ردك على هذا الموضوع

تـــــأويل التــــأريخ

د. قيس كاظم الجنابي

ظل التاريخ مثار جدل مستديم، وظلت الصراعات العقائدية والفكرية قائمة على تأويله، أو على توجيه نصوصه الوجهة التي يبتغيها الباحث، أو الحاكم، أو غيرهما. ولأن التاريخ مثله مثل معظم فنون السرد العربي ينتمي (إلى السرود الشفاهية، فقد نشأ في ظل سيادة مطلقة للمشافهة، ولم يقم التدوين، الذي عرف في وقت لاحق لظهور المرويات السردية إلا بتثبيت آخر صورة بلغها المروي، الأمر الذي يؤكد قضية تاريخية مهمة، وهي أن المدونات السردية، لا تمثل سوى المرحلة الأخيرة التي كان عليها المروي قبل تدوينه)(1).

مما يشير إلى المرحلة الأخيرة التي تضمنت الأبعاد التالية:

1- مرت عليها وجهات نظر متعددة، كان أخرها الراوي الأخير.

2- أنها اهتمت بالمتلقي/ القارئ وأفكاره وحاجاته وظلت تتحرك وفق تصوراته.

3- ثمة فواصلٌ عديدة تعمل على تعدد وجهات النظر وتفاوتها منها زمنية واجتماعية واقتصادية ودينية (عقائدية) تقف بوجه الراوي وتعيقه عن إبلاغ رسالته الصادقة، أو الحدث التاريخي إلى المستقبل/ القارئ.

4- ظهور متغيرات وظروف ومؤثرات عديدة لها صلة بالجوانب الأخلاقية والنفسية، والسلطوية، مع ظهور فئة من الرواة أصبحوا رواةً رسميين، ينهضون بأحداث الحاكم ومتطلبات حكمه.

يقف على الجانب الآخر منهم رواة شعبيون معنيون بتوثيق/ تدوين أحداث العامة، الأحداث التي لها علاقة بالسواد الأعظم من المجتمع، وهم في الغالب مغيبون عن الساحة بشكل أو بآخر.

تأويل التاريخ

التأويل منهج لاستبطان دواخل الأفكار عبر الحفر العميق فيها للتوصل إلى نتائج غير معلنة، فهو بالتالي نوع من الانحراف المقصود في تحديد مسارات البحث ونتائجه، من هنا يبدو لبعضهم مشبوهاً ومتهماً، لأنه يصبو إلى فهم بلا امتياز، لأن التحليل التأويلي يعد بمثابة إعادة بناء غير واعية لا يخل في نطاق اللاوعي المرضي (2). لذا يبدو الباحث، هنا، شخصية شكاكة تعاني من أزمة الثقة بالآخرين (بالناقل والراوي والمؤرخ)، فهو متهم لأنه يهدف إلى نقل حركة الزمن من الماضي إلى الحاضر، وربما يسبغ عليه رؤيته المعاصرة، وفي هذا النوع من القسر، أو تحميل الزمن ما لا يحتمله، مما يجعل موقف التأويل من التاريخ خاضعاً لرؤى ومفاهيم جديدة، حينما يقف المؤوِّل في منطقة (الما بين) ويحاول أن يقول أن الذات ليست ذاتاً متفوقة، من خلال الكشف عما هو متخفٍ عبر استقراء فضاءات الاختلاف (3) حينما يحاول استبطان وجهات النظر المتعددة لينشئ عليها خطابه الخاص به. وهنا يبدو المؤوِّل شخصاً منحازاً يحاول التوصل إلى المسكوت عنه في النص التاريخي، أو ما يعرف بالنص الغائب، وغير المكتوب، والذي يفترض حضوره وهو يحيل إلى العلاقة المقموعة، عن طريق قراءة أنظمة الخطاب، وقوانين تشكيلهِ لمستوياته المتعددة (4). وهنا تبدو المساحة على رغم لا محدوديتها في التحليل ضيقة، وربما تدخل فضاءاتها الواسعة الباحث في متاهات لا تؤدي إلى النتائج المفترضة التي يطمح بالتوصل إليها.

تطبيقات..

لا أريد أن يكون افتراضي لتأويل التاريخ من البداية موجهاً وخاضعاً لشيء من القصدية، لأنها تفسد الفكرة التي يتوخاها الباحث في نطاق السردية التاريخية، (التاريخ العربي الإسلامي حصراً) بوصفه خطاباً يتضمن إشكالاته الكامنة فيه، ويخضع لظروف ومؤثرات كثيرة، ولكنه في الوقت نفسه يعبر عن رؤية المؤرخ المتجرد عن الأفكار المسبقة، لأن الطابع التعاطفي أو التعبيري عن الذات المنحازة للنص يظل موضع تحريات عديدة وهي تحاكم أحداث العصر، والمؤرخ بوصفه ناقلاً وراوياً، سواء أكان موجهاً أو غير موجه؟ وفي نطاق التأويل يمكن أن يأخذ الباحث جانباً تصويرياً غير واضح، وربما معتماً، لا يستطيع فتح مغاليقه إلا بعد أن ترسخ ذهنه ونضجت أدواته، وترفعت نفسه عن التحزب والانحياز، ولأن التاريخ يتصل بالأفراد والمجتمع، وإن الذي يدونه هم أفراد ولا يدونه المجتمع بأسره، فإنه يظل خاضعاً لوجهة نظر الفرد، وهي تمتلك زاوية واحدة، من هنا سأختار بعض النصوص التاريخية على سبيل التطبيق، دون ضوابط مسبقة، يقول ابن خلكان (ت681هـ) في مقدمة كتابه (وفيات الأعيان) مشيراً إلى طبيعة ومحتوى هذا الكتاب:( هذا مختصر في التاريخ، دعاني إلى جمعه أني كنت مولعاً بالإطلاع على أخبار المتقدمين من أولي النباهة وتواريخ وفياتهم ومواليدهم، من جمع منهم كل عصر، فوقع لي منه شيء حملني على الاستزادة وكثرة التتبع، فعمدت إلى مطالعة الكتب الموسومة بهذا الفن، وأخذت من أفواه الأئمة المُتقنين له ما لم أجده في كتاب)(5). يشير ابن خلكان إلى ولعه، وجمعه من كتب الآخرين والاستزادة من أفواه الناس، والولع نوعٌ من الإغراء، والإغراء نوعٌ من الانحياز والتعاطف، وهو مرتبط به ذاتياً، أي أنه تاريخ يرتبط بذات ابن خلكان شخصياً من خلال لفظه (دعاني)، مما يعني أنه ينطلق من رؤية مضمرة كونتها سنوات البحث والمتابعة، لا تخضع للعفوية والسذاجة، والأحكام الجاهزة.

يقول اليعقوبي (ت292هـ) في مقدمة الجزء الثاني من تاريخه (6):

أنه لما انقضى كتابنا الأول، الذي اختصرنا فيه ابتداء كون الدنيا وأخبار الأوائل من الأمم المتقدمة، والممالك المتفرقة، والأسباب المتشعبة ألَّفنا كتابنا هذا على ما رواه الأشياخ المتقدمون من العلماء والرواة، وأصحاب السير والأخبار والتأريخيات، ولم نذهب إلى التفرد بكتاب نصفه ونتكلف منه ما قد سبقنا إليه غيرنا؛ لكننا قد ذهبنا إلى جمع المقالات والروايات لأننا قد وجدناهم اختلفوا في أحاديثهم وأخبارهم وفي السنين والأعمار وزاد بعضهم ونقص بعض فأردنا أن نجمع ما انتهى إلينا مما جاء به كل امرئ منهم لأن الواحد لا يحيط بكل العلم.

يرتبط هذا النص بظهور (أنا) المؤرخ بقوة ووضوح، وتفاعلها مع منهجه، مع اعترافه بأنه لا يريد أن يكرر ما قاله غيره، فحاول التوفيق بين المقالات والروايات؛ لبيان مواطن الخلاف وكشفها، ولكنه يحمّل رؤيته الخاصة نظرة جماعية، هي أن الواحد (الفرد) لا يحيط بالعالم، وأنه حاول أن يجمع أكثر من وجهة نظر للوقوف على مواطن الزيادة والنقص وأسباب الاختلاف، وهو ما يحقق جانباً من جوانب العملية التأويلية التي تقوم على فضاء الاختلاف، أو تعدد زوايا النظر وتبيانها، وبهذا حقق المؤرخ مقصوده، هو أن ما دوّن من نصوص تاريخية فيها زيادة ونقص واختلاف.

استشراف..

إذا كان التاريخ معنياً بأحداث الماضي، فأنه بالتالي يبدو عاجزاً- في غالب الأحيان- عن استشراف المستقبل، أو توقع ما يحصل فيه، لأن الاستشراف يدخل في باب التكهن والكهانة، وإن حاول بعضهم العمل على استنطاق الزمن الآتي بطرق شتى، منها استخدام فكرة/أسلوب الرؤيا بوصفها نوعاً من التنبؤ بأحداث قادمة، فقد روي عن ذي القرنين الملك (صعب بن الحارث) أحد ملوك اليمن أنه رأى رؤيا كأن آتياً أتاه فأخذه بيده وسار به حتى رقى به جبلاً عظيما منيفاً. ثم تكررت معه الرؤيا لأربع ليالٍ، فقال له شيخ ذو عقل ودين: أيّها الملك إما أنهم قد أحسنوا إلى أنفسهم إذا لم يفسروا شيئاً من رؤيا الملك (7). وهذه الرؤيا تتضمن تصوراً عن الجنة والنار والعالم الآخر الذي لم يشاهده الإنسان، ففسر ما سيقع له من حروب وأحداث، وكيف سيملك، ولكن هذا التفسير لم يكن من فعل الإنسان وحده، وإنما تسانده قوى أخرى لها قدرة فوق قدرة البشر، فحسم الإنسان تصوره عن الحاضر، فكانت رؤيا ربيعة بن النضر بن مالك إنذاراً بوجود حدث مؤلم يحيط بالبلاد، فكان تفسيرها أن السودان (الحبشة) سينزلون أرض اليمن(8). وفي التاريخ أحداث تاريخية اعتمدت الرؤيا في استشرافها، وهي كثيرة، وبما أن تفسير الرؤيا نوع من التكهن، فإن حساب الزمن الآتي يظل مجرد افتراض لا يحسم أمر المستقبل بأي حال من الأحوال. مما يعني أن المؤرخ فشل في تأويل المستقبل عملياً عبر قدراته الذاتية المحدودة؛ فاعتمد على قوى خارجة عن ذاته في تأويل الحدث التاريخي؛ لهذا فإن تأويل التاريخ لا يقع على الجهد الذاتي الخاص، هنا، مع أنه يرتبط بذات المؤرخ الذي يستعين بالجماعة، أو يحاول أن يعرض وجهة نظرها كنوع من الاستجابة الشخصية التي تقرب مذهبه إلى نفوسهم، أو تقرب نفوسهم إلى مذهبه المتفرد، كما أن تفسير الرؤيا نقلاً عن الماضين، لا يحقق حقيقة الاستشراف إلا بعد تحقق وقوع الحدث، ولكن التحليل العميق لاتجاهات الخطاب يمكن أن يمنح المؤرخ رؤية تحليلية تعوض عن استشراف المستقبل.

العودة إلى الأصل

في الأدبيات التأويلية ثمة فكرة تتقاطع مع مفهوم التأريخ، فالتاريخ يقرب الأحداث للمتلقي/ القارئ/ السامع، هذه الفكرة تسمى المباعدة، غايتها خلق مسافة للتعبير عن الفاعلية التأويلية؛ بوصفها طريقة توجه النص إلى شخص معين أو متلقٍ معين، يجعل القارئ يتماهى نفسياً في الشخصيات والسمات الموصوفة، مما يشكل تبييناً لوضعيات النص (9). ويمنح التأويل نوعاً من التفاعل مع نص العالم، أو مع عالم النص للوصول إلى مرحلة جديدة هي إنتاج نصوص أخرى (10). هذه النصوص لم يصرح بها المؤرخ، ولكن من مهمة الباحث التوصل إليها؛ لأن النقديات الحديثة تحاول أن تنشئ لها طروحاتها الجديدة التي توازي النص أو تتجاوزه بطرق شتى أحد أهم هذه الطرق وأكثرها فاعلية هو التأويل الذي يتحرك ويشتغل على فضاء الاختلاف لتأسيس وجود فاعل ومؤثر؛ مع أن المؤرخين القدامى وجدوا في الاختلاف عنصر هدم في التاريخ، ووسيلة بث الفرقة والخلاف بين المذاهب والاتجاهات المختلفة وتضخيمها لتصبح عائقاً يحجب الفهم الواعي للأحداث؛ لذا جاء التأويل الحديث تعبيراً عن حقيقة الوجود، كما بدأت الأسطورة بحثاً في حقيقة الحياة والكون، وهذا بحد ذاته أغلق الدائرة التي انفتحت على الكون والوجود منذ نشأة البشرية الأولى. مما يعني أن التاريخ يظل جزءا من خصوصية الإنسان وتصوراته لما حوله، وخاضعاً في الوقت نفسه إلى نزعاته الوجدانية والنفسية، وصراعاته المستفحلة في مجتمعه، فهو يحفر مساربه على وفق تدفق تلك الهواجس والخلجات. وبما أن التاريخ ليس علماً مقنناً ثابتاً كعلم الرياضيات أو الكيمياء، لأنه يقبل الخطأ والجدل والالتباس، وربما التشويه والدس المقصود، أي أنه علم متغيّر يتغير بحسب المذاهب والعقائد والأهداف والرؤى فإنه بالتالي يظل محل نقاش مستمر حول نصوصه، مادامت الأسباب التي انطلقت معه قائمة، وهذا بحد ذاته يجعل التأويل جزءً من هذه الأسباب، مع إنه ممكن أن يحدث بعيداً عن التوجهات الضيقة التي صاحبته لأن الباحث الحديث تسلح بالعلم والمعرفة والوعي والنظرة العقلانية الصائبة التي تتجاوز التحزب والفرقية والانغلاق، وهو ما يجعل التأويل منهجاً صالحاً للحرث في أرض محفوفة بالجهد الحقيقي الخلاق خارج التصورات المسبقة ويدفعه نحو العلمية والموضوعية أكثر فأكثر.

وإذن هل يستوعب التاريخ التأويل كمنهج بحث وتحليل لمدياته المختلفة؟ وهل مارس المؤرخ التأويل؟ وهل التاريخ منفصل عن التطور الحاصل في حياة الأفراد والمجتمع؟

تحمل هذه الأسئلة في طياتها إجاباتها المضمرة، بوصف النص/التاريخ يحتمل نقيضه أو حساسيته الفاعلة داخله، لأن التاريخ خاضع لعمليات التفسير والتحليل التي تتقدم تدريجياً نحو الاستبطان القادر على كشف ما هو متخفٍ أو مغيَّب، أو مقموع، أو منحدر في الباطن، على الرغم من كون التاريخ يشتغل على الظواهر في غالب الأحيان، ولكن دخول المؤرخ إلى حلبة فلسفة التاريخ دفعه لأن يمارس بعض القراءات غير البريئة للنص التاريخي، نتيجة تطور أساليب البحث وتطور مستويات الوعي، وتطور آليات القراءة والتلقي التي يفرضها التطور النوعي في المناهج والأفكار والأفراد مما له أثره الفاعل في تفسير التاريخ، وفي تأويل نصوصه، وهذا ما يجعل هذه الإطلالة المتواضعة مجرد مدخل مبسط لفهم السردية التاريخية في كل اتجاهاتها ومذاهبها وفنونها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر:

1- السردية العربية: د. عبد الله إبراهيم، المركز الثقافي العربي، ط1(بيروت،1992م): ص16.

2- تحولات التأويلية: رينر روكلتز، مجلة العرب والفكر العالمي، ع (7)، (بيروت،1990م): ص50- 48.

3- نصيات، بين الهرمنوطيقا والتفكيكية: هيوم سلومان، ترجمة: ناظم حسن وعلي حاكم صالح، المركز الثقافي العربي، ط1(بيروت،2002م): ص66- 61.

4- التفاعل النصي (التناصية)، النظرية والمنهج: نهلة فيصل الأحمد، مؤسسة اليمامة الصحفية (الرياض،1423هـ): ص287.

5- وفيات الأعيان: ابن خلكان، تع: احسان عباس، دار صادر(بيروت، د.ت):1/19.

6- تاريخ اليعقوبي، تع: محمد صالح بحر العلوم، المكتبة الحيدرية ومطبعتها (النجف،1384هـ/1964): 2/2.

7- التيجان في ملوك حمير: وهب بن منبه، مركز الدراسات والأبحاث اليمنية، ط1(صنعاء،1347هـ): ص91- 94.

8- التيجان: ص304.

9- نصيات: ص54.

10- التأويل بين السيميائيات والتفكيكية: امبرتو إيكو، ترجمة: سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، ط1(بيروت،2000م): ص117.

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

العــدد 71

إتصــلوا بـنـــا