الظمأ العذب

ترنيمة على شفاه الحسين(ع)

عبد الإله التاروتي - القطيف(*)

أيّها العندليب!

قطرات دمك المسفوح على مذبح الكرامة، محدقة حول العرش تُسبَّح بحمد ربّها.

وأفراخك الصغيرة، أنوارٌ كستْ جنان الخلدِ حُلة البهاء.

أيّها المتجلبب بوسام الإباء.

جئتك سائلاً، أأصدق ما يتناقله التجار في أسفارهم عن ملحمتك؟

فقلبي لا يكاد يفقه معنى لبضاعتهم، إذ كيف يمرُ بساحلك ما يأفكون؟

أيها الساقي! فقلبك العطوف ينزف مسكاً فاحت لطيبه جنبات الحديقة بمعاني الأنس والبقاء، وأينعت وروداً منتشرة هاهنا، وهاهناك. فكل ما أراد الراحل إلى عالم الملكوت جذوةً من نورٍ ليستضيء به في رحلته، اغترف غرفةً من ينابيع بحرك، فترتوي جميع خلايا روحه المشتاقة لنعيم الطاعة والمثول.

خسئتْ سيوف الشر جميعاً، فحاشا أن تقدر على إخماد قبسة رعى أوارها، وهزَّ عتبات مهدها، الناموس الأكبر، فكيف إذن تُضمر؟.

أيّها العندليب يابن الدوحة الكريمة!

هاهو الفجر قد بزغ فأمطر لؤلؤاً منثوراً قد تلبد في سماء العاشقين لطريق الكدح المقدس إلى الهدف المطلق الأقدس، عبر النور المنبثق من غرة (من كان قاب قوسين أو أدنى)، فأشرعتك تسابق الريح سائرة ليل نهار في طوافك الدائم نحو الغاية مع أفراخك، حتى أنخت بهداياك في أرض المشتاقين.

أيها العندليب الملكوتي!.

طيور النورس جاءت إلى ساحلك تستلهم منه دروس الانعتاق من كل القيود الحجرية الميتة.

فثغرك الأبلج إبداعٌ في نظم الكمال!

ولسانك آية في كشف أسرار العرفان!

وتراب قدمك مشكاةُ نورٍ على طريق السالكين إلى المحبوب!

وصمتك ديمُ عطاء لا ينضب!

وخطوتك الواثقة بزغت منها نجوم السماء المنتثرة!

فأنت الحاجب الذي يُعطي الأذن بالدخول إلى حرم الكرامة لكل الساعين نحو المعالي، لتكسر بذلك حُجب التقوقع حول الذات!

ريشك الموزع مرافئ تجثو صاغرة أمامه سفن التائهين في الليل المظلم!

قدمك مشكاة نور لسعيهم وهرولتهم بين الصفا والمروة في البيت المعمور!

دمك المسكوب مساقيَ للكرامة اليتيمة!

أيّها العندليب!

هاهي طيور النورس جاءت ثانية تُحلّق فوق حرم حضرتك العلية الشامخة بوشاح إخلاص النية، وقد منعها من المثول بين يديك عرفانها بجميل إنشادك، وقلة حظِها في المقدرة على النظر إلى نور وجهك المشرق بآيات القرب.

عجبي أيّها العندليب.

أين تلك العيون الحاقدة؟

كيف لم تُبصر أروع إبداع في دنيا الكرامة والشموخ؟

لعل بعدها عن مشارق أنوار الهداية الحقة أسدل على قلبها سُدَفَ الأنا فعُميَّتْ عليها طُرقات السوية؟.

أيّها العندليب!.

قلم الصمت انكسر بتغريدك!

فلا شيء يوقف أصداء أمواجك، وكيف يقدر على ذلك وقد اتصل هديرك بمعارج الكمال؟

سيدي أيّها العندليب ... جفَّ الحبر، ودمعت عيون القلم، ولا يزال (النون) يحوم حول حرم حوضك المترع.

فكيف الوصول إليك أيّها الساقي؟.

وإن كان، فأنى للألفاظ الحقيرة أن تُساير كنوز المعرفة واللوح؟

فهاهي حروفي الخرساء جاءتك عبر الزمان ترنو إلى معناك الخفي، علّها تتشرف بالرسو في مينائك جنباً إلى جنب مع المسافرين، فتحظى بمكان سقط متاع، فقد هدها النصب والحرمان.

وهاهو القلب يرتشف من بحر عطائك ما حمله على البوح إليك بما أنت أكرم مما قال أو سوف يقول.

أيّها العندليب الملكوتي!.

حرمك المقدس .... صورة عرش الرحمن!

هاهو ميكائيل ...، وإسرافيل...، يتقدمهم جبرائيل، ومن خلفهم زمر الملائكة الكروبيين، جاؤا يغترفون من بحر جودك ما يوصلهم إلى المحبوب، وقد ذاب الفؤاد منهم بظمأ شوق العاشقين الذي يزداد ضراوة ولهيباً كلما قربت ساعة اللُقْيا بالمحبوب.

فكيف يزعم التجار أن ليس في ميزانهم بخس ولا تطفيف؟. إن ما حلّ بواديك أيّها العندليب ليس كما زعموا، إنه طيب العاشقين الظِماء للحظة الوصول. فيا صاحب الهالة الحمراء ... هاهي بضاعتي المزجاة أطرحها أمام عتبات حياضك ... فهل إلى لقياك من سبيل؟

وهل لي من بحرك شربة ماء؟ فارخص لي أيهّا العندليب ... كي أنظر عبر الزمان إلى طيور النورس وهي تُحلق في أفق حضرتك وشموخك، فهذا غاية مطلوبي ومناي.

فهل أحوم ببصري حولهم من بعيد أقصى عبر الشفق الأحمر الداكن بصبغة الدم المهدور؟

اعتقني أيّها العندليب من قيود المنع لأرفل بنعيم الأنس بطيب عاشقيك ومحبيك.

فجمالك الملائكي يا صاحب الملحمة الملطخة بالدم أعشى عيون الشياطين عن رؤيا محيّاك النضر، وعن وعي الحقيقة. وقافيتك القانية لا تزال تعزف أنشودة الجبين الذي لم يسجد لغير رب العالمين.

أيهّا العندليب هذه هالة الشمس تسجد أمام محراب عظمتك، فمنظرها الخلاّب خيط من أشعة حُسنك، قد ذابت في المحبوب الأوحد بشربة من فيض نحرك، فأصبح العالم مدين لها بسرِّ البقاء، وهي إليك بالوصول.

فيا صاحب القلب العطوف، فكيف تظمأ وهاهي سفن العاشقين مبحرة في لجج بحرك...؟

بربي أيّها العندليب المظلوم الغريب.

إنه الظمأ العذب الزلال الذي تفجرت منه اثنتا عشر عيناً بها (علم كل أناس مشربهم)،(فاركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ) نداء المحبوب المطلق إليك.

أيّها العندليب الواصل إلى المكان المحجوب إلا عنك، أيّها الساقي يابن الكوثر، هاهو دمك المسكوب في قوارير العشق المقدس في محراب المناجاة دليل ناصع لوصولك.

وشيبتك شيبة الحمد برهان لوصولك لمقام (إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى).

حقيقة ارتوت منها غصون التفاني في العقد المنضود في الشجرة المباركة عند سدرة المنتهى، أينعت منها تلك الزنبقة الزينبية تردد نغمك العذب: (تقبل منا هذا القربان).

واحة خضراء قد ارتوت من خنصرك المبتور، ونغمة على خط سراط الله القويم شمسها وفجرها ... دمك المسفوح على مذبح العشق المقدس المنعقد بـ(هيهات منا الذِّلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله).

ليكون قلبك المعفرّ الكرسي!. وجثمانك الطاهر عرش الرحمن!

وكيانك النوراني تسبيحات في حضرة القدس عند المليك المقتدر، (قد حفّت بك الملائكة الأخيار، ورضوان الرب الغفار).

فسلام عليك يا مُلهب فؤاد العاشقين ... يا مفتاح الظمأ العذب... أيّها العندليب الموتور... أيّها الساقي من حوض الكوثر ... يا غرة تاج الشمس، ويا ممهد طريق الكدح المقدس نحو الهدف المطلق الأقدس، عندما يطلب العشاق جرعة من معنى ظمئك العذب.

الهوامش:

(*) كاتب سعودي