ردك على هذا الموضوع

حوارات النبأ

الدكتور جاسم حميد جودة للنبأ:

التطرف اليوم نتاج نظام معرفي أنتج نفس المفاهيم التي أنتجتها المعرفة العربية القديمة

حاوره: عباس سرحان

ما يعكر هدوء المجتمعات هو موجة مجنونة من العنف تسود العالم وتؤصّل فيه تيارا عنيفا من الكراهية والحقد للآخر الديني أو القومي والطائفي، وإذا تلمسنا العذر للبعض من الأديان الأخرى أن يكون عنيفاً كون معظم الرسالات السماوية قد حرفت وفقاً لأهواء وميول بشرية لا تخلو من الانحراف، فما هو العذر للمسلم حين يكون شرساً وعنيفاً يقطع رؤوس من يختلف معهم، و يقتل نفسه والآخرين وقد دعاه دينه للتسامح والرأفة والمحبة؟

في اللقاء التالي يسلط الدكتور (جاسم حميد جودة) أستاذ الأدب المقارن الضوء على أهم العوامل التي تجعل من المسلم إرهابياً..فبينما يرد البعض هذه الظاهرة لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية.. يرى الدكتور (جاسم حميد) أنها ناشئة عن أخطاء في الفهم اختزنها العقل العربي من قيم الصحراء، ولم يتمكن من التخلص منها رغم تقادم الزمن.. أفكار أخرى جديرة بالبحث والدراسة نقرأها في الحوار التالي:

* ما هي مكامن الدفع باتجاه العنف والتطرف في أوساط مسلمين يدعوهم دينهم إلى قيم التسامح والشفافية مع الآخر؟

**حين نزلت الرسالة الإسلامية على العرب كانوا يعيشون في مناخ صحراوي، ومن صفات هذا المناخ أنه منغلق بشكل يؤدي إلى تكرار نفس المفاهيم ونفس الأفكار والآليات، لذلك فمثل هكذا محيط لا يمكن أن نتوقع منه الإنتاج..

حين جاءت الدعوة الإسلامية واصطدم العرب بالنص القرآني، احتاجوا إلى آلية لفهم هذا النص، فاستوردوا هذه الآلية من حضارة أخرى كي يتمكنوا من الفهم والتفاهم وخلق الحوار مع النص القرآني، والنتيجة أنهم أخذوا الآلية عن طريق الكندي من الفلسفة اليونانية، وهي تتميز بكونها آلية شكلية تهتم بالشكل وتمسك به، دون أن تمسك بالمعنى، فمفهوم النظافة مثلاً ينطبق عندنا على شخص مرتب من حيث هندامه وشكله الظاهري، ولكنك حين تزور مسكنه تجد تناقضاً واضحا بين شكله الشخصي وشكله المكاني.. هذا يعني أن تصورنا للشيء تصور شكلاني فقط..

من سمات هذا المنهج الذي نقل إلى الفلسفة العربية، أنه يؤكد على سكونية الحياة.. ومادام أكد على سكونية الحياة، فهو قد تطابق في هذه الحالة مع المناخ الصحراوي العربي، فهذا المناخ هو مناخ مكرر في كل شيء، وهذا المنطق الشكلي أيضاً مبني على السكونية، إذن حصل تلاقح ما بين الفكر العربي المنطلق من الصحراء مع هذا المنطق الشكلي.

هذه الآلية التي تؤمن بالتكرار وتؤمن بالبديهيات السابقة أدت إلى أن يتعامل المسلم مع النص القرآني بآلية ساكنة تحدد مفهوميته وتقضي على الرمزية فيه..

* تعني إذن أن التعامل مع النص القرآني كان على أساس تطويعه لينسجم مع الآلية الساكنة هذه في وقت لم يكن النص المقدس ساكناً بذاته؟

أستطيع أن أقول أن الآلية التي أتيحت للمفكرين العرب في ذلك الزمن، هي آلية تقوم على تسكين الواقع، فلا تنظر إليه باعتباره متحركاً، والدليل على ذلك هو بالرجوع إلى دليل القياس المنطقي، فهو ينطلق من بديهيات تعطيك النتيجة قبل الوصول إليها..

وعلى هذه الآلية نشأ العقل العربي الذي لا يريد أن يدرك أن الآخر تطورا وأصبح أكثر ثقافة وتطور من الواقع العربي الذي ظل معتداً بحضارة قديمة مضى عليها عدة قرون.. هذا الإباء النفسي (..).

*ويمكن أن نسميه كبر!

**بالضبط.. هذا الشعور جعل من الصعوبة لحامل الفكر الإسلامي تقبل الآخر باعتباره كان في يوم من الأيام أقل منه درجة، هذا بالإضافة إلى مسألة أخرى تتعلق باعتبار المسلم مفضلاً على غيره، وحين نضيف هذا إلى الأفكار الثقافية التي تكونت على قاعدة المنطق القديم، نجد أن هناك لا نهائية متكاملة للحياة قد تشكلت في وجدان المسلم..

بعبارة أخرى أن العقل العربي الذي تعامل مع النص القرآني عبر المنطق الأرسطي توصل إلى مفاهيم مطلقة رأى أنها قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان..

نحن لم نع هذه القضية إلى الآن... لم نع أن هذا المنطق يتعامل على أساس سكونية الحياة، وما دام الأمر هكذا، ونحن نستخدم نفس الآلية في إنتاج المعرفة فستكون النتائج متطابقة بنسبة مائة بالمائة لما سبق أن توصل إليه آخرون قبل ألف سنة أو أكثر، لذلك نلاحظ ما يحدث الآن في الخطاب الإسلامي وخاصة الخطاب الإسلامي المتطرف إنه إنتاج متشابه لما سبق، لأننا وبالإضافة للأسباب التي مر ذكرها لم نستطع أن نؤمن بحركية الحياة، ولم نؤمن بأن الآخر الذي كان في يوم ما أقل ثقافة منا قد تطور وأصبح أكثر ثقافة الآن، كما أننا لم نؤمن حقيقة بأن الحضارات تقوم على أساس التلاقح الثقافي واستيراد الآليات الفكرية والثقافية من الآخر وبالتالي تشكيل رؤية جديدة..

ربما حصل لدينا تشكل وعي جديد ورؤية جديدة، ولكن على أساس النخب فقط، ويمكن القول في أوساط النخب القليلة جداً.. بينما القاعدة العريضة من الواقع الإسلامي لا تؤمن بأن فكر الآخر هو فكر متقدم يمكن الإفادة منه وتشكيل رؤية جديدة للنص القرآني..

هذه الطريقة، وهذا الإيمان بمطلقات شكّلها نمط معين وقديم، جعل التعامل مع الحياة باعتبارها حياة متشابهة.. حياة الصحراء، وبالتالي فعندما يأتي المتطرف الإسلامي (الأصولوي) ينطلق من حلول تم التوصل إليها قبل مئات السنين، ويحاول أن يقننها على واقع يرفض هذه الجاهزيات تماما.

قضية التطرف في تقديري تعود لكون مجموعة من البشر ما زالوا يستخدمون نظاماً قديماً ينتج نفس المفاهيم التي أنتجتها المعرفة العربية القديمة.. بعبارة أخرى لم يتم إلى الآن مراجعة وترتيب هذا النظام المعرفي المنتج... ما مطلوب الآن حقيقة من المسلم الواعي والمثقف، أن يعالج أو يطرح قضية النظام المنتج ويعالجها معالجة عميقة وواسعة، في سبيل الوصول إلى آليات العجز في هذا النظام وتطعيمه بنظام آخر..

*ولكن دكتور (جاسم) هناك من يقول أن المتطرف الإسلامي إنما يرد على الآخر بأعمال عنف كان هو ذاته قد بدأه بها، ويستشهد هذا البعض بوقائع تاريخية كثيرة كالحروب الصليبية مثلا، أو حاضرة كما في فلسطين أو إفغنستان والآن في العراق. فهل يندرج هذا ضمن ما تقدم من أن المسلم ينظر إلى الآخر من زوايا التاريخ فقط؟

**قلت لك أن من سلبيات المنطق القديم أنه يؤبد المفهوم، يعني صورة الاستعمار السابقة لا يمكن أن تتغير عن صورة الاستعمار الحالية، ما دمنا ننطلق من نفس المنطلقات، ولكن إذا غيرنا المنطلقات تتغير الأشياء في أذهاننا، فكلمة العدالة مثلاً في زمن الرسول (ص) لا تعني العدالة اليوم تماماً.. ولكن باعتماد المنطلقات التي ينطلق منها الإسلامي الأصولي يجد أن العدالة في القرن الحادي والعشرين هي ذاتها في زمن الرسول(ص).

نعم هناك مفهوم للعدالة، ولكن العدالة للسجين هو غيرها للطليق.. ومفهوم العدالة للظالم هو غير العدالة للمظلوم.. الكل يؤمن بعدالة، ولكن الكل يؤمن أيضًا أن واقعه الحياتي يجعله يشكل مفهوما معينا للعدالة، فنحن حينما ننظر للاستعمار وننطلق من نفس المنطلقات القديمة، فستتطابق المفردة مع معناها في أذهاننا تطابقاً تاماً، وبالتالي تصبح صورة ما قبل ستمائة سنة هي ذات الصورة الآن..

يجب أن نعي إذن أن قضية الاستعمار أصبحت مسألة كيفية وليست مسألة كمية.. الاستعمار بدأ يستخدم وسائل يغزوك من خلالها وهو موجود في أرضه وليس في أرضك..

*ربما حتى قضية الغزو هذه قد تغير معناها إلى حد ما فالغزو السلعي أو السياسي أو الفكري صار عملية مصلحية بالدرجة الأولى.. فإذا كان الاستعمار أيام زمان يغزو الشعوب ليقهرها ويجعل الدول سوقاً لبضائعه، صار الأمر اليوم عملية تبادل مرصود الثمن، يمكن أن يؤثر فيها عدة أطراف على حد سواء.. فحين يغزوك الغرب ثقافياً مثلاً، يمكنك حين تبتكر الوسائل أن تغزوه أيضاً، أليس كذلك؟

**نعم بالضبط، كان الهدف الأول من الاستعمار القديم هو هدف عقائدي.. فما حصل بين المسلمين والمسيحيين هو ناجم عن تصارع أهداف عقائدية..

اليوم يمكن أن أقول لك أن المسألة العقائدية قد انتهت من الفكر الانساني لا سيما في الغرب، أما في العرب فهي موجودة.. الاستعمار اليوم يقوم على أساس اقتصادي وليس على أساس عقائدي.. ولكننا ما زلنا نفهم الاستعمار على أنه عقائدي...الاستعمار الاقتصادي يتطلب منا أن نعامل بوعي علمي مع مستعمرنا، ربما نستغله لو آمنا بالفعل أن الصراع اقتصادي وليس عقائدي.. هذا الفهم الجديد لمفهوم الاستعمار يجعلنا نتعامل مع (المستعمر الاقتصادي) على أساس استغلاله... نفكر كما يفكر، ولكن منطق تأبيد المفاهيم جعلنا ننظر إلى الاستعمار الاقتصادي على أنه استعمار عقائدي، وهذه الصورة تجعلك ترفض الآخر رفضاً كاملاً، سواء كان موجوداً في حيزك الجغرافي أو غير موجود..

*ولكن ما هو الحل؟

**الحل هو بالوعي والثقافة.. حين نأتي إلى العراق اليوم ونسأل كم من العراقيين المثقفين يقبل بهذا الوجود وكم منهم يرفضه؟.. لا أعتقد أن العراقيين يقبلون بالاستعمار مطلقاً، ولكن العراقي المثقف بدأ ينظر إلى الوجود الأمريكي على أساس المنفعة وليس على أساس العقيدة..النظرة الأولى تحاول أن تحيط بما يمكن عمله من أجل تطوير العراق وإنقاذه.. ولكن حين ننظر للوجود الأمريكي من نافذة عقائدية، سندخل في الجهل السياسي، أو ما أسميه الفخ السياسي، لأنه يجعل من العقائدي ينظر إلى الوقائع نظرة لا تبتعد عن الأيام..

أما فيما يتعلق بالخوف مما يسمى بالغزو الثقافي، فمعناه أنني لا أمتلك في داخلي الآلية الدقيقة والمنظمة والصارمة والمتكاملة في أن أواجه ثقافة أخرى، وهذه بالضد من القرآن لأن القرآن نفسه حين عرض نفسه على المشركين للوهلة الأولى، عرضها بالتحدي.. ولكن للأسف نحن نعيش مشكلة عدم فهم القرآن... هذا الكتاب الكريم منذ لحظته الأولى يتحدى العالم بكل ثقة.. تحدى الجن..تحدى الأنس... إذن حين أعتبر أي نشاط ثقافي يختلف عن ثقافتي، أعتبره غزواً ثقافياً، فهذا معناه أنني غير مؤهل لأحمل ثقافتي.. هناك أزمة داخلية في الحقيقة، وليس أزمة خارجية، فالآخر لا يستطيع أن يدخل إليك ما لم تكن ضعيفاً، لذلك أعتقد أن الحل يكمن في إعادة تشكيل الوعي بطريقة حديثة نفهم من خلالها الإسلام العصري، والبعد السياسي للإسلام.. ولكن للأسف إلى الآن لم تتشكل نظرية سياسية إسلامية واضحة..

*ما هي آليات تشكيل هذا الوعي؟

**في الحقيقة إن المناهج لدينا لم تتطور منذ عشرات السنين، وهذا الثبات في المناهج سينتج حتماً عقلاً متشابهاً... العالم متغير لذا يفترض أن تتغير المناهج باستمرار لمواكبة التطور الذي حصل في المحيط.. ولكن للأسف لا توجد حتى دعوات جادة..

ثانيا:ً هناك نظريات اجتماعية قد دخلت في المجتمعات الأخرى، ولكنها لم تدرس عندنا فمثلاً نحن ما زلنا نعتبر اللغة أداة ناقلة في حين هي العقل نفسه، فالإنسان لا يستطيع أن يتنفس خارج اللغة..

المشكلة في مناهجنا النقدية أن هذه النظريات، وحتى في دراسات الماجستير، لا تدخل بشكل جدي... ينقصنا الكادر وينقصنا المنهج، وتنقصنا عملية التوعية الكبيرة في نشر المفاهيم النفسية والاجتماعية...، الشر أو العقيدة، هي جزء من دائرة كبيرة اسمها الإنسان.. الإنسان يتأثر بالمناخ السياسي.. الإنسان يتأثر بالمناخ اللاشعوري، والمناخ الاجتماعي.

لو نظرت إلى ذلك بدقة ورأيت موقف الإنسان لحظة اصطدام العقيدة مع الحياة، تجد أن الكثير من البشر يميلون إلى الحياة أكثر من ميلهم للعقيدة، والسبب في هذا أننا نظرنا إلى أن العقيدة هي الكل، في حين أنها جزء من دائرة كبيرة اسمها الإنسان...

الإسلام لم يأت ليكون عقيدة ومجموعة قيم فقط، بل هو جاء ليخلق حياة، فعندما تستقر الحياة وتتوازن، عندها تتشكل لديك القيم عن قناعة بعيدا عن الخطابات الجاهزة الرنانة...

 


* الدكتور جاسم حميد جودة، لديه العديد من البحوث في المناهج النقدية الحديثة، منها (الذات في الهامش، دراسة عن البنيوية، دراسة عن السرد البنيوي، ودراسة عن الزمن البنيوي، ودراسة عن الصيغة البنيوية، ودراسة في الفلسفة ( قصدية هيدكر).. وكذلك لديه دراسة حول السيميائية عن كريمادس وغيرها.. يدرس حاليا في جامعة أهل البيت (ع).

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

العــدد 71

إتصــلوا بـنـــا