ردك على هذا الموضوع

الإسلام وتحديات العولمة

الدكتور خلف محمد الجراد

مفهوم العولمة ومجالاتها
شكل موضوع العولمة في السنوات الخمس عشرة الأخيرة محوراً أساسياً لعدد كبير من الندوات والملتقيات الفكرية والثقافية إضافة إلى عشرات المؤلفات والدراسات والأبحاث وكان الإجماع منعقداً على أن العولمة تمثل تحدياً كبيراً في العصر الحالي بصرف النظر عن الاختلاف في منطلقات المقاربة وزوايا النظر ونقاط التركيز خاصة بالنسبة للبلدان النامية وللشعوب التي تعتز بقيمها الثقافية والحضارية المستمدة من منابع وفضاءات روحية كونية شمولية كالشعوب الإسلامية.
والعولمة مصطلح جديد في اللغة العربية جاء ترجمة للمصطلح الإنكليزي Globalization والفرنسي Globalisation من أصل لاتيني واحد للإنكليزية والفرنسية (Glob) الذي يعني الكرة الأرضية.
وعموماً لم يظهر المصطلح قبل الستينات من القرن الماضي وكان يصف بداية بشكل حيادي ظواهر أصبحت عالمية بعد أن كانت محلية أو قومية ولكنه أتخذ مضموناً اقتصادياً في الثمانينات وفي التسعينيات أصبح مفروضاً في التحليل المالي و(الاقتصادي) وإذا كانت عبارة (عولمة) قد شاعت في اللغة العربية فهي الأكثر استعمالاً من بين عبارات أخرى لم تلق رواجاً (كوكبة) - (عالمية) - (شمولية) وجميعها تعني العولمة.
وعلى العموم فإن العولمة عملية معقدة وشاملة تنطوي على مجموعة متشابكة من العناصر المتنوعة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية والفكرية والثقافية تتحرك وتؤثر في تحقيق العولمة بطريقة متزامنة تقريباً وإن برز أحدها لكن بروزه لا يلغي فعل العناصر الأخرى في حركتها الضمنية.
إن العولمة عملية (صيرورة) تحصل حالياً بعد أن بدأت منذ حوالي ثلاثة عقود، ومن ثم هي حالة متغيرة باستمرار ويعيشها البشر فعلياً وهذه الصيرورة تمليها بشكل أساسي متطلبات ناشئة في ميدان الاقتصاد العالمي. والعولمة بما هي حركة راهنة ومستمرة فهي تسعى إلى إقامة نظام عالمي جديد يحل محل النظام العالمي الذي كان سائداً زمن (الحرب الباردة) وتنطوي على التكامل الصارم في الأسواق وفي الدول والأمم، لكنها من الناحية الثقافية هي انتشار للأمركة وإن كانت الصورة ليست شاملة، وقد انقسم العالم حول العولمة الليبرالية بين فريق فاعل فيها ومناصر مؤيد لها وفريق معارض بأشكال متفاوتة.
ولا تحصل هذه العولمة بمعزل عن إنتاج فكري لتسويغها فمنذ حوالي ثلاثة عقود تقريباً ظهرت الأفكار الأساسية التي تدعم وتبرز العولمة الليبرالية وهي الأفكار التي عرفت باسم الايدولوجيا النيوليبرالية Neoliberlisme (الليبرالية الجديدة) وقد باشرت السلطة المالية العالمية والنيوليبرالية يداً بيد عملية العولمة.
ومن أبرز محاور النيوليبرالية هي: 1- المنــــــــافسة، 2- تحـــــــرير أسعـــــــــــار السلــــــــــع،
3- الخصخصة، 4- إعادة النظر في دور الدولة.
وأبرز قواها: 1- الشركات المتعددة الجنسية أو العابرة للقارات، 2- المؤسسات الاقتصادية العالمية الكبرى، 3- الحكومات، 4- الحركات الاجتماعية.
أما أدواتها فهي: 1- اتفاقيات التبادل الحر 2- المناطق الحرة، 3- برامج إعادة الهيكلة.
أما أبرز نتائجها فهي: 1- النمو من دون استخدام، 2- الإفقار، 3- الأزمات المالية، 4- تخريب البيئة، 5- العسكرة.
العلاقة بين الثقافة والعولمة:
العولمة هي ثقافة تحكم النزعة الاقتصادية في العالم لدرجة تهديد مصيره ومصير الحياة على الأرض.. العولمة الرأسمالية ثقافة متكاملة عملت وتعمل للقضاء على الثقافة الغربية وعلى باقي ثقافات العالم والعمل لتحويل جميع الثقافات إلى نوع من الفولكلور.
وهذه الثقافة (العولمة الرأسمالية) هي ثقافة ضد الثقافة، إنها لا ثقافة لأنها:
1- تقلص معنى الوجود إلى وظيفة واحدة،

 2- إنها مضادة للثقافة لأنها تؤدي إلى الاستعباد،

 3- إنها قاتلة للثقافات الأخرى(1).
إن الاقتصاد في العولمة الرأسمالية بتحرره من المجتمع أحتل كلية المجال الاجتماعي وأصبح شمولياً، وهذا الاقتصاد يقوم على عبادة الكفاءة التقنية والاقتصادية دون ضوابط وحدود وعليه فإن الحرب الاقتصادية الرأسمالية تشكل حقيقة المنافسة ونشهد فيها التسابق نحو تطوير التقنية التي تخلق قدرة إنتاجية، وتولد غالبين ومغلوبين.
وباختصار فإن على كل ثقافة أن تؤمّن الاندماج الملموس في عيش أبنائها معاً وهذا ما عملت الدولة - الأمة على تأمينه إلى حد مقبول في زمن الكينزية.. وبالمقابل فإن الدعوة إلى انخراط افتراضي لكل الإنسانية في تطوير الكفاءة (في الاقتصاد والتقنية) وبفعل السوق العالمية، يتحول كل ما في العالم إلى سلعة، وبتعميم المنافسة.. يتم على حساب نزع فعلي لاجتماعية الإنسانية وتفكيك الروابط الاجتماعية.
الهوية وخطاب الهوية:
إن التفكيك الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وتدمير ثقافة البلدان الرأسمالية المتقدمة صناعياً يقابله ويرافقه تدمير ثقافات بلدان الجنوب بشكل مأساوي لدرجة تبدو معها بلدان الشمال (كنخبة كونية) بينما لا يبقى للجنوب سوى بقية من تراثه الثقافي يتحصن خلفه وهذا ما يفسر ظهور الحركات الاحتجاجية والحركات الأصولية ولجوءها إلى التراث الثقافي للحماية من موجة ماحقة تهدد الوجود الاجتماعي.
وتشكل الهوية (سواء أسميناها ثقافية أو قومية أو أثنية أو دينية) طموحاً شرعياً شرط ألا تتحول إلى ما سماه بعضهم (طاعون الهوية) أي إلى خطر مهدد للذات وللآخر معاً ومصدر هذا الخطر يكون في إجراء قطع بين وعي الهوية وخطابه ووعي الوضع التاريخي المعاش.
ويندرج خطاب الهوية دوماً في استراتيجية عمل، وعلى هذه الاستراتيجية أن تدرك ضرورة عدم فصل حركتها التاريخية العالمية المناهضة لهجوم العولمة الرأسمالية الماحق، وألا تقع في فخ تقسيم العالم إلى فسطاطين، فسطاط الخير تمثله الهوية وحدها، وفسطاط الشر الذي يمثله باقي الكون، لأن في ذلك منزلقاً سريعاً نحو سياسة التطهير العرقي كما في أوروبا الشرقية (يوغسلافيا).
نماذج من ثقافة العولمة:
 (كوكاكولا) و(ماكدونالد) و(ديزني لاند) من رموز ثقافة العولمة وهذا يعني أن العولمة تنطوي في الحقيقة على الأمور الآتية في التنميط (نمط موحد في السلوك ينتشر عالمياً على حساب أنماط السلوك المحلية)، ومن جراء ذلك لا تعود الأسواق قومية، بل يصبح العالم كله سوقاً واحد وهذا ما يسرع في احتكاك شتى الثقافات بثقافة العولمة هائلة القدرة، وتشكل السلع والرموز الأمريكية (كوكاكولا..) حصان طروادة الذي من خلاله تتغلغل القيم الثقافية الأمريكية في باقي مناطق العالم... هذا التغلغل يجعل أمريكا نموذجاً لمستقبل عالمي تصنعه القوى الاقتصادية والتقنية التي تستدعي توحيد العالم وتنميط سلوكياته في نمط واحد هو النمط الأمريكي.
وهكذا يتعمم منطق أن كل شيء مطروح للبيع والشراء مادامت الثقافة التي يتم نشرها هي ثقافة الربح وهذه الثقافة تعتبر النموذج الأمريكي هو المثل الأعلى الذي تروجه بنجاح كبير وسائل الإعلام الجماهيري الأمريكية.
وأخطر ما في العولمة أنها تنشر أفكاراً وسلوكيات من شأنها تحطيم الولاء للقيم التراثية والدينية الأصلية، والولاء للوطن والأمة، وإحلال أفكار وولاءات جديدة محلها(2). ويقدم أحد الباحثين أسباب الانتشار الواسع للثقافة الأمريكية التي تتلخص بما يلي (3):
1- إن سيطرة الاقتصاد الأمريكي بوصفه سوقاً مستوردة ومصدرة واعتماد اقتصاديات أخرى على الاستهلاك في الولايات المتحدة إضافة إلى هيمنة شركات الإعلان الأمريكية على التسويق العالمي، كل ذلك أدى إلى صيرورة أساليب الدعاية والتسويق الأمريكية عالمية الاتساع.
2- للولايات المتحدة تفوق واضح على منافسيها الاقتصاديين في المجالات الثقافية الشعبية، وعلى الأخص في صناعتي الأفلام والموسيقى، وقد تمكنت من استغلال قوتها في هذا الإنتاج فدخلت ملايين البيوت، وأثرت في عشرات ملايين الأفراد.
3- لا تعكس الصادرات الثقافية الأمريكية إلا المستوى المتدني من الأنشطة الثقافية الأمريكية.
4- استطاعت الولايات المتحدة أن تطور صناعة ثقافية (بالمعنى الأمريكي) واسعة موجهة إلى الشباب والأحداث الأمريكيين وبالاستفادة من ظاهرة العولمة سوقت صناعاتها الثقافية الموجهة للشباب في العالم، والخشية أن الأمركة سيكون لها تأثير قوي على العالم الإسلامي.
5- ثمة صلة مهمة بين العصرنة والأمركة، فعصرنة اليوم والرأسمالية والثقافة الاستهلاكية وعالم الإعلان ودنيا المادة وتغيير الأزياء والعولمة والأسواق الواسعة هي شبيهة بأمريكا.
العولمة وعالمية الإسلام:
تتجلى عالمية الإسلام بمعناه الرسالي الشامل في قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) (سورة الحجرات: الآية: 13).
وعلى أساس عقيدة التوحيد تنزل الإسلام، فحمله المسلمون دعوة إلى العالم، وكان التوحيد هو مقياس الحكم على الناس بمقدار ما هم عليه من تقوى والتزام بالأحكام التي أرادها الله تعالى منهاجاً للبشرية كلها (4).
إن الإسلام برسالته العالمية يقف باستمرار وبتلقائية صارمة في مواجهة كل الأفكار التي تبغي السيطرة على العالم بمسميات مختلفة، والتي سرعان ما ينكشف زيفها وتنهار بعد أن تكبد البشرية ملايين الضحايا، فضلاً عن تعريض العالم للدمار مثلما حدث إبان سيادة النازية في ألمانيا ومثلما هو متوقع حدوثه الآن بعد انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالسيطرة على العالم ومحاولات فرض الأمركة على الشعوب وجرها عن طريق العولمة للاحتواء، والتحكم بمقدراتها ومصائرها، وعليه فإننا نتفق مع الآراء التي تؤكد أن العولمة في مفهومها الضمني ومدلولها الاصطلاحي ليست هي (العالمية) بحد ذاتها، إذاً لا يمكننا البتة أن نقرنها بعالمية الأديان، كالإسلام الذي جاء إلى العالم كافة، لماذا؟ لأن (العالمية) مصطلحاً ومضموناً ارتبطت بالأرض والإنسان والكون والخالق بآن معاً (5).
فبين العالمية والعولمة، ثمة مسافة كبيرة، هي ذاتها المسافة الفاصلة بين حوار الحضارات والثقافات وبين إلغاء بعضها للآخر (6).
الفرق إذاً هائل، بين عالمية الإسلام، والعولمة القائمة على تعظيم الأرباح ونهب الثروات وتغليب الثقافة والاتصالات على قيم التفاهم ومركزية الخير والمحبة بين الشعوب كافة، عالمية الإسلام تتمثل برسالته إلى العالمين أي الناس جميعاً وليس إلى قوم دون غيرهم، فكان طبيعياً أن يكون الإسلام آخر الرسالات لأنه كرس عالمية الحضارة الإنسانية (7).
ومن عالمية القرآن الكريم أنه خاطب الناس جميعاً ليوقظ العقول من غفلتها ولم يقتصر خطابه على الأنبياء فقط (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين) (سورة يونس: الآية: 57) وعلى المسلمين أن يقدموا الإسلام بنقائه ووجهه المشرق وأن يشكلوا نموذجاً يحتذى بأعمالهم وسلوكهم وعلاقاتهم (فهذا السلوك على المستوى الفردي والجماعي له أثره البالغ لا في تعديل صورة الغرب عن الإسلام فحسب، بل في جذب الغربيين للإسلام أيضاً) (8).
العولمة والثقافة الإسلامية:
ترتب على العولمة تحديات واسعة بالنسبة للثقافة الإسلامية سواء على مستوى التكوين والإنتاج أو على مستوى الآليات والوسائل والأساليب، وشئنا أم أبينا، فإن الشعوب والمجتمعات الإسلامية تعاني من الاختراق الثقافي على نطاق واسع ولو كان ثقافياً فقط لاستطعنا تحديده وضبط أشكاله، (ولكن هناك اختراق دعائي من خلال الثقافي، وسيكون له تأثير بالغ على أفكار الجيل القادم) (9) ونحن لا نتفق مع أولئك المثقفين، الذين يروجون للأطروحة القائلة: إن العولمة كالقدر المحتوم (10).
بالرغم من كون الإسلام بجديته الصادقة مناقضاً للعولمة الرأسمالية، فإن العالم الإسلامي لم يتمكن بعد من بناء مشروع معاصر على أساس رسالته العالمية. والقاسم العلمي المشترك والوحيد الجامع بين الشعوب الإسلامية، هو وقوفها موقف الرافض لتلك العولمة نظراً لتوجهاتها المعادية للقيم الإسلامية.
إزاء هذه الموجة العاتية من التحدي وهذا المخطط الشرس، فإن على الشعوب والقوى والحركات الإسلامية الارتفاع بمستوى خطابها، ليكون خطاباً ذكياً على مستوى المخاطر والتحديات قائماً على قاعدة السمو الذي يتمتع به الإسلام فكراً ومفاهيم، ومبادئ وقيماً جامعة لجميع مناحي الحياة.
والحقيقة أنه عند مقارنة واقع العالم الإسلامي الراهن بواقع العولمة الموحدة بقيادة قوة بحجم الولايات المتحدة ومعها القوى الغربية الرأسمالية، يظهر الفرق الكبير في إمكانات العمل وتفعيله، ومن ثم الوصول به إلى وضعية التأثير.
ولعل تساؤلات عديدة تتبادر إلى الذهن من قبيل:
- لماذا نصرّ على اعتبار إنجازات العولمة تحديات لنا؟
- لماذا لا نتعامل معها كمكاسب إنسانية ونستثمرها لخدمة قضايانا المصيرية؟
- وهل لنا الاختيار أصلاً في قبول نتائج العولمة وقد أصبحت قدراً محتوماً من العبث تجاهله؟.
ويأتي الجواب إننا كمسلمين لم ولن نكون أبداً ضد هذا الانفتاح على الآخر والتواصل معه، لأن روح الإسلام روح إنسانية: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (سورة الأنبياء: الآية: 107) وأن يقوم الانفتاح والتواصل على مبدأ الحوار والاعتراف، أما الحدود فيأتي على رأسها احترام الثوابت العقيدية وعدم التعرض لها بالاستخفاف أو الاستهزاء أو الفوقية، لأن مخالفته لذلك يجعله تحدياً بل استفزازا (11).
آفاق المواجهة
إن مقدمات المواجهة بين الإسلام وزعماء العولمة باتت من الوضوح بما لا يدع مجالا للشك في تصميمهم على إنهاك الشعوب الإسلامية نفسياً وسياسياً واقتصادياً عبر الحملة الإعلامية الواسعة التي تستهدف سمعة المسلمين وتلصق بهم شتى الأعمال الإرهابية والإجرامية وكل ما يسيء إلى هذه الشعوب وأمنها واستقرارها وتعاونها.
فالمشروع النهضوي الإسلامي يقوم على أسس ومرتكزات، هي:
1- جمع كلمة المسلمين واعتبار الوحدة هدفاً دائماً وواجباً شرعياً وحياتياً، وكان طموحه بناء هذه الوحدة القوية لمواجهة الاستكبار الأمريكي والصهيونية العالمية.
2- تقارب الدول الإسلامية على أساس الإخاء الإسلامي والتآزر ونصرة المظلومين ورفض أساليب الاستكبار والاستعلاء والهيمنة التي تمارسها القوى الكبرى.
3- توزيع عادل لثروات الأرض حيث لا يكون هناك متخمون وجياع.
4- إقامة علاقات إنسانية متوازنة وعادلة على أساس العبودية لله تعالى.
5- حمل رسالة الإسلام إلى العالم بالحكمة والموعظة الحسنة.
عموماً، يمكن القول: إن مواجهة تحديات العولمة ليست مسألة فكرية سجالية، بل هي ضرورة لازمة ضد تكريس التبعية والفرقة، وإعادة إنتاج التخلف والخضوع للاستعمار والدعوات الخطيرة ضد القيم والمبادئ الإسلامية.
ويرى أحد الباحثين أن سر الرفض الغربي للنهضة الإسلامية يعود إلى الأهمية الحيوية والسياسية للدولة الإسلامية وامتلاك الأمة الإسلامية للمقومات الذاتية التي تؤهلها - لو استثمرت على نحو صحيح - لأن تشكل قوة ليس على الصعيد الاقتصادي فحسب بل على المستوى الحضاري عامة (12).
ومن هنا يأتي الإصرار في الدوائر الغربية (على أن يظل المشروع الإسلامي رهن الاعتقال وراء قضبان التخلف والتبعية) (13).
وبالمقابل فإن كثيرين من حكماء الأمة ومفكريها الصادقين يؤكدون على إمكانية المواجهة للعولمة وتحدياتها من خلال بناء الذات انطلاقاً مما نملكه من قدرات مادية ومعنوية صنفها بعض الباحثين بما يلي:
1- قوة المعاني القرآنية ومدلولاتها المفتوحة:
حيث توحي عشرات الآيات القرآنية بأكثر المعاني سمواً وشمولاً وقابلية للتلقي الإيجابي، فوظيفة المسلمين التركيز على هذه المدلولات المفتوحة وترويجها عن طريق الاستفادة من الإمكانات الثقافية المتطورة لتوكيد ربانية الكون وعظمة قيم الإسلام.
2- التركيز على ترسيخ مفاهيم وقيم الثقافة الإسلامية في مواجهة مفاهيم الفوضى والإباحية والضياع:
نتيجة للغزو الثقافي - الإعلامي - التغريبي تعرضت جوانب كثيرة من الثقافة السائدة في البلدان الإسلامية لتشوهات واختلاط المفاهيم كالعادات المستحدثة والسلوكات السائدة في أوساط الشباب الإسلامي، فقسم كبير منها هو تقليد للغربيين في عاداتهم وسلوكهم بدعوى التنوير والانفتاح. وانتشرت في بعض البلاد الإسلامية ألوان من الجرائم لم تعرف من قبل. أما الإنتاج الأدبي والفني فإنه في أغلبيته يحمل مفاهيم الثقافة الغربية، والاستثناء الوحيد (كما يقول أحد الباحثين العرب) هو القليل الذي تنتجه بعض الدول العربية والإسلامية (16)، وقد يكون في هذا الحكم مبالغة، لكن من المؤكد أن الإنتاج الفني والأدبي الذي يحمل مفاهيم الثقافة الغربية الحديثة، موجود وسائد في كثير من الدول الإسلامية منذ أوائل القرن العشرين تقريباً.
والأمر الآخر أنه في عصر العولمة تجري عملية خلط للثقافات، فتخترق العناصر السلبية والغريبة والمدمرة بنياننا الثقافي ومكونات هويتنا الإسلامية؛ تأتي (ثقافة العولمة) لسد الفراغ بكل هائل ورخيص وجذاب فتتراجع القيم وتحصل التبعية الفكرية - الثقافية.
3- العمل الجاد لبناء الإنسان:
إذا كان من المتفق عليه أن الإنسان يشكل الثروة الحقيقية لأي أمة، فإنه يصبح من البديهي والحتمي التركيز على بنائه، حيث أن العالم الإسلامي يملك بمجمله أو كدول قوة بشرية هائلة، لكن هذه القوة لا تزال أقرب إلى العطالة (18)، في الوقت الذي نجد فيه أن مئات آلاف الأدمغة الإسلامية استطاعت أن تفرض وجودها على مستوى مراكز الأبحاث العلمية المتقدمة وكبريات الجامعات في كل من أوروبا وأمريكا، فإن لم تحسن الأمة استيعاب أبنائها وتربيتهم على قيم الحرية المسؤولة والشجاعة، ستجد نفسها وقد ازدادت تخلفاً وتراجعاً، فلا يجوز أن نكون في عالم اليوم متلقين سلبيين أو مستهلكين لمنتجات الآخرين، ومرددين لنظرياتهم وأفكارهم، فديننا العظيم يفرض علينا أن نكون مشاركين بفاعلية في كل التطورات العلمية والإنجازات التقنية والفكرية التي تخدم الإنسانية.
4- أهمية الاعتماد على الذات:
فالموقف من الذات وإمكاناتها يشكل عاملاً في غاية الأهمية لبلوغ النجاح أو السقوط في الخيبة والفشل، وهذا يسري على الأمم والشعوب أيضاً (19)، فالأمة التي لا تثق في قدراتها ولا تقدر إمكاناتها الذاتية حق قدرها لا يمكن أن تكون على الدوام إلا ظلاً للآخرين، تابعة لهم (التسول الحضاري) (20)، لقد ثبت من خلال التجارب التنموية التي خاضها العديد من الدول أن التقدم لا يمكن أن يستورد من الخارج، بل هو عمل داخلي ينم عن صيرورة تغييرية يتضافر فيها العديد من العوامل (الاقتصادية - السياسية - الثقافية) فيما تبقى العوامل الخارجية معطى مساعداً ليس أكثر، وإذا كانت العولمة قد جعلت من العنصر الخارجي عاملاً حاسماً في عملية التغيير والتطوير، فإن ذلك لا يعني القفز على العناصر الداخلية بل لا بد من مضاعفة الجهود لتقويتها وتقويمها والرفع من مناعتها ضد الذوبان والسقوط أمام الخارج المنافس، ولا مناص للأمة من نهضة شاملة تعيد الاعتبار لنفسها بين الأمم.
5- التكامل والوحدة:
إن حتمية الرفع من مستوى الأداء الاقتصادي بوساطة عقلنة استعمال الموارد التي يفرضها منطق العولمة، دفع بالدول الرأسمالية إلى التكتل في إطار تجمعات جهوية، والهدف من هذه التكتلات هو تعزيز القدرات التنافسية وخلق كيانات اقتصادية عملاقة ذات طاقات عالية، وإمكانات كبيرة تؤهلها لخوض المنافسة الاقتصادية/ التكنولوجية الدولية ومجابهة القوى الدولية الأخرى المنافسة (21). غير أن البلدان الإسلامية من جهتها ليست على ما يبدو معنية بهذه التحديات، على الرغم من كل ما تملكه من مقومات الوحدة المادية والروحية (الدين - اللغة - التاريخ - الجغرافيا)، وما يحز في النفس أكثر، تضارب اتجاهات واختلاف اهتمامات البلدان الإسلامية.
فكل بلد يعتبر نفسه أمة في حد ذاتها، لها خصائصها التاريخية والجغرافية ولها مميزاتها الثقافية والاجتماعية، كما يعتبر نظامها السياسي والاقتصادي هو الاختيار الذي يجب أن يحتذى.
إن المطلوب اليوم من ذوي القرار في العالم الإسلامي تجاوز الخلافات المصطنعة والحساسيات الضيقة، والعمل لأجل تحقيق حد أدنى من التنسيق والتعاون خدمة للمصالح المشتركة.
الخلاصة:
لقد أردنا في هذه المساهمة المتواضعة التدقيق في بعض آليات عمل العولمة، والدعوة للتفكير بتحصين الأمة الإسلامية، من خلال أهم البدائل والمرتكزات التي يمكن من خلالها التصدي للعولمة، كما لا بد من العودة إلى جوهر القرآن الكريم وسيرة النبي الكريم (ص) والأئمة الطاهرين (ع) للنهضة الإسلامية الشاملة، ومطالبة المسلمين بمراجعة الذات، وتقديم الصورة المشرقة عن الإسلام، وعندئذ سنفرض احترامنا على العالم، وسيحسب الآخرون للمسلمين آلاف الحسابات بعد أن نتجاوز ضعفنا وفرقتنا وتبعيتنا بإيمان صادق وعقلية داعية وهمة إسلامية عالية.
_____________________________________________________________________

الهوامش
(1) أنظر: جوزيف عبد الله (العولمة والهوية الثقافية) في مجلة (العرب والعولمة) (بيروت العدد (17) نيسان 2004م) ص 32 - 37.
(2) جلال أمين، (العولمة والدولة) ضمن كتاب (العرب والعولمة) بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، تحرير أسامة أمين الخولي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1/1998) ص156.
(3) بول سالم (الولايات المتحدة والعولمة: معالم الهيمنة في مطلع القرن الحادي والعشرين)، ضمن المصدر السابق، ص  220 - 222.
(4) أنظر: سميح عاطف الزين، عالمية الإسلام ومادية العولمة (بيروت: الشركة العالمية للكتاب، ط1، 2000)، ص 16- 18.
(5) سيار الجميل، العولمة والمستقبل: استراتيجية تفكير (عمان: الدار الأهلية للنشر والتوزيع، ط1، 2000) ص86.
(6) محمد نبيل الخياط، (عالمية لا عولمة) مجلة (المعارج) شهرية متخصصة تعنى بالدراسات القرآنية وحوار الأديان، السنة 13، العدد 42، صيف 2003م الموافق 1424هـ، ص 62.
(7) محمود حمدي زقزوق، الإسلام في عصر العولمة(القاهرة: مكتبة الشروق، 2001م) ص 50.
(8) سيار الجميل، العولمة والمستقبل.. مصدر سابق، ص 97.
(9) المصدر نفسه، ص98.
(10) إدريس هاني، (كيف يقرأ المثقفون العرب، العولمة؟) في مجلة (الكلمة) الصادرة عن منتدى الكلمة للدراسات والأبحاث، السنة الخامسة، العدد(19) ربيع 1998/1419هـ ص65.
(11) الحسين عصمة (العالم الإسلامي وتحديات العولمة) في مجلة (الكلمة) المصدر السابق، ص 78 - 79.
(12) المصدر نفسه.
(13) منير شفيق، النظام الدولي الجديد وخيار المواجهة (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ط1، 1992)، ص 121.
(15) المصدر نفسه، ص125.
(16) الدكتور محمد الجوهري حمد الجوهري، العولمة والثقافة الإسلامية، ص126.
(18) الحسين عصمة (العالم الإسلامي وتحديات العولمة) في مجلة (الكلمة) المصدر السابق، ص 83.
(19) محمد محفوظ، (نظريات التخلف في الفكر العربي: قراءة نقدية) في مجلة (الكلمة) الصادرة عن منتدى الكلمة للدراسات والأبحاث، العدد 11، السنة الثالثة، ص59.
(20) المصدر نفسه، ص49.
(21) محمد المداح الإدريسي (الوطن العربي بين الفاعلية والتهميش في عالم متغير) في مجلة (الوحدة) الصادرة عن المجلس القومي للثقافة العربية (المغرب) العدد 86، ص23.

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد 75

إتصــلوا بـنـــا