ردك على هذا الموضوع

آليات بناء مؤسسات المجتمع المدني

الوطن العربي نموذجاً

أزهار محمد عيلان*

تبدو عبارة المجتمع المدني أكثر شيوعاً وانتشاراً في الخطاب العربي اليوم، فنجدها فيما تعلنه النقابات من مطالب وبلاغات، ونقرأها فيما تصدره الجمعيات من نداءات، سواء تعلق الأمر بجمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان أو جمعيات الدفاع عن الطفل أو المرأة، أو حماية البيئة.

كما وتغير عبارة المجتمع المدني من العبارات الشائعة والمألوفة، ومن ثم المقبولة في كتابات الصحافة العربية، وفي أحاديث وسائل الإعلام الأخرى (السمعية والمرئية)، وإن كان أغلبها أجهزة حكومية رسمية ثابتة للحكومات العربية (وواقعة تحت سيطرتها ومراقبتها المباشرة)، كما إن خطاب المثقف العربي اليوم لا يكاد يخلو من القول في المجتمع المدني، كلما عرض لموضوعات ترجع إلى الوجود السياسي أو الاجتماعي، أو تتعلق بقضايا الحضارة والتاريخ.

في معنى المجتمع المدني

المجتمع المدني هو مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها، ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والإدارة السلمية للتنوع والخلاف.

وتشمل تنظيمات المجتمع المدني كلاً من الجمعيات والنقابات والأحزاب والأندية التعاونية، أي كل ما هو غير حكومي، وكل ما هو غير عائلي، وينطوي مفهوم المجتمع المدني على ثلاثة مقومات رئيسة:

الأول: إنه مجتمع يقوم بالإدارة الحرة للأفراد.

الثاني: يقوم على التنظيم الجماعي الذي يضم أفراداً وأعضاءً اختاروا عضويتهم بمحض إرادتهم الحرة.

الثالث: هو ركن أخلاقي سلوكي ينطوي على قبول الاختلاف والتنوع بين الذات والآخرين.

نشــــــــأته

ينشأ المجتمع المدني من تكوينات اجتماعية واقتصادية حديثة كالطبقات، والفئات المهنية، وغيرها من جماعات المصالح، وقد تزامن حدوث هذه العملية في الغرب مع عمليات التحول الرأسمالي والحضري اللتان حدثتا فيه، وكذلك نشوء الدولة القومية.

في حين أن الولاء المطلق للمواطنين يفترض أن يتجه للدولة القومية بوصفها تجسد المجتمع بأسره، فإن الولاء الفرعي يتحرك نحو الأحزاب والنقابات المهنية والمؤسسات الاجتماعية الأخرى، كونها التنظيمات الاختيارية التي تمثل المصالح المتعددة للمواطنين، وبينما يتسم الولاء للسيادة العليا بالعاطفة والتجريد، نجد أن الانتماء للتنظيمات الاختيارية يقوم على المصالح، في حين يكون الولاء للدولة يتسم بالشمول، ويلقى إجماعاً من كل المواطنين، فإن الانتماء للتنظيمات الاختيارية يتسم بالخصوصية والتغير في شدته واستمراريته، وبعبارة أخرى، إذا كان المواطن نادراً ما يغير انتماءه للدولة القومية، فإنه كثيراً ما يغير انتماءه إلى التنظيمات الاختيارية، كالطبقة، والمهنة، والوضع الاجتماعي، والحي الاجتماعي... الخ.

ينشأ المجتمع المدني نتيجة التنافس أو الصراع في المصالح بين مختلف الكيانات الاجتماعية والاقتصادية داخل الدولة القومية الواحدة، ففي هذه الحالة تبدأ أنظمة الحكم بالتطور التدريجي نحو المشاركة السياسية، وتكون بعض هذه التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية أكثر وعياً بمصالحها، وأسرع من غيرها في تنظيم صفوفها من أجل الاحتفاظ بالسلطة السياسية، أو الوصول إليها، أو اقتسامها في إطار الدولة.

علاقة المجتمع المدني بالدولة

لقد ظهرت مسألة المجتمع المدني وعلاقته بالدولة في أواخر القرن الثامن عشر، وظلت هذه المسألة تمثل دوراً مهماً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ثم عادت لتختفي من التداول حوالي قرن كامل. ثم عادت في الثلث الأخير من القرن العشرين، لتحتل الصدارة في المناقشات السياسية والثقافية والاجتماعية في يومنا الحالي.

لقد حاول كل من هوبز(1651)، وجون لوك (1691)، ثم بصورة ناضجة (جاك روسو) في القرن الثامن عشر، تفسير علاقة الدولة بالمجتمع المدني، من خلال تفسير التاريخ السياسي للبشر على أساس ثنائية الحالة الطبيعية والحالة المدنية، فالأولى :هي وضع البساطة، حيث لا روابط سياسية تربط الفرد والدولة، ولكنها تتميز بحرب الجميع ضد الجميع أو العكس، حالة وئام إنساني شامل تسود الجميع، وبذلك يكون الانتقال إلى المجتمع المدني ناجم عن احتدام التعارضات في قلب الحالة الطبيعية، تعارضات حق الملكية، وحق الحياة وحق صيانتهما، فيتم الاتفاق بين أفراد المجتمع على الانتظام في دولة، يتنازل فيها الأفراد طوعاً (أو هكذا يفترض) عن حقهم في حماية الحياة والملكية الخاصة والقانون... الخ إلى طرف ثالث هو حامل السيادة (Sovereign) سيّان إن كان فرداً أم هيئة.

فالمجتمع المدني على هذا النحو يكون: كل تجمع بشري خرج من حالة الطبيعة (الفطرية) إلى الحالة المدنية التي تتمثل بوجود هيئة سياسية قائمة على اتفاق تعاقدي، وبهذا المعنى فإن المجتمع المدني هو المجتمع المنظم سياسياً، أي المجتمع الذي يكون مع الدولة.

إلا أنه في بدايات القرن الثامن عشر كان قد ظهر نوع من التمايز بين المفهومان، إذ أصبح المجتمع المدني هو الميدان الذي يجري فيه تقسيم العمل، وإنتاج الثروة، وبصورة مستقلة عن الميدان السياسي.

ثم اكتسب هذا المفهوم طابعاً مغايراً في بدايات القرن التاسع عشر في إطار الفكر الكلاسيكي الألماني، إذ أصبح المجتمع المدني كياناً سابقا للدولة يتشكل بالتدريج بانحلال الجماعات القديمة، ونحو جماعات جديدة تلتحم بروابط جديدة.

وبذلك يمكن القول إن طبيعة نشوء وتطور وانقسام المجتمع المدني، أو أشكال هذا الانقسام ومداه، ينعكس على طبيعة بناء الدولة وطبيعة العلاقة بينها وبين المجتمع المدني. هل هي علاقة تسيّدأم توازن، أم خضوع؟، أما هيغل فيذكر إن المجتمع المدني ليس الدولة ولكنه لا يمكن أن يتمظهر إلا من خلالها، إذ أنهما يتشكلان من محصلة صراع وتكامل بينهما.

علاقة المجتمع المدني بالديمقراطية

توضح العلاقة بين المجتمع المدني والديمقراطية فيما يتعلق بحق الاختلاف في الآراء والمصالح المادية والمعنوية، وقد أكد البعض إن الديمقراطية هي الجانب السياسي للمجتمع المدني، لأنه عبارة عن صيغة سلمية للاختلاف والتنافر والصراع تبعاً لقواعد متفق عليها من كل الأطراف. وبذلك يمكن عد منظمات المجتمع المدني مدارس للتنشئة السياسية على الديمقراطية.

وإذا ما تتبعنا الديمقراطية في بداياتها الأولى، فلابد من التأكيد على إن الدولة الأوربية لم تنتقل من الحق المقدس إلى الدولة الديمقراطية البرلمانية المتعارف عليها مباشرة، إذ مرت بمسار تطوري متعرج، دول الحق المقدس، الملكية المطلقة القائمة على الحقوق الطبيعية للبشر، الدولة الدستورية، الدولة البونابرتية، الدولة الفاشية، وهي جميعاً تعكس علاقات شتى بين الدولة والمجتمع المدني.

وبذلك يمكن القول إن الموجة الديمقراطية الأولى بدأت بوادرها في أواخر القرن الثامن عشر في أعقاب الثورة الأمريكية 1776- 1783، والثورة الفرنسية 1789، وقد بدأت بعض بلدان أوربا في ذلك الوقت بتطبيق نظام التمثيل والتصويت الشامل في القرن التاسع عشر، امتدت هذه الموجة زمنياً إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، وقد شملت حوالي عشرين دولة معظمها من أوربا والأميركيتين.

أما الموجة الديمقراطية الثانية فقد امتدت طوال العقود الأربعة التالية للحرب العالمية الأولى (1940- 1960)، وشملت حوالي ثلاثين دولة، ولكن عدداً من بلدان هاتين الموجتين الديمقراطية قد ارتدت عن الديمقراطية لعدة سنوات مثل (ألمانيا، إيطاليا، إسبانيا، البرتغال) قبل أن تعود إليها.

أما الموجة الديمقراطية الثالثة فقد بدأت منذ عام 1974، وخصوصاً بعد سقوط نظام (سالازار) الفاشي، وتفكك نظام (فرانكو) الإسباني من بعده، وقد اكتسبت الحركة زخماً أكبر بعد عام 1990- 1991، وهو عام تفكك الدول الأوربية القائمة على نظام الحزب الواحد.

ويذكرانه في الموجة الثالثة لا نجد في الواحد والعشرين قطراً عربياً سوى ثمانية أقطار فقط هي مصر، المغرب، الجزائر، تونس، الأردن، والكويت، واليمن، موريتانيا فيها درجات متفاوتة من التحول الديمقراطي. بينما ظلت أغلبية الأقطار العربية تحت أنظمة حكم غير ديمقراطية، بما فيها الجزائر التي انتكست فيها الديمقراطية الوليدة فيها منذ بداية عام 1992.

ويرى بعض المراقبين أن تأخر التحول الديمقراطي في الوطن العربي يرجع إلى غياب أو توقف نمو (المجتمع المدني) وما يستبقه من ثقافة سياسية بل يذهب بعض العنصريين إلى حد رفض إمكانية تطور المجتمع المدني العربي، وبالتالي الوقوف بوجه أي تحول ديمقراطي حقيقي مستقبلي للوطن العربي.

وهنا يبرز لنا التساؤل المهم: إلى أي مدى سيؤثر التطبيق الديمقراطي على قيام مجتمع مدني عربي في الوطن العربي، وهل سينجح قيام هكذا مجتمع؟؟

مراحل تطور بنية المجتمع المدني العربي

قبل الحديث عن مؤسسات المجتمع المدني على مستوى الوطن العربي، لابد من طرح تساؤل مهم حول وجود هكذا مؤسسات على مستوى الكيانات السياسية العربية؟ إن الاستعراض السريع لأوضاع المجتمعات العربية اعتماداً على الدراسات والتقارير المتوفرة عن طبيعة هياكلها الاقتصادية وبناها الطبقية وتنظيماتها السياسية، سنجد أن مستويات التطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لتلك الكيانات متباينة، وهذا انعكس سلباً على مؤسسات المجتمعات المدنية فيها، وعلى صيرورتها ونشوئها في وضع غير مستقر وثابت، وهناك جملة من السمات العامة ذات الصلة بتطور المجتمع المدني في الوطن العربي، وهي كالآتي:

1- وجود مساحة واسعة من النشاط الاقتصادي في الأقطار العربية تحت سيطرة الدولة، فالدور الاقتصادي للدولة في هذه البلدان يفوق الدور الذي تقوم به الدولة في مجتمعات العالم الثالث الأخرى التي تشترك مع البلدان العربية في مستويات تنموية متقاربة.

2- وجود تباين كبير في طبيعة البنى الطبقية في الوطن العربي، ففيما يتسع حجم الطبقة المتوسطة والطبقة العاملة- وهما عماد المجتمع المدني في بعض البلدان- يضيق حجمها في بلدان أخرى، وتتسع في المقابل نسبة الفلاحين وسكان الريف إلى إجمالي السكان، بالإضافة إلى أن الولاءات القبلية والعرقية والاثنية التي تعتبر من معوقات تطور مؤسسات المجتمع المدني في مجتمعاتنا العربية، كانت الأساس الذي تبلورت منه مؤسسات المجتمع المدني في المجتمعات الغربية.

3- تباين البلدان العربية من حيث درجة السماح بوجود ونشاط المنظمات المهنية والنقابية والأحزاب السياسية، فبينما تقترب عدة بلدان عربية من تعددية حقيقية في نظمها السياسية، مثل المغرب، ولبنان، ومصر، والجزائر، تسير بلدان أخرى على طريق التعددية، لكن في بعض البلدان العربية الأخرى تسير هذه المنظمات تحت سيطرة الدولة ، بينما تتعرض لقيود شديدة وبدرجات متفاوتة في دول أخرى.

4- رغم أن هنالك إمكانية في التعبير عن الإيديولوجيات المختلفة في بعض الأقطار العربية، وخصوصاً تلك التي سارت على طريق التعددية السياسية، إلا أن هنالك قيوداً على بعض الإيديولوجيات في كل المجتمعات العربية تقريباً، وتقع هذه القيود خصوصاً على أصحاب الرؤى العلمانية، والماركسية، والإسلامية الراديكالية.

5- وأخيراً تشترك كل النظم السياسية العربية في أن الدولة فيها، أياً كانت درجة التعددية السياسية فيها، لا تقبل أن يكون هنالك أي حدود على سلطانها في التعامل مع المجتمع.

وبذلك يمكن القول إن الطبيعة التسلطية التي ميّزت أنظمة الحكم في العديد من الدول العربية طوال تاريخها منذ الاستقلال، قيّدت أو حالت دون ظهور مؤسسات حقيقية للمجتمع المدني.

لكن هذا لا يعني عدم ظهور مؤسسات مجتمع مدني بتاتاً، إذ يمكن القول إن البذور الجنينية للمجتمع المدني الحديث قد ظهرت فيها جميعاً (في المنطقة العربية)، وبخاصة في الجزء الشمالي من الوطن العربي، ويعود تاريخها إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لكنها ازدادت عدداً وازدهرت في فترة ما بين الحربين العالميتين (1918- 1939)، وقد كانت الطبقة المتوسطة الوليدة بمثابة العمود الفقري لهذه التنظيمات المدنية من طلبة، ومحامين، وصحفيين، وأطباء... الخ.

إلا أنه بعد سنوات قليلة من الاستقلال، شهدت المنطقة العربية توقفاً لولادة المجتمع المدني ومؤسساته، بسبب موجة السياسات الراديكالية التي شهدتها الدول العربية، والتي صاحبت قيام انقلابات عسكرية شعبوية فيها.

إذ قامت هذه الأنظمة (الراديكالية) بإنهاء التجارب الليبرالية الوجيزة التي مرت بها بعض مجتمعاتهم قبيل الاستقلال، وبعده مباشرة، وصار حكم الحزب الواحد، أو حكم النخبة الصغيرة هو النمط السائد.

وبذلك يصعب الحديث عن مجتمع مدني داخل تلك الأنظمة الشعبوية والمطلقة السلطة، والتي أضفت على الدولة دوراً اجتماعياً واقتصادياً توسعياً، فالسلطة هي التي تتولى عملية التنمية، وترسيخ دعائم الاستقلال السياسي، وضمان العدالة الاجتماعية، والوفاء بالاحتياجات الأساسية للمواطنين.

ومن الجدير بالذكر أن السلطة أخذت تتعامل مع مواطنيها ككتل صماء مسلوبة الإرادة، وقد غيّبت مسألة الحوار الديمقراطي في هذا الجانب، فأصبحت كل تنظيمات ومؤسسات المجتمع المدني جزءاً من هيمنة البيروقراطية، خصوصاً بعد أن أصبحت الدولة هي المهيمن الرئيس على الاقتصاد.

ونتيجة لذلك اندثر العديد من هذه المؤسسات بسبب كبر سن أعضائها، وفقدان الاهتمام بها من قبل جيل الشباب، بينما كافح بعضهم ضدها في سبيل الاحتفاظ بنشاطها، مع مزيد من الحذر السياسي من غضب النظام الحاكم.

انتكاس المجتمع المدني العربي

لقد أدى تراجع دور الدولة العربية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي إلى انتعاش بعض المؤسسات المدنية السابقة للحقبة الشعبوية، ونشأة مؤسسات جديدة، منها منظمات حقوق الإنسان.

ففي أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، وهو ما عُدّ أحد أشد الانتكاسات بعد هزيمة 1967، ظهرت مثل هذه المؤسسات على مستوى الوطن العربي كله، أو على مستوى الأقطار منفردة، وقد تكاثرت مئات من التنظيمات التطوعية الخاصة، وهيئات تنمية المجتمعات المحلية خلال الفترة المذكورة، إذ قدّر عدد الهيئات غير الحكومية العربية من أقل من 20000 هيئة منتصف الستينات إلى حوالي 70000 هيئة أواخر الثمانينات، ويبدو أن هنالك عدة عوامل دعّمت هذا النمو الكلي المشهود لتلك التنظيمات المدنية في العقدين (السبعينات والثمانينات) من القرن الماضي، من بينها:

1- تزايد احتياجات الأفراد والجماعات المحلية للخدمات الاجتماعية والاقتصادية التي لم تعد الدولة قادرة أو مستعدة للوفاء بها.

2- اتساع نطاق التعليم بين السكان العرب، مما أدى إلى ارتفاع في مستويات الوعي، والمهارات التنظيمية لديهم، مما كان له أهمية كبرى في بناء المؤسسات العامة والخاصة.

3- زيادة الموارد المالية الفردية، إذ تميزت سنوات السبعينات، وأوائل الثمانينات بطفرة مالية حدثت لكثير من الأفراد في الدول العربية بسبب الزيادة الهائلة في عائدات النفط، وما صاحب ذلك من تحرك القوى البشرية بين الدول العربية بمعدلات غير مسبوقة، فكان ذلك البداية لظهور سياسات التحول الاقتصادي الليبرالي في الهياكل الاقتصادية التي كانت تحت سيطرة الدول الاشتراكية سابقاً.

فشهد الوطن العربي ولأول مرة ظهور المؤسسات الخاصة Foundations على غرار مثيلاتها الامريكية.

4- نمو هامش للحرية في العديد من الأقطار العربية، وإن كان قد تم ببطء شديد، ويرجع جزء منه إلى عجز الدولة أو إنهاكها في السيطرة على المجتمع، كما يرجع أيضاً جزء منه إلى نمو ذخيرة المواطنين من إستراتيجيات مراوغة الدولة أو التحايل عليها، مثل السفر إلى الخارج، ووسائل الاتصال والإعلام الحديثة، ويمكن القول إن العديد من التنظيمات المدنية العربية، قد بزغت فكرتها أو تأسست في الخارج قبل أن تنقل أنشطتها إلى بلادها الأصلية، مثل المنظمة العربية لحقوق الإنسان التي تأسست في قبرص 1/ تشرين الثاني/1982.

ولابد من طرح تساؤل مهم الآن، هل أن انسحاب الدولة من بعض قطاعات الحياة الاجتماعية والاقتصادية يعني سماحها بقيام مجتمع مدني قوي اليوم؟ إن إلقاء نظرة على النظام السياسي العربي يبين لنا فشل الدولة الليبرالية التقليدية، والدولة البيروقراطية العسكرية في إقامة علاقات توازن صحية مع تنظيمات المجتمع المدني لمواجهة التحديات التي تواجه العرب في مجال التنمية والأمن القومي، واختلاف طاقات الحرية والإبداع لدى المواطن، فهذا بالتالي أدى لخلق حالة من التفكك والتحلل في مستوى بنية الدولة، وحالة من التسريح لتنظيمات المجتمع المدني، خصوصاً في بداية التسعينات إبان أزمة الخليج 1990- 1991.

لذلك يمكن القول إن ما جعل إشكالية المجتمع العربي مطروحة الآن على الساحة العربية بفعل تفسخ هيكل الدولة العربية، إذ سيتم إعادة تشكيل المجتمعات العربية وفق قواعد جديدة، من خلال فئات اجتماعية فاعلة ستبرز في هذه المرحلة، مثل الشباب الذين تلقوا تعليمهم في الجامعات والمعاهد والثانويات وكذلك النساء والطبقات الوسطى من الصحفيين والموظفين والعمال والمحامين.

هنا يمكن الإجابة على التساؤل المطروح حول أسبقية القيام؟ المجتمع المدني أم الدولة؟ أن نشوء المجتمع المدني في أوربا الغربية بدأ من أسفل المجتمع ذاته صعوداً إلى الدولة التي تغيرت هي الأخرى طوعاً أو كرهاً، أما في العالم العربي فقد جرت حركة الانتقال بصورة مقلوبة أو بدأت من القمة من الدولة نزولاً إلى المجتمع التقليدي الذي راح يتغير هو الآخر.

إذاً فالمجتمع المدني في الغرب هو خالق الدولة الحديثة، أما في عالمنا العربي فإن الدولة هي التي تخلق المجتمع المدني الحديث، ويظل تحت هيمنتها إلى أن تتحلل وتنتهي.

آليات قيام مجتمع مدني فاعل

إذا تجاوزنا مسألة الهيكل إلى المضمون، فإن المجتمع المدني ليس المقصود منه أساساً إيجاد معارضة سياسية في مواجهة الدولة، إذ أن فاعلية المجتمع المدني- بكافة تكويناته- تنطوي على أهداف أوسع وأعمق من مجرد المعارضة، إنها المشاركة بمعناها الشامل سياسياً واقتصادياً وثقافياً.

إذ أن هذه المشاركة هي التي تسمح للمجتمع المدني وتتيح له فرصة مراقبة البنى الاجتماعية كافة ، بما فيها مؤسسة الدولة نفسها، وضبطها وتصحيح مسارها، ومن هنا يمكن القول بوجه عام أن وظيفة المجتمع المدني هي وظيفة تسييرية شاملة للمجتمع كله، في سياق هذا المنطق، فإنه ليس بالضرورة أن يكون هناك عداء أو تناقض بين الدولة والمجتمع المدني، لكن القاعدة الأساسية التي يجب أن تحكم العلاقة بين الطرفين هي الحفاظ على استقلالية المجتمع المدني.

وهناك جملة آليات يقوم عليها المجتمع المدني العربي:

1- إن بناء مجتمع مدني لا يعني بالضرورة النقل الحرفي لخبرات المجتمعات الغربية في هذا المجال، أو إعادة تكرار التجربة الغربية لأن هذا غير ممكن أو مرغوب فيه، إذ أن الديمقراطية الليبرالية نظام غربي لا يصلح لمجتمعاتنا، فلابد من ابتداع نموذج سياسي ديمقراطي يعكس خصوصية مجتمعاتنا العربية.

2- لا يمكن الحديث عن مجتمع مدني حقيقي في إطار دولة ضعيفة وهشة، وتسلطية، وفاقدة للشرعية أيضاً، إذ أن عملية بناء المجتمع المدني تتطلب في الوقت ذاته إعادة بناء للدولة بحيث تصبح دولة مؤسسات وقانون.

3- العمل على إعادة مضامين الثقافة السياسية بالشكل الذي يكرس قيم المشاركة والولاء والانتماء، وهنا يبرز الدور المهم الذي يمكن أن تؤديه السياسات الثقافية والإعلامية والتربوية في الأقطار العربية.

4- يعتبر العامل الاقتصادي في مقدمة العوامل التي يبنى عليها المجتمع المدني، إذ لابد من تشجيع دور القطاع الخاص، والحد من تدخل الدولة وهيمنتها على الشؤون الاقتصادية من جهة، ودعم استقلال قوى المجتمع المدني عن الدولة من جهة أخرى.

5- يتضمن الدين الإسلامي نظاماً تفصيلياً لنظم الحياة المدنية، إضافة لدوره المحوري في الحياة السياسية والاجتماعية في الوطن العربي، وبالتالي لا يمكن تصور بناء مجتمع مدني حقيقي بعيد عن الإسلام، خصوصاً وإن الجماعات والقيادات الإسلامية هي أكثر القوى الاجتماعية قدرة على التغلغل في أوساط المجتمع في الوقت الراهن.

6- الاستقلالية في مواجهة الحكومة، والتجانس بين الأعضاء والقيادات والفروع داخل مؤسسات المجتمع المدني، لتجنب الصراعات والانقسامات التي تعرقل نشاطه.

وفي الختام لابد من القول أن مجتمعنا العربي أخذ يشهد اليوم بروز قوى اجتماعية جديدة وفاعلة في عملية الممارسة السياسية والاجتماعية التي بدأت مع التحولات التي نشطت بالظهور في أحشاء الجسم العربي، ستكون بمثابة مقدمة لمجتمع مدني جديد.

 

*مركز الدراسات الدولية، جامعة بغداد


المصادر:

1- د. سعد الدين إبراهيم، المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في الوطن العربي، القاهرة، 1995، ص5- 10.

2- فالح عبد الجبار، مدخل عام إلى مفهوم المجتمع المدني، نفس المصدر ص41.

3- المجتمع المدني، نشرة شهرية تصدر عن مركز ابن خلدون، القاهرة، أعداد أيار- حزيران- تموز- 1993، ص22.

4- علي الكنز، من الإعجاب بالدولة إلى اكتشاف الممارسة الاجتماعية، بحث ضمن بحوث الندوة التي عقدها مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان (المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية)، 1992، ص216- 228.

5- حيدر علي إبراهيم، المجتمع المدني في مصر والسودان، نفس المصدر، ص508- 510.

6- د. ثناء فؤاد عبد الله، آليات التغير الديمقراطي في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1997، ص281- 285.

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

العــدد 71

إتصــلوا بـنـــا