د: أديب عقيل(*)

ماذا ترى على شاشة التلفزيون من بشاعات وجرائم وانتهاك أعراض واعتداءات وحرق وتدمير وطرد وتشريد وتهجير؟ وما زالت زوبعة الإمبريالية والصهيونية تقرضنا دولة بعد أخرى أو جميعاً، وهناك من يقول: (إننا بحمد الله ما زلنا بخير، فهذا أمر لا يخصنا وما زال بعيداً عنا)، كفانا دساً لرأسنا في الرمال لأننا عما قريب لن نجد للرأس في التراب ولا في الرمل مكاناً.

الذين يبيعونك أجهزتهم لتسليتك، بعد شرائك أفلامهم الخبيثة المضللة والمخدرة، لتثق بهم وتتخلق بأخلاقهم، فتتبعهم طيعاً دون عقل أو إرادة، ولن نلفت النظر إلى الإهانات التي تكال لأمتنا بعشرات الآلاف يومياً من قبل الإعلام العالمي بشتى أشكاله وألوانه وألاعيبه على الأمم في طول الأرض وعرضها، تلك الإهانات والاتهامات التي يأنف الذليل سماعها.

وثمة من يتمزق قلبه غيظاً ويتفطر كبده أسفاً، وآخرون منا تشمئز نفوسهم من سماعها، والبقية منا يتململون من رؤية الضحايا من الأبرياء والمستضعفين في نشرات الأخبار، ولكن لا ضير عليهم ما دام يبثها ومن ثم سيسليهم عنها وينسيهم شؤمها ويغيب عن آذانهم واحساساتهم المرهفة جداً، لؤم مرتكبي تلك الجرائم العالميين والمحترفين، ما دام سيتبع تلك المناظر المزعجة على شاشة التسلية المنزلية برنامج ومنوعات وفكاهات تنسيهم جميع ما أزعجهم به عدوهم في تلك اللحظات، أو ليس هذا ما يفعله فينا الإعلام الإمبريالي الموجه ضدنا؟، ألا نفهم أي ضيف خطير في بيتنا، هل ما زلنا نعتبره جهاز تسلية وترويح يبرّد ألم الحزن عن نفوسنا المغمومة المهمومة؟ (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً) (1).

فلم يعد الإرهاب الذي ما زالت الأنظار مركزة عليه هو الخطر الأول على الشباب، ودون التقليل من أهميته، ينبغي أن ننتبه إلى انتشار العنف الجنائي (البلطجة) في صفوف الجيل من طلاب المدارس، وإلى انتشار السلبية واللامبالاة والانصراف عن العمل العام وعدم الاهتمام بالسياسة..

التلفزيون أكثر وسائل الإعلام جذباً وتأثيراً بما يقدمه من برامج مشبعة بالضحالة والإسفاف وإشاعة الانحطاط في عقول ووجدان أطفال الأمة، لا سيما المراهقين، ومنها المسرحيات التي تنتقص من هيبة الكبار من آباء ومعلمين (من مسلسلات محلية أو مستوردة التي تحث على العنف والعدوان والضحك والزحلقة والشحلقة بدون سبب).

فصانعة البيتزا لا تملك منظومة قيمية أخلاقية، صحيح أن لديها أفكاراً تكفي لصنع إمبراطورية قوية دعائمها الفكر الحر والاقتصاد القومي وترسانة أسلحة وإعلام جبار، ولكن هذا كله لا يكفي؛ الإمبريالية تريد أن تنتقل من استراتيجية احتواء الحكام إلى استراتيجية أعمق تقوم على احتواء الشعوب، وهذا الأمر في غاية الصعوبة بل والخطورة لا سيما أنه يتعارض مع القيم الأخلاقية لمجتمعات هي أكثر عراقة وأصالة من المجتمعات الغربية.

وإذا وضعنا الظاهرة في إطار العلاقة الصحيحة وتعرفنا على أسبابها وعواملها، ببيئة تفسد من كان في الأصل صالحاً، ننبه إلى نقطة أساسية هي أن الحلول تستنبط من بطون المشكلات، ومن دون ذلك سنظل نلف وندور حول أنفسنا، وتتصاعد الشكوى من جنوح كثرة من الشباب، ولا أمل ولا شيء ممكن إذا انحرفت المقومات الكبرى للتربية والتنشئة، من الأسرة والمدرسة والتلفاز، فاليابان أخذت التقنية والتكنولوجيا الحديثة لكنها لم تتخل عن القيم والمبادئ الأساسية.

فاللجوء إلى الانغلاق على الذات لا يحل المشكلة ولا يحسمها، الأمر الذي يقتضي التفكير وإيجاد المقاربة العلمية المتلازمة مع تغير المشهد الإعلامي بما ينسجم وقيمنا ومعتقداتنا والابتعاد عن قيم السلبية والاستهلاك والأنانية.

التلفزيون ومعوقات التنشئة الاجتماعية

يصعب الحديث عن التلفزيون بصيغة المفرد؛ لأن هناك عدة تلفزيونات ذات أنماط مختلفة من التمويل وذات وظائف وأدوار مختلفة ومضامين متباينة وإمكانيات تكنولوجية متفاوتة، ولكن مهما تعددت التلفزيونات فإنها تؤكد على أن الإنسان لا يتعلم بالعقل فقط بل بالعاطفة والجسد أيضاً؛ فالتلفزيون هو متعة الاستعراض والمشاهدة والفرجة(2).

إن التلفزيون الذي أصبح يحتل مكانة مهيمنة في فضاء الاتصال الجماهيري يوفر اليوم مادة إنتاج ثقافي وفكري غزير، ويشكل ملتقى نقاش يشتد تارة، ويلين تارة أخرى، تتشارك فيه مجموعة من مختلف الاختصاصات والمهن: الساسة والمؤرخون، والكتاب والفنانون والمخرجون، والفلاسفة والسينمائيون، وعلماء الاجتماع والنفس، وعلماء الاقتصاد، والحقوقيون والصحافيون ونقاد الفن، وهنا لا بد من ضبط النشاط التلفزيوني وإخضاعه للسياسة التربوية الشاملة بما يتناسب وعملية التنشئة الاجتماعية.

تطرح العلاقة التربوية بين الأطفال والتلفزيون إشكالية تربوية بالغة الأهمية والتعقيد، وشكلت هذه العلاقة أساساً من محاور البحث العلمي على المستوى التربوي خلال العقود الأخيرة من العصر الذي تعيش فيه؛ فالتلفزيون ينافس اليوم المدرسة والأسرة في عملية التنشئة الاجتماعية؛ مما أدى إلى إثارة اهتمام المفكرين، وتجادلهم في الآثار السلبية المحتملة التي يمكن أن يتركها التلفزيون في حياة الأطفال النفسية والاجتماعية.

يكاد يجمع الباحثون اليوم على أهمية الدور التربوي الذي يؤديه التلفزيون في حياة الأطفال، وهم يجمعون أيضاً -دون ريب- على جملة من الآثار السلبية التي يتركها التلفزيون في حياة الأطفال النفسية والتربوية(3).

الطفل والتلفزيون

تنتشر الفضائيات وتمنحنا خيارات عديدة إلى حد الحيرة في الاختيار، فالوالدان هما - بشكل عام - الأكثر تأثيراً في تشكيل شخصية الطفل في المراحل الأولى في حياته وهما البنك المعرفي الذي يزود الطفل بالمعلومات، ويرد على تساؤلاته واستفساراته عندما يحاول أن يفهم ما يدور حوله، وينعكس ذلك إيجابياً على الطفل، فالتماس المباشر بالطفل يجعل الأم أكثر إحساساً ودقة ومعرفة بالتغيرات التي تطرأ على طفلها.

أخذت العلاقة بين أفراد الأسرة شكلاً مختصراً بدخول التلفزيون إلى منازلها واتساع المساحة الزمنية المخصصة للبث، وصار بإمكانها، من خلال التحكم عن بعد، التنقل بين القنوات المتعددة كما تشاء، وعاشت في نطاق ضيق، وأصبح هذا الضيف يفرض نفسه على سهراتنا العائلية الحميمية وأصبح التلفزيون ثالث الأبوين، وربما أولهم، بالنسبة للطفل، ومع الأسف، فإن الأبوين كثيراً ما يدفعان الأطفال في هذا الاتجاه تهرباً من المسؤولية الملقاة على عاتقهما، أو لإلهائهم وضمان هدوئهم؛ وبذلك تضاف إلى هذا الجهاز وظيفة أخرى هي وظيفة جليسة الأطفال (4).

يقضي أطفالنا ساعات طويلة أمام الشاشة في مرحلة الطفولة المبكرة وفي المرحلة الابتدائية والثانوية، والتسلية هي الدافع الأقوى لمشاهدة الطفل للتلفزيون، والطفل يكتسب كل شيء من خلال الترفيه، الأمر الذي يؤكد أن الطفل، وعلى الرغم من أنه لا ينظر إلى التلفزيون مصدراً للمعلومات والتوجيه والتعليم، وعلى الرغم من أنه لا يشاهد التلفزيون طلباً للمعرفة، ولا يجلس أمام التلفزيون وهو يقصد التعلم، وكذلك لا ينظر إلى البرامج التعليمية في التلفزيون وكأنها اعتداء صريح على وظيفة التلفزيون الرئيسية وهي الترفيه، نقول وعلى الرغم من ذلك كله، فإن البحوث الإعلامية تؤكد أن الأطفال يتعلمون من برامج التسلية والترفيه أكثر مما يتعلمون من البرامج التعليمية(5).

وفي هذا المجال لا بد من الإشارة إلى التدهور القيمي في المحطات التلفزيونية بما تعرضه من أغان لا تعبر عن أخلاقياتنا وقيمنا، بالإضافة إلى إضاعة الوقت والتأثر بمشاهد متباينة (من العنف إلى الخيال إلى الطبيعة إلى الحيوان إلى عالم الفضاء)، برامج تهجم وتؤثر على قيمنا المعرفية والخلقية أو التربوية؛ برامج للضحك، أو برامج للمتعة.. لا يراعون الفروق في الجنس أو العمر.. برامج تبث في المدارس والمشافي والملاهي والسجون ومحطات النقل العام...الخ.

وسيلة إعلامية ساحرة

الأطفال منذ الشهور الأولى وهم بصحبة التلفاز، حيث الطفل ينمو ويتطور إدراكه ويتأثر مستوى أدائه من خلال التلفاز.

لا شك في أن هناك لفتات مضيئة في إعلامنا، وهذا ليس تفضلاً من الإعلام علينا، بل هو واجب عليه، وهذا هو دوره الريادي الذي يجب أن يقوم به، وعلى الرغم من كل هذه اللفتات المضيئة يجب أن نقول للإعلام: أنت تخطئ عندما تفتح مساحة ولو كانت ضيقة لبعض المسلسلات الأجنبية والمعدة لتناسب أذواق وقيم المجتمعات الغربية، فيستوردها إعلامنا ويبثها في مجتمعنا الشرقي فتبدو غريبة أو تشعر المشاهد لدينا بإحباط من نوع خاص.

إن المسألة أخطر بكثير من مسألة ملء ساعات البث الاضطرارية، ومن الواجب على المشرف الذي لا يستطيع أن يملأ ساعات بثه بما هو مفيد، أن يتنحى جانباً بدلاً من أن يهدم أجيالاً كاملة أو يهدم أمة بأجمعها.

إن صانع القرار محكوم بمرجعيته الثقافية والفكرية في انتقاء مادته الإعلامية التي يتوجه بها للجمهور، وعليه الالتزام بحدود القيم الإنسانية والاجتماعية السائدة في المجتمع،وعليه أن يحترم عقل الإنسان وثقافته، فنحن أمة لها مرجعيتها الثقافية. إن كل مجتمع من المجتمعات ينطلق من فلسفة معينة، المجتمع الأمريكي ينطلق من فلسفات (براجماتية)، حيث ينظر للمنفعة المادية ولا ينظر لسواها حتى لو حطم القيم والمعايير في الحياة، ولكن فلسفتنا تختلف عنها فلدينا ثوابت معينة يجب ألا نخرج عنها. إن هذه الثوابت في الحقيقة تبقى ثابتة لا تتغير؛ الصدق هو الصدق، والكذب هو الكذب، والغش هو الغش والخداع هو الخداع، فالإعلام الجيد يسهم في خلق أمة جيدة انطلاقاً من هذا المعيار القيمي؛ فلم نعد بحاجة إلى ما يعرضه التلفاز من حكايات خرافية غير هادفة، وهذه كلها تخطاها الزمن، ومسؤولية القائمين على أجهزة الإعلام واسعة بمقدار سعة هذه الأمة، أي بمقدار ما تصل إليه هذه الرسالة الإعلامية.

التلفاز أخذ يلعب الدور الأكبر في التنشئة الاجتماعية، ومحطات التلفزة تبث برامجها خلال ساعات الليل والنهار، وتتسارع لتقدم الأبهى والأروع، وأصبح التلفاز هو العامل الرئيسي الأول المنافس للأسرة والمدرسة، إنه يقدم الموسيقى والرياضة والفكاهة.. إلخ، لذلك علينا الاهتمام بالبرامج الموجهة إلى الأطفال، وتخصيص ساعات محدودة لمشاهدة التلفاز وأية برامج يشاهدها الطفل والتفريق بين ما يعرض للصغار وما يعرض للكبار، ولعل الإعلاميين معنيون بالسعي للارتقاء بهذه الأمة عن طريق هذه الآلة الإعلامية، وأن يكونوا مع هذه الأمة في ضميرها وتوجهاتها وفكرها. ومن المفيد هنا أن تتعاون المؤسسات الرسمية وغير الرسمية كافة في سبيل تكريس المعاني الخيرة وتعميقها.

موقف الأسرة من التلفزيون

هناك من يعد التلفزيون أداة تربوية تعليمية، وأنه يزيد من قدرات أطفالهم فكرياً وثقافياً، ويرون أنه يكسب الأطفال عادات وقيماً مرغوباً بها، ويذهب بعضهم إلى الاعتقاد بأن التلفزيون يشكل رابطة أسرية هامة، وأنه لا يشكل خطراً يهدد حياة الأسرة، كما ترى بعض الأمهات أن التلفزيون يشكل عامل تنظيم داخل الأسرة، فهو أحد أساليب الضبط والتوجيه التربوي داخل الأسرة، وفي ذلك يقول الدكتور مصطفى أحمد تركي: (إن الأسر تنازلت عن بعض أدوارها في التنشئة الاجتماعية للتلفزيون)، لكن بعض الناس ينظرون إلى التلفزيون بوصفه أداة استلاب وقهر ثقافي وتربوي، وهم يركزون على مخاطر البرامج التلفزيونية وعلى آثارها السلبية في عقول الأطفال (6).

وثمة مضامين إعلامية تريد من الشباب أن يكون سياسياً يستهلك الأطروحات الأيديولوجية والسياسية المطروحة عليه، في حين تسعى مضامين أخرى إلى أن يكون كائناً استهلاكياً مجرداً في زمن الاستهلاك اللامعقول. تقوم البرامج الموجهة بقتل عقل المشاهد بمواد لا فائدة منها لتجعله في النهاية إنساناً فارغاً وتحاول أن تتحكم في تصوراته ومعتقداته ليكون فرداً سلبياً ومطواعاً وقابلاً للتوجيه وفق غايات الإمبراطورية العالمية!.

وفي هذا المجال لا بد من تدخل الأهل من أجل ضبط مشاهدة أطفالهم للتلفزيون مع تقدير ملكات الطفل ورغباته بما يتناسب ونوعية البرامج وخصوصيتها.

وهنا نؤكد على احترام رأي الطفل، ولكن بتحديد وقت المشاهدة وعدم تركه لساعات طويلة أمام التلفزيون؛ وذلك عن طريق الحوار والمناقشة، والابتعاد عن القسر التعسفي، وجعل الحوار عفوياً طبيعياً، ومنعهم من مشاهدة أفلام العنف؛ فالتعرض المتكرر لوسائل الإعلام العنيفة يعلم العنف، ويحفز من لديهم الاستعداد للتصرف بعدوانية.

وربما كانت معدلات جرائم القتل أصدق مقياس للعنف في العالم، فعلى سبيل المثال تشير دراسة أجريت على أطفال المدارس في الولايات المتحدة إلى أن التعرض المتكرر لبرامج التلفزيون العنيفة يزيد من احتمال أن يسلك الأطفال سلوكاً أكثر عدوانية، إلا أن التقاليد الثقافية القوية في اليابان المضادة لتعبيرات العدوان الخارجي قد تكبح بالفعل جماح العنف الذي يتم تعلمه من خلال وسائل الإعلام (7).

إن الطفل الذي يظل وحيداً ولمدة طويلة يشاهد التلفزيون، ولا سيما البرامج العنيفة، لن يكون طفلاً سعيداً، وهذا كله يتوقف على فعالية الأهل ومدى مراقبتهم وتوجيههم.

فلا بد من سيطرة الأهل بالتفاهم مع الأطفال على التلفزيون، ومساعدتهم في فهم واستيعاب ومن ثم الاستفادة مما يشاهدونه.

ويمكن القول بشكل عام بأن التلفزة تتحكم بطريقتين:

- الأولى رسمية وتتصل بقيم التنشئة الاجتماعية والسياسية وبمبادئ المعتقد.

- الثانية غير رسمية وتوجه القيم الجمالية والذهنية والسلوكية واللباسية وحتى كيفية التعامل مع الأقران (8).

فقد غدت التلفزة اليوم بلا منازع، أقوى وسيلة إعلامية ذات قدرة فائقة على النفاذ إلى كل البيوت، فهي قادرة على تشكيل الذهنيات وإعادة إنتاج المجتمع والتحكم في توجهاته الراهنة والمستقبلية.

التلفزيون وإشكاليات التغيير

يكثر الحديث عن تأثير التلفزيون بالمجتمع في المجال السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وأصبح واضحاً أنه من غير الممكن ترك الإعلام بلا تخطيط أو سياسة واضحة، لأن هذا يؤدي إلى عرقلة قضايا التنمية والتحول، ويضع عقبات في طريقها، ولم يعد ممكناً النظر إلى البرامج الإعلامية على أنها خدمة عارضة يمكن أن تترك للمصادفة، بل لا بد من وضع سياسات شاملة للاتصال.

وتشهد دول المنطقة أيضاً تغييراً في بنائها الاجتماعي انعكس على مجموعة من القيم والتطلعات وأنماط السلوك، مما يقتضي بالضرورة أن تتشكل السياسات والممارسات الإعلامية لتلبي متطلبات التغير وتساعد على ترشيده حفاظاً على التوازن الاجتماعي المنشود. من هنا يجب أن ينفتح التلفزيون على المجتمع ويعبر عن طموحاته واهتماماته ويعتمد على المجتمع كمصدر أساسي لكافة برامجه بالانفتاح على مختلف المواضيع التي تهم أفراد المجتمع، وبخاصة تلك التي ترتبط بواقعهم المعيشي.

إن الاهتمام ببناء المجتمع هو في حقيقة الأمر الاهتمام بالمواطن، بماضيه وتراثه الثقافي والفكري وبحاضره وبمستقبله، والتعامل معه إنساناً راشداً يمكن أن ينتج ويسهم في بناء المجتمع القادر على البناء والتغيير.

التلفزيون هو أداة التحديث في المجتمعات النامية، والرؤية النقدية المقابلة التي تعمل على مواجهة الإعلام الغربي الذي يعد نوعاً من الاستعمار الثقافي الذي يفرض القيم الغربية؛ فالتلفزيون يلعب دوراً مزدوجاً؛ فهو يمكن أن يكون أداة للضبط الاجتماعي وأداة للتحرر في الوقت ذاته، كما أنه يمكن أن يعبر عن الهيمنة الكونية للغرب، وفي الوقت ذاته يمكن أن يكون وسيلة لإنعاش وإحياء الثقافات المحلية.

كيف يمكن أن نجعل التلفزيون مواكباً للتحولات السريعة التي تعيشها مجتمعاتنا:

1- الارتباط بأهداف التنمية الشاملة وخططها بشكل رشيد وديناميكي.

2- أن تستهدف سياسات الاتصال إصلاح التربية بما يتطلبه ذلك من تنمية ملكات التعلم الذاتي، والتفكير العلمي، وملكة التكيف والإبداع، وفهم المشكلات ومواجهتها، والانتقال من التلقين إلى تطوير الشخصية، ومن التربية المحدودة إلى التربية الشاملة، ومن التربية الاستهلاكية إلى التربية الانتاجية؛ مما يدعم قدرة الجمهور على التحكم.

3- تدعيم الإحساس بالمواطنة والانتماء والرغبة في المشاركة في بناء الوطن والإسهام في تشكيل الهوية الوطنية ومحاولة خلق وعي عام لدى الجماهير بأهمية الاكتفاء الذاتي والاعتماد على النفس.

4- الحفاظ على القيم الذاتية الثقافية الوطنية وتعزيزها والحيلولة دون الغزو الثقافي وفرض اتجاهات اجتماعية ونماذج سلوكية قد تعوق التنمية، وتستمر معها أوضاع الظلم الاجتماعي والتبعية، وإن كان هذا لا يمنع من الانفتاح على الثقافات الأخرى، دون الاعتماد الكلي على الإنتاج الثقافي وقبوله بلا تمحيص.

5- بناء نموذج اتصالي يقوم على المشاركة لا على فرض الاعتقادات، بتجنب الاعتماد على النموذج الرأسي في الاتصال، وتوفير الفرص للمشاركة الشعبية في الاتصال وتحقيق ديمقراطيته، وبذا يتخلص النظام الاتصالي من سمة الاتجاه الواحد ويحقق فكرة الاتصال كحق أساسي وينظر للجمهور كمشاركين لا كمتلقين أو مستهلكين فحسب.

6- الالتزام بمفهوم واضح للحرية يحترم هوية كل شعب وحقوق الإنسان وحرية التعبير.

7- تدعيم القيم الروحية وخاصة مع انعكاس آثار الثورة التقنية على الإنسان وفشل تجارب الانغماس في الحضارة الغربية.

8- اعتماد اللغة العربية الفصحى التي يفهمها أفراد المجتمع(9).

إن التلفزيون مؤسسة اجتماعية وثقافية، قبل أن يكون منتجاً وموزعاً للإعلام؛ فهي تقيم الاتصال بأفراد المجتمع وتعيد (إنتاج الثقافة) أو تقوم بتوزيع سلع ثقافية عبر إقامة علاقات اجتماعية مع المتلقي؛ وذلك من خلال تعزيز الذاتية الثقافية وتدعيم الثقافات الوطنية دون إغلاق الأبواب أمام الثقافات الأخرى والسعي لغرس روح المبادرة والاعتماد على النفس وروح الابتكار والإبداع والتأكيد على بعض القيم مثل روح الجماعة والتعاون والمشاركة وإتاحة الفرصة لكل التيارات الفكرية والثقافية السائدة في المجتمع للتعبير عن ذاتها بشكل متواصل بما يخدم مصلحة الشعب والأمة، وتنظيم حوار داخلي حول موضوعات تتعلق بقضايا الشباب وتوسيع مداركهم الذهنية، وتعليمهم الطرق التحليلية والمنطقية (في علاج الظواهر) والشعور بالفكاهة ومشاعر الصداقة والمساعدة المتبادلة بين المجموعات والأفراد.

توصيات ومقترحات

لا ندّعي أننا نملك حلولاً سحرية، غير أن ذلك لا يمنع من أن نبحث في هذه المشكلة ونحاول أن نسلط عليها بعض الأضواء ونحللها، فإن الإحساس بوجود المشكلة، -أية مشكلة- هو الخطوة الأولى باتجاه حلها، ويبقى الأمر متعلقاً بكل فرد على حده فهو الذي يقرر ما ينبغي فعله بعدما توضحت الأسباب والنتائج لهذه الظاهرة ما دام كشف الأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة، إضافة إلى أن الكثير من الأبحاث أشارت إلى أن الفكرة السائدة والقائلة بأن التلفزيون أحد وسائل التعليم هي فكرة غير صائبة، فقد بينت الأبحاث أن الطفل وحتى سن المدرسة لا يتذكر الكثير مما يراه، وبالتالي لا يشكل له ذلك زاداً معرفياً(10).

إذاً لا بد من الانتباه إلى عدم استنزاف وقت الطفل مما يعوقه عن الدخول في تجربة القراءة وتعطيله عن واجباته الأساسية وإيجاد حالة من التوازن بين التلفزيون الذي يحظى بسطوة كبيرة على الجيل وبين الأسرة التي بدأ دورها يتراجع بوضوح لصالح هياكل جديدة.

وهذا يتطلب استراتيجية واضحة لإعادة الاعتبار للأسرة ودورها الضروري في عملية التنشئة الاجتماعية. من أجل تحقيق ذلك لا بد من العمل على جملة من الشروط قد تكون مفيدة:

1- إنشاء مجالس ولجان من الأخصائيين الاجتماعيين والنفسانيين لمراقبة برامج القنوات التلفزيونية والسهر على احترام ضوابط بث الأفلام وممارسة حق الرد والخضوع لمتطلبات الرأي العام والابتعاد عن البرامج المرتجلة والعفوية.

2- صياغة منظومة قيمية تعبر عن وعي الأجيال وضميرها وتبني ذاتيتها بناءً سليماً.

3- تحصين الأجيال ضد التأثيرات الخارجية وبخاصة ضد التأثيرات السلبية التي تنعكس على تشكل الهوية الثقافية من خلال التكامل الفعلي والإيجابي بين الأسرة والمدرسة والتلفزيون، وهي المؤسسات المعنية مباشرة بشروط التنشئة الاجتماعية.

4- تفعيل دور المنظمات الشعبية والأهلية من أجل الإعداد لبيئة تربوية وثقافية تتسم بالخبرات الفنية التي تنمي قدرات الطفل النظرية والعلمية والوجدانية، فالحرمان الثقافي للطفل له آثار سلبية على شخصيته؛ لذا لا بد من ضبط سلوك الطفل وانفعالاته وتعريفه بما هو ممنوع عنه وما هو مرغوب به.

5- على الآباء مرافقة الأبناء إلى المسارح والملاعب والمراكز الثقافية، وتشجيعهم على توجيه الطاقة الموجودة عند الطفل إلى الحركة والانطلاق في الاتجاه الصحيح المفيد، كأن يقوم بالمساعدة في أعمال البيت أو إنجاز أشياء مفيدة له وللأسرة، وهذا يكسب الطفل الشعور بالأهمية وبالدور الذي يقوم به داخل هذا المجتمع الصغير، مما يمنحه احترام الذات وتقديرها والثقة بالنفس، واللعب يفيد الطفل في بث روح الجماعة، وغرس معنى الاجتماع والمشاركة الجماعية.

6- العمل على زيادة مساحة الأفلام والبرامج التعليمية والعلمية المخصصة للأطفال. كما ينبغي أن نركز على معرفة أنفسنا وتاريخنا ومقومات حضارتنا وأهدافنا، بل يجب علينا معرفة طبيعة عدونا المتربص بنا.

7- زيادة إنتاج أفلام تلفزيونية مخصصة للأطفال محلياً، تنسجم مع ثقافتنا وتعبر عن الاستراتيجيات التربوية المطروحة على ساحتنا وتساعد على حماية الأطفال من التأثير الثقافي القادم من البلدان الأجنبية(11).

8- التخفيف من ساعات المشاهدة الطويلة نظراً لمنعكساتها السلبية على الصحة والذاكرة، فالأطفال الذين يقضون ساعات طويلة في المشاهدة يعانون البدانة نتيجة لأكلهم كميات كبيرة من الأطعمة أو الحلويات وعدم الحركة أثناء الجلوس الطويل(12)، وبذلك يتعرض الفرد لأمراض الدم والسكري والروماتيزم والسمنة.

9- دراسة مضمون وخلفية البرامج المستوردة وتحليلها واختيار ما هو مناسب منها، لقد ازداد تطور أجهزة وأدوات وتقنيات قياس مشاهدة الشاشة الصغيرة، من دعاية وفيديو كليب، وتزايد الاعتراض والتشكيك في فاعلية بعضها، وازدادت خشية البعض من خطرها على (تسليع) الثقافة -أي تحويلها إلى سلعة-، لكن المردودية الاقتصادية والثقافية والإعلامية تعطي شرعية لقياس المشاهدة ضمن أشكال الاهتمام بأنواع الحصص التلفزيونية، لذا يعد قياس المشاهدة أداة أساسية ضمن الأدوات الأخرى التي تربط التلفزيون بالمجتمع وتدفعه نحو الأفضل(13).

10- إجراء المزيد من البحوث والدراسات حول أهمية التلفزيون ودوره في التأثير على الأجيال الصاعدة.

11- التشجيع على تنمية الحوار واحترام رأي الأطفال والشباب وإفساح المجال أمام تصوراتهم والاهتمام بمقترحاتهم؛ حرصاً على تكوين تصور عام ومتفهم للمرحلة القادمة، وإشراكهم في اتخاذ القرار.

إذاً ونتيجة لهذا كله لا بد من أن نحاول العثور على حل للخروج من هذه الأزمة التي تتفاقم يوماً بعد يوم، أو أن نتدارك الخطأ قبل أن يستفحل الخطر. لا بد من أن نقنن ساعات المشاهدة، وأن نكون صارمين في ذلك، وأن نشغل الأطفال بأشياء مفيدة، وأن نغرس فيهم حب القراءة والمطالعة، وأن نعيش معهم لذة المعرفة واكتشاف الجديد، وأن نثق بهم ونعتمد عليهم بما يحسنون صنعه، ونمنحهم الفرصة للتعلم، وبذلك نمنحهم الثقة بأنفسهم ونعلمهم الاعتماد على الذات، فيصبحوا بشراً صالحين لذويهم ولمجتمعاتهم.

الخــــاتمـــة

نستخلص مما سبق أن التلفزيون ليس أفكاراً ثابتة أو جاهزة، إنه حقيقة اجتماعية وثقافية تختزن تاريخ المجتمع وتجسد تقاليده، ينمو ويتطور بتطور الجمهور وتنوع حاجاته الإعلامية والثقافية والترفيهية.

الهــــوامــــش:

(*) أستاذ في جامعة دمشق كلية الآداب والعلوم الإنسانية (قسم علم الاجتماع).

(1) بحوث في واقع أمتنا: محمد ياسين حمودة، المجلد الأول 1994 ص12-5.

(2) التلفزيون،البرامجة، المشاهدة: آراء ورؤى: نصر الدين العياضي، وزارة الثقافة- دمشق، 1998 ص7.

(3) العلاقات التربوية بين الطفل والتلفزيون في محافظة درعا: علي وطفة، مجلة العلوم الإنسانية، جامعة دمشق- المجلد 13- العدد الثاني 1997 ص79.

(4) مجلة العربي: إبراهيم العاسمي/ العدد 507 عام 2001.

(5) عادات مشاهدة الطفل السوري للتلفزيون وأنماطها: أديب خضور، ص247.

(6) مرجع سابق: علي وطفة، ص83.

(7) الوجه الآخر للعولمة: مايربونيفتش موريسون، ترجمة: أحمد محمد، مجلة الثقافة العالمية، العدد 103 عام 2001 ص60-65.

(8) التلفزة وتحديات التنشئة الاجتماعية: المنصف وناس، مجلة الإذاعات العربية، العدد 3 عام 200م.

(9) مجلة عالم الفكر: ليلى عبد المجيد -ديسمبر 1994 ص60-61.

(10) مرجع سابق: إبراهيم العاسمي، ص176.

(11) مرجع سابق: علي وطفة، ص124.

(12) مرجع سابق: إبراهيم العاسمي، ص177.

(13) مرجع سابق: نصر الدين العياضي، ص8.