ردك على هذا الموضوع

تدويل الاستبداد في العراق

عودة القمع من من جديد

مرتضى معاش

يواجه العراق في عهده الجديد تحديات جدية هامة يمكن ان تغير مساره التاريخي، فالفرصة السانحة تتمثل في التحول العميق نحو بناء ديمقراطية حقيقية ترفع عنه مآسي الاستبداد وقمعه وجرائمه وترجع بريق عمره الذي سرقه الطغاة والمستبدون.

والتحدي الخطير يتمثل في عودة الاستبداد من جديد ولكن بلباس وشكل جديدين، ومع عودته يعود القمع والخوف والظلم.

والاحداث المتسارعة اخيرا تقود نحو هذا الاستنتاج، فيوما بعد يوم تنحسر رقعة الحرية مع ارتفاع مستوى هاجس الامن والارهاب، والدعوة لفرض احكام عرفية مع بدء عمل الحكومة المؤقتة وتسلمها للسلطة بشكل رسمي.

وقد ظهرت اول بوادر انحسار الحلم بالديمقراطية من خلال اقرار قانون ادارة الدولة المؤقت والذي يسمح بشكل مباشر بممارسة الوصاية الدائمة على الشعب العراقي وايقاف عملية تداول السلطة بصورة تضمن حق السيادة الشعبية، فالقانون المؤقت قام على اسس تتعارض بشكل جوهري مع الديمقراطية لانه انبثق من خلال عملية التوافق والمحاصصة.

وعلى الرغم من ان الولايات المتحدة يحكمها نظام ديمقراطي ليبرالي حر ومشروعها تصدير قيمها في الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان الى العالم عبر القوة الاعلامية والعسكرية، الا انها في العراق تمارس بصورة غير مباشرة عملية بناء نظام استبدادي من خلال التوافق مع بعض القوى السياسية والتقليدية الموجودة في الساحة العراقية مستثمرة التناقضات الطائفية والقومية، دون النظر الى اهمية انبثاق نظام ديمقراطي من القاعدة الشعبية يعبر عن ارادتها الحرة.

والمشكلة الاساسية لاتعتمد على من يصادر السيادة لصالح اجندته الخاصة ، بل تعتمد على قدرة الشعب في فهم عملية الديمقراطية وعلاقتها بمستقبله دون ان يغرق في مشكلاته الآنية.اذ ان الاستبداد مرض ثقافي ونفسي يستطيع ان يعيد انتشاره بسرعة ويغير شكله بما يتناسب والمراحل الجديدة، لانه يستثمر التراكمات النفسية والثقافية والتاريخية فيوقع الشعب أسيرا لتوجهاته واهدافه. ان الاستبداد بمختلف ألوانه وأشكاله هو ضد حركة الإنسان والحضارة لأنه نقيض الحرية ويسلب القدرة على اختيار البدائل المتعددة ويمنع من التفكير واستخدام العقل وبالتالي يحرم الإنسان من الحياة الكريمة.

والوسيلة الاساسية لشرعنة عودة الاستبداد والاحكام العرفية هو تدويل الازمة الامنية لتصبح الهاجس الذي يرعب الشعب ويجعله عاجزا عن ممارسة دوره الطبيعي في عملية ممارسة الديمقراطية. ويرى روبرت ماكيفر في كتابه (تكوين الدولة): (أن الدكتاتوريات تزدهر في أوقات الأزمات التي يتهافت فيها النظام القائم وتتهالك التقاليد وتستفحل المنازعات فيمتلك اليأس النفوس ويرضى الناس بالرجل القوي مضحين بالكثير لأنه يعدهم بعودة الثقة والأمن ويتنازلون عن معايير الشرعية التي لا يتنازلون عنها في أوقات أخرى ويتغاضون عن التناقض بين الدكتاتورية والشرعية).

فالشعب عندما يفقد الامن والشعور بالاطمئنان يبدأ بالبحث عن شخص يجد فيه عوامل القوة التي يفتقدها. ويرى (موريس ديفرجيه) أن الدكتاتورية وليدة لأزمات يتعرض لها البنيان الاجتماعي وأنها نموذج يعكس الوضع الاجتماعي لأن الجذور والأصول العميقة هي التي أنجبتها.

إن نقطة الضعف الخطرة عند الناس هي التفكير الدائم بالحياة المادية اليومية الضيقة مما يجعلهم في رعب وقلق على مصالحهم وبالتالي يتخلون عن حريتهم بسهولة في سبيل الحفاظ على مصالحهم وامتيازاتهم، ولكن ما لا يرونه في المستقبل البعيد هو أن الاقتصاد بدون الحرية لا يحصل على استقراره وإزهاره. فالتضحية بالحرية سوف تقودهم إلى حكم استبدادي كثير القيود يؤدي بالنتيجة إلى توقف الإنتاج وتفشي البطالة والفساد. وبذلك فانهم يتغاضون عن هذه الحقيقة وهي أن التملك وحده لا يجعل المرء حراً.

وتصبح عودة الاستبداد وتدويله امرا سهلا مع وجود عوامل اخرى مثل الثقافة الاجتماعية العامة التي نشأ عليها افراد المجتمع، لان الاستبداد سلوك يتعلمه الإنسان من خلال ما يكتسبه من قيم وتقاليد خلال فترات حياته، فعندما يكون الجو العائلي مشحونا بالتسلط والقهر والأحادية فإن هذا ينعكس على الأبناء بشكل سلوك عام تظهر كوامنه وآثاره على اتجاهين؛ اتجاه الفاعلية حيث يكون الاستبداد السلوك الأولي الذي ينتهجه الفرد في تعامله مع الآخرين، واتجاه القابلية حيث يكون الفرد جاهزا لقبول الاستبداد بكل أنواعه والتعاون معه. يقول أرسطو: إن الرجل الحر لا يستطيع أن يتحمل حكم الطاغية ولهذا فان الرجل اليوناني لا يطيق الطغيان بل ينفر منه، أما الرجل الشرقي فإنه يجده أمرا طبيعيا فهو نفسه طاغية في بيته يعامل زوجته معاملة العبيد ولهذا لا يدهشه أن يعامله الحاكم هو نفسه معاملة العبيد.

والأمر الأخطر من التبرير الامني لشرعنة الاستبداد هو سيطرة القدرية والجبرية على حياة الناس كنظام ثقافي واجتماعي يتحكم بسلوكهم ويقود نحو الرضى المطلق بالعبودية والتبعية والظلم، وهذا هو الذي يوجد الأرضية القوية لسيطرة الاستبداد، وليست قوة المستبدين نفسها. يقول تعالى في كتابه الكريم: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي).

إن الخطر ليس في المستبد بحد ذاته بل في تصديره لصفاته كنظام اجتماعي وثقافي وأخلاقي يتحكم بالناس خصوصاً عندما يستخدم الرعب والقمع والانغلاق لحجر العقول والأفكار والإبداع في جوٍ من اليأس والخوف والقلق. وبهذا فان النظام الاستبدادي يستنسخ نفسه عبر انعكاس صفاته وخصائصه على الناس. فالاستبداد، يستهدف مسخ هوية الإنسان والقضاء على وجوده المعنوي والديمقراطية هي تجسيد لتحقق حرية الانسان التي تمثل هويته ووجوده. لذلك فان الاستبداد يهدف إلى تحويل الرعية إلى قطيع من الأغنام بلا أي دور لهم، بحيث يهدم إنسانية الإنسان ويقضي على احترامه وتقديره الذاتي. ترى (حنة ارندت): إن الاستبداد يعزل الإنسان عن وجوده الخاص ووجودات الآخرين ويضعه في صحراء مقفرة شاعراً بالتقفر الذي يعني هنا الوحشة التي يستشعرها الإنسان الذي اقتلعه النظام الاستبدادي وحرمه من مجال وجوده وحركته وفعله. فالاستبداد يمارس على الناس سلطة العبيد وينحى إلى تدمير مجال الحياة العامة عازلا إياهم عن أي نشاط بل ويقضي على الحياة الخاصة على أساس التقفر والعزلة التامة وعدم الانتماء الأقصى والمطلق إلى العالم.

مؤشرات عودة الاستبداد

من المؤشرات الواضحة هو عزل المواطن والمؤسسات الاجتماعية والسياسية عن ممارسة ادوارها في عملية صياغة المشروع السياسي، فبالأضافة الى أن المراحل التي مر بها العراق في عهوده السابقة، صيغت في اروقة سرية بعيدة عن اعين الشعب عبر اتفاقات ثنائية وثلاثية و رباعية، جاءت الحكومة الجديدة المؤقتة لتنبثق من خلال مداولات محدودة دون الرجوع الى مجلس وطني انتقالي يمثل مختلف اطياف الشعب العراقي، كما جرى في افغانستان مثلاً.

ولا بد لنا من التساؤل إن كان يراد لهذا العراق أن تعطى له ديمقراطية معلبة جاهزة مستوردة ومفصلة وفق ما تمثله مصالح المتفقين والمتحاصصين..؟

لاشك ان الديمقراطية المفروضة هي عين الاستبداد ومن انتاجه، فالديمقراطية لاتستورد بل يتعلمها الناس ويمارسونها ويجربوهنا حتى يفهمونها، فلا يكفي للمواطن ان يكون متحررا من اغلال الاستبداد بل ان يكون مؤثرا وفاعلا في العملية السياسية.

ومن المؤشرات الهامة بروز ظاهرة الفساد الاداري التي تساهم بشكل فعال في تحول الجهاز البيروقراطي الى اداة طيعة وقامعة بيد الدولة الاستبدادية، لان الجهاز الاداري يصبح اداة فعالة في قمع الديمقراطية وعرقلة تقدمها، خصوصا ًوان الديمقراطية تمثل ممارسة الشعب لادواره في الرقابة والمحاسبة.

فهل يراد لانتشار الفساد الاداري ان يبقي جذور الاستبداد قائمة تمارس ادوارها السابقة في قمع الشعب وايقاف حركته الايجابية..؟

وظهر مؤشر آخر هو هروب الاف العقول والكفاءات إلى خارج الحدود بحثا عن الحرية والأمان والقدرة على التعبير والإبداع، بعد ان تعرضت الى عملية ابادة استهدفت اجبارها على ترك الوطن، كما انها تعرضت للغبن وعدم الانصاف من خلال عدم اخذ المواقع التي تناسب كفاءاتها.

خطوات هامة لعدم عودة الاستبداد..

أولاً: لابد للمواطن ان يتحمل المسؤولية ويدرك ان دائرة الانعزال والانغلاق اللاشعوري الذي تفرضه عليه قيود الرعب والخوف والقلق، سوف تتعارض مع مصلحته والمصلحة العامة، لانها سوف تعيد اليه شرور الاستبداد وآفاته، وذلك بان يمارس التحرر في عقله باستمرار من قيود الخوف والرعب والفكر المعلب الجاهز، وان يمارس مع نفسه حوارا داخليا ونقدا ذاتيا، قبل الحوار مع الآخر، فلا يمكن أن يكون لحياته أي معنى إلا إذا كان مدربا على استخدام حريته، فبدون ذلك يستحيل أن يتعلم من الحياة وان يستفيد من تجاربها.

ثانياً: تغيير منهجية التربية في الأسرة والمجتمع، إذ إن الفرد ينمو وهو يرى القمع والكبت يسيطر عليه منذ صغره في أسرته وفي مجتمعه ومدرسته وفي أي مكان يذهب إليه حتى تتعود روحه ونفسه على الاستعباد والاستبداد وتصبح الحرية عنده لا معنى لها لأنه لم يمارسها ولم يفهمها. لابد أن نعلّم أبناءنا الحرية منذ صغرهم ونفسح لهم المجال للحوار واستخدام عقولهم دون قيود للتعبير عن آرائهم بحيث يتعلمون معنى كرامة الإنسان وعزته .. ، ويعرفون قيمة تحقيق الذات والشعور الواعي به.

ثالثاً: يبقى الجهل أحد المعضلات الصعبة التي يفقد الإنسان بها حريته ويخضع للاستبداد، لأنه حينئذ يفقد المعرفة التي ترشد بصيرته الموجهة لسلوكه وفكره، للتعامل مع الواقع بوعي واستخدام طاقاته ومواهبه بأسلوب سليم، ولذلك قيل: احرم رجلا من المعرفة تجعله بلا شك عبداً لأولئك الذين كانوا أسعد منه حظاً.

رابعا: احترام الحريات وحرية الآخر يؤدي إلى وحدة المجتمع وتماسكه على مجموعة قواسم مشتركة يدافع عنها ولا يفرط فيها، وعلى العكس من ذلك فان الاستبداد سوف يقود المجتمع إلى الانشقاق والتفكك لأنه يحرم الآخر من ممارسة حقوقه في التعبير والمشاركة؛ فالحرية تبعد المجتمع عن الفوضى وتؤسس نظاما اجتماعيا راسخا يعتمد على التزام الفرد واندماجه فيه، فليس من الحرية أن أتنعم بالحرية واستعبد الآخرين وأحارب حريتهم وأقمع مساحتهم الحرة للتعبير عن رأيهم، أو استبد برأيي واستخدم الإرهاب إذا انتقدني الآخرون. إن حرية كل إنسان لا تتحقق إلا بتعايش الحريات في مجتمع حر متنوع، يمثل مجموعات سياسية واجتماعية مختلفة.

إن الأجواء المشحونة بالتوتر والعنف والصراع التي يعيشها العراق اليوم ما هي إلا نتيجة للاستبداد الذي كان يعيشه، وتقييد مساحات الحرية وانتشار البطالة واليأس وفقدان الامل بحياة كريمة، فإذا حدث عنف شعبي فهو دائما لشعور عميق، مفاده أن تسلط الاستبداد من جديد لا يؤدي إلا لزيادة خطر التهييج، ولاشك أن أهم الأخطاء التي تقع فيها الحكومات هو قمع الحرية، لأنها بذلك تمهد لانهيارها عبر انفجار العنف المكبوت في أعماقها، فطبيعة الناس في الغالب هي طبيعة مسالمة تنأى عن الدخول في أعمال عنف، لكن اليأس والإحباط نتيجة لأجواء الكبت والتقييد يؤدي إلى هذه النتيجة التي تحول المجتمع إلى حالة من عدم الاستقرار والتوتر والقلق، والتي سترسم الملامح المستقبلية له، والبعيدة عن كل الطموحات المنطقية والعقلانية.

لاشك أن الأيام القادمة سوف تفرز الكثير من المستجدات. وما لم يكن الشعب، ممثلاً بمؤسساته المدنية، مؤثراً في صياغة حاضر ومستقبل العراق الجديد، فإن حلم الديمقراطية سوف يكون بعيد المنال، لأن الديمقراطية تبقى أولاً وأخيراً وعي وممارسة وثقافة وإرادة.

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

العــدد 71

إتصــلوا بـنـــا