر عالي بين الشخصيتين، كذلك وردت كلمات لها دلالات متعددة (تشفع، تشيع، اعتزال) اعتزال مسألة فلسفية، تشفع مسألة مذهبية، التشيع مذهب له تأثيره الكبير في الحراك الإسلامي، إذن كيف جمع بين هذه الكلمات، هل أن الجمع فيما بينها دلالة على ضعف الشخصية أم قوة الشخصية.

- صالح زامل: ربما نستطيع التأسيس عليها.

- حكمت البخاتي: بخصوص الورقة التي أشارت إلى غياب اللفظ، إنما تشير إلى غياب المعنى من الحياة، إن الألفاظ لا تأتي إلا بعد استحضار المعاني، غياب لفظة الاختلاف من المعاجم العربية كأنما يشير إلى تغييب هذا اللفظ من الحياة الفكرية لهذه المعاجم، هنا أود أن أشير إلى أن المطروح من التراث العربي الإسلامي في غالبه لا يمثل الخط الرسمي أو السلطوي في التاريخ الإسلامي الذي يعبر عن وجهة نظر السلطة، ولهذا تطرح المعاجم ما تريده السلطة ولا تطرح ما ترفضه السلطة، مع ذلك بالرغم من وجود المؤثرات التي تتجه نحو الإسلامية من جوانب سلبية، مع ذلك أخذت هذه الحضارة مساحة من الوجود والتفاعل والتأثير، وجود هذه الحضارة يشترط وجود عناصر مؤسسة لها، وأنا في تصوري أن من أهم العناصر، هو عنصر الاختلاف، لأنه بالاختلاف يتم الإبداع، والحضارة وليدة الإبداع، إذن كان هناك الاختلاف، ووجود الاختلاف في حياة هذه الحضارة، حسين مؤنس في كتابه (الحضارة) يشير إلى مسألة جوهرية بخصوص تاريخ الحضارة الإسلامية، يقول إن الحضارة الإسلامية بنيت لا بفضل الاتجاه الرسمي أو السلطة السياسية في الدولة الإسلامية، وإنما بنيت بفضل القواعد العامة لهذه الحضارة، القواعد الشعبية، الفقهاء، العلماء، الفلاسفة، المتكلمين، هم الذين أبدعوا الحضارة، ولهذا الاختلاف نشأ في الجدل الثقافي والفقهي والكلامي، فمثلا كشاهد على ما أقول، هشام بن الحكم كان له زميل في العمل عاش معه ما يقارب العشرين أو ثلاثين سنة، كان الاثنان يعملان في نفس المحل ببيع القماش، كان هشام يرى الإمامة بأنها من الدين، والآخر يرى العكس، ولكن لم يذكر يوما أن أحدهم أساء إلى الآخر رغم الاختلاف.

- د. متعب مناف: ألا ترى أن السوق يوحد بين الأثنين، والقصد بالسوق العمل التجاري.

- حكمت البخاتي: مجلس المأمون كان يضم المختلفين في المذاهب، مجلس عضد الدولة في زمن الدولة البويهية، على الرغم من إماميته أو زيديته، جمع المختلفين معه في الاعتقاد، حيث وجه دعوة للباقلاني لحضور مجلسه فرفض، كذلك مجلس الصاحب بن عباد، ثم العلاقة التي تربط الشريف الرضي بأبي إسحاق الصابي والأمدي رغم الاختلافات المذهبية، على ما يبدو أن الاختلاف على المستوى السياسي في الحضارة الإسلامية كان مغيبا تماما، وعلى المستوى العلمي كان موجودا، المشكلة أنه عندما بدأت هذه الحضارة بالانهيار ساد الاتجاه السياسي على كل الاتجاهات الأخرى لهذه الحضارة، لذلك غيب الاختلاف في مجتمعاتنا وتحول إلى خلاف.

- حسين هادي: حقيقة أنا لا أميل إلى التأصيل في الاختلاف، لأن الاختلاف مفهوم حديث جدا، برز تقريبا من قبل الفلاسفة قبل نصف قرن على يد الفلاسفة الفرنسيين وهنا اعتقد يجب التفريق بين المفهوم والظاهرة، أما بخصوص التراث الإسلامي، فلقد قرأت كتابا حديثا اسمه (أدب الاختلاف في الإسلام) لطه جابر العلواني، مع ذلك فإنه مكتوب بطريقة قديمة، أي انقطاع لحادث تاريخي والاشتغال عليه، ربما فاته أن المسألة ليست حالات فردية وإنما هي متطلبات وممارسات، قد أميل إلى أن الاختلاف في الإسلام يجد المجال الحقيقي، والدليل على ذلك النكبات التي مرت بالتاريخ الإسلامي (نكبة المعتزلة، محنة ابن رشد، محنة ابن حنبل) الصراعات المتعددة التي عاشتها المجتمعات الإسلامية إلى العصور الحديثة، ترى أن مفهوم الاختلاف والتسامح قد يبرز على يد الفيلسوف (جون لوك) الذي أكد على التسامح، بعدها انطلق عصر التنوير الذي ركز على أن هذا العصر علمي في طروحاته وعقلي في نظرته، المشكلة التي نعانيها في المجتمعات العربية أن قضية التنوير لم ترتفع إلى مستوى التمثيل، بل بقيت حالات فردية.

- صالح زامل: نحن نشتغل على المثقف وثقافة الاختلاف، وهذا نجده في نصوص الغزالي وابن رشد وغيرهم، ولا نتخذ ممارسة الشارع.

- حسين هادي: يبقى الغزالي رأي وليس خطاب يمارس ويتمثل.

- د. متعب مناف: علينا الرجوع إلى الأصول، ومنها المعتزلة والتفاف المأمون حولهم ومحاولة خلق طبقة ثقافية فكرية تستوعب كل النتاجات الثقافية المطروحة، لكني أبقى هل ثقافة الاختلاف موجودة في الإسلام؟

- حسين هادي: نعم موجودة، ولكن هناك صراعات حصلت في تاريخ الإسلام، ولهذا نجد أن مثقفينا ما زالت انتماءاتهم، أما طائفية أو فئوية أو جهوية أو طبقية.

- د. متعب مناف: إن الذي ذكرته يرجع بالأصل إلى الخلافات السياسية وليس الثقافية، لو كانت محسومة ثقافيا انتهت.

- حسين هادي: في الستينات في العراق، نلاحظ أن خلفية الصراع السياسي الحزبي نجد فيها أرضية طائفية تكمن خلف المواقف السياسية، وبالتالي انعكس حتى على الانتماء المناطقي في العراق، أعود لما ذكرته حول عصر التنوير، إن هذا العصر بث فكرة العقل التي صاحبها مسألة الوضعية التي لا تفسر الأشياء إلا على أساس علمي يستبعد كل طرح خارج منطق العلم، نصل إلى العصر الحالي، نجد أن هناك الفلاسفة الفرنسيين مثل جيل دولوز، ميشيل فوكو، قد وقفوا ضد طروحات عصر التنوير وذهبوا إلى أن هناك أفكارا لاهوتية أو أسطورية، يجب الوقوف عندها وتحليلها، كذلك نادوا للتخلص من السرديات الهيجيلية والماركسية، مما دفع إلى ظهور دراسات كثيرة تهتم بالمخيال وتأثيره على الإنسان، ودراسة الأسطورة وعلاقتها بالبناء الفكري الإنساني، ولذلك دراسات تهتم بالمخيال الشيعي والسني، مما يجعلني أؤكد على أن فكرة الاختلاف حديثة فلسفيا، أما بخصوص كونه مصطلحا تبقى له شذراته في الحياة الفكرية والاجتماعية، تذهب أغلب الدراسات الفكرية أن هناك أربعة تيارات فكرية سادت الحياة العربية هي الماركسي والليبرالي والقومي والإسلامي، هنا يجب أن نميز بين الخطاب والثقافة، الملاحظ أن إمكانية الكتابة والتحدث بشكل نقدي عن الكثير من الأفكار والآراء أخذت تنحسر مع تقدم الوضع الفكري العربي في الحاضر، أي الماضي في مجال النقد والكتابة كان أحسن.

- كاظم الجيزاني: هل أن التقية ثقافة مرحلية، يتجاوز فيها أزمة مرت بها الرأي الآخر، ما هو دور الشخص الراوي في تفسير النص الذي ذكرته.

- صالح زامل: أولا أبدا بالأسئلة العامة، إن الورقة حملت أكثر من التحديد الذي حمل عنوانها وهو البحث عن تأصيل المختلف في اللغة والأدب والتاريخ، يعني أنني كنت محدد بورقة بسبب أن هناك ورقات سوف تحمل أشياء تقترب من الذي طرح، الشيء الآخر هو هل الاختلاف جذر في ثقافتنا أو شيء وارد عليه، الاختلاف جذر موجود في ثقافتنا كظاهرة، عاشت الثقافة العربية الاختلاف بدليل أني دونت في هذه الورقة نص لأبي حيان التوحيدي، ومقتبس من كتاب (الإمتاع والمؤانسة) في الجزء الأول صفحة 113، يقول فيه (والاختلاف في الرأي والنظر والبحث والمسألة والجواب سنخ وطبيعة، أي أصل وطبيعة، بمعنى أن الاختلاف كظاهرة كان موجودا ومعاشا من الناس وتعاملوا معه، لكن إلى أي مدى استطاعوا ممارسة الاختلاف خارج القيود والموانع التي وجدت، ولهذا عندما بحثت عن الاختلاف في زمن محدد هو العصر العباسي، لم أجد أن الاختلاف أصبح ممارسة يومية متداولة فقط كان موجودا على مستوى المفهوم والنظر، أننا نستطيع أن نتحدث عن الكتب المقدسة والأحاديث المروية عن أزمانها، بأنها رحبت بالاختلاف، ولكن هل استطعنا جعل الاختلاف ثقافة يومية متداخلة مع حركة المجتمع، قد يجتمع المختلفون على مسائل نظرية تهتم بالدين والمذهب، لكننا نلاحظ افتراق هؤلاء المختلفين ساعة تصطدم بجوانب أخرى، قد تكون اجتماعية وسياسية، إذن الاختلاف في مستوى الترف الفكري موجود، أما في الواقع العملي غير موجود، وهذه سمة حملتها الثقافة العربية حيث هناك إلغاء كبير وواضح لرأي الآخر.

- د. متعب مناف: كلمة (سنخ) أليس تعني أن في الثقافة العربية الإسلامية يوجد اختلاف كأصل، كذلك في الفكر الإنساني، حيث من طبيعة الإنسان أن يكون مختلف، ولكن ما يبتني عليه شيء آخر.

- صالح زامل: انتقل إلى ملاحظات أخرى، منها هل البيئة الصحراوية لا تقبل الاختلاف، أظن يعني أخذنا شواهد من بيئات حضرية قد يكون لها امتداد صحراوي، لكن المعجم المفروض يأخذ لغة الكلام ويدخلها بالتدريج، لكننا وقفنا عند حدود المعجم العربي، أن هذه اللغة بنيت على أساس القرآن، والقرآن مقدس، وهو بلسان قريش، ولهذا لغتنا ألغت اللغات واللهجات الأخرى المجاورة لقريش، على أساس أن لغة قريش وسط بين اللغات، وهي الأجمل لأنها جمعت اللهجات بوصف مكة أنها مكان تجاري وديني، كذلك لغة قريش كانت تتهذب بواسطة الاحتكاك مع المجاور لها من لهجات وقيام فعاليات تجارية ودينية في مكة، أيضا أصبحت لغة قريش لغة الثقافة والمكتوب حتى قبل نزول القرآن.

- د. متعب مناف: سلسبيل أليست عربية؟

- صالح زامل: يقال إنها أصلا عربت في الحياة، ثم بعد ذلك أخذها القرآن، أي أخذها وهي داخلة في الحياة اليومية، أو في اللغة المبنية، قد لا نختلف أن البيئة التي احتضنت اللغة العربية هي صحراوية، ولكن هناك حواضر بما فيها مكة التي ربما يقال عنها وادي أجرد، لكن كانت مركزا حضاريا يستقطب الوافدين إليه.

- حكمت البخاتي: إذا تسمحوا لي، تعليق على مداخلة الأستاذ سعدون حول مرجعية القرآن، هل هي اللغة؟ أظن من غير الصحيح أن تقول للقرآن مرجعية، لماذا؟ لأن المرجعية لا تشمل الألفاظ فقط، وإنما تشمل العمق الفكري والمعنى، وذلك حينما نرجع القرآن إلى مرجعية لغوية هذا خطأ كبير، ولكن لغة قريش وكما أشار الأستاذ صالح كانت في مكة، ومكة ملتقى الثقافات بحكم الموقع الاقتصادي والتجاري، كانت تعتبر اللغة الثقافية الغالبة للجزيرة العربية، مع وجود لغات أخرى لها أهميتها، منها لغة أهل اليمن، مع ذلك أورد مثال يثبت أن لغة قريش هي لغة الثقافة والتداول قصائد الشعر الجاهلي، ونأخذ قصائد أمرؤ القيس وهو يماني مع ذلك وصلت قصائده بلغة قريش.

- حسين هادي: هناك أطروحة يتحدث بها الجابري في كتابه المعروف بأجزائه الأربعة عن الإعرابي صانع العربي، يقول أن الفراهيدي جمع كلمات معجمه من خلال اعتماده على البيئة البدوية ولم يعتمد على التمدن الموجود في المدن، حيث كانت هناك مصطلحات واسعة.

- صالح زامل: عدم اعتماده على المدن بسبب الاحتكاك الموجود في فعاليات المدن من اجتماعية وتجارية، أي هناك اختلاط وتداخل، لقد أصبح التأكيد على صفاء المنابع التي تأخذ منها اللغة، كذلك تطال الإدخال والإضافة المجال الشعري وبرز ما يسمى ظاهرة (الانتحال) في اللغة والأدب، كذلك دعا علماء اللغة إلى التشديد والوقوف إزاء بعض التوجهات التي حملها أبو نؤاس ومسلم بن الوليد، بحيث يصبح الحال لكاتب مثل الأصمعي الذي يميل إلى القديم، يدخل عليه أحدهم فيقرأ عليه قصيدة، ثم يخبره بأنها لأحد شعراء الجاهلية، فيأمر كاتبه بكتابتها، ثم يعود ليخبره بأنها- أي القصيدة - بنت ساعتها، فينتفض فيقول (خرق) أي مزق ما كتبت، بالنسبة للتعميم والتخصيص في اختياري لمعجم لسان العرب تحديدا، فلأن لسان العرب هو أصلا عبارة عن روايات لمعاجم أخرى، أي هو جمع اغلب المعاجم التي الفت قبله، وهنا أركز على المادة اللغوية وليس المدرسة في بناء المعجم، نأتي إلى الشارع العراقي طبعا استعمالي للشارع العراقي فيه نسبة من المجازية ولم أحدد فقط العوام، وإنما الشارع العراقي وجهة النظر السائدة والشائعة وحتى الشارع العراقي الذي يحركه خطاب معين، هذا الخطاب ينتمي إلى وجهة نظر معينة، فالمقصود بالإشارة إلى الشارع إنما هو إلى محرك الشارع.

- د. متعب مناف: هل لهذا صلة بالعامة؟

- صالح زامل: أنا ألاحظ من وجهة نظري، وقد نختلف فيها أو نتفق، إن الفكر الديني النقلي دائما هو الذي ينزل إلى الشارع وليس العكس، بأن يرتقي الشارع إلى مستوى الفكر، ولكننا نلاحظ أن العملية معكوسة، حتى يصبح الشارع هو المؤثر في سبيل إرضائه وبالتالي في بعض المرات أمسى يفرض رأيه على الفكر الديني.

- حكمت البخاتي: الملاحظ الآن الفكر الديني ينتشر بصورة في المناطق الشعبية، هذه المناطق التي قامت ما بعد الانقلابات العسكرية التي تمت في الدولة العربية، فعلى ما يبدو أن الواقع الاجتماعي لهذه المناطق نتيجة للأصول الريفية وتقاطعها مع السياسة الحاكمة والحوادث السياسية التي قامت في تلك البلدان كلها خلقت واقعا اجتماعيا تبنى فكرا دينيا متطرفا، مثل حركة الجهاد والهجرة وغيرها من الحركات الإسلامية، وهنا يبحث عن مبرر لحمل السلاح ضد غيره، فيجد في تلك الحركات الذي ينشده من تبرير.

- د. متعب مناف: في الثقافة العربية الإسلامية التقليدية موضوع العامة ينظر إليه من جهة سلبية، ونحن نبحث عن التأثير في العامة التي تسمى أيضا (العوام) بالمناسبة الذي يقرأ الجرائد هم، العامة، ولهذا حاولت (جماعة الأهالي) إنشاء صحافة للعامة منها (صدى الأهالي) وغيرها، ولكنني ربما أميل إلى أن دخول العامة على الشارع العراقي والشرق الأوسط نوعا ما كان مؤذيا، لأن العامة تخطأ ولا تفكر بمدى بعيد وغيرها من الأسباب التي جعلت العاميّ بين صفتين أما شاطر أو عيّار، وإن الأثنين مرفوضان.

- حسين هادي: على ضوء هذا التحليل تحتاج إلى تغيير.

- د. متعب مناف: اعتقد إننا بحاجة ماسة إلى دراسة كيفية نزول الدين إلى العامة.

- سعدون ضمد: أظن أن الأستاذ يميل إلى القول بأن هناك سلطوية من العامة على بناء تطورات الفكر الديني.

 


* ورقة مقدمة إلى بيت الحوار العراقي الذي أسسته وترعاه مجلة النبأ والتي عقدت تحت عنوان الاختلاف.

** مدير تحرير مجلة النبأ