ردك على هذا الموضوع

مشروع الإصلاح العربي بين شروط الغرب وذهنية الشرق

ناظم عودة

 

مشروع (الإصلاح) في البلدان العربية، مشروع غريب حقاً، ففي الوقت الذي لا يتقبل أية مرجعية غربية لتحديث نظمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فإنه يكون في كلّ مرة عرضة لتنبيه قوي يأتي من الغرب غالباً، بعد سلسلة من الإخفاقات والاختناقات في المجتمعات العربية بأسرها.

ولأنّ الإصلاحية العربية ارتبطت بـ (الأفكار)، وتحولت إلى عقيدة محافظة يتبناها الفكر السلفي، فلم تنطو طروحاتها على رؤية تحليلية للواقع، إنما كانت مجرد تهويمات طوباوية، لم تسفر عن نتائج عملية، يمكن توظيفها في إيجاد مخرج للمشكلات الحقيقية التي تضرب البنى الأساسية للمجتمع العربي. وبسبب تحول الإصلاح إلى عقيدة، وارتباطه بالأفكار، فقد غاب عنه التخطيط المركزي المستقل الذي تشترك فيه مؤسسات ذات صبغة مدنية، تقدِّم أفكاراً عملية لإصلاح حال المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ونظراً لهذا الارتباط، فقد اختلفت هذه الحركة في البلاد العربية، عن نظيراتها في العالم الغربي، ففي الوقت الذي كانت فيه تلك الحركة تنحو صوب إصلاح ذاتها، كانت هذه الحركة عندنا تنحو صوب إصلاح (نظام الحكم) وإصلاح (العلاقة مع الغرب حضارياً وثقافياً) وإصلاح (التجربة الإسلامية للمجتمع). وكانت حركة الإصلاح الديني لدى الأوربيين قد تمخضت عن تشخيص فساد كبير في التجربة الدينية، اشترك في الكشف عنه عدد من رجال الدين المتنورين من أمثال مارتن لوثر، وأفضى إلى فصل الدين عن الدولة، ونشوء نظام حكم مستقر، ذي خصائص واضحة ومقبولة لدى عامة الناس، يفضلونها على نظام الحكم الديني أو ما كان يعرف بسلطة الكنيسة.

لقد زاد اعتناء الغرب بالعرب والمسلمين بصورة استثنائية بعد الحادي عشر من أيلول، وقد انصبّت هذه العناية على فهم النظم الأساسية للتربية والتعليم، والثقافة السائدة. وخلص العاملون في مراكز الأبحاث والدراسات الستراتيجية، وبعض المؤسسات الأكاديمية التي تعنى بالشرق الأوسط، إلى أنّ العنف والتطرف في هذا المكان من العالم يعزى إلى النظم التربوية المغلقة، التي تعمل في الغالب على استثارة العواطف والأحاسيس، ولا تسعى إلى تراكم معرفة عقلانية، إنما هي خليط من الخرافات التي لا تستند إلى أية معرفة عقلانية، وهو ما يحرص الغرب إلى اعتماده كركن من أركان ثقافته. وقد صار متداولاً في الكتابات الغربية، مصطلح Madrasa ، لوصف الثقافة التي تغذيها المؤسسات التعليمية في البلدان العربية تحديداً. واستناداً إلى هذا التوصيف الغربي، فإنّ ثقافتنا ليست إلا ثقافة مدرسية؛ أي مغلقة على محيطها، وليس بمقدورها تحليل الواقع ونقده نقداً عقلانياً، ولذلك فهي ليس بمقدورها أيضاً أن تبذر المعرفة إبذاراً صحيحاً، أو تساعد على إنتاجها. وهكذا صارت عملية إنتاج المعرفة من العوامل التي تساعد على إيجاد توصيف أكثر انفتاحاً لنمط الثقافة العربية. ويرجع خبراء الاجتماع والسياسة الغربيون هذا العنف في الشخصية العربية، إلى نمط الثقافة السائدة في العالم العربي. فهي تقدّس الموروث، ولا تسمح بتكوين رؤية نقدية للجذور التراثية، ولا تدرِّب أبناءها على النقد والتفكيك والإنتاج، إنما على تراكم الخبرة الاستهلاكية للثقافة، فضلاً عن أنها تغذي الحلول القبلية لأية معضلة اجتماعية أو سياسية. ومن هنا جاء التفسير ـ الذي لا ينصاع لأي شرط من شروط الزمان والمكان ـ لتلك الآيات القرآنية الداعية إلى العنف، وتحولت إلى مرجعية ثقافية تحتضن الممارسات الواقعية للتطرف، وهو ما كان يشكو منه إدوارد سعيد باستمرار حتى في إطار العمليات الاستشهادية داخل أراضي الدولة العبرية. وقد كانت الجامعات العربية، محط أنظار هؤلاء الخبراء بصورة أساسية، وتقدموا باقتراحات لحذف بعض البرامج والأفكار المتطرفة، التي لا تراعي التطور الطبيعي للتاريخ، بل تفسر الأشياء والظواهر بعقلية مشدودة إلى الزمن الماضي عادة. ويعتقد الغربيون أنّ المسؤول المباشر عن تفريخ الجماعات السياسية المتطرفة في العالمين العربي والإسلامي، هو هذه الثقافة التي يغلب عليها الطابع الديني المتشدد في أفكاره، وتفسيره للتاريخ، ونظرته إلى الآخر المنتمي إلى حضارات أجنبية. وكان هذا خير مسوّغ للتدخل المباشر في مشروع الإصلاح العربي، من طرف الغربيين أنفسهم، بما في ذلك التدخل العسكري غير المستند إلى أيّ غطاء قانوني.

وقد كشفت حركات الإصلاح العربية عن ضعف في المقدمات النظرية، وعن ضعف في التخطيط الكلي لمختلف طبقات الواقع الساسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ففي الوقت الذي يعمد الغرب فيه إلى رسم صورة عن المجتمعات العربية، عن طريق تقارير معدَّة من جامعات، وخبراء، ومراكز بحوث، فضلاً عن المعلومات الاستخباراتية، فإنّ (القرار) العربي يشكو من افتقاره إلى أية مرجعية من النوع الذي ذكرت. وإذا ما اعتمد القرار على قاعدة بيانات دقيقة، فسوف تخضع لمقصّ الرقيب السياسي، لئلا تكشف خروقات حقوق الإنسان في هذه المجتمعات الشمولية التي تعاني من نقص الحريات الأساسية. وهكذا، صار الغرب أكثر معرفة بمجتمعاتنا، وقدّم إحصاءات تعدّ مرجعاً أساسياً لدراسة المجتمع العربي، بخلاف الإحصاءات العربية غير الموثوق بها. إنّ النخب الحاكمة في البلدان العربية، تنظر إلى البيانات الإحصائية على أنها أرقام مجردة، ومن هنا جاء التلاعب بهذه البيانات بدءاً من أصغر مؤسسة، وانتهاء بوزارة التخطيط نفسها. وقد وظِّف التحريف في البيانات لخدمة مصلحة سياسية معينة نظراً لغياب رقابة المؤسسات المستقلة، وغير المرتبطة بأجهزة السلطة. وهذه من أوائل المشاكل التي تعترض عملية الاعتماد على تقارير مرجعية دقيقة. إنّ (القرار) العربي في صناعته ونتائجه، إنما هو صورة لفساد التخطيط القائم على مقدمات صحيحة، والمفضي إلى نتائج صحيحة أيضاً، ولذلك فإنّ صورة (قرار الإصلاح) العربي تظل صورة ناقصة وعاجزة عن بلوغ أهدافها، ويظل الإصلاح عملية سياسية أكثر من كونه عملية جذرية تشمل كل طبقات المجتمع.