الأنثراكس (الجمرة الخبيثة)

بين التشخيص والعلاج

د. علي حيدر

قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم) (النساء:71)

العداء قديم قدم الإنسان، ملازم له منذ بدء الخليقة (فأزلّهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) (البقرة:36).

الصراع سمة من سمات البشر، يأخذ أشكالا مختلفة، ويمارسه الناس بطرائق عدة، ويصل إلى نهاية دامية تتمثل بقتل الإنسان لأخيه الإنسان.

وأول صراع عرفه الإنسان كان بين ابني آدم.. قابيل وهابيل.. (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين) (المائدة:27).

وقتل هابيل أخاه قابيل.. (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين) (المائدة: 30).

ومنذ ذلك الوقت ورث الإنسان الصراع... وتعقدت أشكاله وتنوعت أسبابه... فكان الصراع بين الحق والباطل، بين العدل والظلم، بين الخير والشر. ولقد سعى كل طرف من أطراف الصراع إلى حسمه لصالحه مستخدماً في سبيل ذلك كل الأسلحة المتوفرة لديه... كانت البداية.. أسلحة حجرية تطورت إلى أدوات معدنية.. وتطورت العلوم ومعارف الإنسان.. ومعها أساليب الحروب وأسلحتها وفنون القتل.

واشتدّ سباق التسلح بين القوى، وسعى كل فريق لامتلاك أقوى الأسلحة وأشدها فتكاً.. فكانت الأسلحة الجرثومية.. وأصبح في مقدور الجنس البشري إفناء العالم بأسره عدة مرات.

يقول الفيلسوف البريطاني الراحل (براتراند رسل) في كتابه (أثر العلم في المجتمع): (لعلنا الآن نعيش آخر عصور الإنسان، وإذا كان الأمر كذلك فإنه سيكون مديناً للعلم بفنائه)(1).

وقد يتساءل البعض عن ماهية السلاح البيولوجي أو الجرثومي؟ ما هي خطورته على الإنسان والبيئة التي يعيش فيها؟ وكيفية الوقاية منه؟ فالحرب الجرثومية هي الاستزراع والاستخدام المتعمد لبعض الكائنات الحية الدقيقة، والتي تعرف اختصارا باسم الميكروبات وكذلك إفرازاتها السامة لإحداث المرض أو القتل الجماعي للإنسان، أو ما يملكه من ثروة نباتية أو حيوانية، أو تلويث لمصادر المياه والغذاء، أو تدمير البيئة الطبيعية التي يعيش فيها، والتي قد يمتد دمارها لسنوات طويلة. ولقد عملت عديد من الدول – بدرجات متفاوتة – على تطوير سلاح أو عديد من الأسلحة الجرثومية، بغرض استخدامها كسلاح دمار شامل، مستخدمة في ذلك أنواع فتاكة من الفطريات والبكتريا والفيروسات، و كذلك المواد السامة (التوكسينات) التي تنتجها، والتي يكفي غرام واحد منها لقتل نحو مليون شخص (2)، لا سيما لو علمنا أن إنتاج السلاح البيولوجي رخيص نسبياً، ويتطلب معدات ومواداً يمكن الحصول عليها بسهولة، ولا تحتاج إلى خبرات نادرة أو تقنيات متقدمة. فعلى سبيل المثال يمكن إنتاج البكتريا المسببة لمرض الجمرة الخبيثة (الأنثراكس) كسلاح بيولوجي فعال باستعمال إمكانيات محدودة، قد تكون متاحة في مبنى صغير نسبياً، وبتكلفة لا تتعدى مائة ألف دولار، وبقدرة بشرية لا تزيد عن إثنى عشر شخصاً من خريجي الجامعات، ويشرف عليهم خبير حاصل على درجة الدكتوراه في موضوع الأحياء المجهرية (الميكروبيولوجي)، كما أن المواد والمعدات اللازمة لإنماء هذا الميكروب يسهل الحصول عليها من شتى أنحاء العالم دون قيود أو شروط.

فإذا ما استطاع فريق الحصول على بعض خلايا من بكتريا الجمرة الخبيثة، فإنه يمكن تركها تتكاثر في بيئة غذائية مناسبة حيث تعطي جيلا ًجديداً من الخلايا كل عشرين دقيقة، وبعد مرور 10 ساعات من الانقسامات المتتالية لخلايا هذه البكتريا الممرضة، يصبح عددها نحو بليون خلية، ولا يمكن تصور عددها إذا استمر الانقسام تحت الظروف المثلى لمدة أسبوع واحد.

من ناحية أخرى كتب (رون أتلاس) رئيس الجمعية الأمريكية للميكروبيولوجي يقول: (إن الحصول على العوامل البيوكيميائية الداخلة في صنع الأسلحة البيولوجية أمر سهل، ويشير مسح شمل (1500) معهد أكاديمي أمريكي إلى أن 2% يتعاملون بمواد جزيئية ميكروبيولوجية وسموم تستخدم في تطوير الحرب الجرثومية)، وقد قام الشخص نفسه بطلب ثلاث قوارير من بكتيريا وباء الجمرة الخبيثة المجففة بالتجميد من مؤسسة زراعة النوع الأمريكي بمبلغ (240) دولاراً(4).

وليس الأمر مقصوراً على ذلك، بل إن بعض العلماء العاملين في مجال تطوير استخدام الميكروبات كأسلحة جرثومية لجأوا إلى وسائل البيولوجيا الجزيئية لهندسة هذه الميكروبات وراثياً، وجعلها أكثر قدرة وفاعلية في الإضرار بصحة الإنسان، وبمعنى آخر التوصل (عن طريق تجارب سرية) إلى فيروسات أو ميكروبات أو جراثيم ذات خصائص مختلفة عما هو معروف، يمكنها مقاومة المضادات الحيوية المتاحة، وتنتشر كالوباء حين استخدامها في مناطق معينة. وقد وصلت هذه الأبحاث إلى مراحل متقدمة للغاية، حيث اُستخدمت أبحاث الهندسة الوراثية للتلاعب في مكونات الجينات داخل خلايا هذه الجراثيم سواء بحذف بعض المكونات، أو بإضافتها، فتكونت جراثيم جديدة لها خصائص مختلفة، وغير معروفة.

والجمرة الخبيثة (الأنثراكس) من هذا النوع، من الجراثيم التي تعرضت لأبحاث الهندسة الوراثية لإنتاج سلالات بكتيرية أكثر فتكاً تستخدم في الحروب الجرثومية؛ لذلك اهتمت وسائل الإعلام المختلفة في شتى أنحاء العالم بإبراز مدى خطورة مرض الجمرة الخبيثة واستخدامها الضار فيما يسمى بالإرهاب البيولوجي، واحتمال تعرض المدنيين لذلك الخطر غير المرئي والذي يسبب رعباً نفسياً بمجرد التلويح باحتمال استخدامه.

يقول البروفسور (هانسيورج سين) مدير معهد كيمياء الكائنات الدقيقة في جامعة هامبورغ بشمال ألمانيا: إن هنالك عشر دول على الأقل تقوم بأبحاث متقدمة في تطوير الانثراكس لتحقيق أغراض عسكرية يقوم المعهد بتقديم المشورة العلمية والبحثية لها(3).

أما الدكتور (كيف جينكينز) السكرتير العام لإدارة البحوث الطبية في المجلس العلمي البريطاني فيحذر بشدة من خطورة هذه التجارب على الحياة البشرية نفسها، وهو يشير بذلك إلى التجارب التي يشترك فيها علماء الكيمياء الحيوية والهندسة الوراثية في بريطانيا وأمريكا لإنتاج نوع من بكتريا الأنثراكس للاستخدامات العسكرية، كما يشير الدكتور جينكينز إلى حادثة موت الدكتورة (جانيت باركر) الباحثة في جامعة برمنغهام البريطانية نتيجة إصابتها بعدوى مرض الجمرة الخبيثة عام (1978)، حيث كانت الدكتورة تجري أبحاثها على هذا النوع من الانثراكس؛ لإبتكار نوع آخر متطور تماماً.. فلم يستطع الأطباء معالجتها؛ لأن الجرثومة (المطورة) كانت مزودة بخصائص جديدة جعلتها محصنة ضد العقاقير المضادة المعروفة. وقد تم تطهير الجامعة بالكامل، وأغلق المختبر الذي كانت تجري فيه تجاربها حتى الآن، مع حرق كل متعلقاتها الشخصية.

نلاحظ أن سلاح الأنثراكس سلاح إرهابي أكثر منه سلاحاً للحروب العادية؛ حيث أنه لا يحقق الغرض العسكري المطلوب؛ فهو صعب التصويب نحو هدف محدد، وهو قابل للانتشار، مما يعرض المهاجم والمدافع لنفس الخطر، كما يمتد مفعوله لفترة زمنية طويلة، مما يعمل على إعاقة المعتدي من احتلال الأرض نظراً لتلوثها.

ولقد اجتاحت العالم منذ بداية القرن العشرين موجة متزايدة من أعمال العنف والإرهاب؛ باستخدام بكتيريا الجمرة الخبيثة، تعرض لها آلاف الأبرياء في مختلف دول العالم، وتطور الإرهاب على مر السنين من عمليات شبه فردية ذات آثار محدودة، إلى ما نراه الآن من عمليات منظمة قد تشترك فيها أكثر من جماعة إرهابية، وتمتد آثارها مهددة حياة الأبرياء.

ويمكن تعريف الإرهاب الجرثومي بأنه فعل غير أخلاقي، يسلك سلوكاً عسكرياً غير شرعي، يعتمد على التهديد بالعنف أو باستعماله فعلاً، وقد يقوم به فرد واحد أو عدة أفراد ينتمون إلى جماعة معينة ذات فكر متطرف عادة، بهدف تحقيق منفعة خاصة، أو فرض رأي سياسي أو مذهب معين.

وما يحدث الآن في الولايات المتحدة الأمريكية من أحداث تشير إلى أن متطرفين أمريكيين وراء ترويج وانتشار الجمرة الخبيثة؛ حيث نقلت صحيفة (واشنطن بوست) أن خبراء أمريكيين متطرفين يقيمون في الولايات المتحدة الأمريكية لا علاقة لهم بأحداث الحادي عشر من أيلول، هم وراء الهجمات بجرثومة الجمرة الخبيثة. وأكد مسؤول رفيع في الصحيفة قوله أن كل شيء يرجح فرضية وجود مصدر داخلي للجرثومة، ولا يبدو أن الأمر يتعلق بعملية من الخارج من النوع الإرهابي. ويرجح مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) ومحققو البريد علاقة مجموعات من اليمين المتطرف يقيمون في الولايات المتحدة بأحداث الجمرة الخبيثة الأخيرة(5).

فالإرهاب باستخدام الجراثيم يسلك جميع السبل للوصول إلى غايته؛ فهو يستبيح لنفسه المحظورات، ولا يقيم وزناً للأخلاق والمبادئ السامية، ولا يضع حقوق الإنسان في اعتباره. وهنا تكون الجمرة الخبيثة من الأسلحة القذرة التي يستخدمها البشر، والتي ترفضها الأديان والقيم الإنسانية.

الإسلام وموقفه من الأسلحة الجرثومية

حرّم الدين الإسلامي الحنيف استخدام هذا النوع من السلاح لإهلاك البشر، ووضع العديد من القوانين والأسس العلمية الصحيحة التي تسهم بشكل رئيس للحد من استخدام الميكروبات في الحروب باعتبارها تعمل على تدمير الإنسان والبيئة، كقوله سبحانه وتعالى: (وإذا تولَّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) (البقرة: 205).

فاستخدام هذا النوع من السلاح يؤدي بالنهاية إلى هلاك البشر وإفساد وتخريب وتدمير البيئة، فهو كفر بنعمة الباري عز وجل، وله عاقبه وخيمة، يقول الإمام الصادق (ع) عن آبائه(ع) ، عن الإمام علي (ع) : (نهى رسول الله (ص) أن يلقى السم في بلاد المشركين) (6).

وهذا تأكيد على حرمة استخدام السم بأنواعه كالميكروبات التي تلفظها الجراثيم على البشر، ولو كانوا مشركين.. إن سماحة الإمام الشيرازي (قدس سره) واستلهاماً لهذه المبادئ الإسلامية بحرمة استخدام الإرهاب البيولوجي والجرثومي في الإضرار والفتك ببني البشر يقول: (تكره المحاربة بقطع الأشجار، وتسليط الماء، والإحراق، وتسميم الماء والهواء. وإلقاء القنابل الميكروبية ونحوها، والإغارة على العدو ليلاً، وقد يحرم بعض ذلك لعنوان ثانوي) (7).

واعتماداً على قاعدة (الأهم والمهم) يؤكد سماحته في جانب آخر على أن لا تستخدم مثل هذه الأساليب من قبل المسلمين والتي تؤدي بدورها إلى الإضرار بسمعة الإسلام والمسلمين فيقول: (تجوز محاربة أعداء الإسلام بأنواع المحاربة الحديثة لكن اللازم مراعاة سمعة الإسلام والمسلمين أيضاً بأن لا يفعل شيء يكون ضرّه أقرب من نفعه) (8).

وعليه فإن كل الأسلحة الجرثومية مدمرة للحياة البشرية والإنسانية، إلا أن جرثومة الجمرة الخبيثة (الأنثراكس) تنفرد عن غيرها من أسلحة الدمار بكونها لا تؤثر إلا على الأحياء.

لمحة تاريخية

يعتبر مرض الجمرة الخبيثة من أقدم الأمراض التي عرفها الإنسان واستخدمها في صراعه وقتاله كأحد أنواع الأسلحة الجرثومية، ويمكننا القول بأن هذا السلاح استخدم باستمرار بجانب السلاح التقليدي، وقد اكتسب هذا السلاح قدرته التدميرية في العصور القديمة عندما كان التقدم الطبي غير قادر على ملاحقة التطورات والأفكار التي سخرت هذا السلاح من أجل الحرب، ويقال أنه هو المقصود في القرآن الكريم بكلمة (الدم) في الآية 133 من سورة الأعراف:

(فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين) (9).

كان أول استخدام لهذا السلاح على يد القائد اليوناني (سولون) (600 ق.م) عندما استخدم بعض الحيوانات في تلويث النهر الذي يستخدمه أعداؤه للشرب؛ الأمر الذي نتج عنه إصابة بعض جنود أعدائه بأمراض أثرت على كفاءتهم القتالية. وفي الحروب الصليبية قام الصليبيون باستخدام أنواع من الجراثيم ضد المسلمين عن طريق تسريب هذه الجراثيم داخل المعسكرات الإسلامية في محاولة لنشر الأمراض الفتاكة بين المسلمين.

وعند قيام الرجل الأوروبي باكتشاف وغزو أمريكا نجح في التخلص من أعداد كبيرة من الهنود الحمر عن طريق نشر مرض الجمرة الخبيثة (الذي كانت تصاب به جميع الحيوانات الثديية خاصة الأغنام والماعز والخيول) بين السكان الذي يفتقدون المناعة الطبيعية ضده. ولقد لعب هذا المرض بصفة خاصة دوراً رئيسياً في القضاء على الأغلبية الهندية الموجودة آنذاك.

كما أن هذا المرض اجتاح أوروبا عام (1613م) وأدى إلى موت (600) ألف نسمة.

وخلال الحرب الأهلية الأمريكية استخدم كلُ من (جونسون) و(شرمن) وهما من قادة القوات المتحاربة الجمرة الخبيثة ضد بعضهما عام (1863) الأمر الذي كبد الطرفين المتحاربين خسائر كبيرة، لفتت نظر العسكريين بعد ذلك إلى أهمية هذا السلاح، حيث لعبت الأمراض الناتجة عنه درواً كبيراً في إنزال الخسائر الفادحة بالجنود، وبالتالي كان لها تأثير كبير على الصورة النهائية للمعركة(11).

وبعد الحرب العالمية الأولى وخلال الفترة ما بين عام 1936 حتى 1946 بدأت أوربا وأمريكا بإنشاء المراكز والمعامل لتحضير جراثيم الجمرة الخبيثة على نطاق واسع! وفي نفس الوقت إنتاج اللقاحات والأمصال ووسائل الوقاية الطبية المضادة لها. ورغم تخوف قوات الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية من قيام ألمانيا باستخدام هذا السلاح ضدهم، إلا أنه اتضح بعد ذلك أن التقدم والتفوق الألماني كان قاصراً على الأسلحة الكيمياوية وليس الأسلحة البيولوجية، وأن الطرف الياباني هو الذي كان مهتماً أكثر من غيره بإنتاج وتطوير جراثيم الجمرة الخبيثة، خصوصاً في معامل الأبحاث العلمية التي كانت موجودة في (هربن) قرب منشوريا والتي استولى عليها الروس ونقلوها إلى الاتحاد السوفيتي السابق.

وخلال الحرب العالمية الثانية قامت بريطانيا بتجربة استخدمت فيها الجمرة الخبيثة كسلاح على جزيرة (جرونارد) الاسكتلندية أدى ذلك إلى مقتل العديد من الناس، ولم تطهر الجزيرة من آثار المرض حتى عام (1987) باستخدام مادة الفورمالين. وخلال الحرب الكورية استخدم الأمريكيون سلاح الانثراكس عن طريق حقن الحيوانات الصغيرة مثل الفئران والأرانب بجراثيم الجمرة الخبيثة(4).

وقد وقع أكبر حادث استنشاق بشري لجراثيم الجمرة الخبيثة في عام (1979) في المركز البيولوجي العسكري في (سفيردلوفيسك) في روسيا، حيث أطلقت جراثيم الجمرة الخبيثة بطريق الخطأ مما أدى إلى حدوث (879 حالة) إصابة بالمرض توفي بعد ذلك من بين المصابين 68 شخصاً وقد تصرفت السلطات السوفيتية آنذاك بسرعة، حيث جرى تطعيم (50) ألف شخص، وتم غسل مباني (سفيردلوفيسك) بمحلول الكلور، وإعادة رصف الطرق، واستولت الاستخبارات السوفيتية على كل السجلات المتعلقة بالكارثة. وذكر المسؤولون في ذلك الوقت أن السبب وراء الكارثة هو لحم ملوث، إلا أن المسؤولين اعترفوا بعد ذلك عام 1992 وقالوا (إن أبحاثنا العسكرية كانت السبب). وقد أثرت حادثة سفيردلوفيسك تأثيراً كبيراً على سياسات الدفاع المدني السوفيتي، فقد تحسنت إجراءات الأمن تحسناً كبيراً في مراكز الحرب البيولوجية وتم إعداد إجراءات للتعامل مع انتشار المرض في المستقبل.

وألقت المؤسسة العسكرية السوفيتية أطناناً من مسحوق الجمرة الخبيثة فوق جزيرة (فزر وجدنيا) في بحر الأورال، وهي الآن جزء من جمهوريتي أوزبكستان وقزاخستان، وعثر الباحثون الأمريكيون على جراثيم حية للجمرة الخبيثة في أوائل التسعينات(5).

وفي عام 1979 تفشى الأنثراكس المدمر بشكل كبير في زيمبابوي، وقد قامت الجماعة الإرهابية اليابانية المعروفة باسم (أوم شيزيكيو) بإطلاق غاز السارين السام في محطة الأنفاق في طوكيو عام (1995) كما حاولت نفس الجماعة أيضاً نشر جراثيم الجمرة الخبيثة، ولكن أحداً لم يصب بالمرض جراء ذلك، وكذلك قامت الجماعة الإرهابية نفسها بخرق مراسم زفاف ولي عهد اليابان عن طريق نشر بكتيريا الأنثراكس، وحاولوا أيضاً مدة أربعة أيام متتالية نشر جراثيم الجمرة الخبيثة من سطح مبنى في طوكيو، وجميع هذه المحاولات باءت بالفشل، لأن حجم الجراثيم يجب أن يتراوح بين (1-5) ميكرون كي تدخل الرئة وتبدأ باستنشاق الجرثومة.

وظهرت الجمرة الخبيثة أخيراً في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوربية عن طريق جماعات إرهابية وهم خبراء أمريكيون متطرفون يقيمون في الولايات المتحدة قامت بإنتاج البكتريا المسببة للمرض وتطويرها وإرسالها على هيئة مساحيق برسائل وطرود ملغومة – عن طريق هجمات إرهابية – إلى أماكن متعددة من الولايات المتحدة الأمريكية، ومن جانب آخر يصر القادة الروس على أنهم أوقفوا برنامجهم الخاص بإنتاج بكتريا الجمرة الخبيثة منذ سنوات مضت، وكذلك الولايات المتحدة وبريطانيا اللتان تمتلكان برامج متكاملة لإنتاج الأنثراكس المتطورة ولكنها أنهيت في عام (1972) عندما أدى القلق العالمي إلى توقيع معاهدة منع إنتاج وتخزين مثل هذه الأسلحة الجرثومية، وقد وضعت الولايات المتحدة قائمة تضم 17 بلداً لديه برامج للأسلحة البيولوجية، وتمتلك مخزوناً هائلاً من جراثيم الأنثراكس.

أصول المرض

الجمرة الخبيثة مرض جرثومي، يصيب عادة الحيوانات الظلفية كالأبقار والأغنام (آكلة الأعشاب) ويعتبر من الأمراض المهنية؛ إذ غالباً ما يشاهد عند الرعاة والعاملين باللحوم والدباغة والجلود والأصواف. والمرض تسببه عصيات جرثومية تسمى عصيات الجمرة (Bacillus anthracis)، وهي بكتيريا هوائية متجرثمة، موجبة لصبغة جرام، ذات قدرة مرضية عالية. اسم المرض باللغة الإنكليزية (أنثراكس) وهي كلمة مقتبسة من الكلمة اليونانية أنثراكيس (Anthrakis) وتعني الفحم؛ ذلك لأن المرض يتسبب في ظهور تقرحات جلدية سوداء محمرة في الوسط على هيئة جمرة. نادراً ما يصيب المرض البشر إلا أنه يشكل خطراً عليه إذا استخدمت أبواغ (أجنة) هذا الجرثوم في الأسلحة الجرثومية، وتحوصل الجراثيم يتيح لبكتريا المرض العيش لفترات طويلة في ظروف بيئية غير مؤاتية، حيث تتميز هذه الجراثيم المتحوصلة والتي تعرف أحياناً باسم السبورات أو الأبواغ، بغلاف سميك. تبقى هذه الأبواغ في نطاق واسع من ظروف درجة الحرارة والرطوبة والضغط، والغرام الواحد من أبواغ الجمرة الخفيفة المجففة يحتوي على أكثر من 11 10 جسيم (وحيث أن الجرعة المميتة للاستنشاق تتراوح بين - 210 – 410- بوغ) فأن الغرام من جراثيم الجمرة الخبيثة يحتوي نظرياً على 10 ملايين جرعة مميتة تقريباً، ويمكن أن تتحصن الجراثيم في التربة في طور السبات لسنوات عديدة بسبب مقاومتها الشديدة للظروف القاسية ثم تجدد نشاطها، وتؤدي السموم التي تنتجها جراثيم الجمرة الخبيثة إلى الموت، وفي الشكل المنقول بالهواء لهذا المرض تكفي كمية من الجرثوم بقدر ملعقة الشاي لإمراض وقتل المئات من الأشخاص.

وقد يصاب الإنسان بالجمرة عن طريق الحيوانات كما يمكن للذباب أن ينقل هذه الجرثومة، وتسبب الجرثومة عند الإنسان آفة جلدية تسمى البثرة الخبيثة، فبعد دخول الجرثومة وأبواغها من خلال شق في الجلد تظهر حطّاطة أو إحمرار جلدي، وبعد 12 إلى 63 ساعة تتحول إلى حويصلة ثم إلى بثرة وأخيراً تشكل قرحة جلدية واسعة، تصل بعدها إلى الدم وتسبب الالتهاب الدموي المعمم، ويمكن أن تصيب الجمرة رئتي الإنسان بشكل أولي، وذلك بدخول الأبواغ عن طريق الجهاز التنفسي باستنشاق الهواء الملوث (هذا النوع من الإصابة مميت)، وكذلك يمكن أن تحدث الإصابة المعوية عن طريق تناول اللحوم المصابة(12).

المرض نادر الحدوث في أوربا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، لكنه يظهر بشكل كبير في أمريكا الجنوبية والوسطى وجنوب شرق آسيا وشرق أوربا وآسيا وأفريقيا. أكثر الناس عرضة للإصابة بالمرض هم الأشخاص الذين يتعاملون مع الحيوانات أو الذين يعملون في الصناعات المتعلقة بمنتجات الحيوانات من لحم وصوف.

الجمرة الخبيثة مرض غير معدي، والطريقة الوحيدة للإصابة به تكون عن طريق التعرض لأعداد كبيرة من الجراثيم.

وفي العدد القادم سنتعرض لطرق تشخيص وعلاج المرض.

المصادر:

1- الحرب الكيميائية – د. نزار رباح الريس وآخرون – مؤسسة الكويت للتقدم العلمي – الكويت (1986).

2- الحرب البيولوجية ضد المحاصيل الزراعية – بول روجرز (وآخرون) – ترجمة مجلة العلوم – مؤسسة الكويت للتقدم العلمي المجلد (15) العدد (12) (1999).

3- أسلحة الدمار الشامل (الكيمياوية، البيولوجية، النووية) – جلال عبد الفتاح، المكتب العربي للمعارف – القاهرة، مصر (1995).

4- مجلة نيوزويك (قلق إزاء الجمرة الخبيثة) – شارون بيكلي – العدد (72) أكتوبر (2001).

5- ميدل أيست أونلاين – الانثراكس- (أخبار عالمية عن طريق الانترنت) 27، أكتوبر (2001).

6- الكافي (الفروع) – الكليني ج5 ص28 ح2.

7- المسائل الإسلامية – فتاوي الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (باب الجهاد) ص439 مسألة 2239 مؤسسة الإمام للطبع والتحقيق والنشر – بيروت، لبنان – الطبعة 37 (2000).

8- موسوعة الفقه – الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي – كتاب الجهاد – المحاربة بالأسلحة الحديثة ص192 مسألة 61 ج47 – دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع – الطبعة الثانية (1988).

9- الإرهاب البيولوجي – أ.د. محمد علي أحمد – دار نهضة مصر للطباعة والنشر القاهرة – مصر (2001).

10- مقالات (الحرب) – الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي – مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر – بيروت – لبنان – الطبعة الثانية (2000).

11- الحرب غير التقليدية (الأسلحة الذرية والكيمياوية والبيولوجية) – مصطفى أحمد كمال – دار الثقافة للطبع والنشر والتوزيع – الدوحة، قطر – الطبعة الأولى (1991).

12- بي بي سي أونلاين – حقائق عن الجمرة الخبيثة – (أخبار عالمية عن طريق الانترنت) أكتوبر (2001).