ردك على هذا الموضوع

بحوث ودراسات

الإمام الشيرازي.. ومشروعية التدخل لحماية الحقوق الإنسانية

الشيخ علي عبد الرضا

في ظروف لم تكن طبيعية من مختلف جهاتها وبعد انقطاع طويل عن إجراء اللقاءات الصحفية المباشرة دخل شخصان بيت الإمام الشيرازي (قدس سره) وطلبا إذناً لعقد لقاء صحفي مع سماحته(قدس سره). بعد أن عّرف الأول نفسه بأنه يعمل في صحيفة بريطانية فيما قال الثاني أنه صحفي إيراني وصديق قديم للبريطاني مهمته الإرشاد والترجمة. وعندما رد عليهم أحد العاملين في المكتب بأن اللقاءات الصحفية قد تكون لها مردودات سلبية على سماحته في مثل هكذا ظروف! وأن سماحته قد ابتعد عن هكذا نوع من الأضواء الإعلامية ولا يريد أن يفتح باب قد يستغلها الآخرون للضغط عليه والحصول على التأييد والمباركة لهذا الشخص أو تلك الخطوة(1)، طلب الصحفي البريطاني التعرف على سماحته عن قرب فقيل له لا مانع في ذلك. وبعد مضي ساعة ونصف تقريبا دخل الصحفيان الإيراني والبريطاني مع الزائرين لسماحته في الساعة أو الساعتين اللتين تسبقان صلاة المغرب حيث اعتاد سماحته (قدس سره) الجلوس في هذا الوقت لقضاء حوائج الناس أو الرد على استفساراتهم وأسئلتهم. .

 في ذلك اليوم لم يكن الحضور كبيراً فسرعان ما فرغت الغرفة من الزائرين، حينها استغل الصحفي البريطاني هذا الظرف وسأل الإمام عدة أسئلة ذات طابع عام ولا تحمل بعداً سياسياً خاصاً.

 وقد أجاب الإمام بالكامل على أسئلة الصحفي البريطاني وخصوصاً تلك المختصة بجهاد المرجعية والدور الكبير الذي لعبه الميرزا الشيخ محمد تقي الشيرازي في التصدي للغزو البريطاني للعراق وأثر ذلك على استقلال العراق فيما بعد، كما أجاب سماحته على بعض الأسئلة المرتبطة بالمرأة، وأخرى عن الارتداد، وقضية سلمان رشدي.. وبما أن هذه الأمور وغيرها لا تتعلق بموضوعنا فسنتركها لمناسبات أخرى ونكتفي بما يتعلق بالمسائل القانونية والحقوقية والإنسانية ومسائل الدفاع عن المظلومين والمستضعفين والدور الذي تلعبه الأمم المتحدة وبعض المؤسسات التابعة لها في إقرار العدل ومحاسبة المعتدي...

والسؤال كان بهذه الصيغة: ما هو رأيكم بالأمم المتحدة والهيئات التابعة لها؟ وهل تستطيع هذه المؤسسات السيطرة على النزاعات الدولية؟ وهل نجحت في الدفاع عن حقوق الأقليات الدينية والعرقية المضطهدة في العالم؟ وكيف السبيل لإنجاح هذه المؤسسة وإعطائها الدور الرائد في حل وإصلاح مختلف المشاكل العالمية؟

ابتدأ الإمام كلامه بنظرة فاحصة على تاريخ نشوء هذه المؤسسة التي قامت على أنقاض عصبة الأمم المتحدة والأطراف المستفيدة من هذه الهيئة، ولماذا لم تنجح في إيجاد عالم يسوده الأمن والاستقرار والطمأنينة، وقال: قد تطرقت إلى هذه الهيئة والقوانين الحاكمة فيها والإشكالات الواردة عليها في كتاب (الفقه: الحقوق) وكذلك في كتاب (الفقه: القانون)(2) الذي فصلت فيه بعض الانتقادات والإشكالات التي حالت دون تقدم هذه الهيئة في أعمالها ومشاريعها، واليوم أعود وأكرر ما قلته وكتبته سابقاً في محاضراتي وكتبي بأن:

* حق النقض (الفيتو) الذي أعطي لبعض الأعضاء دون غيرهم، يقسم العالم إلى أقوياء وضعفاء. وهذا ما يضعف أحد أكبر المؤسسات التابعة للهيئة واللازم أن يرفع هذا الحق من هؤلاء أو يعطى إلى البقية.

* قدرة الردع قد تكون مفقودة في أغلب قرارات هذه الهيئة ومجلسها؛ فالقرارات الصادرة منها وصلت الألف، أما التي نفذت والتي التزمت بها الأطراف المعنية فلم تتجاوز عدد أصابع اليد، والسبب يعود إلى أن الأطراف المعنية لا ترى في قرارات الأمم المتحدة ومجلسها غير كلمات التنديد والشجب والإدانة أو الدعوة للحوار والتهدئة وهذه لا تشبع الأطراف المتضررة، ولا ترضي من وقع عليه الظلم؛ فقوة الردع ضرورية لإرجاع الأمور إلى مجاريها الطبيعية وردع وإخافة كل من تسول له نفسه بالتعدي مستقبلاً على خصمه أو جاره أو معارضيه.

* الانتقائية ما زالت هي الحاكمة في قرارات مجلس الأمن أو الهيئة العامة؛ فهناك الكثير من الأقليات والعرقيات ما زالت تلاقي مختلف أنواع الاضطهاد والتعسف، وأصواتها لم تلق آذاناً صاغية من قبل أغلب المؤسسات. نعم هناك دعم وحماية لبعض الأقليات المضطهدة لا لكونها لاقت الويل من ظالميها وإنما لوجود السند والدعم من الأطراف الفاعلة والنافذة في قرارات الهيئة ومجلسها، في حين أن هناك الكثير من الأقليات وقع عليها تعدي وتعسف مشهود للجميع، ولكن صوتها ظل يدور في حدود ضيقة لا تتعدى خيالها.

وإذا أريد لهذه الهيئة حقاً الدفاع عن المظلومين والمضطهدين فعليها عدم التفريق بين المظلومين لأسباب سياسية أو دينية أو غيرها.

* والمسألة الأخرى المهمة التي لم تلتفت إليها الأمم المتحدة هي مسألة الدفاع عن الشعوب المضطهدة والمظلومة؛ فالفرد إن وقع عليه تعدٍ وظلم وهضم للحقوق فهناك محاكم وقضاة يأخذون له حقه ويدافعون عنه، كما أن الخلافات الدولية لها محكمة خاصة بها يرجع إليها الأعضاء عند الاختلاف والتنازع أمثال محكمة (لاهاي) ولكن من يدافع عن الشعب إن وقع عليه ظلم الحاكم وتعسف الجائر؟ هذه المسألة لا تنظر إليها الأمم المتحدة بجد، ولا تأخذها بحكم المسؤولية الملقاة على عاتقها باعتبارها أكبر تجمع دولي ترجع إليه الشعوب المقهورة، فالكثير من الأعضاء إلى الآن يرفضون التدخل لحماية الشعوب من جلاديها، ويرون ذلك تدخلاً في شؤون تلك الدولة ويعتبرونه خطاً أحمراً لا يجوز تعديه أو الاقتراب منه.

وأضاف: الآن الشعب العراقي بجميع طبقاته يتعرض لأبشع المجازر والانتهاكات والكل يعرف ذلك - دولاً، مؤسسات، شعوباً وإعلاماً – من منهم وقف مدافعاً عن هذا الشعب وأخذ بحقه من هذا الجلاد الجائر؟ وأبسط ما يقال لنا عندما نطلب منهم الدفاع عن هذا الشعب إنها مسألة داخلية لا تعنينا ولا يجوز لنا التدخل فيها كما لا يجوز للعراق التدخل في شؤوننا.

إن الإسلام يحثنا ليس للدفاع عن المستضعف فحسب وإنما للقتال والحرب وتخليصه من يد المستكبر أيضاً، حيث تقول الآية الشريفة: (و ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين) (3) فالحق تعالى يدعونا للقتال وهو أعلى مراحل المواجهة لإنقاذ المستضعف وتخليصه من أيدي الجبابرة. وهذا قانون إلهي وعقلي يدعوك للدفاع عن المظلوم أينما كان.

ثم لماذا المحاكم تشكل وتعقد لمجرمي الحرب فقط ولا تقام لظلاّم الشعوب مع أن فسادهم ودمارهم أكبر وأوسع؟ وهل تعرف صحيفتكم - موجهاً كلامه للصحفي - والأمم المتحدة الرقم الحقيقي لضحايا شعب العراق الذين قتلوا وعذبوا في سجون العراق؟ الأرقام الحقيقية تتعدى مئات الآلاف من الشعب العراقي فقط، أما من الدول الجارة فتجاوزت المليون في الحرب مع إيران. أليس من الواجب على كل أصحاب الضمائر الحية، والإنسانية أن تثأر لهؤلاء المظلومين وتدافع عنهم؟ أليس من أدنى واجباتنا نحوهم تشكيل محكمة لمحاكمة هذا الظالم، ونصرة المظلومين الذين قتلوا والقابعين حاليا في ظلام المطامير؟

عند هذه النقطة قال الصحفي البريطاني: القرارات والمحاكم الدولية والمنظمات الحقوقية غالباً ما تكون أسيرة لرغبات بعض القوى الدولية الكبرى ومتى ارتأت هذه الدول إثارة المسائل الإنسانية في وجه دولة ما، تحرك خيوطها وخطوطها في هذه المنظمات والمؤسسات.

وأجاب سماحته (قدس سره): (هذا إشكال آخر يضاف على الأمم المتحدة والتشكيلات التابعة لها، فهي لم تعمل بجد لخلق وإيجاد التعددية المطلوبة التي تساعدها على إيجاد المصداقية في قوانينها والقرارات المنبثقة من مؤسساتها أو المنظمات المنضوية تحتها، أما هيمنة ونفوذ بعض الدول على مراكز القرار في هذه المنظمة فينبع من الضعف في هياكلها وتشكيلاتها، فالخلل إذن ليس في القانون الذي تطبقه وتنفذه بعض الدول وفق رغباتها وأهوائها وإنما في الثغرات الموجودة. في المؤسسة والتي سمحت لهذا القطب أو تلك القوة في الهيمنة على مراكز القرار.

ومن هذا المنطلق على الأمم المتحدة أن تعمل جاهدة على تقوية المؤسسات التابعة لها، وتسارع في تشكيل محاكم خاصة للحكام الطغاة الظلمة الذين يضطهدون شعوبهم ويدمرون قدرات بلادهم، كما أن لبعض المؤسسات الحقوقية والإنسانية دور كبير في مراقبة ومحاسبة الحكومات الظالمة والمستبدة قبل أن تستفحل الأمور، وينزل العذاب والويل على كل الشعب.

ولا أظن أن هناك عاقلاً يرفض وجود مؤسسة قوية مستقلة تدافع عن المظلوم والمستضعف على اختلاف توجهاتهم الدينية والمذهبية والقومية والعرقية، وهذا ما نسعى لإيجاده وتقويته لكي يعم السلام والأمن والاستقرار جميع بقاع المعمورة.

وهنا أيضاً تداخل الصحفي البريطاني وقال للإمام(قدس سره): بأن الدول الممولة للأمم المتحدة كثيراً ما تفرض شروطها وتوسع نفوذها قبل أن تقدم المعونة، وهذا ما يضعف المؤسسة ويقلل من فائدتها.

فأجابه (قدس سره) بأن الأمم المتحدة تهدر أموالها على القوات التابعة لها والمبعثرة في أغلب بؤر النزاع في العالم، وبعضها لا زال يكلف الميزانية العامة الملايين ومنذ عشرات السنين، في حين كان من المفروض على الأمم المتحدة خلق حالة من الردع القوية تنهي بها كل النزاعات والصراعات بين الدول بدون الحاجة إلى قوات دولية للفصل أو المراقبة، وإذا ارتفع هذا العبء منها فستكون الاشتراكات التي تعطيها كل الدول المنضوية تحتها كافية لإدارة شؤون الهيئة والمؤسسات التابعه لها.

إلى هنا اكتفي بما دار بين الإمام (قدس سره) والصحفي البريطاني، لأتذكر عبارة مختصرة قالها(قدس سره) للصحفي بأن الشعوب وبعض المؤسسات قد وصلت إلى حالة فريدة ومستوى عال من الرقي على مختلف المستويات والصعد وهي ستعمل على إيجاد قوانين دولية تحمي الشعوب من ظالميها وستشكل محاكم للجناة والسراق وناهبي الحقوق العامة والخاصة في القريب العاجل.

 هذه العبارة تذكرتها عام 1999 وأنا في سوريا عندما كنت أبحث في موضوع السيادة الوطنية ومشروعية التدخلات الدولية لحماية الشعوب المظلومة، يومها حصلت على بعض الطروحات والقوانين التي سنتها الأمم المتحدة لحماية الشعوب من حكامها الظلمة، فاتصلت بالإمام الشيرازي (قدس سره) تلفونياً وذكرت له المشروع الذي طرحه كوفي أنان على الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الرابعة والخمسين حيث اعتبر أن السيادة لم تعد خاصة بالدولة القومية التي تعتبر أساس العلاقات الدولية المعاصرة ولكن تتعلق بالأفراد أنفسهم، وهي تعني الحريات الأساسية لكل فرد والمنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، وبالتالي فهو يدعو إلى حماية الوجود الإنساني للأفراد وليس حماية الذين ينتهكونها، ويوضح أن المطلوب الآن هو الوصول إلى إجماع ليس على إدانة انتهاكات حقوق الإنسان، باعتبار أنه متحقق نظرياً، ولكنه إجماع على الوسائل التي تحدد أي الأعمال ضروري ومتى ومن يقوم به؟

وقلت لسماحته (قدس سره) بأن هذا المشروع قد أزال العقبات أمام المنظمات الدولية لكي تباشر أعمالها في مشروع التدخل لوقف انتهاكات حقوق الإنسان دون تفويض من الأمم المتحدة.

 يومها استبشر سماحته بهذا المشروع واعتبره نصراً فريداً للحقوق الإنسانية وبداية النهاية لاستبداد الحكام وطغيانهم، ولم يستبعد أن يكون صدام حسين ونظامه أول الأسماء في قائمة الدول المنتهكة لحقوق الإنسان، وأول من تطالهم يد العدالة ليعيش العراق حراً سعيداً(4).

فقلت: سيدنا أنا لا أشك في أن ما ذكرتموه في كتاباتكم ووضحتموه في خطاباتكم الخاصة والعامة له الأثر البالغ في إقرار هذا المشروع وإظهاره إلى الوجود، وسوف يكتب لسماحتكم بكل كلمة قلتموها وخطوة خطوتموها أجر جزيل، هذا بالإضافة إلى الثواب العظيم عندما يطبق المشروع تطبيقاً سليماً، وترتفع من خلاله كافة التعديات وترجع الحقوق إلى أصحابها كاملة إنشاء الله.

نعم، في ذلك الوقت كتبت موضوعاً مفصلاً في مجلة النبأ تحت عنوان (السيادة الوطنية.. تحديات الوصاية ومشروعية التدخلات) تطرقت فيه إلى أهمية إيجاد محاكم لمعاقبة الحكام الظلمة والإسراع في إيجاد آلية للدفاع عن المظلومين والمستضعفين.

واليوم بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لرحيل المجدد الثاني الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس الله نفسه الزكية) أعيد الموضوع مختصراً مع بعض الإضافات والتعديلات لما له من فائدة وأثر بالغ في تأصيل هذه الفكرة الفريدة التي أرسى قواعدها إمامنا الراحل (قدس سره) وأخرجها إلى الوجود في حلة جديدة سترفع الحيف عن كل المظلومين والمضطهدين(5).

 السيادة.. نظرة إلى الوراء:

اختلفت آراء رجال القانون والحقوق في تحديد مفهوم السيادة؛ فذهب بعضهم إلى أنها الملك، وقال آخرون إنها الشعب، وقالت طائفة منهم إنها البرلمان..

أرسطو يرى أنها (السلطة العليا) في الدولة، والمفكر الفرنسي جان بودان يفسرها بأنها السلطة العليا المعترف بها والمسيطرة على المواطنين والرعايا دون تقييد قانوني، ما عدا القيود التي تفرضها القوانين الطبيعية والشرائع السماوية.

أما المفكر الإنكليزي هوبز فيقول بأن الإنسان مصلحي وذاتي التفكير ولا يحافظ على عهوده وعقوده ولا يطيع قوانين المجتمع إذا لم ينسجم ذلك مع مصالحه. ومن هنا فالصدام بين الفئات الاجتماعية ليس صدفة بل هو تهديد قائم الاحتمال باستمرار، وبالتالي فقد نشأت الحاجة إلى سلطة عليا تستطيع أن تفرض النظام والسلم الاجتماعي على مجموعات قد لا تتجه نحو العيش بسلام وانسجام مع بعضها البعض، وبالتالي فإن سلطة الدولة وسيادتها ضرورية للبقاء، ولا يمكن نقض العقد الاجتماعي الأصيل الذي تضمن التنازل عن الحقوق الطبيعية لصالح الدولة، ولأن الحاجة لمثل هذا التنازل ضرورة مستمرة لضمان السلم الاجتماعي والحياة الجيدة.

أما جون أوستن فقد انطلق من ضرورة وجود السيادة، وبالتالي وجود جهة معينة تمتلكها غير مجزأة وغير مقيدة قانونياً لأنها مخولة بتشريع القوانين.

وخلاصة هذا الرأي أن السلطة المطلقة قُدِمتْ للحاكم على طبق من ذهب ليكون محور السيادة والكيان العام، وكل تعدٍ على هذه السيادة يُعد تعدياً على هيبة الحاكم وقدسيته، أما الشعب فلا يعدو كونه خادماً ومطيعاً للحاكم ولجميع قراراته وإن خالفت المجموع العام.

ولا يستبعد أن يكون هذا الرأي، الأساس الذي ابتنيت عليه مواثيق منظمة الأمم المتحدة حيث نصت الفقرة السابعة من المادة الثانية على ما يلي: (ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما، وليس فيه ما يقتضي من الأعضاء أن يعرفوا مثل هذه المسائل لأن تحل بحكم هذا الميثاق).

أما الرأي الآخر الذي يدعو إلى سيادة (الشعب)، ويحّمل الحكام مسؤولية أي انتهاك للحقوق، ويسمح للشعب بمقاومة حكامه عند ظهور بوادر انحراف واضطهاد، فقام على أكتاف جان جاك روسو واضع اصطلاح (السيادة الشعبية) الذي يدعو إلى توزيع السيادة بين جميع أفراد الشعب، على أساس المساواة بدون تفريق أو استثناء، إلا ما يكون ناجماً عن صغر السن أو فقدان الأهلية أو من جراء الأمراض العقلية أو الأحكام القضائية، بحيث تصبح السيادة في هذه الحالة، سيادة مجزأة بين العدد الأكبر، وبعبارة أخرى فإن السيادة برأي روسو وأتباعه، هي جمع أصوات المواطنين كافة، لاستخراج الأكثرية منها، وإعطاء الأرجحية لها ويقدم روسو مثالاً على هذا النوع من السيادة فيقول: إننا إذا افترضنا أن شعب الدولة مؤلف من عشرة آلاف مواطن، فلا يكون في هذه الحالة لكل مواطن سوى جزء واحد من عشرة آلاف جزء، التي تتألف منها السلطة السيدة.. وهذا الاعتبار لا يعني بنظر روسو، أن السيادة مجزأة، إذ يقول: (لا يمكن النظر إلى السيد إلا بشكله الجماعي الجسمي، والسيد هنا هو الشعب). بل يرى أن الذين يتولون ممارسة سيادة هذا السيد - أي الشعب - إنما يتجزأون، في حق كل منهم بممارسة هذه السيادة. وعن هذا الرأي انبثقت نظرية سيادة العمال والفلاحين (البروليتاريا).

أنان والمفهوم الجديد للسيادة:

المشروع الذي طرحه كوفي أنان على الجمعية العامة في دورتها الرابعة والخمسين الذي اعتبر فيه أن السيادة لم تعد خاصة بالدولة القومية التي تعتبر أساس العلاقات الدولية المعاصرة ولكن تتعلق بالأفراد أنفسهم، وهي تعني الحريات الأساسية لكل فرد والمحفوظة من قبل ميثاق الأمم المتحدة. وبالتالي فهو يدعو إلى حماية الوجود الإنساني للأفراد، وليس حماية الذين ينتهكونها، ويوضح أن المطلوب الآن هو الوصول إلى إجماع ليس على إدانة انتهاكات حقوق الإنسان، باعتبار أنه متحقق نظرياً، ولكنه إجماع على الوسائل التي تحدد أي الأعمال ضرورية، ومتى، ومن يقوم بها؟

وبهذا الطريق يكون أنان قد أزال العقبات أمام المنظمات الدولية لكي تباشر أعمالها في مشروع التدخل لوقف انتهاكات حقوق الإنسان دون تفويض من الأمم المتحدة.

وعلى ضوء ما تقدم يكون أنان قد أعطى مفهوما جديداً للسيادة وهو (الحفاظ على حقوق الأفراد في السيطرة على مصيرهم)، أما الدولة فمهمتها فقط وفقط (حراسة حقوق الأفراد)، وبهذا التعريف انسحب البساط عن الحكم والحكومة ونزعت منها كافة القيم المرجعية والأخلاقية، وأعطيت للفرد.

وقبل أنان بعقدين من الزمن تقريبا قام (ميرفن فروست) أحد أهم منظري موضوعة القيم في العلاقات الدولية بتأسيس مبدأ جديد للتدخل الإنساني يقوم على فكرة التفريق بين الحقوق (المدنية) و(المواطنية) وحدد لذلك معايير وقيما ثابتة، على ضوئها تتحدد مهمة التدخل أو عدم التدخل فيقول: (الفرد هو مواطن في المجتمع السيادي القومي، وهو مدني في المجتمع المعولم، له حزمتا حقوق: واحدة منسوبة إلى صفته كمواطن تابع قانونياً لدولة، وأخرى منسوبة لصفته كمدني معولم غير معروف بهويته القومية. حزمة حقوقه كمواطن تتضمن امتيازاته القانونية التي ينص عليها دستور الدولة التابع لها، ومن ضمن ذلك حقه في المساواة مع سائر المواطنين، وحقه في التصويت والانتخاب، وحقه في الوصول إلى المعلومات، وهذه الحقوق جميعاً تقع في دائرة التسيّس والسياسة، أما حزمة حقوقه كمدني فتتضمن ما يعرف بـ‍(الجيل الأول) من حقوق الإنسان، ومن ذلك حقه في العيش وعدم التعرض للقتل أو الإبادة، وحقه في الحرية، وحقه في أن لا يتعرض للتمييز بسبب لونه أو عرقه أو دينه، وهذه الحقوق يجب أن لا تقع في دائرة التسيّس بل هي غير مسيّسة إن لم تكن فوق السياسة أصلاً. وإن مسؤولية المجتمع المدني المعولم تكمن في الحفاظ على حزمة الحقوق المدنية وضمان عدم انتهاكها في أي مكان في العالم، وان انتهاك هذه الحقوق هو بوصلة التدخل الإنساني ومعياره. أما انتهاك حزمة حقوق الفرد كمواطن فلا تستوجب تدخلا إنسانياً خارجياً، أي إن التدخل مسموح به، بل هو واجب، إذا تعرض أفراد أية دولة إلى إبادة عنصرية أو دينية أو حملات تمييز عنصري واسعة. أما إذا حرموا من حق التصويت أو الانتخاب، أو تعرضوا لنظام استبداد سياسي فان ذلك لا يبرر تماما التدخل الإنساني، لان ذلك يدخل في نطاق سيادة الدولة على مواطنيها).

سيادات.. ولكن ناقصة:

لا يمكن الإنكار بأن السيادة الكاملة والمحترمة التي تتحصن خلفها بعض الدول لا تتمتع بها الغالبية العظمى المنضوية تحت منظمة الأمم المتحدة، وكل عبارات انتهاك السيادة، والتعدي على حرمة الحدود القومية، ما هي إلا كلمة حق يراد بها باطل للتغطية على الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان.

فهناك حالات يتمتع بها الكيان السياسي لبعض الدول بسيادة خارجية دون سيادة داخلية، كما هو الحال بالنسبة لعدم تبعية مباني السفارات لسياسة الدولة المضيفة، وفي حالات أخرى تتمتع بعض المحميات بالسيادة الداخلية دون السيادة الخارجية، وهناك حالات يكون فيها الاستقلال مفقوداً كلياً أو جزئياً كالدول المستعمرة أو تلك التي تعتمد على المساعدات الاقتصادية الخارجية أو على الحماية العسكرية أو ما شابه من أوجه.

وهناك كيانات سياداتها ناقصة نتيجة لموافقتها على القوانين الدولية والمعاهدات العالمية حيث نظمت لبعضها قيوداً صارمة ورقابة دقيقة تحاسب كل من يخالف أو يخل بتعهداته أمثال تلك التي وقعت للمحافظة على البيئة أو الحد من الزيادات السكانية، فالحرية المطلقة التي عهدناها عند بعض الدول في ممارسة كل شيء بدون وازع أو رادع باتت مفقودة، وما كان مباحاً بالأمس، أصبح أغلبه محرماً اليوم، فهناك لجان وهيئات تعمل ليل نهار لمراقبة ومحاسبة كل من يتطاول على الحقوق المدنية والقضايا الإنسانية، وكل ذلك يحسب على السيادة شئنا أم أبينا.

وما دام العالم يشكل (قرية كونية واحدة) فان خريطة الحدود القومية باتت عديمة الفائدة ومخترقة من جميع اتجاهاتها، وكذلك ما تقوم به وسائل الإعلام المرئية من تعدي سافر على الثقافات والتقاليد والأعراف القومية يكشف عمق التحدي الذي ستواجهه الدول الصغيرة.

أما الذي يدور خلف كواليس المؤتمرات الدولية لإزالة الموانع والحواجز أمام تبادل البضائع وإيجاد نظام تجاري عالمي تتحكم فيه الشركات المتعددة الجنسيات وصناديق النقد الدولي والبنك الدولي، فهو الآخر انتهاك ومقدمة مفضوحة لرفع ما تبقى من شبح السيادة، إن كان هناك حقا أثر لسيادة!

بين الوطني والمستعمر:

أثيرت أخيراً وفي أكثر من منتدى سياسي وفكري مسألة إرجاع مبدأ (الوصاية) على بعض الدول لحماية شعوبها من اضطهاد حكامها، أو تخليصها من أتون الحروب الأهلية والصراعات العرقية، وقد ذهب البعض إلى الدعوة لعودة الاستعمار على ما يحمل من سلبيات، لأنه يبقى أقل شراً مما يحصل في بعض هذه الدول من انتهاك مستمر للحقوق المدنية والسياسية، ولعلّ ما يحدث في الصومال وأفغانستان وراوندا خير ما يسند الفكرة ويؤيدها، فعدد الضحايا في صراع الأطراف الداخلية في أفغانستان فاق أرقام سنوات الغزو السوفياتي لهذه الدولة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن هذه الشعوب لم تع بعد مفهوم الحرية ولا قيمة الاستقلال ولا بد لها من (وصي) يدير شؤونها ويسيّر أعمالها وإن كان هذا القيّم لا يحمل جنسية هذا البلد.

وباسم (السيادة الوطنية) التي يحتمي خلف ستارها عالم غريب الأطوار ارتكبت جرائم بشعة، ففي العالم الثالث تحولت معظم دول حركة التحرر الوطني نحو الاستبداد السياسي والديكتاتورية العسكرية، والأحادية الحزبية، وقمعت قوى المعارضة قمعاً عنيفا، ومورست أشكال متطرفة من الاستهتار بحقوق الإنسان، من اضطهاد الأقليات الدينية والاثنية ومن التصفية العرقية التي أخذت في بعض الحالات شكل إبادة حقيقية للجنس البشري، أليس من حق أصحاب هذا الرأي أن يترحموا على المستعمر القديم وأيام الانتداب؟!

أما الذي ذهب إلى عكس هذا الاتجاه فهو وإن سلّم بما طرح من أرقام ومعلومات إلا أن حسه القومي وشعوره الوطني يمنعه من التسليم بسهولة لأصحاب استجداء (الوصي) و(المستعمر) فهؤلاء يفضلون ابن البلد وإن كان مستبداً طاغياً.

وإبطال هذه الآراء لا يحتاج إلى جهد أو عناية خاصة، لأن المعايير والأسس التي قامت عليها آراء الطرفين واهية وعقيمة، في حين كان المفروض منهم التركيز على محيط آخر غير ما هم فيه ليوجدوا خيارات أخرى مناسبة تعيد صياغة الأوضاع وترفع الظلم عن الشعوب وتمنحها الحرية المنشودة.

ومن أولويات تلك المعايير، إيجاد ثقافة التعددية التي تحافظ على حقوق كل الأطراف وتراعي مصالح مختلف الفصائل.. ومنها تشكيل المجالس البرلمانية والاستشارية الحرة واحترام كافة المؤسسات الدستورية والحقوقية التي تراقب وتحاسب المذنب والمقصر.. ومنها تحصين الأمة بثقافة واعية تستطيع خلالها معرفة مالها وما عليها من حقوق وواجبات.. ومنها بناء اقتصاد سليم وقوي يحول دون وقوف الدولة على اعتبار البنوك الدولية لطلب القروض المشروطة أو استجداء المعونات الغذائية من قوى اقتصادية لا تعطي بدون مقابل.

والمقام قد يطول إن أردنا درج كل المعايير التي تضفي على الدولة طابع الاحترام وتقدم لها درجة الامتياز في حفظ السيادة ورعاية حقوق الإنسان. غير أننا نقول للذين يرفعون شعار الوطنية والسيادة الإقليمية، إن العناصر الوطنية أو الأحزاب القومية والتحررية التي توالت على حكم الكيانات السياسية لم تعمل على تنمية بلادها واحترام حقوق أبنائها، كان همها رفع أرقام حساباتها في البنوك الخارجية، حتى إن بعضها كان منفذ لا غير لأوامر قادمة إليه من خارج الحدود.

من ينفذ..؟:

الانتهاكات المنظمة لحقوق الإنسان، على الرغم من وجود مشروع ملموس نوعاً ما لإيقافها، إلا أنها ما زالت مستمرة بكل تداعياتها المأساوية ولا من مغيث يكبح جماحها، وإن وجد فإنه يخضع لحسابات الربح والخسارة ومعادلات العداوة والموالاة، فالكثير من عمليات التدخل الإنساني وأسبابها تحركها مصالح الدول الكبرى في هذه البقعة أو تلك وبعضها جاءت لحماية بعض الكانتونات الموالية وجيوب الأقليات المحسوبة، فلا وجود لمعايير إنسانية صرفة بقدر ما هو عمل (انتقائي) قد تختلط فيه الإحساسات الإنسانية مع الامتيازات الاستعمارية.

تقول إحدى مواد ميثاق الأمم المتحدة: (يجب أن لا تستعمل القوات المسلحة إلا لحماية المصالح المشتركة)، والمصالح المشتركة على رأي ميرفن فروست والتي حددها في كتابه الآنف الذكر بأنها (الحقوق المدنية) المشتركة بين بني البشر بدون النظر إلى تمايز الألوان وتباعد الأوطان.

وانتهاك الحقوق المدنية للأفراد يوجب على العالم التدخل لحمايتها، ولكن السؤال هنا من يقوم بهذا الواجب، ومن الذي يناط به تنفيذ واجبات المجتمع المعولم والدفاع عن مدنيته؟

إذا قلنا إن الأمم المتحدة ووفق حقها باعتبار أن سيادة الدولة تخضع لقواعد القانون الدولي والمعاهدات العالمية هي المخولة بإصدار مثل هذه القرارات، يأتي السؤال هنا وهو الأدق والأصعب في جميع مراحل الإجراءات النظرية والعملية، هل تملك هذه المنظمة وسائل الضغط أو مادتها لكي تمارس دورها الحقيقي والمهام الموكلة إليها؟ أم أن المهمة توكل أو تفوض إلى دولة أو دول عدة تملك وسائل الضغط الفاعلة؟ أو تناط بمنظمات غير حكومية لا تملك غير إصدار البيانات ووسائل التنديد؟

لا خيار أمام منظمة الأمم إلا تحويل المهمة إلى قوى العولمة ومن بيدها سلطة الفعل!

وكما بينا سلفاً نكون مخطئين إن حصدنا – الخير الصرف - من دول لا تعرف من الإنسانية إلا لفظها، وان هي أجهدت نفسها بشيء فلا يتعدى غير ملء جيوبها من ثروات الآخرين.

الطرح الأسلم:

ربما يسأل البعض، هل توفق الأمم المتحدة وتجمع بين من يدعو لإعلاء مبادئ حقوق الإنسان وحماية حقوق أفراده المدنية، وبين من يطالب بالمحافظة على السيادات القومية للدول وعدم التدخل في الشؤون الخاصة لكل دولة؟

والجواب موجود في مواثيق الأمم المتحدة ولعله أسلم الحلول والطروح لإيجاد الصيغة التوافقية، فقد نصت المادة الثالثة من القانون الذي وضعه (سبرويولوس) سنة 1950 تحت رقم (488)، على أن (تصرف الشخص باعتباره رئيساً للدولة أو حاكما لا يعفيه من المسؤولية عن ارتكاب أي جريمة من الجرائم المنصوص عليها في التقنين) والمادة الأولى من هذا القانون توضح (إن الجرائم ضد سلام وأمن البشر تعد جرائم دولية يجب معاقبة الأشخاص الطبيعيين المسؤولين عنها).

وهذا القانون واضح صريح يدعو إلى محاكمة ومراقبة كل من يتجنى ويتطاول على حقوق الأفراد المدنية وسلامة وأمن البشرية، وهو لا يكلف الأمم المتحدة عناء التحضيرات المسبقة والمخصصات الباهضة لعمليات التدخل المباشر وغير المباشر، ولا يتطلب منها إلا إيجاد (محكمة دولية مستقلة) يحترمها الجميع، مسموعة الكلمة، نافذة الفعل، تحاسب كل من ينتهك حقوق الإنسان ولا تأخذها في ذلك لومة لائم.

وإذا قلنا بأن شريعة المجتمع الدولي إلزامية في العلاقات الدولية كذلك يلزم علينا أن نجعلها ملزمة أيضا في داخل الدول الإقليمية، فثمة قواعد دولية وقوانين إنسانية يجب أن تحترم، وثمة منظمات حقوقية - كمحكمة لاهاي مثلا - لابد أن تنصاع إلى قراراتها وتقبل أحكامها جميع الدول.

النظرة الإسلامية للتدخل:

لا نغالي إذا قلنا بأن الدين الإسلامي هو الرائد في مضمار احترام الإنسان وحقوقه، فالإسلام لم يأت إلا لرفع القيود والأغلال عن جميع البشر (يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) (6) (لا إكراه في الدين) (7) وهو الدين الوحيد الذي شرع مختلف القوانين لحفظ هذا الكيان الإنساني المحترم.. وهو الوحيد الذي صدع ودعا الآخرين للاحتذاء به في مجال حقوق الإنسان.. فالإنسان خلق مكرم (ولقد كرمنا بني آدم) (8) وأصل ترتكز عليه مختلف القوانين والتشريعات، لهذا كانت العناية به استثنائية وفوق التصور، والإمام الصادق(ع) يعتبر (المؤمن أعظم حرمة من الكعبة) (9). وذلك لقول رسول الله(ص): (لأن الله حرّم منك - الكعبة - واحدة ومن المؤمن ثلاثة: ماله ودمه وأن يظن به ظن السوء) (10).

ربما يستشكل أحدهم بأن هذه منزلة المؤمن ومن حقكم أن تعظموه وتحترموه.. ولكن هل ينجر هذا إلى غير المسلم؟

يجيب الإمام الشيرازي (قدس الله نفسه الزكية) على هذا الإشكال فيقول: (إن الإطلاقات تشمل نهي المستكبر وكفّ يده - إن أمكن - عن المستضعف من غير فرق بين الأقسام الأربعة من كون كل من الطرفين: الظالم والمظلوم مسلمين، أو كافرين، أو مختلفين، فإذا ظلم المسلم أو الكافر مسلماً أو كافراً في نفسه أو في عرضه، أو في ماله، أو ظلمه بتقييد حرياته المشروعة وجب الدفاع عن المظلوم) (11) (الفقه: القانون ص348).

والإسلام يذهب إلى أبعد من ذلك فيدعو المسلمين إلى القتال من أجل المستضعفين (ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين) (12)، فإذا وجب القتال في سبيل إنقاذهم، وجب ما دون القتال أيضاً.

والنظرة الإنسانية التي يوليها الإسلام لغير المسلمين تظهر بأجلى صورها في كلام أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام عندما قال متأثراً لما جرى من قتل ونهب وسلب لغير المسلمات، إثر هجوم جيش معاوية على مدينة الأنبار (فلو أن امرءاً مسلماً مات من بعد هذا أسفا ما كان عندي ملوماً، بل كان به عندي جديراً) (13).

(وعلى هذا فلو رأينا غير المسلم - ليس محارباً - يموت جوعاً وعطشاً أو لأجل نقص الدواء، أو النزف، أو مبتلى تحت وطأة ظالم أو سبع أو في حالة حرق أو غرق أو خسف أو ما أشبه، وجب إنقاذه والصرف عنه) (14).

ومما سبق نستخلص أن الإسلام يدعو إلى التدخل للدفاع عن المستضعفين والمضطهدين، ولكن ضمن ضوابط ومعايير إنسانية صرفة لا تفرق بين شخص وآخر أو بين مكان ومكان، فالكل أمام القانون سواء، وفي الإنسانية شركاء، ولا فرق بين أن يكون أخاً لك في الدين أو نظيراً لك في الخلق، هذا تنصره إن كان على حق، وذاك تدافع عنه إن ظُلم أو وقع في مخمصة.

وقبل هذا كله الإسلام شرّع القوانين وحدد الحقوق ووزع المسؤوليات لكي لا يحدث التنازع بين الرعية نفسها أو بين الراعي والرعية، فالجذور ثابتة، والفروع واضحة، ولا تحتاج إلا لتصفية القلوب وتهذيب النفوس وتطهير الأرواح لكي لا يقع التعدي وتحترم الحقوق الخاصة والعامة.

والملاحظة اللازمة في هذا المضمار، أن التفريق الذي دعى إليه (ميرفن فروست) بين الحقوق (المدنية) والحقوق (المواطنية) غير واضح المعالم وفيه تنقيص من قيمة الفرد. فالإسلام لا يفرق بين من يقتل نفساً واحدة أو مجموعة من الأنفس، لأن الذي يقتل واحداً يقتل المجموع (من قتل نفساً بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً) (15).

خطوات لابد منها:

العالم مقبل على تغيير جذري في علاقاته الدولية، ومن غير المستبعد أن تقع بعض التعديات على بعض الدول الوطنية! عند التطبيق والممارسة للمشاريع الإنسانية وخصوصا بعد أن علمنا أن التدخلات لم ولن تكون إنسانية بحتة، لذلك إذا أريد للعالم الإسلامي أن يكون بعيداً عن ضغوط الدول العظمى، فينبغي الإسراع باتخاذ مجموعة من الخطوات الأساسية، وهي:

أ) السعي الجاد لإغلاق كافة السبل التي تساعد على فسح المجال لقوى العولمة لتنفيذ خططها وممارسة ضغوطها، أو اللعب على التناقضات الداخلية، وذلك من خلال الاستجابة المبكرة لرفع المظلومية والتمييز عن الأقليات أو الطوائف المضطهدة، وإشاعة أجواء من المشاركة والتعددية والحرية والمساواة و...

ب) العمل على إيجاد عالم متعدد الأقطاب أو ثنائي يستطيع أن يحافظ على توازن القوى، ويمنع تفرد قطب واحد باتخاذ القرارات أو ممارسة الضغوط للحصول على الامتيازات.

ج) التخطيط بجد لإخراج منظمة العالم الإسلامي من دور التهميش إلى واقع الفعل والتفعيل وإيجاد صيغ إسلامية عامة تقبلها كل الأطراف لمراقبة حقوق الإنسان في هذه الدول ومحاسبة المقصر.

د) على بعض الدول الإسلامية النظر بجد إلى واقع حقوق الإنسان المسلم وإن تطلب ذلك إجراء إصلاحات جذرية في تشريعاتها أو هياكلها السياسية.

هـ‍) الاتفاق على سياسة موحدة تحول دون الاعتراف بالانقلابات العسكرية، وممارسة مختلف الضغوط لمنع بقائها في الحكم، أو إدانتها عند حصول أدنى انتهاك لحقوق الإنسان.

و) وأخيراً الإقرار الفوري بحقوق المعارضة، واحترام الرأي الآخر، وتقبل النقد، وإشاعة روح الألفة والمحبة والتعاون بين أبناء البلد الواحد.


الهوامش :

(1) سمعت أكثر من جواب من سماحته (قدس سره) عن سبب امتناعه من إجراء المقابلات مع مختلف الوسائل الإعلامية، فهو يجيب على أسئلة بعض الأفراد بأسلوب قد يكون مختلف عن إجابته لبعض الأطراف والمسؤولين، ولكني أرجع السبب إلى عامل واحد أساسي وهو أن المرجعية تتعرض إلى هجمة منظمة من قبل السلطة، والتعدي عليها متواصل من مختلف المؤسسات التابعة للسلطة، وإجراء هكذا مقابلات قد يعطي صورة إيجابية للسلطة، ويظهر أن المرجعية تتمتع بكامل الحرية والتحرك، وهذا يخالف الواقع.

ثم إن الوسائل الإعلامية خبيرة في شؤونها، وبمقدورها تزوير الحقائق وقلبها وباستطاعتها التقول على المرجعية وحينئذ لا ينفع التكذيب المحدود.

كما أن السلطة ستعمل جاهدة، بتسريب عملائها وممارسة ضغطها على الوسائل الإعلامية، للحصول على تصريحات مرجعية مؤيدة لها أو مباركة لبعض خطواتها وبالتالي إضفاء الشرعية على ممارسات غير شرعية.

(2) أستطيع أن أقول بأن الإمام الشيرازي (قدس سره) قرأ أكثر من 130 كتاباً قانونياً بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من الدساتير الدائمة والمؤقتة قبل أن يقدم على كتابة كتابه (الفقه: القانون) هذا بالإضافة إلى ما بحوزته من كتب فقهية وأصولية اعتمد عليها في بلورة نظرياته في هذا المجال، حتى إن بعض الكتب القانونية المهمة لم نستطع الحصول عليها أو استعارتها، فقمنا عن طريق بعض الوسائط بتصويرها وتقديمها لسماحته.

وقمت شخصياً بالاتصال ببعض الأخوة في سوريا والكويت لغرض البحث في المكتبات الخاصة والعامة لشراء وتصوير الكثير من الكتب التي حصلنا على أسمائها من هوامش بعض الكتب ومصادرها.

ومن طريف القصص أن مكالمتنا مع الخارج كانت مراقبة من قبل السلطة فكانت على علم بأسماء الكتب التي كنا نحتاجها وأسماء الأفراد الذين سيجلبونها لنا من الخارج عند زيارتهم لإيران؛ فقد استطاعت المخابرات أن ترصد أحد القادمين من الكويت وهو يحمل مجموعة جيدة من كتب القانون فاعتقلته لساعات في مطار طهران وصادرت الكتب التي بحوزته وحققت معه في شؤون الكتاب المراد تأليفه من قبل الإمام (قدس سره) وشؤون أخرى كان يجهلها بالكامل لأنه كان واسطة لإيصال الأمانة وليست له معلومات أخرى.

(3) سورة النساء: آية 75.

(4) كانت للإمام الشيرازي نظرة ثاقبة للكثير من الأمور والأحداث، وبعد نظر مكنه من رؤية الكثير من الوقائع قبل حصولها ولعل الأمثلة على ذلك كثيرة ولكن أهمها:

- سقوط الماركسية وانهيار الكيان الشيوعي، حيث أشار إلى ذلك في الكثير من كتبه محدداً بذلك الأسباب والدواعي وزمن السقوط.

- فشل الرأسمالية في إسعاد البشرية، وسيطرة حالة الخواء الروحي والنفسي على المجتمع الغربي، وتوجه مجموعات كبيرة منه إلى الإسلام.

- عدم جدوى الحرب الإيرانية - العراقية واعتبارهما الخاسران في الصراع.

- لا ينتهي عام ألفين إلاّ وتشرع قوانين عالمية لحماية الحقوق الإنسانية ومعاقبة الحكام الظلمة والسلطات الجائرة واعتبار النظام العراقي أول الأنظمة الدكتاتورية التي سيطالها هذا القانون.

(5) آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله الوارف) لا يختلف عن أخيه المرجع الراحل (قدس سره) في النظر إلى هذه المسألة حيث تطرق سماحته إلى هذا الشيء في كتابه القيم (السياسة من واقع الإسلام) وتحديداً في فصل (من أسس الخارجية الإسلامية) حيث اعتبر سماحته إنقاذ المستضعفين من الأعمدة الثابتة في السياسة الخارجية للحكومة الإسلامية أين ما كانوا، ومهما كانت أديانهم ومعتقداتهم وإن كانوا غير مسلمين أو مشركين، وعبّاد صنم، وغير ذلك..

وأساس ذلك في قوله تعالى: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين) (النساء: 75).

فكما يجب القتال في سبيل الله، كذلك يجب القتال لإنقاذ المستضعفين.

فلو كانت هناك حكومة كافرة، وشعبها كافر أيضاً، وكانت الحكومة تظلم شعبها وتستضعفهم، لوجب على المسلمين مقاتلة تلك الحكومة الظالمة، وإنقاذ الشعب المسكين من براثن الظلم.

ولا يصغي الإسلام إلى أن ذلك يعد تدخلاً من قبل حكومة في الأمور الداخلية لحكومة أخرى؛ فإن المحور في الإسلام هو الإنسان (انظر السياسة من واقع الإسلام ص 306).

فإذا كان القتال دفاعاً عن المستضعفين واجباً، فبشكل أولى يكون الدفاع والحرب عن المسلمين مقدماً على الدفاع عن المستضعفين.

أما الفتوى الأخيرة لسماحة آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي(دام ظله) والتي دعى فيها جميع الخيرين من أبناء الشعب العراقي لاستغلال الفرصة وإسقاط النظام الدكتاتوري وإقامة عراق ديمقراطي حر، فهي تصب بهذا الاتجاه، وتحرض كل القوى لاستغلال كل وسيلة وكل مؤسسة وهيئة لفضح النظام العراقي ومحاكمته وإسقاطه:

نص الفتوى

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

على جميع المؤمنين وفقهم الله تعالى تعبئة كافة الطاقات وبذل الجهود واغتنام الفرص والعمل الجاد طبقاً للموازين الشرعية وفي شتى الأصعدة لإنقاذ الشعب العراقي المؤمن المظلوم من هذه المظالم القائمة التي لم تزل ومنذ عقود يقاسيها ويعانيها أشد المعاناة، وإنني إذ أدعو المؤمنين الكرام إلى جمع الكلمة وتوحيد الصفوف ومواصلة الأعمال بالحكمة والحنكة والمثابرة ونبذ كل ما يمكن أن يؤدي إلى التهاون والتفريط، أسال الله القوي القدير أن يحقق الآمال بإزاحة المستبدين الطغاة وبناء عراق مستقل وموحّد على أسس التعددية والشورى والعدل والحرية المشروعة.. والله هو الولي المعين.

صادق الشيرازي

الختم المبارك

(6) الأعراف: 157.

(7) البقرة: 256.

(8) الإسراء: 70.

(9) الخصال: ص27.

(10) عيون أخبار الرضا(ع): ج2 ص 33.

(11) الفقه القانون: ص348.

(12) النساء: 75.

(13) نهج البلاغة: خ27 ص69.

(14) الفقه القانون: ص350.

(15) المائدة: 32.

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

العــدد 69

إتصــلوا بـنـــا