ردك على هذا الموضوع

المكتبات العربية في الألفية الثالثة

د. عباس صالح طاشكندي

إننا نتحدث عن منطقة أخذت مكانة بارزة في التاريخ، وعن ظاهرة كان لها أثر بالغ الأهمية، وخاصة في الدور الذي لعبته في نشوء المكتبات من ناحية، ونشوء صناعة الكتاب من ناحية أخرى، ولم تكن تلك المكانة مكتسبة نتيجة النشوء الاضطرادي للمكتبات كمؤسسات مادية، أو الكتاب كوعاء للتسجيل فحسب، بل كانت مؤصلة بالإبداع والتحضر والإضافة، ولسنا في موقف التدليل أو تقديم الحجج والبراهين على ذلك، فالتاريخ والوقائع هما أصحاب الفصل، وقد قال التاريخ كلمته في وصف الحضارة العربية الإسلامية بناء على البراهين المادية وإجماع العلماء.

معروف أن المكتبات مهما اختلفت أنواعها فإنها تقوم بثلاث مهام رئيسية:

أولها: تجميع أوعية المعرفة.

ثانيها: تنظيم أوعية المعرفة.

ثالثها: استثمار أوعية المعرفة.

فأسلافنا القدماء في حضارة ما بين النهرين في العراق وضعوا الوظيفة الأولى للمكتبة، حين اخترعوا أوعية التسجيل من ألواح الصلصال وجمعوها في دور السجلات القديمة، وكذلك صنع الفراعنة والفينيقيون وغيرهم من صناع الحضارات القديمة في المنطقة.

ثم إن تجربة مكتبة الإسكندرية القديمة احتلت مكانتها الأكاديمية كهيئة تولد -عبر نشاطها المعرفي- كل صنوف المعارف القديمة، ولم يكن الأمر مقصوراً على البعث المعرفي فحسب، بل تعداه إلى التنظيم، واستثمار الرصيد المتراكم، حتى غدت المكتبة أكاديمية تحدد هوية البطالسة الفكرية والثقافية في عصر ازدهارهم، مما دفع (بيليوس قيصر) لإحراق القسم الأكبر منها عام 48 قبل الميلاد، بهدف نقل الحضارة إلى روما.

أما أسلافنا من صناع الحضارة العربية الإسلامية في عصورها الوسطى المزدهرة، فقد اقترنت إنجازاتهم بمظاهر عديدة تبرزها اعتبارات عدة، منها:

1-تحويل المكتبات العربية إلى هيئات كبرى لها غايات عالمية، وهي بوادر أشبه بما نطلق عليه اليوم بالعولمة المعلوماتية.

2-إطلاق الأوعية المعلوماتية من مراحلها التجريبية إلى جعلها صناعة عالمية، وهي صناعة عالمية، وهي صناعة الكتاب العربي الإسلامي.

3-توفير بيئة ومناخ ثقافي وفكري متميز، أتاح لسائر الآراء والمدارس الفكرية فرصة التلاقح وردود الفعل، مما أوجد الآداب المكتوبة، وما نسميه الآن بالتراث العربي الإسلامي للعصور الوسطى، وهو التراث الذي بلغ أوجه خلال القرون الستة الأولى من التاريخ الهجري.

4-الالتزامات الحضارية للفرد العربي المسلم تجاه المجتمع.

فخزانة بيت الحكمة التي أنشأها الرشيد في بغداد، وطورها المأمون من بعده، تحملت غايات عالمية نحو المحافظة على الإرث الثقافي العالمي، ففي مجموعاتها ومقتنياتها لم تميز بين النصوص العربية واليونانية والفارسية والسيريانية وغيرها في جهود التعريب والإضافة، كما لم تميز في موضوعات الترجمة، ملتزمة مسؤولية عالمية تجاه الإرث الحضاري للإنسانية دون تحيز لفكر أو لغة أو ثقافة، وقامت كهيئة عالمية تحقق أهدافاً ثقافية مثلى.

يعزز هذا الاستنتاج، ما أشار إليه المؤرخون في مختلف تناولاتهم لدور بيت الحكمة، فحين ترجم ابن أبي أصيبعة ليوحنا بن ماسويه، أشار إلى أن الرشيد كلفه جمع كتب أنقرة وعمورية وسائر بلاد الروم، ووضعه أميناً على ترجمتها إلى العربية (1) وحين ترجم ابن نباته المصري لسهل بن هارون، أشار إلى كتب اليونان التي حملت إلى المأمون من جزيرة قبرص، ليتم حفظها وترجمتها إلى العربية في بيت الحكمة (2) فالاشارت التاريخية الموثقة كثيرة ومتعددة، بيد أننا نعرض إلى بعضها كأمثلة تجسد وتترجم الاتجاهات للغايات والأهداف العالمية لبيت الحكمة كمؤسسة ثقافية كبرى، استطاعت أن تجعل من نفسها رمزاً للثقافة العالمية السائدة آنذاك، ومثلما فعل يروليوس قيصر في إحراق رمز هوية البطالسة المتمثل في مكتبة الاسكندرية، فعل المغول نفس الفعلة، حين دمرت جحافلهم بيت الحكمة، والقوا بالكتب في مياه دجلة في فعل بربري، أثر بشكل واضح على التراكم المعرفي للتراث الانساني، وتلك صورة من صور صراع الحضارات.

أما صناعة الكتاب، فهناك إجماع على أنها صناعة عربية إسلامية بالتأصيل، فرغم أننا أخذنا صناعة الورق من تقنيات تعود إلى الحضارة الصينية القديمة، فقد عاد أحد الغزاة الفاتحين في القرن الهجري الأول إلى مكة المكرمة من سمرقند وهو يوسف بن عمرو وأنشأ أول مصنع للورق في مكة المكرمة قبل بغداد وذلك عام 88 الهجري حيث استبدل الحرير بالقطن وأنتج الورق الحجازي.

وجعل العرب من عناصر إنتاج الكتاب صناعة راقية ومتميزة، وشملت فنون الخط، والأقلام، والمداد، والورق، والجلود، والرقوق، والألوان، والتذهيب، والزخارف، والتجليد، والرسوم، والتوضيحات، والتوثيق، والفهارس، وإبداع العناوين، وإخراج الكتب، مما لم يكن معروفاً في أي حضارة أخرى، ومن ضمن ما برع فيه العرب، اختيار عناوين مؤلفاتهم حتى طغت شهرة العناوين على أسماء المؤلفين، وجعلوها تتميز بعناصر ثلاثة:

الوصفDESCRIPTIVE

الجرس RYTHMIC

سهولة التذكير MEMORABLE

أما البيئة الثقافية والمناخ المتميز الذي ساد الأرجاء العربية والإسلامية كافة في العصور الوسطى، فقد أدى إلى إنتاج أدبي راق، وأتاح تميزاً لسمات الآداب المكتوبة مجسداً ومترجماً الاتجاهات الفكرية والثقافية والعلمية كافة، وبلغت تلك الحقيقة اوجها المتألق في عصر العباسيين، منعكساً على جميع القضايا التي سادت القرون الأولى الستة من الحضارة العربية.

يكفي أن نشير -تمثيلاً- إلى قضية واحدة من مئات القضايا الفكرية وهي المتمثلة في قضية الحوار بين الفلسفة والدين، أو بين الإيمان والعقل، فمؤلفات الإمام أبوحامد الغزالي بخطابها الديني لمؤلفات ابن رشد في الاندلس، هي على نقيض الإمام أبو حامد، وأثرت -فيما بعد- على عدد كبير من المفكرين المنتمين إلى ثقافات اخرى، وعلى نحو ما حدث من تأثير على فكر القديس (توما الاكويني) خلال القرن الثالث عشر الميلادي في أوروبا.

أما التزامات الفرد المسلم نحو المجتمع، فتمثلت في سلوكيات كثيرة، أبرزها ما جاء ضمن مفاهيم الوقت، فالبداية جاءت على عهد الرسول الكريم (ص)، حين تصدق وأوقف أموالاً أوصى بها (مخيريق) لرسول الله (ص)، فأضاف إليها شيئاً من أمواله، ثم تبعه كثير الصحابة في وقف أموالهم وحصرها على ما يحقق للمجتمع وسائل عبادته، وثقافته، وتعليمه، وتطبيقه، ورعايتها اجتماعياً، وهو ما استمر في العالمين العربي والإسلامي حتى الوقت الحاضر، رغم ما يتصف به الوقت الآن من تراجع وتردد.

فصارت الكتاتيب والمدارس والمكتبات والربط والبيمارستانات والمساجد وغيرها من مسؤوليات الفرد، يسهم بإنشائها وحبس الأموال لتشغيلها، في تجسيد دوره الاجتماعي والثقافي لبناء المجتمع.

على أن الغاية من هذه الفذلكة التاريخية الموجزة للمكتبات العربية هي التأكيد على أننا حين نتناول المكتبات العربية في الألفية الثالثة، لا يمكن لنا أن نعزلها عن ماضيها، ولا يمكن تجاهل الدور الذي لعبته في الحضارة الإنسانية، أو السمات التي اختصت بها دون غيرها، فالمكتبات العربية ليست وليدة اليوم، بل هي مخاض حضارة، ومستودع ثقافة مؤثرة، ولم تكن في ماضيها أسيرة للثقافة التي ولدت فيها، بل كانت أمينة على ثقافات العالم القديم كله، تجسد في مجموعاتها التي بقيت حتى اليوم تراثاً إنسانياً لا يمكن لنا إغفاله حين نتطلع إلى دور المكتبات العربية في الألفية الثالثة.

ونسأل -بإلحاح- عن المتغيرات الكبرى في عالم اليوم، وأقصد بها المتغيرات المعلوماتية مما يمكن أن يكون له اثر وانعكاس على دور المكتبات من ناحية، وعلى صناعة أوعية المعلومات من ناحية أخرى.

وأثر ذلك كله على تعامل المستفيد من المكتبة العربية.

تكتسح العالم حالياً ثلاث قضايا رئيسية، تتمثل فيما يلي ب:

1-العولمة المعلوماتية.

2-التدفق المعلوماتي.

3-وسائل وتقنيات الاتصال.

فأدبيات العولمة تطرح كماً هائلاً من الدراسات والأبحاث، تتراوح بين الآراء المؤيدة والمعارضة، ويذهب بعضهم إلى التحذير من مخاطر العولمة على النظم الاجتماعية والثقافية والدينية، وخاصة في المجتمعات غير الغربية، ويذهبون بعيداً في تحذيراتهم بأن السعي إلى جعل العالم قرية كونية يؤدي -لا محالة- إلى طمس الملامح الاجتماعية والثقافية، وأن محور الدعوة إلى الأخذ بمعايير العولمة، ما هو إلا عملية تاريخية تؤدي إلى سيطرة الحضارة الغربية بتقنياتها الرقمية.

وهي تترك الذين لا يمتلكون وسائل التعامل والتواصل معها، إما إلى محاولة تحقيق ذلك التواصل، أو الانزواء في العزلة المعلوماتية، على أن أصحاب هذا الرأي -وخاصة في الغرب- يميلون إلى إزالة خط التمايز بين الثقافات المختلفة بهدف إيجاد واقع ثقافي واجتماعي جديد، يسود العالم في ألفيته الثالثة.

هناك خمسة حدود وضعها (مارتن) (3) للتنافس المعلوماتي بين الدول المطبقة لنظم العولمة المعلوماتية وهي:

1-المعيار التقني، بحيث تكون تقنية المعلومات مصدر قوة أساسية وطنية في الدولة.

2-المعيار الاجتماعي، بحيث تستهدف المعلومات تنمية المجتمعات علمياً وثقافياً من خلال الإتاحة الفاعلة.

3-المعيار الاقتصادي، بحيث تسوق المعلومات، وتعامل كسلعة اقتصادية، تخضع لتوازنات القيمة والمنافسة.

4-المعيار السياسي، بحيث تعمل حرية تدفق المعلومات على بلورة واقع سياسي يستند على المشاركة والقبول بتعدد الآراء.

5-المعيار الثقافي، بحيث يتم الاعتراف بالقيم المعلوماتية الأساسية، كاحترام الملكية الفكرية، والأمانة العلمية، والتوثيق وأمن المعلومات الشخصية والصدق.

يلاحظ على تطبيق تلك المعايير في الدول المتنافسة، ضرورة توفير:

- بنية معلوماتية أساسية.

- قواعد إنتاجية للمعلومات.

فالرغبة في تحقيق قدر إيجابي من العولمة المعلوماتية، يفرض على الدول تبني سياسات معلوماتية وطنية، تستهدف تحقيق قدر من النمو يجعل من بنيتها مصدر قوة حقيقية تتكامل مع كل مظاهر التنمية الوطنية في شتى المجالات، وهو ما يحقق لها بناء قواعدها الإنتاجية الوطنية، بدلاً من الدخل الريعي في أسهم شركات الإنتاج المعلوماتي الأجنبية.

أما التدفق المعلوماتي الذي يسود العالم اليوم، فقد أصبح من التضخم لدرجة لم يعد بمقدور المكتبات متابعته بالطرق التقليدية، وهو ما دفع إلى التعاون عبر شبكات محلية LANDوشبكات موسعة WAN يتاح عبرها توفير المصادر عن بعد للمشاركين في الشبكة.

لقد تطورت وائل وتقنيات الاتصال بدرجة كبيرة ومتسارعة، وقد أتاحت تلك الوسائل التقنية ربط المكتبات بعضها ببعض داخل منظومات محلية ووطنية ودولية، والانترنت التي انطلقت عام 1979 كشبكة محدودة تصل بين عدد من الجامعات، توسعت لاحقاً باستخدام وسائل اتصالات الهايبرتكست، لتنتشر وتتسارع في ربط منظومة من مئات الملايين من الحاسبات الشخصية التي توفر للأفراد والهيئات خدمات معلوماتية كانت تؤديها المكتبات ومراكز المعلومات بصورة جزئية. إن هذه الشبكة العالمية توفر كماً معلوماتياً كبيراً، لكنها في نفس الوقت توفر مواقع إباحية عديدة، تستهدف المساس بالقيم الاجتماعية والثقافية للمجتمعات.

إن الواقع الذي فرضته العولمة المعلوماتية، والتضخم المعلوماتي، ونظم الاتصال التقنية، يدفع بالهيئات المعلوماتية وأهمها المكتبات، إلى مراجعة أهدافها وأدوارها وبرامجها، متلمسة حاجات المستفيدين في ضوء تلك المعطيات الجديدة.

وقد أخذت المكتبات العالمية بالفعل إحداث تغييرات هيكلية على نمطية أهدافها ووظائفها، واتخذت جميع الترتيبات لتوجيه مصروفاتها لاستكمال بنياتها الاتصالية، بهدف الربط الآلي بين المنظومات، وتوسعت في ذلك الأمر حتى لا يقتصر الربط بين منظومات داخل الوطن الواحد، بل يتعداه إلى منظومات عالمية.

لعل أهم ما استحدث على غايات المكتبات الأساسية هي تغيير كلمة (جمع) إلى كلمة (إتاحة) فأصبح هدفها الأول (إتاحة أوعية المعرفة).

ذلك أن جمع الأوعية أمام التضخم المعلوماتي أصبح ضرباً من المستحيل، ولم يعد بمقدور مكتبة ما أن تفاخر بحجمها ومجموعاتها، بل تفاخر بإمكاناتها الاتصالية عبر خطوط فائقة السرعة، وبروتوكولات في التعاون، ونظم لأمن المعلومات وحمايتها.

على أن الإيجابية في الاخذ بتلك المتغيرات تتم في ضوء التكافؤ بين المكتبات ومراكز المعلومات في إمكاناتها الاتصالية، وفي تأهيل المعلومات المحلية، وإتاحتها للبث والتواصل مع سائر المكتبات الأخرى، وهي طريق معلوماتي مزدوج، يحقق الكفاية والإيجابية إن سار في اتجاهين بنفس الكفاءة والقدرة والفاعلية.

إن المكتبات ومراكز المعلومات العالمية أخذت تتحسب للمتغيرات قبل دخول الألفية الثالثة، وأخذت في مراجعة أدوارها، وتلمس حاجات المستفيدين. نشير في هذا الصدد إلى اتجاه المكتبات العامة في دول السوق الأوروبية المشتركة، والتي تكون منظومة يقارب عددها الإجمالي أربعين ألف مكتبة عامة، حين عقدت (اتفاقية لوفين) عام 1998م والتي تنص على إعادة النظر في دور المكتبات العامة الأوروبية، بحيث تم الاتفاق على التكامل فيما بينها بما يحقق للمستفيد في جميع الدول الأوروبية الاستفادة من مصادر الشبكة الأوروبية مع الأخذ في الاعتبار الاحتياطات التي تراعي القيم المحلية الخاصة بكل دولة منها.

نعود إلى العالم العربي و نتساءل، أين تقف المكتبات من كل تلك المتغيرات؟ وما الذي يجب ان تكون عليه تطلعاتها في الألفية الثالثة؟

لا شك ان معظم الدول العربية تتمتع ببنيتها من المكتبات، والتي تتكون عادة من المكتبة الوطنية، والمكتبات الجامعية، والمكتبات المتخصصة، والمكتبات العامة، والمكتبات المدرسية، ومراكز المعلومات، غير أن الدراسات النوعية تشير إلى تباين في المستوى النوعي لتلك البنى، إذ أن بنية المكتبات العربية لا زالت في مراحل النمو التقليدي الذي يعتمد على بناء المجموعات وفق المتطلبات المحلية، وتعاني المكتبات العربية بكل أنواعها من العزلة:

-العزلة المحلية.

-العزلة الوطنية.

-العزلة الإقليمية والدولية.

كما تعاني كثيراً من عدم القدرة على التعاون والتنسيق فيما بينها، إن اسباب تلك العزلة كثيرة، لعل أهمها:

- عدم توافر سياسات وطنية للمعلومات ومراكزها ومنها المكتبات.

- ضعف بنية الاتصالات التقنية.

- ضعف بنية الكوادر المعلوماتية الوطنية.

- ضعف الإنفاق على المعلوماتية ومراكزها.

فمنذ عام 1974 م دعت اليونسكو عبر برنامج نظم المعلومات الوطنية NATIS جميع الدول النامية إلى وضع خططها الوطنية لمعلومات بهدف تقليل الهوة المعلوماتية بين دول الشمال ودول الجنوب، إلا أن نصيب العالم العربي في تبني مثل تلك الخطط لم يكن ملموساً.

لقد استفادت دول شرق آسيا مبكراً من تلك البرامج، فأنشأت كوريا الجنوبية هيئة تنمية التقنية المعلوماتية تحت الإشراف المباشر لرئيس الدولة، وحققت نجاحاً باهراً في إقامة صناعة إنتاجية للمعلومات على وسائط ميكرو إلكترونية، وحققت الصين الوطنية وادي السليكون الآسيوي دعماً لبرامج إنتاج أدوات صناعة المعلومات، وتبنت سنغافورة برنامج تطوير البرمجيات المعلوماتية، ثم انتقلت الصناعة المعلوماتية إلى باقي دول جنوب آسيا كالهند وإندونيسيا وماليزيا وغيرها.

والمكتبات العربية -وقد أسلفنا بإيجاز لمكانتها التاريخية- جديرة بأن تتبوأ مكانتها ضمن منظومة المكتبات العالمية، وتنتقل من مرحلة التبعية إلى مرحلة المشاركة، وتستطيع - تمثيلاً- ان تلعب مقتنياتها التاريخية الموروثة من آلاف المخطوطات دوراً في بلورة الخطاب الثقافي العربي، فالنصوص التراثية العربية المخطوطة والمختزنة في مئات من المكتبات العربية تحتاج إلى جهد كبير للتعبير عن خطابها وتصديره إلى خارج حدودنا عبر مؤسسات المعلومات العربية، وعبر مفاهيم الإتاحة التي أصبحت من أهم وظائف المكتبات في الألفية الثالثة.

يرى يوسف زيدان، وهو أحد المثقفين العرب، أن العمليات التي تقوم بها المكتبات العربية تجاه المخطوطات من فهرسة ودراسة ونشر، تدور جميعها حول النص التراثي المخطوط من داخله، وتغرق في التفاصيل الدقيقة لتجليات الذات، دون أن تدخل في علاقة جدلية مع الآخر، ويستطرد بأن تثاقفاً يتم في الوقت الحاضر بين الأمم والجماعات عبر وسائل وتقنيات الاتصال الحديثة، يحدث من خلاله تبادل الخطاب الثقافي، مما يؤدي إلى تفاعل بين الثقافات، وأن الإخفاق في المشاركة في مثل هذه العمليات الثقافية المتبادلة يؤدي إلى تراجع بعض الثقافات وإخفاقها في التعريف بما تملك (4).

لقد دفعت المتغيرات المعلوماتية المكتبات العالمية كافة منذ التسعينات للدخول في طفرة كبيرة انعكست على أهدافها وبرامجها وخدماتها ومجموعاتها وكوادرها حتى غدونا نطرح من الأسئلة ما لم يكن بالإمكان طرحها قبل عقد من الزمان:

- هل تغير تقنيات المعلومات كل المفاهيم التقليدية للمكتبات؟

- ما مدى تأثيرها على تصميم مباني المكتبات وأحجامها؟

- ما مدى تأثير الإتاحة المعلوماتية على برامج التزويد؟

- ما هي متطلبات الألفية الثالثة في تأهيل الكوادر العاملة في المكتبات؟

- ما هي الالتزامات القانونية في التعامل مع بيئات الشبكات الإلكترونية العالمية التي لا تعرف حدوداً في بثها؟

- ما هي الضمانات المساندة للمحافظة على الفكر البشري حالة تعرض النظم الإلكترونية للتدمير الجزئي أو الكلي؟

ما هي مستويات المشاركة المعلوماتية بين الدول، وخاصة الدول الغنية والدول الفقيرة؟

كيف تعالج الهوة اللغوية في التعامل مع المعطيات الآلية؟

المكتبات العربية في الألفية الثالثة لا بد وأن تكون جزءاً فاعلاً في تلك الطروحات وأن تسهم بالمشاركة الجادة في طرح الحلول، وأن ينعكس استيعابها لتلك المشكلات في إحداث نقلة نوعية على المكتبات ومراكز المعلومات العربية.

أما بالنسبة لدورها في تفعيل الدور الثقافي للإنتاج الفكري العربي المعاصر، فإن ثمة حقائق لابد من الاعتراف بها - دون مواربة - ومنها:

- إن الإنتاج الفكري هو حصيلة عصره ومناخه الاجتماعي والثقافي العام، وهو انعكاس للحالات الاجتماعية والثقافية، ويستند في مده وجزره على تلك الحالات سلباً وإيجاباً.

-إن التحديات الثقافية التي تواجه الوطن العربي كبيرة يتسرب بعضها من داخله، والأكثر شراسة من خارجه، وليس هناك من وسيلة إلا امتلاك الأدوات، ودعم البحث العلمي، وتوفير المناخ المناسب، وفتح أبواب التواصل، وتأصيل القيم الثقافية.

إن الأوضاع الاقتصادية في الوطن العربي تؤثر سلباً على مناحي عديدة، بيد أن المكتبات وأوعية الثقافة هي الأكثر تأثراً نتيجة تقليص الإنفاق عليها بشكل ملموس.

ومهما كانت خطورة تلك الحقائق وانعكاساتها، إلا أن المكتبات العربية لا زالت في موقع يمكنها من ممارسة دور فاعل في التنمية الثقافية والعلمية عن طريق استثمار ما آل إليها من تراث، وما يصيب فيها من إنتاج فكري معاصر، وقد يسأل سائل، وكيف؟

-إن على المكتبات العربية وهي تدخل الألفية الثالثة، أن تبادر إلى إعادة النظر في أهدافها، وغاياتها، وفق المفاهيم الجديدة، وأن تعيد تنظيم مقتنياتها، بما يتيج لها بث محتوياتها عن بعد، وأن تأخذ بوسائل التقنية والاتصالات، وأن تتيح فرص استخدامها عبر مواقعها، في الشبكة العالمية، وأن توسع من قاعدة المستفيدين منها، وأن تعيد النظر في خدماتها، وأن تعقد الاتفاقيات فيما بينها وبين الآخرين للتزويد التعاوني، وأن تحول المفاهيم البائدة في الخزن إلى مفاهيم الاستثمار، وتلك تطلعاتنا - في حدها الادنى- للمكتبات العربية في الألفية الثالثة.

 


المراجع:

(1)سرج العيون في شرح رسالة ابن زيدون: ابن نباته المصري، جمال الدين، دار الفكر العربي، القاهرة 1964م؟

(2)عيون الأنباء في طبقات الأطباء: ابن أبي أصيبعة، موفق الدين أحمد بن القاسم، المطبعة الوهبية، 1982م.

(3)خزائن الكتب القديمة في العراق: كوركيس عواد، مطبعة المعارف، بغداد 1948م.

(4)مصر ورياح العولمة: عبد الفضيل محمود، القاهرة، دار الهلال 1999م.

(5)العرب وعصر المعلومات: علي، نبيل، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب 1994م.

(6)معهد المخطوطات العربية، التراث العلمي العربي، (بحوث ومناقشات ندوة قضايا المخطوطات) تحرير فيصل الحفيان، القاهرة، معهد المخطوطات العربية 2000م ص 167-168.

(7) الوقف وبنية المكتبة العربية: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض 1408هـ.

(8)Grawford, walt. Future Libraries. ALA, Chicago,1995.

(9)Ilion,A.The Clobalisation of Information IN The Intrnational Conference On Public Libraries & The Information Society. Cairo, 7-8 Dec. 1998.

(10) Martin, W. The Information Society. London, Aslib, 1988.

(11) WEBB, T.D. Building Libraries for the 21 st Century, McFarland, London, 2000.

(12) Woodward, J. Count down to a New Library. ALA, Chicago. 2000.

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

العــدد 70

إتصــلوا بـنـــا