ردك على هذا الموضوع

حوار مع الأديب والناقد العراقي محمد مبارك

اجرى اللقاء علي الفواز

 

* العقل العربي يتحزب بعماء لجرائر طاغية أتى على الحرث والنسل وكل مقومات الوجود الفاعل في العراق!

* إن غلق العقول وقفلها باعتباط وعدم تبصر يقود إلى الشطط والخلط

* نرفض قانون الوحدة الارسطى لصالح الاستقراء والقياس التمثيلي والتجريب ونضع العقل مكانه

* الاختلاف هو التعددية في الحديث الشريف(اختلاف أمتي رحمة)

الناقد محمد مبارك يعد من الأدباء والكتاب العراقيين المرموقين والبارزين ولعله من النقاد المعروفين على مساحة العالم العربي… وهو يكتب في شتى صنوف الكتابة الإبداعية ويرأس تحرير مجلة الأقلام أجرى معه علي الفواز هذا الحوار حول مختلف قضايا ثقافتنا المعاصرة:

* الظواهر الثقافية المعاصرة قضية المثقف العضوي التي يقول بها جرامشي حيث نشأ هذا المثقف في ظل إشكاليات هذه الظواهر.. كيف يمكن لهذا المثقف أن يراجع ويدقق ويناقش موضوع التحولات والمستجدات في واقع ما تفرزه من تيارات ومعطيات فكرية متعددة؟

** قبل أكثر من ثلاثين عاماً كتبت في مجلة (الكلمة) العراقية النجفية لصاحبها الأستاذ الكبير حميد المطبعي في تعريف المثقف أقول: إذا كانت الثقافة رسالة فالمثقف هو من يحيط بضرورات حركة المجتمع الذي يعيش فيه وعياً ويدرك ملابسات صيرورته ويضع هذا الإدراك وذلك الوعي في خدمة حركة تطوره من حيث هو عضو فاعل فيه، وإلا فليس له من وعيه وإدراكه غير كم من المدركات والمعارف لن تنهض بهما مهمة ووظيفة في محيط هو مدماك حيوي فيه.. ذلك أن الثقافة هي ليست مجرد المعارف يحيط بها المرء في مختلف أصعدة تحققها الذهنية وإنما هي الوعي المسؤول، وليست المعرفة الزينة أو الحلية التي تضمن لصاحبها الوجاهة والتميز والظهور، فما وجد الإنسان إلا ليكون عنصراً فاعلاً في حركة مجتمعه وإلا ما كان ليستحق ما منحته الطبيعة من لغة وجهاز مركزي للأعصاب جعل الذهن والمدركات الذهنية قوة يواجه به المحيط ويعيد تشكيله بما ينهض بمطالب روحه وبدنه.

من هذا الفهم أقول: يلزم المثقف العضوي أو المثقف من حيث هو عضو في مجتمع أن يحيط بملابسات صيرورة وجوده الأجتماعي وعياً، ويستوعب سياقات حركة هذا الوجود وما يحيط بها من إشكاليات، ليضع هذا وذاك في خدمة متغيرات الحركة التطورية لوجوده ومواجهة ما ينتظم هذا الوجود من تحديات الطبيعة والتشكيل الاجتماعي الذي ينتظمه، أما كيف يمكن له ذلك، فما ذلك بالذي يمكن تحديده أو تشريطه وإنما المناخ الذي يعيشه البشر من أوضاعهم الروحية والمادية أن ينجده في ذلك إذا صح منه العزم وصدقت الإرادة، أن يكون وعيه ومدركه المعرفي قوة ورسالة.. فنحن اليوم مثلاً بازاء ثورة العلم والتكنولوجيا التي أدت إلى أن تصل بالإنسان أن يقف على أسرار ما يغيب عنه في عالمه وبأن يسعى إلى امتلاك ناحية العلم والتطورات التكنولوجية العاصفة ليستطيع أن يجمع عالماً ما يغيب عنه من ظواهر إلى عالم ما يشهد فينتقل بإمكاناته وقدراته الذهنية وكذلك بإمكانات مجتمعه وقدراته لما انتهى وينتهي إليه التطور الروحي والمادي العاصف للبشر… إن المعرفة هي القوة ولكن هذه القوة لن تؤتي ثمرها إلا بخلق القاعدة المادية التكنولوجية التي تجعل من العقل البشري مارداً جباراً في مواجهة الطبيعة وأسرارها، وإلا كنا مجتمعاً وكينونات بشرية متفرقة خارج تاريخ البشر في صيرورتهم المعاصرة.

* أقترن دخول المثقف العربي عصر العولمة مع بروز الكثير من التضادات التي تجاوزت ثنائية الحديث والتقليدي ما هي بتقديركم سمات وتأثيرات هذه القرائن المعقدة على بنيات العقل العربي؟

** ما تؤشره من تضادات تجاوزت ثنائية الحديث والقديم أو التقليدي لا أظن إننا وحدنا من حيث نحن جنس من البشر مرهونون بها.. اذ هذه التضادات تدهم الجميع، لأن قانون الصراع بين القديم والحديث كان وسيظل.. والعولمة من حيث هي ما انتهت اليه ثورة العلم والتكنولوجيا منذ سبعينات القرن الماضي لا ما أنتهى اليه الرأسمال العالمي من تشكيلات ونظم جعلت الأرض كلها في قبضته، مصالح وطاقات وأسواقاً لتصريف المنتج، وحقولا لاستنزاف الثروات والمواد الخام.. أقول والعولمة بمعنى ثورة العلم والتكنولوجيا لن تبرز جديداً في ثنائية القديم- الجديد لأن الجدل بينهما سيظل يحكم حركة الأبداع والتفكير. ذلك أن بنية العقل البشري هي هكذا، لأن آلية التفكير تعمل من خلال الصراع بين ما أستقر في خلايا الجهاز المركزي للأعصاب من ثوابت وما ترشحه حركة الواقع العيني للحياة والمجتمع من جديد وليس لكينونة البشر أن تتجاوز ذلك، ولكن إضاءات العلم والمعارف التقنية في قيادة أوضاع البشر تكنولوجياً ستمكننا من تفادي العماء والتزمت اللذين كانا يتحكمان بأطراف جدل ثنائية القديم - الجديد، وبالتالي الخروج من هذا الجدل بأطروحة جديدة سرعان ما تتحول قديما بأزاء جديد آخر يزحمها ليغنيها ويعيد تشكيلها بشكل جديد.. أما السمات والقرائن المعقدة في بنية العقل العربي، فالحديث عنها يطول بشكل ليس لنا أن نحده، ولكن أيقاع كل سياقات حركة هذه البنية يحكمها التخلف وعدم تحسس نبض ما ينتظم البشر من تاريخ، إذ نحن منذ تشكيلاتنا الاجتماعية خارج التاريخ… ألا ترى إلى العقل العربي كيف يتحزب بعماء لجرائر طاغية اتى على الحرث والنسل وكل مقومات الوجود الفاعل في عراقنا الذي ليس للعرب من مستقبل إلا به، بحجج تجاوزها زماننا إلى غير رجعة وذلك خضوعاً منهم لإرث قديم استقر في أعماق لا شعورهم وجيناتهم التي شكلها صراع حضارات عفا عليها الزمن ومراحل تاريخية لن تعود أبداً.

* هل يمكن أن نؤسس لمجهودات فلسفية وفكرية حقيقية تقارب المناهج والعلوم الشرعية الإسلامية… ونصوص الفقه والاجتهاد وسط الحديث عن رؤى وطروحات إصلاحية تتلمس محاورها خارج النص الديني؟

** لم لا يمكن … أنه يا صديقي لأكثر من ممكن لأن العقل الذي هو السبيل لمثل هذا التأسيس هو المنطق المركزي الذي جاء به الإسلام، وفي العصر العباسي كان الإسلام فلسفة ومناهج فكرية تجاوزت اليونان ومهدت السبيل لقيام الفلسفة المدرسية ومن ثم الفلسفة الحديثة فالمسلمون في هذا العصر تبنوا العقل… فكانت مناهج ومذاهب بالغة الخصب مترفة العطاء، لك أن تنظر فيما أجتهد به الإمام علي بن أبي طالب بشأن قطع يد السارق حين خاطب عمر بن خطاب، فقال له: أنا افهم من نص الكتاب الكريم: وأقطعوا أيديهم أي اكفوهم حاجاتهم وحين كتب في عهد للأشتر يوم ولاه مصر حين حذره أن يكون سبعاً ضارياً يغتنم أكل الناس فقال نصاً فالناس أثنان أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.

لقد أجتمع على مائدة العصر العباسي الفقيه إلى الفيلسوف إلى عالم الطبيعة إلى رجل السيف إلى صاحب السلطان في حوار بالغ الثراء فلم يكفر فقيه الرازي في نظريته في القدماء الإمام الصادق في نظرية الميزان وفقاًُ لما جاء به كتابه (الخواص الكبير) أنه لو وفق الإنسان إلى معرفة نسب تركيب الأشياء استطاع أن يعمل إنساناً وحيواناً ونباتاً بأذنه وتوفيقه على شاكلة ما نرى لصنعه سبحانه، بيد أن هذا مشروط بعدم غلق عقولنا أو قفلها على نظرة محددة لا نريم عنها ذلك أن غلق العقول وقفلها باعتباط وعدم تبصر يقود إلى الشطط والخلط... وقديماً قال الإمام علي بن الحسين السجاد (ع) محذراً من مثل هذا الشطط:

أني لأكتم من علمي جواهـــــــره *** كيلا يـرى الحق ذو جهل فيفتتنــــــا

وقد تقدم في هذا أبو حســــــــــن *** إلى الحسين وأوصى قبله الحسنـا

ورب جوهر علم لو أبوح بـــــــــــــــه *** لقيل لي ! أنت ممن يعـبد (الوثنا)

ولاستحل رجال مسلمون دمي *** يرون أقبـح مايأتونه حسنــــــــــــــــــــــــــا

بل أن الكتاب الكريم نص على مثل هذا فقال: {لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون ولهم أذان لا يسمعون أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} لذلك أرى حضورنا وزهونا الروحي والحضاري حيث كنا نقول بالحقيقة المزدوجة والتوفيق بين الوحي والنظر العقلي ونرفض قانون الوحدة الأرسطي لصالح الاستقراء والقياس التمثيلي والتجريب ونضع العقل مكانه من الفهم والتناول والنظر ولا أظن أن في العقل العربي الإسلامي قصوراً أن يؤسس لما تقول.

* أخفق منظور الحكم السلطوي الشمولي التقليدي ففشل في التكيف مع حقائق الأزمة الحديثة والدفاع عن الهوية الوطنية والقومية… فهل ثمة حديث عن حداثة سياسية تقترن بطروحات حرة عن الديمقراطية والمجتمع المدني بعيداً عن حساسيات الهيمنة وأدبيات الاستعمار؟

** أجل هناك توجهات موضوعية تقترن بطروحات حرة عن الديمقراطية والمجتمع المدني، ولكنها محاصرة من قبل يد سدت علينا الآفاق بطروحات التخلف والعماء والتعصب المقيت من الذين يسندون السلطان الجائر بما أعتادوه من عماء الزيف المتخلف ولا عقلانيته وليس أمامنا غير الأخذ بالتعددية في النظر والحكم، ذلك أن التعددية ليست ترفاً ما إنما هي قدر الإنسان وسبيله الأرحب إلى الخروج من شرنقة حواسه وأنانيتها ولا بصيرة جسده وعماه، أنها السبيل الوحيد الذي يتجاوز بها حيوانيته إلى حيث نور العقل وانطلاقته في فضاءات الفهم الموضوعي والنظر الخلاق، أن التمحور على الذات يقود العقل الفرد إلى التقوقع فيما تأتي به الحواس من زاويتها وما يمكن أن تصاب به من أدواء تحول دون امتلاكها، وبالتالي تجعله بعيداً عما يجري بالفعل على أرض الواقع ثم أن زوايا الرصد وما اعتاده العقل من ثوابت في الفهم والنظر هي الأخرى تمنع المرء أن يتصل بما حوله بشكل سليم لذلك كان لا بد من الديمقراطية وتعدد وجهات النظر للوصول إلى الحقائق الكلية، وقديماً كان ما أُثر عن الرسول الأكرم قوله: اختلاف أمتي رحمة، وهنا اريد أن أشير إلى أن لفظة اختلاف هنا تعني التعددية وليس التردد على المكان لأن فعل اختلف لا يفيد التردد الا اذا تعدى بحرف الجر إلى أو على.. فاختلف إلى أهله أو صديقه تردد عليهم وأكثر من زيارتهم، أما اختلف في أو مع فلا تفيد إلا التعدد في المنظور أو التناول الذي يفيده الحديث الشريف… قديماً أختلف أصحاب رسول الله في الكثير حتى فيما ورد فيه نص صريح، ولعل آيات العفو والكنز والصدقة مجرد شاهد على أن اختلاف أمتي تعني تعدد مناظيرهم الذهنية والاجتهادية، ليس هناك من يملك كلية النظر غير الله الذي في السماء، أما البشر فمناظيرهم جزئية من اجتماعها تستطيع أن تخلص إلى الحقيقة الكلية التي بحصولنا عليها نستطيع أن نتجاوز ما نحن عليها من القصور، إذا صحت منا الارادات وصدق العزم… والإرادة قبل العقل كما يقول شوبنهار.

* مشكلة محاولات اعادة البنى الثقافية السابقة بقيت سجينة مناهج انتقائية سطحية تستجيب لضرورات ظرفية… فهل نجد من الضرورة بمكان الشروع بتنظيم الجهد الثقافي وبناه المعيارية والمعرفية والمؤسسية بما يجعلنا أمام مراجعة ثقافية عميقة في نقد المعرفة السائدة، ومناقشة عوامل فشل إخفاقها وظهور ظواهر الإرهاب الفكري؟

** الشروع بتنظيم الجهد الثقافي الآن يشكل أكثر من ضرورة للتخلص مما راكمته النظرة القاصرة من أخطاء وخطايا بحق المعرفة والثقافة والانسان، لقد زورت النظم الشمولية العقل والثقافة وشوهت الانسان وعطلت قواه الابداعية وسجنتها في دهاليز معتمة من العدوان والامية والجريمة، ولك ان تتأمل بما صنعته تعبئه التكنوقراط حيث سخرت قدراتها الابداعية في صناعة أسلحة الدمار الشامل، والتزوير والسقوط الروحي والاخلاقي، لذلك كان الشروع بإعادة النظر فيما استقرت عليه الابنية الثقافية في ظل التسلط والارهاب والقتل ضرورة بل أكثر من ضرورة، ثم ان محاولات البناء السابقة للثقافة ما كانت ممنهجة ابداً وإنما ينتظمها سياق واحد هو تدمير كل شيء وإخلاء الأرض من عناصرها الحيوية الطبيعية والبشرية… إن ما يشغلها أن يقتل الإنسان ليخلو للرأس الفارغ في النظام الشمولي أن يرى نفسه الوحيد في فضاء الوطن المبتلى بعتهه وطغيانه ونزوعه لتدمير الذات وتدمير الآخر.. فاستجابة محاولات البناء الذي اسميته ثقافياً، وهو بعيد كل البعد عن مفهوم الثقافة من حيث هي وعي بالضرورات التي تقود المرحلة التاريخية، والمثقف العضوي من حيث هو اداة التغيير الأرفع والأكثر تطوراً في سيرورة المجتمع وصيرورة قواه الإبداعية، أما المراجعة الثقافية ونقد السائد من ثوابت المعرفة ومناقشتها فضرورية ضرورة لا مندوحة عنها أنها ملزمة لنا، لتضحى المعرفة لدينا رسالة والكلمة رسالة، الفكرة إرهاص حيوي بما سيتمخض عنه الغد من ثوابت معرفية وسياقات في الفهم والنظر تمكن الفرد من أن يكون بالفعل لبنة حية في البناء الروحي والحضاري للمجتمع، وتفجير طاقاته بما يصنعه على الطريق الذي تجترحه ثورة العلم والتكنولوجيا لبناء وإعادة بناء الإنسان بما يجعله وسيلة وغاية ما تنزع إليه الأرض من تطور في كل أصعدة الحياة التي تتضمنها من حياة البشر.