ردك على هذا الموضوع

مساهمة في نقد العقل السياسي الأمريكي /1/

سعد سلوم

 

(الولايات المتحدة الأمريكية هي تلك التي يحدها الشفق القطبي شمالا،

والاعتدالين جنوبا، والعماء البدائي جنوبا، ويوم القيامة غربا)

(جون فايسك)

1- صعود القوة العظمى وانحدارها

باحتلال الولايات المتحدة للعراق (2003) كان يبدو للعالم وكأن الولايات المتحدة قد وصلت إلى ذروة عالية في انفرادها المطلق بالنظام الدولي، وبقي على المراقبين المنفعلين (لا الفاعلين) أن يشهدوا من خلال عدسات حضارية مزودة بإضاءات نبوئية، كيفية انحدار القوة العظمى المطلقة من قمة العالم إلى سفح الخطر الذي انزلقت عبره الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ جراء سياسة الإفراط في استخدام القوة.

المؤرخ الكبير ادوارد جيبون في كتابه الضخم الملهم (سقوط الإمبراطورية الرومانية واضمحلالها) جادل بأن سقوط روما كان نتيجة طبيعية لعظمة مفرطة، فقد كان الإفراط في العظمة (التنامي المفرط) هو الذي حكم عليها بالدمار، وفي عهد قريب رأى المؤرخ الأمريكي بول كيندي في كتابه (قيام وسقوط الدول الكبرى - 1987) إن الأمريكيين كانوا على وشك أن يواجهوا المصير ذاته الذي واجه البريطانيين في نهاية القرن التاسع عشر ألا وهو الاضمحلال كقوة عالمية، فالولايات المتحدة حسب كيندي كانت تعاني مما يدعوه (التوسع الإمبريالي المفرط) وكانت تضغط عليها القوى العنيدة نفسها التي حطمت بريطانيا وأدت إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية.

وحذر كيندي من أن وضع السياسة الأمريكية قد انتهى إلى الوقوع في فخ الالتزامات العسكرية أبان الحرب الباردة والتحديات الاقتصادية الجديدة على امتداد الإطار الباسيفيكي، وفي صيغة نبوئية راهن كيندي على أن المهمة التي ستواجه رجال الدولة الأمريكيون في العقود القادمة، هي إدارة الأمور على نحو يجعل التآكل النسبي في وضع الولايات المتحدة يحدث ببطء وهدوء، وقد تبنى مثل هذه الرؤية الكاتب العربي الشهير (محمد حسنين هيكل) في آخر كتاب صدر له بعد احتلال العراق، خصومها في الصراعات مباشرة إلى النهاية وإنما تتولى هي هزيمة نفسها بالإفراط في استعمال القوة وفي الغرور، فقد ذهب إلى أن الإمبراطوريات الكبرى لم يهزمها خصومها في الصراعات مباشرة إلى النهاية، وإنما تتولى هي هزيمة نفسها بالإفراط في استعمال القوة وفي الغرور، فهذه الإمبراطوريات العاتية تكابر حتى تصل الذرى العالية ثم تكتشف عند الوصول إن البقاء فادح التكاليف، وعندها تظهر حتمية النزول (1).

عندئذ ربما سيكون مشروعا أمام المؤرخين والفلاسفة انسياقا مع هذه الموضة الفلسفية التساؤل حول وصول الولايات المتحدة نقطة اللاعودة، وإن كان نجاحها ذاته سيحكم عليها بالدمار؟

ولكن طرح الإشكالية في صيغ من هذه التساؤلات ربما سيواجه بتحفظ التساؤل: لماذا حدث ذلك بالنسبة للإمبراطورية السوفيتية ولم يحدث حتى هذا اليوم للولايات المتحدة؟

ولكننا نود أن نعيد صياغة هذا التحفظ ونطرحه بكيفية مغايرة على نحو يساعدنا على استشفاف الآليات الدفاعية للحضارة الأمريكية وإمبراطوريتها التي قد تقدم لها الوقاية من مصير الاضمحلال المحتوم.

لذلك نطرح الإشكالية في صيغة التساؤلات الآتية:

هل العقل الأمريكي ليس مزودا بحصانة فلسفية تحميه من المأزق الذي حكم الإمبراطوريات الكبرى؟ وهل لم يتعلم الأمريكيون الدرس الحضاري جيدا؟ أم إن هذا العقل بحكم نشأته وتطوره في مناخ القوة والصراع أدرك إن منطق القوة الذي حكم تشكيله لا يحمل بذور فناءه فيه بل بذور استمراره وبقاءه ناهلا من بصيرة تماثل بصيرة شبنجلر من أن (الحرب هي الخالقة لكل ما هو عظيم... وكل ما له معنى في تيار الحياة قد ولد أو نشأ عن (النصر أو الهزيمة) وإن دينامكية الحضارة ودوامها رهن بالتحديات التي تواجهها وعليها تجاوز هذه التحديات المرة تلو الأخرى، لكن ميزة العقل الأمريكي إنه يخلق هذه التحديات ويصنعها في ورش هوليود وفي أقبية البيت الأبيض ودهاليز مجلس العلاقات الخارجية، بذلك يضمن تماسكه ويمسك بزمام مصيره، لذا كانت صناعة (العدو) تحتل مكانة مركزية في بنائه السياسي. ونجاح هذا العقل بتحصين الحضاري (الأمريكية الرأسمالية) من الانهيار يتساوق مع قدرة الرأسمالية على الإنتاج والتجدد ويتماثل مع قدرتها على البقاء والقوة الاستثنائية التي أبدتها خلال صراعاتها الآيديولوجية مع بديلها الجذري (الاشتراكي) فبدلا من الانهيار تحت ثقل تناقضاتها الذاتية كما ذهبت إلى ذلك الماركسية، أفلحت الرأسمالية في إيجاد مصادر جديدة للقوة مع التجدد وبلغت أوج تجلياتها السافرة في نموذج العقل الأمريكي الذي أصبح الآن له (السيادة متصدرا حضارة عالمية مهيمنة وآمرة، يعرف جوانب قوته وضعفه، ويدرك واعيا تحدياته، ويرسم خطى مستقبله للمواجهة يعي حركة التاريخ ودور أقطاب الحضارة، حضارة ما بعد التصنيع وتفجر المعلومات، وما تفرضه عليه من مهام وتطرحه أمامه من أطماع، وسبيله إلى تحقيق الحلم الأمريكي التقليدي بإنشاء المجتمع العظيم الذي تدين له الأمم وشعوب العالم بالولاء طاعة أو قسرا) (2).

إلا أن عملية تقديم نقد لهذا العقل (والنقد هنا يشير الى الإدراك الذي يتضمن التقييم) ينبغي أن تأخذ بالاعتبار أن هذا العقل (هو في جميع الأحوال عقل أداتي تبريري يتخذ هدفا له الدفاع عن أو تبرير الهوية الذاتية ومكوناتها ومنهجها ضمانا لهيمنته أو بقائه، إنه غير قادر أصلا على عملية النقد فهو مزاج قيمي وجودي أو هو قناع تبريري أي أيديولوجيا تصوغ ذهنية الفئات الاجتماعية حين تتهيأ لها السلطة وتنزع إلى المحافظة، وتسعى إلى أن ترسخ توجها وموقفا ومنهجا وليس فكرا عقلانيا نقديا في حركة جدلية مع الواقع الحي المتغير، ولذلك يصدق وصفه بأنه العقل السياسي)(3).

كما لا يستقيم الحديث عن هذا العقل دون تحديد الإطار الفكري السائد الذي يكون عموده الفقري وهو ما يتكون من مجموعة المعارف والأفكار والخبرات والقيم البشرية المتوارثة والمستحدثة التي يتكون منها ذلك الرصيد الذي لا يمكن أن يوجد دون توافر الإطار الاجتماعي الذي تنشأ وتتحرك فيه، ولأجل تحديد ذلك لابد أن نتتبع هبوط آدم الأمريكي إلى الأرض الموعودة ليفتتح أسطورة العالم الجديد.

2- أرض الميعاد... من آدم إلى السوبرمان

يشير كارلهانيتس دشنر في كتابه (المولوخ- إله الشر) ضمن فقرة عنونها بـ (أكثر شعوب الأرض فوضوية) إلى أنه منذ أن وجدت الولايات المتحدة فهي تحمي العنف أكثر مما تحميها القوة، وقلما يميزها شيء آخر، والعنف يتفشى هنالك منذ البداية والناس يدينون له بكل شيء، فالمزرعة، والمدينة، والدولة، والأمة، هذه كانت قد نشأت من العنف، ولا شيء سوى العنف، وكل شيء نتاج الغزو والحرب، وكل شيء نتج في حملة قرصنة هائلة لم يعرف لها التاريخ مثيلا.

وكأن منطق العنف أضفى لمسة من السخرية القاتلة على القارة الأمريكية التي كانت قبل مجيء كولومبوس خاوية من البشر؟ تنتظر من السادة الجدد منحها الجنسية الإنكليزية! وإذا تتبعنا مسار هبوط (آدم الأمريكي) إلى تلك الأراضي البكر بعد أن تذوق تفاحة الاكتشاف وغرق في خطيئة السقوط الاستعماري، نجد أنه لم يكن يهتم لتلك القلة القليلة من ملائكة السكان الأصليين المشاغبة التي لم تتجاوز المليون ممن حفروا قبورهم بأيديهم نتيجة حرب غير متكافئة أو نتيجة الأوبئة التي حملها الأوربيون، وقد قامت حرب التطهير الجديدة بإفراغ العالم الجديد من سكانه، أي ببساطة، القضاء على أكثر من أربعمائة شعب وأمة وقبيلة كانت تنتشر في الشمال الأمريكي فوق مساحة أكبر من أوربا بنصف مليون ميل مربع، ومنذ هبوط آدم الجديد إلى أرض الذهب والفحم الحجري والمعادن النفيسة وحتى بزوغ فجر السوبرمان الأمريكي الذي أخذ على عاتقه إنقاذ فتيات اليانكي الشقراوات من الإرهابيين كان (الآخر) المتوحش حاضرا على الدوام بوصفه (العدو) الذي ينبغي تصفيته سريعا قبل أن يحيل جنة الحداثة إلى جحيم بدائي (4).

وهكذا قامت أرض الميعاد، ارض الأمريكيين الذين يصفهم توماس جيفرسون بأنهم (هم شعب الله المختار) قامت على جماجم السكان الأصليين وبؤس العبيد وعنف الحروب الأهلية ونكسات الأزمات الاقتصادية ونما المجتمع الوليد وفي ظل مثل هذه البيئة الاجتماعية القائمة على التنافس الشديد بين الوافدين الجدد والتنافس الذي وصل إلى حد التناقض نشأ العقل الأمريكي وتكون ووصل إلى ذروة صراعه مع ذاته خلال الحرب الأهلية بين الرأسمالية الصناعية (الشمال) والرأسمالية الزراعية (الجنوب) فكان المجتمع الأمريكي هو التوليفة (المركّب الجديد) بين هذه التناقضات.

3- العقل الأمريكي بين التحدي والاستجابة

ويمكننا تقديم مقاربة أولية لبنية العقل السياسي الأمريكي من خلال الإحاطة بالآلية التي يعمل من خلالها وهو يواجه تحديات بقاءه ووجوده، وهي بطبيعة الحال التحديات التي تواجه المجتمع الأمريكي بحكم ظروف النشأة والصراع على المستوى الداخلي أو الدولي. وهذه الآلية تعمل وتتحرك في مجال من ثنوية انطولوجية أو ثنائية استقطاب تضادية (الأنا/ المركز/ الموضوع) (الآخر/ المحيط/ النقيض) فالأنا لا يمكن أن توجد ما لم يتوفر نقيضها وشرط وجودها وعالم دوامها واستمرارها والعقل السياسي الأمريكي يؤكد على وجود النقيض بحيث إن لم يتوفر فلابد من اختراعه؟! وليس هذا سوى تعبير عن الزعزعة التي تصيب الأنا دون تحديد ما عداها وهو ما يتشخص في عالم العلاقات الدولية في تحديد خطر أو تحدٍ خارجي، وبذلك يخلص العقل السياسي الأمريكي إلى رؤية (توينبي) التي تقول بأن (كل حضارة هي نتاج تحدٍ خارجي) ونظرية التحدي والاستجابة بسطها توينبي في كتابه الشهير (بحث في التاريخ) ويعني التحدي وجود ظروف صعبة تواجه الإنسان في بناء حضارته، وعلى قدر مواجهة الإنسان لهذه الظروف تكون استجابته أما ناجحة إذا تغلب على هذه المصاعب أو استجابة فاشلة إذا عجز عن التغلب على هذه المصاعب.

وتتمثل هذه الظروف الصعبة التي تتحدى قدرة الإنسان وتستحثه على العمل لتكوين الحضارة، أما في بيئة طبيعية أو ظروف بشرية، وبالنسبة للأخيرة، وهي ما يهمنا في هذا المقام فإن توينبي يسميها (تحدي الوسط) وتتمثل في عدوان خارجي من دولة مجاورة أو جماعة بشرية وقد يتخذ العدوان شكل غزو خارجي أو قد تكون تهديدا مستمرا يشكل قوة ضاغطة على المجتمع (5) وينطلق العقل السياسي الأمريكي في تحديد ملامح هذا التحدي وتشخيصها في (عدو خارجي) محدد، محتمل أو مؤكد، غائب أو معلن، حقيقي أو موهوم، وذلك بغرض رسم واقع الاستجابة وتكييف الآليات اللازمة لذلك للحفاظ على الحضارة من أعراض التفسخ والانهيار.

4- هيجل بقبعة الكابوي؟!

وإذا كان العقل السياسي الأمريكي يتمترس خلف هذه الرؤية ويشكل آلياته الدفاعية من خلالها فإن (هذه الرؤية) أصبحت أشبه ما تكون بالعقيدة الإستراتيجية السرية للرؤساء الأمريكيين التي ما انفكت تستلهم الشعار الماسونيordoab chao أو النظام ينبثق من الفوضى وهو ما ينبني على المفهوم الهيجلي من أن الأزمة تقود إلى الفرصة أو كما يقول تيكسي مارس (إنهم يعملون ليخلقوا فوضى وليولدوا غضبا وإحباطا لدى البشر وهكذا فهم يستفيدون من حاجة الناس الماسة إلى النظام) (6).

وفي الطريق من الفوضى إلى النظام ترتسم ملامح إستراتيجية خلق الأزمات (صناعة الأزمة) ومن ثم إعادة بناءها كجسر يؤدي إلى الفرصة (استغلال الفرصة) كما حدث في 11 من أيلول 2001، أو تجميدها عند حد معين (تجميد الأزمة) نشر قوات حفظ السلام، الدخول في مفاوضات تسوية، تقديم حلول مؤقتة، عقد مؤتمرات وإصدار توصيات.. الخ، كما حدث مع القضية الفلسطينية طوال تاريخها، وذلك ريثما يتهيأ الوقت والمناخ الملائم لاستغلال الأزمة وتحقيق مكاسب ومغانم منها فتجد الجليد يذوب لتشتعل الأزمة مجددا عند توفر الشروط الموضوعية اللازمة لاستغلالها وتوظيفها، وتوظيف هذه الأزمات قد يتم أحيانا في إطار عام من توظيف الأمم المتحدة أو تهميشها طبقا للمناخ العام للأزمة، لذا نجد الولايات المتحدة تلجأ للأمم المتحدة وتسمح لها بدور فاعل عبر استصدار القرارات المطلوبة ثم الإنفراد بتطبيقها على نحو يؤكد إنفرادها بالنظام الدولي (حالة الحرب على العراق 1991) وتارة تترك الأمم المتحدة شبه عاجزة عن التحرك عبر رفض توفير الدعم السياسي ووضع متطلبات التحرك المادية اللازمة للقيام بالعمل إلى أن تتفاقم الأزمة وتعلن جميع الأطراف عن عجزها، ثم تتقدم الولايات المتحدة لتوظف القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة من أجل تحقيق تسوية تعكس رؤيتها المنفردة (حالة كوسوفو) وأحيانا يقتضي الأمر تهميش الأمم المتحدة واستبعاد دورها منذ البداية (مؤتمر مدريد وتسوية الصراع العربي الإسرائيلي) حيث لم تشارك الأمم المتحدة في المؤتمر سوى بصفة مراقب (1991)، وفي أحيان تدفع الولايات المتحدة قوتها للعمل خارج الأمم المتحدة (حالة تدخل حلف شمال الأطلسي في كوسوفو 1999) و (حالة احتلال أفغانستان 2001) و (حالة احتلال العراق 2003).

وإن الخيط الرفيع الذي ينسج تأكيدا عبر الحالات السابقة يدور حول الاستعراض الدرامي للقوة الماحقة التي أثبتت عبر حربها على العراق في بداية التسعينات وحربها على يوغوسلافيا في نهاية التسعينات وتدشينها بداية الألفية الثالثة باحتلال أفغانستان 2001 واحتلالها العراق 2003 سيطرة الإمبراطورية الأمريكية الكونية المطلقة على النظام الدولي، مهما اختلفت الوسائل وتبدل الشركاء وتغيرت ساحات القتال، وصناعة الأزمة وتصنيعها هي وجه الكتابة في عملة السياسة الأمريكية، أما وجه الصورة فهو (صناعة الأعداء أو تصنيعهم) ولا بأس من تفريخهم ورعايتهم إلى الحدود الملائمة (كما حدث مع أسامة بن لادن) والعقل السياسي الأمريكي لا يؤكد على وجود النقيض فحسب، بل تبان حركيته من خلال ديناميكية تجاوزه ومحقه عبر السعي دوما للوصول إلى تركيبة/ توليفة وهو ما يتطلب حسب هيجل قوتين متعارضتين، ومن هنا ندرك حجم المأزق الذي واجهه العقل السياسي الأمريكي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانكشاف الفراغ الناجم عن انهيار النقيض، مما افقد العقل الأمريكي المغزى والاتجاه وباتت (الدولة العالمية) التي تمثل هذا العقل قوة (مطلقة السراح) لا يقف إزاءها النقيض، فواجهت الرعب الرهيب الكامن في الانهيار من السفح المطلق لجبروتها المنفرد، وكاد العقل السياسي الأمريكي أن يفقد المنظور لولا أن جمع شظايا المرايا المحطمة التي خلفها انهيار المنظومة الاشتراكية لتعكس أمامه وجه دولة متوسطة القوة (العراق) فكانت النقيض الملائم له عبر لعبة التوازنات الجديدة فخرج منها بـ (عراق محتل) كمركّب أو توليفة ثم أنشدّ منظوره الجديد للعبة الجدلية فوضع (العراق المحتل/ المحرر) إزاء عالم عربي (بحاجة للإصلاح) ووضع نصب عينيه أن يخرج من صندوق النقائض السحري (عالما عربيا جديدا)، لكن السخرية التي تتسم بالمأساوية تجعل المواضيع ونقائضها تنفجر على ذاتها في السياسة، ولا تستقيم لسحر المنطق الجدلي فتأخذه على علاته، فالفوضى قد لا تؤدي إلى النظام بقدر ما تؤدي إلى المزيد من الفوضى (مما يشد أعماق العراقيين مثلا بقوة إلى سحر النظام وإغواء القوة الماحقة) ومن هنا تمارس قوة الولايات المتحدة جاذبيتها بوصفها ضامنة النظام في ساحة أصبحت أكبر مثال على الفوضى، التي هي وبالمناسبة كلمة محببة لدى بريجنسكي الذي لا يزال يرى - ويا للسخرية - بأن (التاريخ هو نتاج الفوضى أكثر منه نتاج المؤامرة).

5- نمط من التناقضات المحببة

التناقضات لا مفر منها في منظور العقل السياسي الأمريكي والمفارقة تأخذ زخمها من الطابع المأساوي للغموض الذي يثير السخرية في منظومة المفاهيم الرائجة، مثلا (السلام الأمريكي) الذي ينقض السلام القائم بين دول مستقلة متساوية السيادة ويعرض نفسه في صورة الاندماج تحت سيطرة دولة واحدة تفرض سلاما هو في الواقع السلام الجاثم فوق قبر الحرية وليس السلام الصادر عن الرغبة الصادقة في التعاون بين الدول مثله مثل ما عرف بالسلام الروماني أي في الواقع استبداد روما بسائر شعوب الأرض أو السلام الأمريكي الذي يدعو إليه العقل السياسي الأمريكي ولا يعني في جوهره سوى إخضاع العالم للهيمنة الانفرادية لدولة تقدم في الوقت نفسه للعالم حروب الدمار التي توحد البشرية، ولكن في سلام القبر!

لابد إذن من تعديل المخيلة لكي تستوعب تناقضات شائعة كخرافة أن الرعب النووي المسمى الردع النووي هو الذي حفظ العالم من شرور الحرب العالمية الثالثة، وإن الحرب هي التي تؤدي للسلام وهذا هو هدف جميع الحروب الأمريكية التي تريد بناء عالم يسوده السلام عبر الترويج لاستخدام القوة وشن الحرب!

كما ينبغي لكي يأخذ التناقض مداه في الحفاظ على وحدة الهدف، لابد من تعديل المخيلة السياسية بحيث تأخذ في اعتبارها وهي تعالج مسألة (الأمن) أن تصنع (اللاأمن) وتستمد منه شرعيتها الأساسية، إن كل ما هو مضاد يفكر بروح الشيء الذي هو ضده، لذا فلا سبيل للتفكير في الأمن بحسب (مايكل ديلون) إلا بدمج بقايا (اللاأمن) في مدلول الأمن نفسه، أي إن الأمن لا يحدث إلا بمقدار الفاصل الذي يفصل بينه وبين الآخر بالنسبة له وهو لا يكون على ما هو عليه إلا بمقتضى وجود اللاأمن في نفس الوقت ودائما داخل الأمن نفسه (7).

والحمى المسوقة للجمهور العريض المغفل عن صنوف اللاأمن التي تنتجها المخيلة الهوليودية تتغذى من النار المستعرة ذاتها في أعماق التناقض الذي لا مفر منه ناهيك عن استبعاد ما يستقيم للمنظور التقليدي كمثل أن أمن الجزء مرتبط عضويا بأمن الكل وعندما يتعرض الجزء للخطر ينبري الكل للدفاع عن الجزء المهدد، لكنه يصاغ بتعديل المخيلة على نحو يلائم رؤية الأهداف الأمريكية على أنها أهداف كونية فجغرافيا العالم هي المجال الحيوي لمنظومة الأمن الأمريكية ومخيلتها المعدلة في تضخيم منطاد الأمن القومي الأمريكي ليصبح هو أمن العالم وتحدياته هي التحديات التي تواجه البشرية، فأمن الجزء (الولايات المتحدة) هو أمن الكل لأن الأول هو الضامن للنظام من خطر الفوضى، هو نوح الجديد الذي ستحمل سفينته الجديدة كل المحمولين على سطح النظام وإغراق المارقين في لجج الفوضى التي أحدثوها.

وباختصار فإن هناك داخل العقل السياسي الأمريكي ارتباط جوهريا وصلة لا تنفصم بين الأمن واللاأمن، وبالتالي فالتناقض الجذري للأمن لا يعد مفارقة ظاهرية، كما أنه ليس تناقضا يمكن حله بمزيد من الدقة في التأمين، فهو تناقض لا مفر منه ويمثل الدينامية وراء الطريقة التي يعمل بها الأمن كمبدأ تكويني توليدي لإفراز الانتظام السياسي ولا يمكن للأمن أن يؤمن إلا لأنه لا يؤمن! والغموض هو الذي يتسم بالمأساوية في جوهره (8).

6- فتيان جبل الحديد ونظرية السلام المستحيل

في القرن التاسع عشر راجت بتأثير (هيجل) الفكرة التي تقول أن الحرب أمر حتمي، فالدولة هي نوع من الإله الأرضي، واستقلالها مطلق وسيادتها شاملة، فمن أجل حل منازعاتها مع دولة أخرى لا توجد هناك وسيلة سوى عمل الحرب، فالأخيرة أمر حتمي لا مفر منه بالإضافة إلى أنها أمر ملائم، ذلك لأنه بقدر ما تحفظ حركة الرياح البحار ذاتها من التعفن الذي تتعرض له إذا ما انتابها هدوء دائم، بقدر ما تصاب الأمم بالتعفن إذا ما تعرضت هذه لسلام دائم، بل السلام الأزلي (9).

ولا يحتاج الأمر لكثير من الجهد لكي يتبين المرء المدى الذي حافظ فيه الأمريكيون على النظرية الهيغلية في الحرب بشكل حرفي، فالسلام أمر مستحيل وقد ظهر كتاب أمريكي عرض لنظرية السلام المستحيل بصيغة جديدة (الكتاب الذي تترجم لمعظم لغات الأرض لم يترجم بالطبع للغة العرب السعيدة) فالكتاب قُدم على شكل تقرير أُعِدَّ في ظروف جد غامضة من قبل فريق مؤلف من خمسة عشر باحثا لم يكشف عن أسمائهم، ويكشف الكاتب المؤامراتي (جيم مارس) عن أن اجتماعاتهم الرئيسة كانت في (جبل الحديد) وهو مؤسسة تحت أرضية (ملجأ نووي) قرب هدسون في نيويورك، موقع معهد هدسون الذي يعرف بأنه مركز التأمل لمجلس العلاقات الخارجي الأمريكي، لذا حمل الكتاب الذي سرب للجمهور فيما بعد اسم (تقرير من جبل الحديد) (10).

ويلخص الكاتب الفرنسي (فيكتور فرنر) في كتابه (الخوف الكبير) الموقف الذي انطلق منه مؤلفو الكتاب بأن واقع بناء المجتمع يقوم على أساس استعداد هذا المجتمع في كل حين للحرب وهو ما يتجاوز في أهميته البنى الاقتصادية والاجتماعية، فالحرب هي حجر الزاوية في النظام الاجتماعي، إذ أنها حكمت وسيطرت على القسم الأكبر من المجتمعات الإنسانية منذ أقدم العهود حتى أيامنا هذه، وتعمل الأنظمة الاقتصادية وتشريعات الدول لصالح الحرب وفي خدمتها وتطيل من أمدها الزمني وليس العكس، فضلا عن أن النظام الاجتماعي المؤسس على الحرب قد حمى النوع الإنساني عبر التاريخ، كما إن استبدال النظام القائم على الحرب بنظام آخر يقوم على أساس السلام يشكل مغامرة إذا لم يكن ممكنا في الوقت المناسب إنشاء مؤسسات قادرة على القيام بالوظائف ذاتها التي تقوم بها الحرب (11).

وإن (فتيان جبل الحديد) كما يدعون أنفسهم قد قاموا بدراستهم غير الرسمية هذه خارج الكتب وبطابع سري وكانت غير معنية بالتحديات الحكومية وقدموها في آذار 1966 على شكل تقرير مختتمين إياه بقولهم: (يجب أن نجيب بأقوى ما نستطيع، أنه لا يمكن أن يسمح لنظام الحرب أن يختفي، كما قام الفتيان! بإدراج بعض البدائل لـ (مهام) الحرب) منها(12):

- برنامج بحث ذو فضاء مفتوح يهدف إلى أهداف لا يتم الوصول إليها (ربما منها البحث عن حياة أخرى في كواكب مجموعتنا الشمسية أو خارجها).

- نظام تفتيش نزع سلاح دائم، طقسي، مبالغ في التفصيلات (كما في العراق والبوسنة وربما بعدها إيران، سوريا، ليبيا).

- قوة بوليس دولية دائمة الحضور، كلية النفوذ (قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة والمرابطة في حروب الخليج والبلقان ولنلاحظ إن الوجود العسكري الأمريكي ينقلب إلى تواجد ضمن قوات متعددة الجنسية (دولية) تعمل لقوات حفظ السلام الآن في العراق).

- إنشاء خطر خارج - أرضي منظم (الـ (يوفو) والخطف الفضائي).

- خلق بدائل عدوانية خالية مفترضة (صدام حسين، معمر القذافي، سلوبدان ميلوزوفيتش، ابن لادن، الزرقاوي ومن يتبعهم كائنا من يكون).

- أديان جديدة أو أساطير وعقائد أخرى (لاهوتيات العصر الحديث، طوائف جديدة... الخ).

لكن المؤلفين (الفتيان) قد اعترفوا أن الأعداء البدائل يمكن أن يبرهنوا أنهم غير ممكنين، ولكن أكدوا (أن شخصا ما لابد من إيجاده) أو من المحتمل أكثر إن مثل هذه التهديدات يجب أن يتم اختراعها.

المهم يجب أن يكون عدو وأن يكون هناك خطر خارجي لتقوم الحرب بوظيفتها السياسية، غير أن هذا الخطر يجب أن يكون مصدقا ومحسوسا به كما هو في الواقع، من قبل الجميع، ذلك أنه من الصعوبة الاعتقاد بشكل جدي بوجود خطر من قبل بعض المخلوقات يأتي من أعماق الفضاء ويهدد سكان الكرة الأرضية، وما الصحون الطائرة سوى اختلاق للإقناع بوجود مثل هذا الخطر (13) وإن تكن هوليوود تحاول غرس مثل هذا الخطر في الأذهان، ومن هنا ندرك مقدار الجاذبية التي مارستها أحداث 11 أيلول على العقل السياسي الأمريكي إذ وفرت له العدو البديل المستمر والدائم وبالتالي ذريعة مناسبة للحرب الدائمة ضد العدو الغامض المسمى (الإرهاب الدولي).

 


المصادر:

1- محمد حسنين هيكل، الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق، دار الشروق، ط2، 2003،ص 10.

2- شوقي جلال، العقل الأمريكي يفكر، القاهرة، مكتبة مدبولي، 1999، ص12.

3- المصدر نفسه، ص11.

4- سعد سلوم، كبش الفداء، المدى البغدادية، العدد 67 لسنة 2004، ص10.

5- ارنولد توينبي، مختصر لدراسة التاريخ، ترجمة فؤاد محمد شبل، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1960، ص 233- 266.

6- جيم مارس، الحكم بالسر، التاريخ السري بين الهيئة الثلاثية والماسونية والأهرامات الكبرى، ترجمة محمد منير أدبي، سوريا، دار الأوائل، 2003، ص 363.

7- أحمد فاروق عبد العظيم، النموذج الأمريكي للديمقراطية- قراءة في فلسفة الخطاب، مجلة السياسة الدولية، العدد 153 لسنة 2003، ص 157.

8- المصدر نفسه، ص 157.

9- فيكتور فرند، الحرب العالمية الثالثة (الخوف الكبير) ترجمة هيثم الكيلاني، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1980، ص 64.

10- جيم مارس، مصدر سابق، ص167.

11- فيكتور فرند، مصدر سابق، ص 67-68.

12- جيم مارس، مصدر سابق، ص 170-171، بعض التعليقات بين قوسين أضفتها تدعيما لما ذكره مارس من تعليقات.

13- فكتور فرند، مصدر سابق، ص70.