العنف والإرهاب والجهاد

قراءة في المصطلحات والمفاهيم

بشير البحراني [email protected]

العنف، والإرهاب ، والجهاد، ثلاثة مصطلحات أصبحت مثاراً للجدل والنقاش في الآونة الأخيرة، وصار فيها من التدليس والخلط المتعمد وغير المتعمد الشيء الكثير، خصوصاً بعد الأحداث التي حصلت في مدينتي نيويورك وواشنطن يوم الثلاثاء الحادي عشر من شهر سبتمبر/ أيلول 2001م، وراح ضحيتها آلاف من القتلى والجرحى الأبرياء. وأمام صمت العالم السياسي بأكمله استغل الأميركي مشاعر التعاطف الدولي مع ضحايا تلك الأحداث، فقام بحملة خلط وتشويه للمفاهيم، ليصنف مفهوم الجهاد الإسلامي ضمن خانة العنف والإرهاب..

وهكذا كانت الفرصة سانحة لتعميق التشويه لمفهوم وصورة الجهاد عند المسلمين؛ فكما أن الجهاد يُعد مصطلحاً إسلامياً خالصاً، صار العنف والإرهاب ولادتين إسلاميتين، بل نمنا ولم نصحو إلا والجهاد هو ذاته عنف وإرهاب.. وبفضل ذلك الخلط والتدليس لكل تلك المفاهيم صار رسول الله(ص) وسائر المجاهدين العظماء رجالاً عنيفين وإرهابيين لا يعبأون بدماء الناس!!.

إنها المعادلة الأميركية الصهيونية، التي جعلت الجهاد في مقابل العنف والإرهاب، رغبةً في التخلص من أنصار الإنسانية الذين يقدمون أرواحهم فداءً لها؛ فأنت مجاهد أو حتى مسلم، إذاً أنت عنيف وإرهابي، أما إذا لم تكن مسلماً فأنت حمامة سلام لا يصمك أحد بكلمات مثل العنف والإرهاب.

وللأسف، إن مثل هذه الأفكار قد تنطلي على البعض، فإما أن يكره الإسلام كدينٍ أمر بالجهاد الذي يساوي العنف والإرهاب –حسب التعريف الصهيوني للجهاد- ونرى ذلك قد وضح فيما تلا أحداث الحادي عشر من سبتمبر، إذ عاش المسلمون معانات وإهانات كبيرة، لا سيما المسلمون في الولايات المتحدة الأميركية، وفي المقابل تصبح الملايين التي قتلها الأميركي في أفغانستان المسلمة والتي قتلها الإسرائيلي في فلسطين المسلمة حرباً مشروعة لفرض السلام والمحبة والتسامح، فأيُّ سلام وتسامح هذين الذَين يولدان من رحم المجازر والمذابح؟!.. وإما أن يكون مسلماً فيفهم من الجهاد غير ما قصده القرآن والشريعة الإسلامية، فيندرج ضمن مافيات الحركات التي تعتمد الإرهاب أسلوباً لتحركها بنية (الجهاد)؛ وهذا ما يُفسر ظهور بعض الأفراد والجماعات التي تقتل الأطفال وتفتك بالرجال والنساء دون رحمة، وفي النهاية باسم الإسلام البريء.

ومشكلة المسلم الذي يجنح إلى استعمال العنف أو الإرهاب كوسيلة في دعوته إلى الله أحياناً، أنه يحسب ذلك من الجهاد الذي حث عليه الشرع ضمن الشرائط الموضوعية. وهذا يدل من جهة على قصر منطقه وعقله في إقناع الطرف الآخر، ومن جهة ثانية على جهل الداعية العنيف أو الإرهابي، بجوهر الدين الإسلامي السمح. ويبدو أن مثل هذا الشخص لا يقرأ قول الله تعالى في سورة البقرة: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ) [‏البقرة: 256]، وتلك حقيقة فُطر الناس عليها برفض كل ما يولد من رحم الإجبار والإلزام.

تعريف العنف..

يُعرِّف ابن منظور العنف بأنه (الخُرْق بالأمر وقلَّة الرِّفْق به، وهو ضد الرفق) (1)، ويُعَرِّفه الطريحي في مجمعه بأنه (الشدة والمشقة، ضد الرفق) (2)، ويُعرِّفه أبو هلال العسكري بأنه (التشديد في التوصل إلى المطلوب) (3)، ويُعرَّفه محمد قلعجي بأنه (معالجة الأمور بالشدة والغلظة) (4)، وأما التعنيف فهو التعيير واللوم. وتكاد لا تخرج باقي المعاجم اللغوية عن هذه التعاريف.

وقد خلت سور القرآن الكريم من هذه اللفظة ومشتقاتها، كما أنه نَدُرَ مجيئها في أحاديث الرسول الأكرم(ص) وأهل بيته الطاهرين(ع)، وفي جميعها تلمس روح النبذ للعنف والحث على الرفق واللاعنف؛ فقد ورد في صحيح مسلم وغيره أن رسول اللهر قال: (إن الله رفيقٌ يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه) (5).

من خلال المعنى اللغوي والروائي فإن (العنف) لا يعدو أن يكون صورة من الشدة التي تخالف الرفق واللطف، وهو لا يعني القتل والفتك بالأرواح أو ما شابه، وإن رافقه الشتم والضرب، ولكنه طريق للوصول إلى كل ذلك؛ فتكرار العنف أو شدته قد يؤدي إلى الأعمال الإجرامية الكبيرة، كالقتل وغيره مما يحتويه مفهوم الإرهاب الحديث.

ويمكن تأمل هذا المعنى في الرواية الآتية؛ حيث سُئل أبو عبد الله(ع) عن رجل أعنف على امرأته، أو امرأة أعنفت على زوجها، فقتل أحدهما الآخر، قال: (لا شيء عليهما إذا كانا مأمونين، إن اتهما لزمهما اليمين بالله أنهما لم يريدا القتل) (6).

ويبدو أن هذا المفهوم للعنف خرج عن الإطار القديم، وأصبح اليوم لا يُفرَّق بينه وبين الإرهاب خصوصاً، فالعنف هو ذاته الإرهاب، والإرهاب هو ذاته العنف، ولكن تظل النفوس تدرك بشعورها الإيحائي أن العنيف -في أي حال من الأحوال- أخف في ممارساته من الإرهابي؛ فكل إرهابي عنيف، ولكن ليس كل عنيف إرهابياً.

وذهب البعض في دراسته للعنف إلى أن الكائنات، ومنها الإنسان، مفطورة ومجبولة على العنف منذ خلقتها؛ ففي معرض حديثها عن العنف ذكرت موسوعة السياسة (أن معظم النظريات تمزج بين العنف والقوة وبعضها يخلط بين القوة وبين توكيد الحياة أو توكيد الذات بحيث أن العنف يصبح نتيجة لذلك أمراً طبيعياً وبحيث أن هذه النظريات تجد العنف حاضراً على مستويات مختلفة من مستويات الصراع والانتخاب البيولوجي؛ فأجناس الحيوانات تفترس بعضها بعضاً والكبير يأكل الصغير! إنه قانون الوجود كافة، وعالم الجماد هو عالم عنيف أيضاً، لأن قواه تفلت أحياناً من عقالها وبعنف يوازي قدرات عناصره؛ ولهذا فإن العنف البشري ليس أمراً استثنائياً، فإذا كان الإنسان يخوض الحرب ضد أنداده بطبيعة الحال، إلا أنه يخوض كذلك حرباً ضد الطبيعة، حين يتحكم بثمارها وصيدها. وهذا الأخير (العنف ضد الطبيعة) هو عنف يتساوى فيه النباتيون وغير النباتيين) (7).

وهذه النظرة في التأصيل للعنف خاطئة؛ فطبيعة خلق الإنسان التكريمية من قبل الله عز وجل لا تقبل مثل هذه النظريات، والمرء يدرك أنه لا يعيش في وسط الغاب، وقانون الافتراس والاحتراب لا يشمله، بل إن عقل الإنسان بفطرته، يميل إلى الحوار والسلم ويستقبح الأعمال العنيفة أياً كانت وجوهها وصورها.

ولأن الفطرة الإنسانية تحارب العمل العنفي، فقد ظهرت المقاومة للعنف بكل أشكاله، وولد مصطلح (اللاعنف) الذي يعني (أن يعالج الإنسان الأشياء، سواء كان بناءً أو هدماً، بكل لين ورفق، حتى لا يتأذى أحد من العلاج؛ فهو بمثابة المخدر الذي يسلب الحس، حتى يعمل المبضع في نكء القرحة، وشرح اللحم والجلد) (8). وكان المسلمون على رأس المقاومين للعنف، فما صدحت به آيات القرآن الكريم من دعوةٍ إلى السلام والتسامح والعفو والمجادلة الحسنة ونبذ التعصب والتعسف والتعنت، لخير دليل على مناداة الإسلام باللاعنف.

ويُعد الإمام المجاهد آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (1347-1422هـ) أبرز الذين دعوا إلى اللاعنف، وأصروا بدأب على إيصال رسالة اللاعنف الإسلامية إلى كل العالم، وقد نظَّر له كثيراً في محاضراته وكتبه التي ملأت المكتبات، كما ناقشت العديد من المقالات والدراسات نظرية اللاعنف في فكره؛ فهو (رجل اللاعنف) بحق.

تعريف الإرهاب

شحَّ مجيء لفظ (الإرهاب) في المعجم اللغوي القديم، وذكره الزبيدي في تاج العروس بقوله: (الإرهاب بالكسر الإزعاج والإخافة) (9). والإرهاب مشتق من (رَهِبَ، بالكسر، يَرْهَبُ رَهْبَةً ورُهْباً، بالضم، ورَهَبَاً، بالتحريك، أي خاف. ورَهِبَ الشيء رَهْباً ورَهَباً ورَهْبةً: خافَه. والاسم: الرُّهْب، والرُّهْبى، والرَّهَبوت، والرَّهَبُوتى) (10).

ولم يرد لفظ (الإرهاب) بصيغته التركيبية هذه في القرآن الكريم، وإنما وردت بعض الصيغ المختلفة، من الأصل اللغوي الذي اشتق منها، وهي: فارْهَبُون [البقرة:40]، اسْتَرْهَبُوهُم [الأعراف:116]، يَرْهَبُون [الأعراف:154]، تُرْهِبُون [الأنفال:60]، فارْهَبُون [النحل:51]، رَهَباً [الأنبياء:90]، الرَّهْب [القصص:32]، رَهْبَة [الحشر:13]. بالإضافة إلى صيغ أخرى مشتقة من أصل لغوي آخر يدل على الرهبنة والرهبانية بمعنى العبادة والتعبد، وهي معانٍ لا دخل لها هنا في المقام.

وبذلك فالمعنى لا يخرج عن مجرد الإفزاع والتخويف، إلا أن معنى الإرهاب أخذ في الاتساع شيئاً فشيئاً فيما بعد، وصار مطاطياً لم يُتفق على توحيد معناه ومقصوده، خصوصاً بعد أن أصبح مثاراً للجدل بعد أحداث الثلاثاء الأسود بنيويورك وواشنطن، فأُسيء استخدامه من قبل دول ومنظمات عديدة أخذت في وصم من ترغب بالإرهاب، في محاولة منها للتخلص من أعدائها. فأمام صمتٍ عالمي لا مثيل له قصفت الولايات المتحدة الأميركية أفغانستان ونجحت في القضاء على الحكم الطالباني هناك، بعد قتلٍ وتشريدٍ للملايين من الأفغان، وبدعوى الإرهاب، وها هي اليوم ترمي دولاً أخرى بالإرهاب، دونما تثبت أو روية، وبالطبع فالأميركان يمارسون كل أعمالهم الإجرامية تلك وفقاً لتعريفهم الخاص للإرهاب والذي يتوافق مع مصالحهم الذاتية.

وأدى التفرد الأميركي بتعريف الإرهاب نظرياً وتطبيقياً على أرض الواقع، بل وفرضه على الشعوب الأخرى رغم أنوفها، إلى ظهور نداءات تطالب بتعريف الإرهاب تعريفاً عالمياً واضحاً، تساهم في صياغته مختلف بلدان العالم. ومن أجل ذلك عُقدت بعض المؤتمرات والندوات التي خرجت ببعض التوصيات التي لم تجد لها أذناً صاغية أمام ديكتاتورية الفرض والتفرد الأميركية.

يقول عامر رشيد مبيّض: (لقد أصبح تعريف الإرهاب مشكلة تصعب على الحل، إذ إنه من العسير التوصل إلى تحديد مجرد للإرهاب دون إدخال عناصر خارجية عنه تتمثل في الآراء المتباينة حول شرعية أو عدم شرعية التنظيمات ونشاطاتها. ونتج عن ذلك صعوبة التوصل إلى اتفاقيات أو معاهدات دولية لاختلاف مصالح الدول ومحاولة كل مجموعة منها فرض وجهة نظرها؛ كما أن اختلاط صور العنف السياسي المختلفة بالإرهاب قد تجاوز الأمر إلى اختلاط مفهوم الإرهاب مع بعض صور الحرب أو حتى الجرائم العادية) (11).

وقد أصدر مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر الشريف بمصر بياناً وضح فيه مفهوم الإرهاب على أنه (ترويع الآمنين، وتدمير مصالحهم ومقومات حياتهم، والاعتداء على أموالهم وأعراضهم وحرياتهم وكرامتهم الإنسانية بغياً وإفساداً في الأرض) (12).

وتبنى الاتحاد الأوروبي تعريفاً جديداً مشتركاً للإرهاب، ينص على أنه (أعمال ترتكب بهدف ترويع الأهالي، أو إجبار حكومة، أو هيئة دولية، على القيام بعمل أو الامتناع عن القيام بعملٍ ما، أو تدمير الهياكل الأساسية السياسية، أو الدستورية أو الاقتصادية، أو الاجتماعية لدولة، أو لهيئة دولية، أو زعزعة استقرارها بشكل خطير) (13).

بينما يضع (عبد الله العارف) تعريفاً للإرهاب، استناداً لسنن الكون الحسنة، وبناءً على معيار الرحمة، ويعتبره تعريفاً جامعاً مانعاً، حيث يقول: (أي فعل يصدر مدفوعاً بقوة غير مستندة لأي معنى من معاني الرحمة فهو معلول للقهر والقسوة، ويتوجه لتحقيق غايات تتنافى مع السنن الكونية الحسنة في سعي الآدمي لطاعة الله تعالى وللحسن والحق والعدل والحرية والسيادة) (14).

ويؤكد (جوناثان وايت) في مدخله عن الإرهاب على ضرورة عدم اكتفاء فهمنا من خلال مداخل سياسية، بل إن لعلم الاجتماع غاية الأهمية في هذا السياق، ويؤكد أيضاً على عدم وجود تعريف واحد لمفهوم الإرهاب، ولذلك يقترح أن يُعرَّف الإرهاب من خلال النظر إلى أنماط مختلفة للتعريف، هي(15):

1- النمط البسيط والعادي للإرهاب: ويعني العنف أو التهديد الذي يهدف إلى خلق خوف أو تغيير سلوكي.

2- النمط القانوني لتعريف الإرهاب: ويعني العنف الإجرامي الذي ينتهك القانون ويستلزم عقاب الدولة.

3- النمط التحليلي للإرهاب: ويعني عوامل سياسية واجتماعية معينة تقف وراء كل سلوك إرهابي.

4- نمط رعاية الدولة للإرهاب: ويعني الإرهاب عن طريق جماعات تستخدمها دول للهجوم على دول أخرى.

5- نمط إرهاب الدولة: ويعني استخدام سلطة الدولة لإرهاب مواطنيها.

ومن كل ذلك نفهم عدم وجود تعريف موحد وشامل للإرهاب، ولكننا يمكن أن نساهم في تعريف الإرهاب بمفهومه الحديث بتعريف أبسط من خلال النظر إلى المعنى البدائي للعنف والإرهاب؛ فيكون: (الإرهاب هو عبارة عن عنف مكثف إلى درجة كبيرة يصل إلى حد القتل والفتك وإحداث المجازر والمذابح).

وعلى العموم، فكل تلك التعاريف تظل ضيقة في أفقها، لأنها تفتقد للشرعية العالمية، وهذه الشرعية لن تتأتى إلا عبر الإحساس العالمي أجمع بضرورة توحيد المصطلح، وبالتالي يسهل تعبيد الطريق لمحاربة كل أشكال الإرهاب، وإن كان ذلك يتطلب حديثاً آخر أيضاً عن كيفية مقاومة الإرهاب؛ إذ لا ينبغي أن تتفرد دول بعينها لوضع الآليات في الحرب على الإرهاب ثم فرضها على باقي دول العالم، حتى لا تؤدي النتيجة إلى ما حصل مع الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان؛ إذ بدأت حرباً بدعوى محاربة الإرهاب الذي تمثله حركة طالبان في أفغانستان وتنظيم القاعدة المتواجد فيها، وانتهت بممارسة الإرهاب العلني من قبل الأميركان ضد الشعب الأفغاني.

تعريف الجهاد..

يبدو أن مصطلح (الجهاد) اُشتق إسلامياً من الجُهْد والجَهْد بمعنى الطاقة أو المشقة، أي إن الجهاد هو بذل الطاقة والمشقة في مقاومة أمر ما، ومن ذلك جهاد النفس أو جهاد العدو أو غير ذلك.

عن فضيل بن عياض عن أبي عبد الله(ع) قال: سألته عن الجهاد، أسنَّة هو أم فريضة؟ فقال: (الجهاد على أربعة أوجه: فجهادان فرض، وجهاد سنة لا يقام إلا مع فرض، وجهاد سنة، فأما أحد الفرضين فمجاهدة الرجل نفسه عن معاصي الله عز وجل، وهو من أعظم الجهاد، ومجاهدة الذين يلونكم من الكفار فرض، وأما الجهاد الذي هو سنة لا يقام إلا مع فرض فإن مجاهدة العدو فرض على جميع الأمة ولو تركوا الجهاد لأتاهم العذاب وهذا هو من عذاب الأمة وهو سنة على الإمام أن يأتي العدو مع الأمة فيجاهدهم، وأما الجهاد الذي هو سنة، فكل سنة أقامها الرجل وجاهد في إقامتها وبلوغها وإحيائها فالعمل والسعي فيها من أفضل الأعمال لأنه أحيى سنة، قال النبي(ص): من سنَّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينتقص من أجورهم شيء) (16).

فمفهوم الجهاد لا يعني مجرد الاشتراك في الحرب مع العدو، بالمعنى العسكري المتبادر إلى الذهن، وإنما هناك أبعاد أخرى للجهاد قد تكون أعظم شأناً من الجهاد الحربي من وجهة نظر الإسلام، والأخير هو ما يعنينا لمناقشة مفهومه بالدقة، لمعرفة مدى الاشتباه الذي أُوجد بينه وبين العنف والإرهاب.

وعلى نقيض العنف والإرهاب الذَين ذمتهما الشريعة الإسلامية، فقد أكدَّت على ضرورة القيام بواجب الجهاد؛ فهذا القرآن الكريم زخر بالعديد من الآيات التي تحث على الجهاد، ووعد المجاهدين بأعالي الدرجات والمقامات في الجنة، بينما توعد المقصرين والمتخاذلين عن هذا الحق بالعقاب.

وعلى العموم، فما يهمنا في هذا المقام هو الجهاد الذي يُفهم منه معنى مقاتلة العدو الكافر أو الباغي بالسلاح، وهو المعنى الذي قُصد به عند البعض العنف والإرهاب، حتى أمكن، من جراء ذلك، الاستعاضة عن تعريف الجهاد بهذين المصطلحين، وهذا خطأ يتضح لكل متأمل، وذلك لعدة اعتبارات، منها:

أولاً/ دعوة الإسلام إلى نبذ العنف والإرهاب

أشرنا إلى أن الإسلام الحنيف أكد على ضرورة نبذ العنف والإرهاب بكل أشكالهما، ودعا بقوة إلى قيم التسامح والعفو والحوار والعطف والمودة، ويشدد القرآن الكريم على أن تكون الدعوة إلى الله مرتبطة بعدم الإكراه والإجبار. والإسلام إنما اُشتق اسمه من السِّلم والسلام.

وقد تجلت كل تلك القيم عملياً في الرسول الأكرم(ص)، فصار أسوة حسنة في الأخلاق والمثل السامية، وكلنا يعلم ويدرك ذلك، فقصته مع قتلة عمه حمزة بن عبدالمطلب معروفة، وكذلك مع أسرى الغزوات الذين يقعون في يد المسلمين، وقبل ذلك مواقفه مع أولئك الذين كانوا يؤذونه ويسخرون منه أثناء قيامه بواجب الدعوة إلى دين الله.

فحين نعلم أن الإسلام هو داعية السلام، نعي جيداً أن الجهاد لا يمكن أن يكون عنفاً أو إرهاباً، وإنما هو أمرٌ آخر تمتزج فيه روح التسامح والعفو في كثير من الأحيان؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء:94].

ثانياً/ أهداف الجهاد السامية:

لم يُشرَّع الجهاد البتة للتمتع بالنظر إلى الدماء والقتلى، وإنما لأهداف سامية وراقية؛ فالجهاد يجب أن يكون في سبيل الله، ومن هنا يكون الجهاد رسالة لإعلاء كلمة الله، والذود عن المستضعفين والمظلومين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولذلك جاء في الرواية عن الإمام جعفر الصادق(ع): (كان رسول الله(ص) إذا بعث سرية بعث أميرها فأجلسه إلى جنبه وأجلس أصحابه بين يديه ثم قال: سيروا باسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله(ص) لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقطعوا شجراً إلا أن تضطروا إليها ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة، وأيّما رجل من أدنى المسلمين أو أقصاهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار حتى يسمع كلام الله، فإذا سمع كلام الله فإن تبعكم فأخوكم في دينكم، وإن أبى فاستعينوا بالله عليه وأبلغوه إلى مأمنه) (17).

فـ(الفرق كبير بين (الجهاد) و(القتال المسلح)، حيث أن مفهوم الجهاد يعني (استنفاد الجهد)، لتشرب المبدأ الإسلامي، والإشعار به بعد ذلك (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت:69]. فمفهوم أو مصطلح الجهاد، هو مفهوم سامي، يُقصد به، استنفار كل الإمكانيات المتاحة، للتفاعل مع الإسلام، فهماً وتطبيقاً، ونشراً وتعليماً، ويبقى القتال المسلح وسيلة محددة، في ظروف محددة، نظراً لخطورة هذه الأداة، فهي تستعمل من خلال مؤسسة الدولة، وليست مفوضة إلى الأفراد أو الجماعات المحدودة) (18).

ويمكن قراءة أهداف الغزوات التي قادها الرسول الأعظم(ص) للوقوف على ذلك؛ مما يؤكد حقيقة اختلاف رسالة الجهاد عن الرسالة التي تحملها أعمال العنف والإرهاب.

ثالثاً/ الجهاد لا يكون إلا بأسباب

وهذا أمر يلزم الالتفات إليه؛ إذ إن الإسلام لا يقول بمشروعية الجهاد إلا في ظل ظروف وأسباب معينة، ولا يسمح في غيرها بالنزول إلى ساحات الجهاد والقتال. ومن تلك الأسباب الحاجة إلى الدفاع عن النفس بالسلاح؛ فليس من المعقول أن توجه سلاحك نحوي وتريدني أن أصمت، أو أن تحتل أرضي وتسفك دماء أولادي ونسائي، بأسلحتك ثم تطلب مني مراعاتك والسماح لك بالتطاول أكثر فأكثر.

ويُعدد آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي بعض أسباب الجهاد، نذكرها على سبيل الاختصار(19):

1- حينما يؤمن المرء بالله وحده، فيؤذى في سبيل الله، ويُخرج من بلده، وبعد الهجرة يريد العودة إلى بلاده، هنالك يأذن الله له بالقتال في سبيل الله.

2- عندما تتشكل دولة الإسلام في بلد، فيتعرض المسلمون فيه لهجوم عسكري.

3- عندما يتعرض المسلمون في بعض البلاد لاستضعاف ديني أو دنيوي.

4- يجب قتال البغاة على دولة الإسلام، الذين يستخدمون السلاح ضد الدولة، وقد أٌُلحق بهم مانعو الزكاة، والأقوى إلحاق كل تمرد بالسلاح، ومن ذلك قتال الذين يبغون بعد إقامة الصلح.

5- عندما يتعرض الفرد -أي فرد- لتهديد حقيقي في نفسه أو دينه أو عرضه أو ماله.

6- على قول كثير من الفقهاء: إن النبي(ص) وأوصياءه المعصومين(ع) يدعون الناس إلى الإيمان بالله وحده فإن أبوا قاتلوهم حتى يؤمنوا، أو يعطي أهل الكتاب منهم الجزية.

ومن أجل ذلك، فالعلاّمة الباحث الشيخ جعفر السبحاني يرى أن الآيات الواردة في القرآن الكريم حول الجهاد، وما يرتبط بها من قريب أو بعيد، تنقسم إلى طوائف خمس لا بد لكل مفسر أن يلاحظ مجموعها قبل اتخاذ الموقف، وتفسيرها، وإظهار الرأي فيها. وهذه الطوائف الخمس هي باختصار وإيجاز(20):

1- الآيات المطلقة التي تدعو إلى مطلق النضال والقتال، دون أن تقيّد ذلك بقيد.

2- الآيات التي تقيد مقاتلة المشركين بقيد وهو قتال المسلمين والعدوان عليهم.

3- الآيات التي تدعو إلى إنقاذ المستضعفين ونجدة المظلومين وإخراجهم من ظلم الحكام الجائرين، ودفع الضيم عنهم.

4- الآيات التي تدل على عدم الإكراه في الدين.

5- الآيات الداعية إلى الصلح والتعايش السلمي.

وعليه فإن الجهاد لا يعدو أن يكون فريضة دفاعية، إما عن الفرد أو الآخر، حتى بالنسبة للجهاد الابتدائي أو التحريري؛ وبالتالي فالجهاد لا يستهدف بأي حالٍ من الأحوال الرغبة في استخدام العنف أو الإرهاب كوسيلة، وإنما لديه أهداف أخرى شريفة وبريئة من تهم العنف والإرهاب.

كما أن الإسلام لا يفترض الجهاد بالسلاح إلا في حالات محدودة وضيقة، وهو يُقدم الصلح والسلام على كل ذلك، فإن اضطر فليس على المضطر من حرج.. يقول الباري عز وجل: (فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) [النساء:90]، ويقول أيضاً: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا) [الأنفال: 61]. إنها فلسفة الإسلام التي لا تجد للعنف أو الإرهاب مكاناً في شريعتها السمحاء.

وقبل الختام، فما دمنا نتحدث بحديث الألفاظ والمفاهيم والاشتقاقات اللغوية، فلا بد أن نقف هنيهة عند الآية المباركة في سورة الأنفال، حيث يقول سبحانه وتعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) [الأنفال:60]، فقد جيَّر البعض لفظة (ترهبون) للدلالة على معنى الجهاد في كونه إرهاباً، وإنه لا فرق بين الاثنين بحجة تصريح القرآن بذلك المعنى المجير في هذه الآية!.

وفي الرد على ذلك نقول بأن هذه الآية الكريمة وردت في أمر التهيئة قبل خوض المعارك، فيأمر الله سبحانه وتعالى بضرورة تهيئة العدة والعتاد التي تحتاج إليها المعارك أو الحروب. والهدف منها إدخال الرهبة والخوف على العدو، بالمعنى البدائي للأصل اللغوي (رهب)، حتى يخشى فلا يتجرأ على الإغارة على المسلمين الآمنين، لأنه سيراهم يمتلكون الجيش المدرب والقوة والسلاح المطلوب، فحينها يرهب ويخاف من مباغتتهم وقتالهم؛ فالأمر هنا على سبيل الحماية والوقاية؛ وليس على سبيل التحفز للقتال والرغبة فيه.

ويدل على ذلك ما يلي هذه الآية المباركة من تقييد وإلفات وتنبيه حتى لا يُستغل هذا الأمر الوقائي في ممارسات أخرى لا يقرها الإسلام، فتأتي الآية التالية آمرة بهذه الكيفية: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الأنفال:61]، فالغاية هي السلم وليس الحرب، وهذا واضح لكل متأمل في سياق الآية الكريمة.

الهوامش:

(1) - ابن منظور: لسان العرب، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1992م، ط2)، ج9، ص429.

(2) - فخر الدين الطريحي: مجمع البحرين، (بيروت: مؤسسة الوفاء، 1983م، ط2)، ج5، ص104.

(3) - أبو هلال العسكري: كتاب الفروق، (طرابلس الشرق: دار جروس برس، 1994، ط1)، ص241.

(4) - محمد قلعجي: معجم لغة الفقهاء: عربي-إنكليزي، (بيروت: دار النفائس، 1988م، ط2)، ص323.

(5) - مسلم بن الحجاج: صحيح مسلم، (بيروت: دار المعرفة، 1995م، ط2)، ج16، ص362.

(6) - ميرزا حسين النوري الطبرسي. مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، (د.م: دار الهداية، 1991م، ط5)، ج18، ص328.

(7) - عبدالوهاب الكيالي وآخرون: موسوعة السياسة، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1985م، ط2)، ج4، ص257-258.

(8) - آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره): إلى حكم الإسلام، (بيروت: مؤسسة الوفاء، 1984م، ط1)، ص50.

(9) - محمد مرتضى الزبيدي: تاج العروس من جواهر القاموس، (بيروت: مكتبة الحياة، د.س، د.ط)، ج1، ص281.

(10) - ابن منظور: مصدر سابق، ج5، ص337.

(11) - عامر رشيد مبيّض: موسوعة الثقافة السياسية الاجتماعية الاقتصادية العسكرية.. مصطلحات ومفاهيم، (حمص: دار المعارف، 2000م، ط1)، ص38.

(12) - صبحي مجاهد. الأزهر: الإرهاب ترويع والجهاد حق، موقع إسلام أون لاين (www.islamonline.net).

(13) - بدون كاتب. الإرهاب والجماعات الإرهابية: تعريف الاتحاد الأوروبي، موقع الشبكة الإسلامية (www.islamweb.net).

(14) - عبدالله العارف: الإرهاب واللاعنف ومنهاج تحديد المعاني في القاموس الإسلامي، مجلة النبأ، ع63، شعبان 1422هـ، ص57.

(15) - انظر: يحيى عبدالمبدي: الإرهاب.. أصل المصطلح وتطوره، موقع ميدل إيست أونلاين (www.middle-east-online.com).

(16) - محمد باقر المجلسي: بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، (بيروت: مؤسسة أهل البيت(ع)، 1989م، ط4)، ج97، ص23.

(17) - المصدر السابق، ج97، ص25.

(18) - خالص جلبي: سيكولوجية العنف واستراتيجية الحل السلمي، (دمشق: دار الفكر، 1998م، ط1)، ص28.

(19) - انظر: السيد محمد تقي المدرسي. أحكام العبادات، (طهران: دار محبي الحسين(ع)، 2001م، ط1)، ص510-511.

(20) - انظر: جعفر السبحاني: مفاهيم القرآن، (قم: مؤسسة الإمام الصادق(ع)، 1412هـ، د.ط)، ج7، ص485-491.