ردك على هذا الموضوع

الفيلم الديني

بين الجائز والمحرم

د.حسن السوداني

(يمنع ظهور صورة الرسول(ص) صراحة أو رمزا أو صورة أحد الخلفاء الراشدين وأهل البيت والعشرة المبشرين بالجنة وسماع أصواتهم وكذلك إظهار صورة السيد المسيح وصور الأنبياء بصفة عامة وعلى أن يراعى الرجوع في كل ما سبق للجهات الدينية المختصة).

وزارة الإعلام والثقافة المصرية - لجنة الرقابة على المصنفت الفنية الفقرة (5) من قرار رقم 220 لعام 1976

(ليس هناك باطل على وجه الأرض أبطل من التمثيل).

الفقيه أحمد بن الصديق -إقامة الدليل في حرمة التمثيل

(لا مانع من تشبه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال في التمثيل).

الإمام حسن الشيرازي - الشعائر الحسينية

(أجمع علماء المسلمين على تحريم تقديم الشخصيات الإسلامية في أعمال فنية ومن ينادي بأن هذه الأعمال تعطي صورة للإسلام وتساعد الغرب على فهمه واعتناقه أيضا أقول هذا هراء).

الشيخ يوسف البدري - عضو مجمع البحوث الإسلامية - مفتي الشارقة السابق

(إن الحياة تتغير وأساليب الدعوة في الماضي كانت مختلفة، وإلا فعلينا أن نمتنع عن استخدام أساليب التكنولوجيا الحديثة لأنها لم تكن موجودة في عهد النبي)

مصطفى العقاد - مخرج فيلم الرسالة

 

واجهت السينما ومنذ نشأتها الكثير من الأسئلة عن مدى جدواها وبالتحديد في النواحي غير الترفيهية، وكتبت الكثير من البحوث عن مدى تأثير السينما على المشاهدين كالعنف والجنس والقيم الاجتماعية والدينية، إلا أن الفيلم الديني ظل بمنأى عن الدراسات المعمقة وعانى كثيرا من إشكاليات الإنتاج وابتعاد المنتجين عنه مقارنة بغيره من الأفلام، وذلك لما يتعرضون له من مشكلات تصل في كثير من الأحيان إلى تحريم عرض الفيلم ومقاطعته ومنع عرضه في صالات العرض الجماهيرية كما حدث مع معظم الأفلام الدينية العربية المنتجة في مصر، فضلا عن أفلام الرسالة والقادسية والمهاجر وما يلاقيه الآن فيلم (محمد خاتم الأنبياء) المنتج بتقنية الرسوم المتحركة من نقود شتى على الصعيدين الفني والديني. ولعل عنوان بحثنا الحالي يحمل في طياته عددا من الأسئلة الملحة التي تطرح في ميدان السينما العربية اليوم، بعد أن تحولت السينما إلى ميدان واسع وجذاب في تمرير الأفكار والمعتقدات بطريقة فعالة وخاصة طريقة تناولها للأحداث ودخول السياسة هذا الميدان وأثر ذلك في الرأي العام.

الدين والسينما

مما لاشك فيه أن السينما العالمية انتبهت بصورة مبكرة لأهمية السينما في توصيل الأفكار بطريقة سهلة وسريعة أكثر منها في الكتب أو باقي الوسائل المتاحة، خاصة بعد أن أعلن علماء تكنولوجيا التعليم أن الصورة الواحدة تعادل أكثر من عشرة آلاف كلمة، والصورة كما يرى (جون لوك غودار) تحتوي على جانبين متعارضين ومتكاملين، هما الجانب الدلالي، أي (ما يقال) والجانب الجمالي، أي ما يتضمنه الخطاب دون قول مباشر، بل هو منغرس في ثنايا الخطاب ورموزه الموحية)(1). وإذا كان النص الأدبي (رواية، قصة) يمكنه (أن يدمج متلقيه في تركيبة ملامحه) كما تقول جوليا كرستيفا في كتابها (علم النص) فإن السينما يمكن أن تلعب دورا محوريا في توجيه سلوك الأفراد مثلما هي وسيلة فعالة لتوجيه أهدافهم واتجاهاتهم داخل المجتمع، وذلك لعدة أسباب يلخصها(روسك) بـما يلي:

1-يضع الناس أنفسهم في موضع الأبطال، ويتقبلون بطريقة لا شعورية الاتجاهات التي يعبرون عنها، والأدوار التي يقومون بها.

2-الأفراد الذين يعانون من المشاكل المختلفة يتقبلون بطريقة لا شعورية، أو شعورية، الحلول التي تقدمها الأفلام كحلول لمشكلاتهم الخاصة(2).

ويتم ذلك عبر مفهوم التراكم، وهو مفهوم تستعمله السينما كثيرا من خلال قوة تأثير الصورة وفنية صناعتها، ويكمن أثر هذا التراكم من المشاهدات على المتلقي في صياغة الشخصية بمواصفات معينة تحددها مضامين المنتج السينمائي، والفرد عندما يتلقى الرسالة من السينما تحكمه خاصتان هما:

1-الإرجاء: بمعنى أن التأثير على الجمهور لا يبدو مباشرة بعد التلقي، بل لابد من مضي زمن يسمح بتراكمها واختمارها وفقا لقوانين نفسية محددة.

2-الكمون: حيث تكمن التأثيرات التي تعرض لها الجمهور وهي ليست تأثيرات مادية ظاهرة يمكن رصدها بسهولة، بل تأثيرات تعبر عن نفسها في مواقف تستثيرها للظهور في شكل استجابات(3).

وأول من أنتبه إلى تأثير السينما في كل ذلك هم رجال الدين المسيحيون والمبشرون منهم على وجه الخصوص وبدأوا بإنتاج سلسلة أفلام التوراة مثل (الوصايا العشــر) و(سادوم وعمورة) لـ(سدي ميل) و(شمشون و دليلة) لـ(وليم ويلر) وبعض الأفلام الدينية التي تناولت حياة السيد المسيح(ع) أبان دعوته وما لاقاه من عنت وتعسف من الدولة الرومانية كفيلم (ملك الملوك) ولتستمر دون توقف رغم ما يعترضها أحيانا من انتقادات ودعوات لمقاطعة هذا الفيلم أو ذاك.

ولعل أولى المحاولات العربية في هذا الباب كانت للفنان المصري (يوسف وهبي)، الذي حاول تجسيد شخصية الرسول (ص) في السينما بالتعاون مع المخرج وداد عرفي في عام 1926، وقد جوبه بانتقادات شديدة من قبل علماء الأزهر، الذين رفضوا ظهور الشخصيات المقدسة في السينما وأجبر يوسف وهبي على تقديم اعتذار علني عن فكرته هذه تحت ضغط الإكراه، الذي وصل بالملك فؤاد إلى التهديد بحرمانه من الجنسية المصرية إذا أصر على تأدية الدور!! وكانت هذه أول مواجهة بين (السينما) والمؤسسة الدينية تنتهي لصالح الأخيرة بسهولة مطلقة!! بل وقد عززت من مواقف رجال الأزهر ضد هذا الفن واعتبروه رجساً من عمل الشيطان وطالبوا بمزيد من الرقابة على الأزياء والحوار، وقد أدى ذلك إلى انصراف السينما إلى محاكاة الحياة الأوربية أسلوبيا وقضايا حياتية وابتعادها عن إنتاج الأفلام الدينية لمدة ربع قرن كامل وأكثر من نصف قرن على بداية الفن السينمائي في مصر والعالم قبل أن يظهر إلى النور أول فيلم ديني عربي يحمل عنوان(ظهور الإسلام) عن قصة(الوعد الحق) لطه حسين ومن إخراج إبراهيم عز الدين. وقد استقبل الفيلم بترحيب كبير من الجمهور العربي في كل مكان وقف معه رجال الدين موقفا متباينا بين الرفض القاطع والتأييد المشروط بـالاستغناء عن مغريات الجسد بانطلاق الروح، وعن اللذات الملموسة بالنشوة المحسوسة، وأن يخاطب القلوب والعقول خطابا واضحا مستنيرا حتى يحس الجمهور بأن السينما ترتفع به إلى ربه ولا تنزل به إلى حمأة الشهوات، والالتزام بالملابس الشرعية بالنسبة للنساء، فلا يظهرن كاسيات عاريات بما يشف ويكشف ويجسم ولا مائلات مميلات بما يغري ويقلد والابتعاد عن نحو ذلك بعدا نهائيا(4) وكانت هذه الشروط بمثابة أولى المقترحات لإقامة سينما إسلامية كما يشير بعض المهتمين بهذا الموضوع.

الموضوعة الدينية في الأفلام العربية وماهية التحريم

الحديث عن كيفية تناول الموضوعة الدينية في السينما العربية يقتضي منهجيا التمييز بين نوعين من الأفلام السينمائية هما:

1-الدين موضوع رئيسي للفيلم وهذا يشمل اثني عشر فيلما أنتجتها السينما المصرية وفيلم الرسالة الذي أنتجه وأخرجه الفنان السوري الأصل مصطفى العقاد، وهو ما سنتناوله في هذه الدراسة.

2-الدين موضوع فرعي، وهذا يشمل العديد من الأفلام العربية التي أنتجت عبر حقبة زمنية قاربت القرن من الزمان. فضلا عن فلمي القادسية، والمقاطع منذ عشرين عاما من قبل الأزهر وفيلم المهاجر ليوسف شاهين.

ماهية التحريم؟

يتلخص موضوع التحريم لدى السلفية الإسلامية تجاه التمثيل في المسرح أو السينما بفكرتين أساسيتين هما التحريم بالموضوع والتحريم بالذات وفي هذا الباب أسهب الناقد حسن بحراوي في ذلك عبر مناقشته لرسالة الفقيه أحمد بن الصديق المعنونة (إقامة الدليل في حرمة التمثيل) الصادرة في القاهرة سنة 1953(5). فحرمة الموضوع كما يرى أصحاب هذا الاتجاه ترى الفن مباح وأن حكمه هو حكم موضوعه، فإذا كان الموضوع شائنا ويمس الحرمات فهو محرم وما كان غير ذلك فهو مباح. وأما التحريم بالذات فهو تحريم على وجه الإطلاق وهو من أكبر الكبائر والمحرمات وفيه أسباب عامة وأخرى خاصة، فالعامة هي تلك التي تخص البدع وعلى اعتبار أن التمثيل هو نوع من البدع بل هو شر البدع، ومن ابتكار الكفار وجاء بسبب الاستعمار الإفرنجي!! والتشبه بالكفار محرم (ليس منا من تشبه بغيرنا)(6). ويرى الباحث أن حقيقة تفسير هذا الحديث قد اختلف فيه علماء الدين وخاصة في مفهوم التشبه أولا وموضوع أصل التمثيل ثانيا، فالأول يبتعد كثيرا عن تفسير صاحب رسالة التحريم، فهل كل ما يأتي به الاستعمار أو الكفار أو الإفرنجة هو من الكفر ولا يجوز الأخذ به!!؟ وهنا يتوجب علينا ترك كل التقنيات الحديثة من الكهرباء حتى العلاج بالليزر على اعتبارها من ابتكارات العقل الاستعماري حسب رأي الفقيه ابن الصديق!! الذي يذهب في دعم رأيه في التحريم بالقول(التمثيل من اللهو الباطل واللعب المذموم شرعا وعقلا حيث يذهب الممثلون .... إلى تقمص أدوار تحط من إنسانيتهم فيصبحون قردة وخنازير..).

ويخلص ابن الصديق إلى القول إن التمثيل هو من قلة الحياء والإخلال بالمروءة وضياع للوقت ووسيلة لتبذير المال وما يقوم به الممثلون هو حرام ملعون محرم شرعا(7) أما الأسباب الخاصة في التحريم فهي تلك التي تخص تمثيل الأشخاص المعينين أو غير المعينين، ويسوق في ذلك العيد من أخبار الصحابة وعن نهي الرسول(ص) لهذا الفعل الشائن ويختم ابن الصديق هذا الباب بفتوى (ليس هناك باطل على وجه الأرض أبطل من التمثيل)!!. والغريب في الآمر أن ابن الصديق قد بنى مناقشته لفن التمثيل على اعتبارات عدم التميز بين الواقع والخيال الذي يعتمده فن التمثيل أساسا في بنيته التكوينية، ولا يمكن الخلط بين مفهومين متناقضين في مناقشة موضوع واحد!! فهل يمكن مساواة الماء بالنار؟ وهل يجوز معاملة المتناقضات على درجة حكم واحدة!؟ وكما ذكرت فقد اختلف علماء الدين في تفسير موضوع التشبه ومدى حرمته فقد ذكر السيد حسن الشيرازي (قدس) في كتابه (الشعائر الحسينية)(8) الكثير من مواضع التشبه الإيجابي في القرآن الكريم، كتشبه نور الله تعالى بمشكاة. وفي كثير من الأحاديث الصحيحة تشبيه الأمام علي (ع) بالأسد أو يعسوب النحل وتارة بالزناد القادح، وفي موضوع التشبه أيضا يفرق الأمام بين التشبه الدائم والمؤقت، فالتشبه الدائم هو حرام ومكروه ونص عليه الحديث الشريف (لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال) وفي حديث أخر(لعن الله المخنثين من الرجال المتشبهين بالنساء والمترجلات من النساء المتشبهات بالرجال) وهذه الأحاديث تنهى عن التشبه الدائم، أما التشبه المؤقت فهو ما يحصل في حالات التمثيل الشائعة اليوم ويورد السيد الشيرازي نصا واضحا بالقول (لا مانع من تشبه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال في التمثيل)(9). ولكن هذا الرأي العلمي المفتوح تقابله العديد من الآراء المتشددة المغلقة التي ترفض مجرد مناقشته وتصر على التحريم المطلق لهذا الفن، فيذكر الشيخ يوسف البدري، عضو مجمع البحوث الإسلامية ومفتي الشارقة السابق: التمثيل نفسه ليس له هدف إسلامي فالإسلام عندما جاء حرم هذا الفن تماما.. والسيدة عائشة كانت تشكو للرسول(ص) من امرأة ظلت تحاكيها وتفعل مثلما تفعل فقال (مه يا عائشة.. أي توقفي، إن الله قد نهانا أن يحاكي بعضنا البعض ونتشبه بالآخرين). وقد أجمع علماء المسلمين على تحريم تقديم الشخصيات الإسلامية في أعمال فنية، ومن ينادي بأن هذه الأعمال تعطي صورة للإسلام وتساعد الغرب على فهمه واعتناقه أيضا أقول هذا هراء.. فهل الذين أسلموا في أمريكا كلهم شاهدوا مسرحية أو فيلما عن الإسلام؟ وأفلام صلاح الدين والشيماء، ماذا فعلت للإسلام؟ هل زادت معدلات المسلمين بعد عرضهما؟ وهوليوود قدمت أكثر من 1500 فيلم يسب الإسلام والمسلمين ومع ذلك أسلم الكثيرون بلا أفلام أو أعمال درامية، وعندما كنت في نيويورك جلست مع بعضهم وقالوا لي إننا قرأنا عن الإسلام الكثير بشكل أذهلنا وشرح صدورنا، فكان اختيارنا الشخصي لدخول الإسلام ولم يقولوا شاهدنا فيلم كذا(10). والذي يتفحص رأي الشيخ البدري يجده مليئاً بالسطحية والانفعالية واستخدام المفردات التي لا تعبر عن روح التسامح الإسلامية الرفيعة، فضلا عن استخداماته لأدلة غير علمية ولا تجوز في البحث العلمي من قريب أو بعيد كقوله(جلست مع بعضهم وقالوا لي)!! وإذا كانت هوليوود أنتجت 1500 فيلم ضد الإسلام والمسلمين كما يقول البدري أفلا يجدر بالمسلمين أن ينتجوا أفلاما وبرامجيات تدافع عن الإسلام أو تزيح هذه الصورة السيئة التي لحقت بهم من جراء ماكنة الدعاية المضادة الموجهة ضدهم؟ خاصة إذا ما عرفنا مدى التأثير الفعال الذي تحدثه وسائل الإعلام في تغيير الرأي العام في كل مكان وخاصة في العالم الغربي الذي يعتبر الإعلام جزءاً من مفرداته اليومية.

الأفلام الدينية

يرى بعضهم أن مصطلح الفيلم الديني مصطلح مشوش ومتداخل مع مصطلحات أخرى كالفيلم التاريخي أو الأسطوري أو فيلم الأزياء، ولعل أقرب تعريف للفيلم الديني قد جاء في معجم الفن السينمائي بخصوص الفيلم التاريخي الذي نص على(أنه فيلم يصور الأحداث التاريخية التي وقعت في مرحلة أو أكثر من مراحل التاريخ. وهو الفيلم الذي يعرض مسيرة بطل من أبطال التاريخ الذين لعبوا دورا خطيرا، في عصر من العصور الماضية. وقد يكون موضوع الفيلم مأخوذا من واقع الحياة أو مؤلفا من وحي الخيال. وقد يتعرض الفيلم لمرحلة معينة، في عصر من العصور، أو ترجمة علم من أعلام التاريخ، أو قصة من روائع الأدب العالمي، التي تعرض صورة من حياة الماضي البعيد أو القريب(11)، ومن يستقرئ هذا التعريف يجد تداخلا في مضامين المصطلحين فالفيلم الديني لا تخرج موضوعاته عن ما ذكره التعريف أعلاه فهو غالبا ما يتناول مرحلة معينة من التاريخ الإسلامي أو يترجم لحياة علم من أعلام الإسلام أو ولي من أولياء الله الصالحين أو قصة من القصص التي تتناول جانباً معيناً من الدعوة الإسلامية، وهي ذات الموضوعات التي تناولتها السينما المصرية عبر اثني عشر فيلما للفترة ما بين 1951ـ 1972 . ومنذ عام 1972 توقفت مصر عن إنتاج هذا النوع من الأفلام، ولم ينتج بعد هذا التاريخ سوى فيلم الرسالة للمخرج مصطفى العقاد السوري الأصل والأمريكي الجنسية والذي يعد اضخم إنتاج سينمائي يتناول موضوعا دينيا عن الإسلام، وكذلك فيلم القادسية للمخرج صلاح أبو سيف، ولا يمكن حسابه على قائمة الأفلام الدينية بل يمكن ضمه إلى قائمة الفيلم التاريخي.

إن قراءة موضوعية للدوافع الحقيقية وراء إنتاج هذه الأفلام تضعنا أمام الكثير من التساؤلات التي تكشف الإجابة عنها حقيقة التخلف الفني والإنتاجي التي تعرضت له السينما العربية عبر مسيرتها التاريخية التي قاربت القرن من الزمان. هذه المسيرة التي تكشف المصادر التي تناولت تاريخ السينما العربية أنها اعتمدت الحماسة والمبادرة الفردية أكثر من اعتمادها على الدولة أو المؤسسة الرسمية، وبالتالي فقد تأثرت بصورة رئيسية بالمتغيرات التي تطرأ على هؤلاء المبادرين وحماستهم من ظروف حياتية أو مادية. وإذا كان ذلك هو حال السينما عموما فكيف هو الحال مع السينما المعنية بالموضوعة الدينية؟

فيلم الرسالة:

يعد فيلم الرسالة الذي أنتجه وأخرجه الفنان الأمريكي الجنسية والسوري الأصل (مصطفى العقاد) من أفضل الأفلام الدينية العربية التي أنتجت في تاريخ السينما، ولذلك للاستعدادات الكبيرة التي قام بها المخرج وانتقائه أفضل الكفاءات الفنية من ممثلين ومصورين وديكورات وأزياء ومواقع تصوير، وقد حرص المخرج على الحصول على موافقة الأزهر على سيناريو الفيلم الذي اشترك في كتابة السيناريو والحوار له أدباء مصر الكبار(توفيق الحكيم) و(يوسف أدريس) فضلا عن المخرج نفسه. ومنذ البداية خطط العقاد إلى تجاوز المشكلة الكبيرة التي واجهت معظم منتجي الأفلام الدينية السابقة وهي تقديم الفيلم باللغة الأجنبية، ولكن هذه المرة ليس بطريقة الدبلجة وإنما بطريقة إنتاج الفيلم مرة ثانية بممثلين أجانب، مستثمرا جميع مواقع التصوير السابقة والديكورات وما إلى ذلك. وقد أظهرت هذه الطريقة قدرة الممثل العربي على القيام بدوره على أفضل وجه وبما لا يقل كفاءة عن زميله العالمي، بل أن الكثير من النقاد العرب والأجانب أشاروا إلى هذا الموضوع فضلا عن تصريحات الممثلين الأجانب أنفسهم. ولعل مرد ذلك كله إلى الإحساس العميق الذي شعر به الممثل العربي في تقديمه لموضوعة الفيلم ومسؤوليته كمسلم وعربي إزاء هذا الموضوع، وهو ما صرح به أغلب المشاركين في الفيلم. كما كشف الفيلم عبر موضوعه المحبك عظمة هذا الدين وقدرته في البقاء والانتشار ورفضه لكل أشكال العنف ودعوته للتسامح. ورغم كل ذلك فإن الفيلم مازال ممنوعا من العرض في مصر من قبل لجنة الرقابة على المصنفات الفنية في الأزهر بدعوى ظهور العديد من الشخصيات الإسلامية في الفيلم وهو ما يتنافى وتعليمات الأزهر بمنع ظهور هذه الشخصيات مطلقا في الأعمال الفنية. وفي هذا السياق يذكر مخرج فيلم الرسالة مصطفى العقاد في معرض رده عن منع عرض الفيلم في مصر من قبل الأزهر(قد لا يعلم الكثيرون أنني أحمل موافقة لجنة الأزهر على سيناريو فيلم الرسالة. وأن العمل جيد وقد مكثت سنة كاملة في القاهرة في بداية السبعينات للإعداد لسيناريو الفيلم مع كبار الكتاب مثل توفيق الحكيم، ويوسف إدريس، فأنا مسلم، عربي لا أستطيع الإساءة للإسلام. ولهذا حرصت أن يخرج العمل في أفضل صورة ممكنة سواء من ناحية القصة والسيناريو. أو ناحية التصوير وفريق الممثلين والإخراج. هل يعلم المصرون على المنع أنه بعد أحداث 11 سبتمبر تم بيع 100 ألف نسخة من فيلم الرسالة للقوات الأمريكية وأجرت معهم إحدى المجلات حوارا لمعرفة سبب ذلك فقالوا إنهم أرادوا معرفة الإسلام فمنهم من اشترى كتبا وآخرون اشتروا أفلاما. أنا أقول للذين يرون في منع ظهور تلك الشخصيات حماية لأصول الدين. إن الحياة تتغير وأساليب الدعوة في الماضي كانت مختلفة، وإلا فعلينا أن نمتنع عن استخدام أساليب التكنولوجيا الحديثة لأنها لم تكن موجودة في عهد النبي)(12) ولم يلتفت الأزهر للتأثير المذهل الذي أحدثه الفيلم منذ عرضه في بداية الثمانينيات ولغاية الآن وظل الجدل قائما بين الذين يرون أهمية عرض وإنتاج هذه الأعمال وبين رجال الدين في الأزهر الذين يصرون على المنع مهما تكن المبررات!!. وربما السؤال الأكثر أهمية في هذا الباب هو: لماذا تراجع الأزهر عن موافقته التي أعطاها للمخرج من قبل؟ ولماذا هذا الإصرار على منع هذه الأفلام على الرغم من النجاح الذي تحققها على مستوى الإقبال الجماهيري عليها؟ ولماذا لا يجري الأزهر دراسات لقياس أثر هذه الأفلام على المشاهد العربي؟

ويمكن أن نستنتج مما سبق بعض النقاط منها:

1-أن معظم الأفلام (عينة الدراسة) ولدت بطريقة قيصرية ومن خلال مبادرات شخصية وبدوافع مختلفة، ولم تبادر أي جهة رسمية أو دينية إلى تبني مثل هذه المشاريع وغالبا ما كانت المؤسسة الدينية تقف حجر عثرة أمام هذه الأفلام.

2-أن سبب توقف إنتاج هذه الأفلام هو العراقيل الكثيرة التي وضعتها المؤسسة الدينية في مصر البلد العربي الوحيد الذي ما زالت فيه صناعة السينما مستمرة.

3-عدم توفر المنتج العربي الذي له القدرة على المغامرة في إنتاج هذه الأفلام وانصرافهم إلى شراء وتأسيس القنوات الفضائية ذات الربح السريع والمضمون.

4-خوف بعض علماء الدين من الخروج على أراء السلفية الإسلامية المتشددة في هذا الباب وإصدارهم لفتاوى تقترب من مسك العصا من المنتصف.

5-هيمنة الخطاب الديني المتشدد على المؤسسة الرسمية العربية أعاق كثيرا من فرص إنتاج الجديد من هذه الأفلام.

6-ليس هناك في الأفق فرصة لتكرار إنتاج هذه الأعمال في العالم العربي مرة أخرى بسبب القوانين الرقابية المتشددة وخوف السينمائي العربي من الإقدام على هكذا أعمال، والفرصة الوحيدة المتوقعة ستكون من خلال السينما العالمية كما حدث مع الفنان مصطفى العقاد.

* باحث عراقي مقيم في السويد

[email protected]

 


(1) محمد نور الدين أفاية، السينما.. الكتابة والهوية، مجلة الوحدة، أكتوبر/ نوفمبر،الرباط، 1987،ص27.

(2) سمير نعيم أحمدـ علم الاجتماع القانوني ـ دار المعارف، القاهرة، ص2،د.ت،ص13.

(3) قدري حنفي، ملامح البطل في الأفلام المصرية في (هاشم النحاس محررا) الإنسان المصري على الشاشة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ،ص18، 1986.

(4) محمد صلاح الدين، الدين والعقيدة في السينما المصرية، ط1، مكتبة مدبولي، 1998م،19.

(5) حسن بحراوي، الإسلام والمسرح، إقامة الدليل في حرمة التمثيل، دراسة منشورة على الانترنيت في موقع مسرحيون www.masraheoon.comبتاريخ 25/8/2003.

(6) المصدر السابق.

(7) المصدر السابق.

(8) الإمام حسن الشيرازي، الشعائر الحسينية، ط5، مؤسسة الإمامة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، عام 2000 ،ص 112.

(9) المصدر السابق، ص 122.

(10) منى مدكور، الأعمال الدينية بين الرفض والقبول واعتراض الرقابة وساحات المحاكم، صحيفة الشرق الأوسط، العدد 8796، بتاريخ 8/11/2002، ص13.

(11) المصدر السابق.

(12) منى مدكور، مصدر سابق.

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

العــدد 70

إتصــلوا بـنـــا