كربلاء.. من تراجيديا الصورة إلى فلسفة الحركة

راجي أنور هيفا

 

توطئة..

إن الحديث عن مسير الإمام الحسين(ع) إلى كربلاء هو حديث هجرة وسفر النور الحسيني إلى عالم السماء ومملكة الخلود، فالإمام الحسين(ع) لم يكن في سفره مجرَّد إمام مجاهد اختار الحركة الاستشهادية ضد واقع سلبي فُرض عليه وعلى أتباعه فحسب، بل كان سفره حركة إسلامية شاملة حملت عناوين عديدة من ضمنها الاستشهاد من أجل شرف الكلمة وروح الرسالة.

إن الكثير من الناس يتحدثون عن واقعة الطفّ - كربلاء - من وجهة نظر تراجيدية تقوم على أساس موت البطل وأسرته الطاهرة المقدسة بيد جيش من الظلمة القادمين من عفن التاريخ وظلام الجهل الضارب بجذوره عميقاً في عقولهم قبل قلوبهم. وكثير من الناس والرواة أيضاً ينقلون لنا صورة الإمام الحسين بطريقة غير ناضجة حيث يصورونه لنا بصورة الإمام الثائر الذي لا يهمه إلا أن يُقتلَ بسيف الأعداء من أجل الحصول على شرف الشهادة فقط.

والحقيقة، لا يمكننا سوى أن نقول إن هذه الصورة ناقصة في محتواها الفكري، وقاصرة في عمقها الإيماني والروحي. ويأتي جزء كبير من هذا النقص من أننا غالباً ما نقوم بتسليط الأضواء على الإمام الحسين(ع) فقط، دون تسليط بعض الأضواء على خصومه وأعدائه؛ فعندما نعرف ماهية أهداف وغايات "يزيد"، فإننا بالمقابل سنعرف أهداف ورسالة الإمام الثائر الحسين(ع) الذي خرج بأعز ما يملك من أجل كشف الغبار عن رسالة جدَّه المصطفى(ص).

فعندما نقرأ بعمق وصية ورسالة الإمام الحسين(ع) لأخيه محمد بن الحنفية قبيل مغادرته المدينة، سنعلم وبشكل واضح السبب الأساسي لخروج الإمام(ع) إلى ملاقاة جحافل يزيد اللقيط. فها هو الخوارزمي الحنفي يحدّثنا في كتابه (مقتل الحسين) عن أن الحسين(ع) دعا بدواة وبياض وكتب فيها هذه الوصية لأخيه محمد:

(بسم الله الرحمن الرحيم.. هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد بن علي المعروف بابن الحنفية، أن الحسين بن علي يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، جاء بالحق من عند الحق، وأن الجنة والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.

إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت أطلب الإصلاح في أمة جدّي محمد(ص)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي محمد، وسيرة أبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا صبرت حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق ويحكم بيني وبينهم وهو خير الحاكمين.

هذه وصيتي إليك يا أخي، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، والسلام عليك وعلى من اتبع الهدى ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)(1).

الوعد الحسيني.. الأمل في النجاة..

إن هذه السطور القليلة تلخص لنا فلسفة الحركة الحسينية الكامنة وراء مسيرته من المدينة المنورة إلى كربلاء؛ فالوعد الحسيني يمثل لنا الأمل الدائم في ضرورة الخلاص من كل أنواع الانحراف الذي يصيب الضمير الإنساني القابل للتمظهر بمظهر الإيمان والعدل والنقاء؛ ولذلك فإننا نقول إن خروج الإمام الحسين(ع) مع أهل بيته طلباً للإصلاح في أمة جدّه(ص)، لا يعني أن الفساد قد دخل قلب الرسالة الإسلامية، بل الشيء الذي فسد هو الإنسان الطاغية الذي أراد أن يفسد كل ما حوله بقدر الفساد الذي يعيشه هو شخصياً بداخله.

الدين الإسلامي واضح، وتعاليمه واضحة، وأسسه جلية، وأحكامه وقوانينه بينة، ولكن ما تبدل هو التطبيق والممارسة لا النظرية والمبادئ. نعم، لا يشك كل قارئ للتاريخ الإسلامي في أن الحكام الأمويين قد ألقوا بغبار سيرتهم السوداء على الوجه الناصع للمرآة الإسلامية التي تعكس قوانين وأحكام السماء، وأنهم حاولوا أيضاً أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ولكن إرادة الله كانت فوق إرادتهم، ومشيئته أعلى وأقوى من مشيئتهم ومكرهم.

إذاً، فالصورة التي نقلتها لنا كتب التاريخ عن خروج الإمام الحسين(ع) هي صورة تتجاوز في أبعادها الروحية والفكرية حدود المشهد والتراجيديا التصويرية لتنقلنا إلى عمق العبرة التي تفتح الحدث على الفكرة والهدف. وهذا يعني أن حركة الحسين(ع) ليست مجرد ثورة بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، بل إن حركته(ع) تعني الثورة الرسالية التي تنادي بالتغييرات الكلية الشاملة، والتي تبدأ أول ما تبدأ من الدعوة إلى الثورة على الاستكانة الداخلية والخضوع النفسي داخل ذات الإنسان، وتنتهي بعد ذلك عند حدود تغيير المجتمع بكل أبعاده، من خلال تغيير الأشخاص والرموز التي تدعي القيمومة عليه.

ولذلك، فإن للنهضة الحسينية أبعاداً عميقة لا نراها في غيرها من الحركات والثورات؛ فهي حركة نهضوية لا تنبع من منظور أو منطلق شخصي، ولا تهدف إلى تحقيق منفعة ذاتية فردية، وإنما هي حركة جهادية ذات أهداف شمولية وإنسانية عامة. أما النقطة الثانية التي تميز هذه النهضة عن غيرها، فهي نقطة التجاوز لحدود الملحمة القومية التي تخص شعباً أو بلداً دون شعب أو بلد آخر. فالدماء الطاهرة التي بذلها الإمام الحسين(ع) فوق رمال كربلاء جعلت منه(ع) نشيداً روحياً تتغنى به دائماً وأبداً أفواه الإنسانية المعذبة، وتحولت جراحه المتعانقة على مساحة جسده الشريف إلى أوتار قدسية تعزف لكل الثائرين من بعده لحن السمو والخلود.

وعلى سبيل المثال، يرى الزعيم الهندي الراحل (المهاتما غاندي) أن الثورة الحسينية هي ثورة الوجدان البشري على الظلم والظلام في العالم بأكمله؛ فالحسين(ع) ليس حكراً للعرب أو للمسلين، بل هو(ع) للإنسان، لكل إنسان، بغض النظر عن دينه أو مذهبه أو قوميته، فهو(ع) للإنسان الهندي مثلما هو للإنسان العربي، وهو أيضاً للإنسان البوذي مثلما هو للإنسان المسلم؛ ولذلك نرى غاندي يخاطب شعب الهند قائلاً: (على الهند إذا أرادت أن تنتصر، أن تقتدي بالإمام الحسين) (2).

وقد أيد هذه الفكرة المستشرق الأمريكي (فيليب حتّي) في كتابه (تاريخ العرب) حيث يقول: (ففي مثل هذا اليوم (عاشوراء) من كل عام تمثل مأساة النضال الباسل والحدث المفجع الذي وقع للإمام الشهيد، وغدت كربلاء من الأماكن المقدسة في العالم، وأصبح يوم كربلاء وثأر الحسين صيحة الاستنفار في مناهضة الظلم) (3).

إن كلاماً كهذا من مفكر وزعيم بوذي مثل ( المهاتما غاندي) أو من مفكر ومستشرق مسيحي مثل (فيليب حتّي) يؤكد حقيقة أن الدم الحسيني شعلة الوجدان وميراث الإنسان، فالإنسان القادر على حمل شرف كلمة (الإنسانية) بكل مضامينها وأبعادها سيكون بلا شك وريثاً للدم الحسيني وشريكاً في الحزن الكربلائي.

الحسين(ع) جمع آلام وآهات الأنبياء..

والحقيقة أن الحزن الذي يلف مأساة كربلاء حزن يمتد بجذوره إلى أعماق الوجود البشري على الأرض، فالآلام التي عاناها هابيل هي جزء لا يتجزأ من الآلام التي عاناها الإمام الحسين(ع)، والجراح التي لقيها كل نبي من قومه هي فاتحة لجراح الحسين على رمال كربلاء.

وإذا أردنا أن نبين خط الجراح الذي يربط غربة وعطش ونزف وريد الحسين بآلام وآهات الأنبياء(ع) الذي جاهدوا في الله من أجل قيم الخير والحق والفضيلة، فإن هذا الخط يتجلى في أبهى صوره من خلال معرفة كل الأنبياء السابقين لما سيحدث لسبط آخر نبي في تاريخ الإنسانية الطويل.

إننا لن نتوقف عند كل نبي لنرى أو نسمع ما قاله ذلك النبي في حق الإمام الحسين(ع)، فضيق المساحة لا يسمح لنا بذلك، ولكننا سنتوقف عند نبي واحد فقط كي ندرك حجم المأساة التي لحقت بالإنسانية جمعاء عند التفريط بإحدى ريحانتي آخر رسول سماوي لأهل الأرض.

فمن منا لم يسمع بنبي الله زكريا وبابنه النبي يحيى (عليهما السلام)؟ ومن منا لا يعرف فضل زكريا(ع) على مريم العذراء(ع) من خلال كفالته إياها، وتربيتها خير تربية؟ وهل ننسى دعاءه الخالد من أجل أن يرزقه الله ولداً صالحاً على الكبر من عمره حيث خلد الله سبحانه وتعالى دعاءه الرقيق في القرآن الكريم، وذلك بقوله: (قال ربَّ إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك رب شقياً، وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك ولياً، يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضياً) (4)؟.

إننا لا ننسى ذلك أبداً، ولا ننسى أن الله سبحانه وتعالى قد استجاب له ورزقه بغلام اسمه يحيى(ع) وقد وصفه الله في كتابه بأنه (مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين) (5). وهنا تبدأ الصورة التراجيدية عند النبي زكريا(ع).

فبعد أن اشتعل رأس زكريا(ع) شيباً رزقه الله ولداً طيباً سيكون نبياً بعد حين، ولكن ما أن بلغ هذا الصبي الطاهر سن الشباب حتى ألقي القبض عليه بأوامر من الملك (هيرودس) وقد قُطع رأسه الشريف وقُدم لعشيقة الملك على صحن من ذهب!!.

إن يحيى(ع) نبي وابن نبي، ومع ذلك فقد فصلوا رأسه عن جسده، وأبوه زكريا(ع) يعيش مأساة ابنه الوحيد لحظة بلحظة وحسرة بحسرة، فما أعظمها من مأساة!!!.

ولكن المشهد الأكثر مأساوية في هذه التراجيديا النبوية يكمن في الفترة التي كان يدعو بها زكريا(ع) ربه كي يرزقه ابناً صالحاً بعد طول انتظار. وتظهر معالم هذا المشهد عندما ينزل جبريل الروح الأمين(ع) على زكريا وهو في محرابه، ويحدّثه عن آخر نبي يرسله الله إلى بني البشر، وماذا سيحل به وبأهل بيته من مصائب وأهوال، وكيف سيقتل ابن ابنته البتول عند ضفة نهر الفرات بعد عطش شديد وهو(ع) ابن صاحب الكوثر يوم القيامة.فما كان من زكريا(ع) إلا أن مكث في مسجده ثلاثة أيام منع خلالها الناس من الدخول عليه وأقبل على البكاء والنحيب وهو يقول:

(إلهي أتفجع خير جميع خلقك بولده، إلهي أتنزل بلوى هذه الرزية بفنائه، إلهي أتلبس علياً وفاطمة ثياب هذه المصيبة، إلهي أتحل كربة هذه المصيبة بساحتهما) ثم كان يتابع قائلاً - وأرجو من القارئ الكريم التمعن في هذه الكلمات -:

(اللهم ارزقني ولداً تقر به عيني على الكبر، فإذا رزقتنيه فأفتني بحبه ثم افجعني به كما تفجع محمداً(ص) حبيبك بولده) (6).

ومن هذا المشهد تحديداً تبدأ المسيرة الحسينية حيث انطلق الحسين في موكبه من خلال حركته المختزنة في ذاكرة كل نبي من أنبياء الله بدءاً من آدم(ع) وانتهاء بمحمد(ص)؛ ولذلك فهو(ع) يمثل، من خلال موكبه ومسيرته الطويلة باتجاه محط الرحال مع تلك الثلة القليلة من المؤمنين، سفينة نوح؛ فكل من صعد إلى سفينة نوح فاز ونجى، وكل من تخلف عنها غرق وهلك، فهو(ع) ربان تلك السفينة التي ستواجه أمواج البحار العاتية والرياح الهوجاء القاسية، وهو الذي سيلقي مرساة سفينته الصغيرة على (الجودي) وهو ما تمثله أرض كربلاء الرملية الحارقة، ثم ليواجه بعد ذلك هو ومن معه مصيرهم المحتوم على يد جلاوزة الحكام الذين يصرون دائماً على مصادرة الكلمات والحروف قبل اغتيال أصحابها بقوة الإرهاب ومنطق السيوف.

الانتصار الحقيقي..

ولكن استشهاد الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه لا يعني أبداً أنه حُرم الانتصار الحقيقي على أعدائه؛ فعندما استوى الحسين(ع) وأصحابه على أرض كربلاء وبدأت المواجهات الدامية بين الطرفين غير المتكافئين في العدة والعدد من جهة، وبين المبادئ والقيم من جهة أخرى، بدأ يلوح انتصار الحسين(ع) مع استشهاد كل رجل من رجاله أو من أهل بيته(ع).

ويظهر انتصار الحسين(ع) جلياً عند استعراض القيم التي حارب من أجلها الجيشان، بالإضافة إلى قرب عهد كل قائد جيش من هذين الجيشين بالرسالة الإسلامية وصاحبها الذي جاء بها من عند مرسلها سبحانه وتعالى.

فالإمام الحسين(ع) هو أحد سيدي شباب أهل الجنة المقصودين بحديث الرسول(ص) (شباب أهل الجنة الحسن والحسين) (7)، وفي رواية أخرى: (إن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) (8).

وهو المقصود أيضاً بحديث جدّه رسول الله(ص): (حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً، حسين سبط من الأسباط) (9)، وإلى غير ما هنالك من الأحاديث النبوية الشريفة التي تفيد بأن الحسين(ع) وريث جدّه المصطفى(ص) في علومه وآدابه وأخلاقه الرسالية العالية.

بينما لو أردنا أن نتحدث عن يزيد بن معاوية قائد الطغمة الحاكمة التي أرسلت جيش الظلام لإطفاء نور الله، فماذا عسانا أن نتكلم عنه؟.

فقد أخرج الواقدي من طرقه أن عبد الله بن حنظلة الغسيل قال: والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء! إنه رجل ينكح أمهات الأولاد، والبنات، والأخوات، ويشرب الخمر، ويدع الصلاة) (10). ولا يستطيع أحد أن ينكر أن (وقعة الحرة) التي قام بها يزيد في المدينة راح ضحيتها خلق كثير وافتض فيها جيش يزيد ألف فتاة عذراء، وقد رمى الكعبة بالمنجنيق وأحرق أستارها وسقفها وروع عموم أهلها، وقد قال فيها رسول الله(ص): (من أخاف أهل المدينة أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) (11).

هذه مقارنة سريعة بين الإمام الحسين(ع) وبين يزيد اللعين سيد الفجور والفسوق والعصيان، كما أننا تعمدنا إغفال ذكر نسب كل منهما، إذْ لا مجال للمقارنة بين نسب هاتين الشخصيتين بأي شكل من الأشكال، ويكفي أن نطرح هذه الأسئلة القليلة،وسنترك الإجابة عليها للقارئ الكريم:

- من هو والد الإمام الحسين(ع)، ومن هو والد يزيد؟.

- من هو جد الإمام الحسين(ع)، ومن هو جد يزيد؟.

- من هي والدة الإمام الحسين(ع)، ومن هي والدة يزيد؟.

- من هي جدة الإمام الحسين(ع)، ومن هي جدة يزيد؟.

ومن خلال الإجابة على هذه الأسئلة القليلة، ستتضح لنا هوية كل من الطرفين، وستتجلى فلسفة الصراع عند كل منهما، من خلال إدراك الأهداف والغايات التي ينشدها كل من قادة المعسكرين.

إن الصور التي ينقلها لنا محمد بن جرير الطبري في تاريخه الشهير عن مأساة كربلاء وعن المستوى الأخلاقي الذي يمثله الإمام الحسين(ع) خير تمثيل، عند لقائه الجيش الذي أرسله يزيد من دمشق، تجعل القارئ يقف مدهوشاً من القيمة الأخلاقية التي كان يتحلى بها الحسين وأصحابه وأهل بيته(ع)؛ فالإمام الحسين يبقى حتى اللحظة الأخيرة في موقع المذكّر للقوم بمكانته من الإسلام ومن صاحب الرسالة الإسلامية(ص) وكله يقين أنهم نيام عن الحق ولكنه فعل ذلك ليكون كلامه حجة عليهم، وبالتالي ليحيى من حيى عن بينة وليموت من مات عن بينة. وهاهو(ع) يذكر جيش يزيد بحقيقته قبيل لقاء الجمعين قائلاً: (... أما بعد، فانسبوني فانظروا من أنا، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا، هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم(ص) وابن وصيه وابن عمّه وأول المؤمنين بالله والمصدق لرسوله بما جاء به من عند ربه! أوليس حمزة سيد الشهداء عمّ أبي! أوليس جعفر الطيار ذو الجناحين عمّي! أولم يبلغكم قول مستفيض فيكم: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لي ولأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة... ) (12).

هذا هو الحسين وهذا جزء من قيمته الأخلاقية العليا التي ورثها عن أخلاق أبيه(ع) وجدّه(ص).

النهضة الحسينية.. في الأدب والفلسفة..

إن سحر العبارة الحسينية وحجمها الأخلاقي جعلت الناس على مختلف مشاربهم ومذاهبهم يوجّهون هوى قلوبهم إلى شهيد الخير والحق والفضيلة، بل راح البعض من الأدباء والمفكرين المسلمين والمسيحيين يسطرون أروع القصائد ويكتبون أجمل المسرحيات في كيفية وغاية استشهاد الإمام الحسين(ع)؛ فعلى سبيل المثال، ومن أجل توضيح الصورة أكثر، نرى أن الأديب والفيلسوف المسيحي جبران خليل جبران كان يُولي الإمام الحسين(ع) اهتماماً عظيماً في فكره وعقيدته حتى أنه كان يضعه في مرتبة الأنبياء والرسل، وليس دون ذلك وهذا ما أكده عنه أديب مسيحي آخر وهو روكس بن زائد العزيزي في كتابه (الإمام علي أسد الإسلام وقدّيسه)(13). غير أن جبران الذي قرأ وعرف الكثير عن سيرة وأخلاق أهل البيت(ع)، توقف ملياً عند فاجعة كربلاء. وراح جبران يقارن بفكره الفلسفي الثاقب لخفايا الحياة بين معاني الحياة والموت عند الحسين وبين تلك المعاني التي يؤمن بها قادة جيش يزيد، بل إن عشق جبران المسيحي للجلال والجمال جعله يبحر عميقاً في فلسفة الحركة الحسينية وانتقالها من حالة الديناميكية الحركية إلى حالة الموت المادي، وتحويل تلك الديناميكية الحركية إلى ديناميكية روحية وانبعاث روحي عنيف ملأت أصداؤه الخافقين.

لقد هام جبران حباً بجمال الروح وجلالها أكثر من هيامه بجمال الماديات الجوفاء وتفاصيلها، ورأى في كلام الإنجيل والقرآن جمالاً لم يستطع أن يراه في المظاهر الخادعة التي يلجأ إليها بعض المتستّرين بالدين والشريعة، وهم أبعد ما يكونون عن كل ذلك في حقيقة اعتقاداتهم، وبالتالي، فقد أيقن جبران أن مشهد الإمام الحسين(ع) وهو مقطوع الرأس فوق رمضاء كربلاء، بعد أن خرج للدفاع عن دين جدّه وكلمة ربه، أقوى وأطهر بل وأجمل من كل حصون وقصور أعدائه الغواة. نعم، إن منظر الإمام الشهيد الغارق في دمائه أجمل من قصور يزيد وبساتينه، فجبران رأى في دماء الحسين الطاهرة جمال الجنة وبهاءها، رأى الملائكة مصفوفة بأبهى حللها للقاء ابن بنت رسول الله الذي كان يقول لابنته فاطمة(ع) عندما يسمع بكاء الحسين وهو طفل (ألم تعلمي أن بكاءه يؤذيني؟) (14).

وباختصار، فقد رأى جبران في رأس الحسين جمال يوسف، وجلال موسى، وطهر عيسى، وصبر أيوب، بل لم ير في رأس الحسين المقطوع إلا رأس محمد(ص) ذاته وهنا يحق لنا أن نتساءل:

وماذا رأى جبران العاشق للجلال والجمال عند يزيد وجيشه؟.

لقد رأى كل شيء، لقد رأى عنده عهر الغانيات وفسق الخليلات والمحظيات، وقد أبصرت عيناه كؤوس الخمر وهي تدور على الأصحاب والخلان في مجلس قد طرد منه القرآن الكريم وذكر الله، بل لم ير في بساتينه التي تحيط بقصره إلا شجر الزقوم والشجرة الملعونة في القرآن. وقد كان أقبح ما رآه عند يزيد هو يزيد نفسه، حيث رأى فيه حسد قابيل وحقد هامان وطغيان فرعون وضلال السامري. هذا ما رآه جبران في كلا المشهدين كما رسمتهما كتب التاريخ والسير، وكما رآهما هو شخصياً ببصيرته الفلسفية، فلم يتردد لحظة واحدة في إطلاق حكمه قائلاً: (لم أجد إنساناً كالحسين سطر مجد البشرية بدمائه) (15).

وهكذا فإن المجد سطّره الحسين للإنسانية جمعاء بدمه المسفوح على رمال كربلاء من أجل كتاب الله وسنة نبيه، هو - بالمعيار الموضوعي - نفس المجد الذي سطره الإمام علي(ع) بدمه المُراق في بيت من بيوت الله، وهو عين المجد الذي سطّرته فاطمة الزهراء(ع) ابنة رسول الله(ص) بدماء سقطها (المحسن)؛ فدم الحسين هو دم الحسن ودم علي ودم الزهراء، وبتوحد الدماء سيتوحد المجد ويزداد تألقاً وإشعاعاً لينير للقلوب المثقلة بالهموم، وللإنسانية المكسورة الجناح، طريق الحق والفضيلة والصراط المستقيم الذي سلكه صعوداً إلى مملكة النور الأبدي حيث لا ظلم ولا دماء هناك.

وفي الواقع، فإننا لا نستطيع أن نتشعب في الأبعاد الروحية والفلسفية للحركة الحسينية أكثر من ذلك لأننا عندها سنكون مضطرين لكتابة مؤلفات عديدة وليس مقالاً كهذا المقال الذي بين أيدينا الآن.

الشهادة التي هزّت ضمير الأحرار..

وعلى كل حال، فإننا نقول إن العنف الذي أحاط بواقعة كربلاء قد هز، ولا يزال، ضمير الأحرار في كل بقاع الأرض؛ ولذلك فإن معظم المستشرقين الذين درسوا التاريخ الإسلامي بعمق شديد رأوا أن الفضل في بقاء تعاليم الإسلام الحقيقية حية، يعود إلى استشهاد الإمام الحسين في كربلاء؛ إذ لولا استشهاده هناك لما بقي الإسلام حياً حتى اليوم. وقد أيد المستشرق الفرنسي (لويس ماسينيون) هذه الحقيقة، واعتبر أن الموت العنيف الذي لاقاه أهل البيت قبل كربلاء وفي كربلاء، هو الخيار الوحيد الذي رضيت به فاطمة الزهراء؛ وذلك لضمان استمرار رسالة أبيها النبوية (16)، على اعتبار أن السيدة الزهراء(ع) كانت تعلم عن طريق أبيها(ص) كل ما سيحل بذريتها المقدسة من تشريد وعذاب وقتل من بعدها.

أما الفيلسوف الألماني (ماربين) فيقول: (إن مصائب الحسين أشد حزناً وأعظم تأثيراً من مصائب المسيح... وإني أعتقد أن بقاء القانون الإسلامي وظهور الديانة الإسلامية وترقي المسلمين هو مُسبّبُ عن قتل الحسين وحدوث تلك الوقائع المحزنة) (17).

وهذا يعني أن الحسين(ع) هو شهيد الرسالة وقتيل العبرة، وقد أحيا بقتله دين جده وجدَّد حيوية الإسلام الذي يريد للإنسان أن يكون حراً أمام كل شيء إلا من العبودية لله وحده. ونستطيع أن نتبين التزام الإمام الحسين(ع) بمفهوم الإنسانية ومراهنته عليه حتى اللحظة الأخيرة قبيل بداية المعركة، فقد وقف الإمام الحسين(ع) ورمق جيش عمر بن سعد بعين باكية، فسألته أخته زينب(ع): أتبكي يا أخي؟ فقال: والله ما على نفسي بكيت، بل على دخول هذه الجموع إلى النار.

نعم، لقد بكى الحسين لدخول أعدائه النار بسببه؛ لأنه هو الآن معيار الكفر والإيمان، فهو يدعوهم إلى الجنة، وهو يدعون أنفسهم إلى النار، وهذا أيضاً أحد الوجوه الفلسفية لنداء الإمام الحسين(ع) في كربلاء قبل استشهاده، ذلك الاستشهاد الذي كان عظيماً بحجم الرسالة الإسلامية.

وهكذا فإن حركة الحسين في خطّ الرسالة، حركة إنسانية تتجاوز الجغرافيا وتكسر حواجز التاريخ، إنها حركة التمرد على الظلم والطغيان أينما كان، ولذلك فقد قال الأديب المسيحي (أنطون بارا) في كتابه (الحسين في الفكر المسيحي) عن هذه الحركة:

(فجدير بقدسية رسالة الحسين(ع) أن يقدمها العالم الإسلامي كأنصع ما في تاريخ الإسلام إلى العالم المسيحي، وكأعظم شهادة لأعظم شهيد في سبيل القيم الإنسانية الصافية، الخالية من أي غرض أو إقليمية ضيقة، وكأبرز شاهد على صدق رسالة محمد(ص) (ص)، وكل رسالات الأنبياء التي سبقتها) (18).

جيش الحسين.. رمزٌ لتكامل الدور الإنساني..

وبما أن أحد وجوه الحركة الحسينية هي أنها ثورة الإيمان من أجل الإنسان، فالشيء الملفت الذي يخدم هذه الفكرة، هو طبيعة الأشخاص المرافقين للإمام الحسين في مسيرته؛ إننا نرى معه(ع) الطفل والشيخ والشاب، والمرأة والطفلة، كما ونرى معه أيضاً العربي وغير العربي، ونرى معه الأبيض والأسمر والأسود، ولكل واحد من هؤلاء دور عليه أن يؤديه باتقان على مسرح الفاجعة.

لقد اجتمعت كل مراحل العمر وكل الألوان وكل الطبقات الاجتماعية في جيش الإمام الحسين الذي بلغ عدده سبعين ونيف فقط مقابل الآلاف في جيش يزيد، حتى لكأن الله سبحانه شاء أن يجعل من جيش الحسين رمزاً للإنسان بعُمره ولونه وقوميته، ليقول له بعد ذلك إن الإسلام فوق كل هذه الحواجز. وما ثورة الحسين إلا من أجل إزلة هذه الحواجز والحدود؛ فللصغير دور، وللكبير دور، وللرجل دوره أيضاً، وللمرأة دورها الذي لا يقل شأناً عن بقية الأدوار أبداً. وهذا يعني أن هناك تكاملاً في الأدوار والمهمات من أجل الحفاظ على دين النبي المصطفى(ص). وعندما وقف (جون بن حويّ النّوبي) المعروف بـ (جون مولى أبي ذر) وهو عبد أسود اللون، أمام الإمام الحسين(ع) يستأذنه في القتال، لم يقل له الإمام الحسين: اذهب فلا حاجة لنا بك، ولا بلونك الأسود أيها العبد، بل أعطاه الإمام الحسين الإذن بالقتال، فلم يزل يقاتل حتى قتل سبعين رجلاً قبل أن يُقتل، فلما قتل وقف الإمام الحسين(ع) ونظر إليه وقال: (اللهم بيّض وجهه وطيب ريحه واحشره مع محمد(ص) وعرّف بينه وبين آل محمد(ص). فكان من يمر بالمعركة يشّم منه رائحة طيبة أذكى من المسك) (19). وهكذا، فإن لون الإنسان يسقط أمام الحركة الحسينية مثلما تسقط جنسيته ولغته وجنسه وعمره لأن الجميع وحَّدوا دماءهم من أجل وحدة هدفهم الذي رسمه لهم الإمام الحسين، ألا وهو إبقاء (الله الأكبر. أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله) حية بكل أبعادها في قلوب المؤمنين لتسمعها الأجيال القادمة وهي تشق عنان السماء إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.

وعندما نقف عند قول الله سبحانه وتعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون) (20) ندرك مباشرة أنه من الممكن للموت أن يتحرك في خط الحياة، ويمكن للحرمان أيضاً أن يتحرك ويسير في خط الرزق والاكتفاء؛ فالموت أحياناً ليس نهاية الحياة، بل هو وجه آخر من وجوه الحياة.

إن هذه الفكرة عن فلسفة الموت، هي التي دفعت المفكر الفرنسي (روجيه غارودي) للقول: (إن نموذج هذا الشهيد جسده لدى المسلمين استشهاد الحسين حفيد النبي الذي استشهد في معركة كربلاء في عام (680م). إن للشهيد هنا معنى آخر غير الهزيمة أو الموت لأنه شاهد باسم الحق والإيمان، إنه في نفسه مساهمة في نصر هذا الحق وهذا الإيمان) (21).

وأخيراً نقول إن الحركة الحسينية، أو ما أسميناها سفينة نوح، قد حققت أهدافها واستوت على الجودي حيث استطاعت أن تحرك الموت في خط الحياة، وأن تحوَّل (العدم) بالمفهوم الضيق إلى (وجود) روحي بالمفهوم الشامل؛ فموت الحسين ليس فناء في حقيقته بل هو الوجود ذاته، لأنه(ع) عاش فناء الجسد من أجل الله الحيّ الدائم، ومن يعش هذا الفناء، فسيحيى وسيُكتب له البقاء..

لقد ارتقى الحسين(ع) بأهل بيته وبأصحابه المخلصين إلى درجة عظيمة يصعب علينا نحن البشر أن نحدد علوَّها ومقامها العظيمين، وكيف يمكن لنا أن نحدد تلك القيمة الرفيعة للحسين(ع)، وهو القائل: (نحن سفينة النجاة، وعين الحياة، ونحن المعاني التي أشرقت من حضرة الأزل ولم تزل، والأنوار التي بسرَّها ظهر الوجود وبها عُرف العابد من المعبود، والشجرة الإلهية التي منها انفجرت ينابيع الفيض والجود) (22)؟.

ولذلك فعلينا أن نعيش أجواء عاشوراء في كل يوم حتى تُطهرنا نار الأشواق الكربلائية المقدسة، من عيوبنا، ولنرتوي بعد ذلك من الكوثر الحسيني الخالد. وعلينا أن نذكر دائماً أن الإسلام الكوني كان ولا زال محمدي الوجود حسيني البقاء.

الهوامش:

1- الخوارزمي: مقتل الحسين، مطبعة الزهراء، النجف الأشرف 1948 (ج1) ص188.

2- عبد الله عدنان المنتفكي: الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مجلة الثقافة الإسلامية، إصدار المستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق عدد تموز - آب 1993، العدد (50) ص44.

3- نفس المصدر العدد (50) ص52.

4- سورة مريم: الآيات 4-5-6.

5- سورة آل عمران: الآية 39.

6- توفيق فتح الله: عاشوراء وكلمات خالدة، أنتشارات لاله كوير، يزد 1421هـ ص12.

7- الحافظ الفقيه زين الدين عبد الرؤوف المناوي: كنوز الحقائق، مكتبة الزهراء - القاهرة 1985 ص86.

8- نفس المصدر ص38.

9- المبعوث الأسبق للأزهر في سوريا عبد اللطيف المشتهري: سيد الشباب الإمام الشهيد الحسين، طبع 1960 ص14.

10- الحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي: تاريخ الخلفاء، دار الفكر - بيروت بلا تاريخ للطبعة ص195.

11- راجع المصدر السابق للوقوف على فظائع يزيد بن معاوية ص191-196.

12- تاريخ الأمم والملوك: محمد بن جرير الطبري، دار سويدان - بيروت ج5 ص425.

13- روكس بن زائد العزيزي، الإمام علي أسد الإسلام وقديسه، ص11.

14- عباس محمود العقاد: أبو الشهداء الحسين بن علي، منشورات الشريف الرضي- طهران ص52.

15- راجع مجلة الموسم العدد 3 المجلد 4، تصدر في هولندا/1992 / ص354.

16- جان موريون: لويس ماسينيون، ترجمة: منى النجار - المؤسسة العربية للدراسات - بيروت 1981 ص81.

17- السيد عبد الحسين شرف الدين: المجالس الفاخرة، مطبعة العرفان - صيدا 1332هـ ص37.

18- انطون بارا: الحسين في الفكر المسيحي، انتشارات الهاشمي - قم 1404هـ ص85.

19- لبيب بيضون: خطب الإمام الحسين(ع) على طريق الشهادة، مطابع ابن زيدون - دمشق 1974 ص258.

20- سورة آل عمران 168.

21- روجيه غارودي: الإسلام دين المستقبل، دار الإيمان - دمشق - بيروت ص48.

22- الشيخ كاظم حمد النجفي: السفينة السائرة في فضائل العترة الطاهرة، مؤسسة الهادي- بيروت 1999- ص62.