النبأ

[email protected]

د. سعــد الإمـــارة

صاحبت التطور والتحضر الإنساني عبر مسيرة البشرية ظواهر متعددة، بعضها سلبي خطير، وبعضها الآخر إيجابي ساعد على تمتين العلاقات بين الناس، وأخطر تلك الظواهر الشعور بالعداوة تجاه الآخرين وبثها بين الناس، بحيث وصلت إلى ذروتها في حالات القتل والترويع.. وإذا ما كان الشخص متنفذاً قوياً واستطاع أن يقود الناس إلى الحروب والتطاحن، فتلك كارثة إنسانية حقيقية...

وكثيراً ما عانت البشرية، بفعل سلوك هؤلاء وحماقاتهم، من الآلام وتقديم الضحايا، وجنت الويلات والمآسي وأشكال المعاناة.. وعلى النقيض التام من هذه الأفعال تبرز ظاهرة إقامة الصداقات وامتداد العلاقات بين المجتمعات والشعوب والأقوام المختلفة الأصول، يجمعها عامل السلام والمحبة أو ربما تعاليم الأديان السماوية، وحتى غير السماوية أو التقاليد والأعراف التي لا تمت إلى الدين بصلة أحياناً، وإنما هي الصداقة تجمع بين الناس والشعوب.. فالصداقة محبة، والمحبة وفاق وصحبة، وكلما توثقت عرى هذه الأواصر، كلما عمّ البشرية الأمان والسلام، واستطاعت أن تبني حضارات، وتقيم علاقات ملؤها التجانس بين مختلف الأقوام والبشر... وهكذا تبرهن لنا التجارب الإنسانية على أن السلام والصداقات والتقارب ضرورة حيوية وضمانة لبقاء الاجتماع البشري العالمي ...

وتوجت هذه الدعوات بما جاء به آخر الأديان السماوية.. الدين الإسلامي؛ حيث قال الله سبحانه وتعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) (النحل: 90) وقال رسوله الكريم (ص): (إن الله جبل قلوب عباده على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها) (5 :43)، وقال الإمام علي بن أبي طالب (ع): (أعجز الناس من عجز عن اكتساب الأخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم) (3 :34)، لذا فإن الدين الإسلامي يدعو إلى المحبة والتعايش وإقامة الصلات بين الناس ولا سيما الأقربين.. وإيتاء ذي القربى حقه.. واحترام كل ما خلق الله من كائنات حية (إنسانية وغيرها).

فالدين الإسلامي هو دين الدعوة الصادقة إلى المحبة وإقامة الصداقة واحترام الآخر، وتحقيق التلاؤم بين الواقع والقيم (1 :195) التي دعا إليها الإسلام، والإمام الشيرازي يوضح ذلك بقوله إن طبيعة الإنسان التي خلقها الله سبحانه، فيها الاحتياج إلى الأكل واللباس والمسكن والزواج والعقيدة (4 :308) وهي كلها تدعو إلى المصاحبة وإقامة الصلات على ضوء العقيدة الإسلامية.. ودعاتها آل البيت(ع)... وقال الإمام جعفر الصادق(ع): (مجاملة الناس ثلث العقل) (5 :268).

الصداقة في حياة الناس

تعد الصداقة في مفهومها العام، قدرة الإنسان على أن يتوافق مع نفسه أولاً ومع الآخرين ثانياً، وأن يقبل نفسه ويقبل الآخرين، فهو إذن لا يعيش منفرداً في هذه الحياة، وإنما مع الآخرين.. وهذه طبيعة الكائن البشري مذ خلق الله الإنسان على وجه الأرض، ورغم أن معظم الأبحاث والدراسات الإنسانية تؤكد هذه الحقيقة، إلا أن الأدلة المسندة بتجارب واقعية، تكون أكثر دقة في مضمار البحث العلمي؛ فتتفق معظم الدراسات النفسية الحديثة على وجود صلة وثيقة بين التفاعل مع الأصدقاء وبين التوافق النفسي الاجتماعي في كل مراحل الحياة بصفة عامة، وفي مرحلتي الطفولة والمراهقة بصفة خاصة.

وقد أظهرت دراسات (اراجيل ودك) فيما يتصل بالصحة النفسية أن الأشخاص الذين يفتقدون الأصدقاء يكونون أكثر عرضة للإصابة باضطرابات نفسية، منها الاكتئاب والقلق ومشاعر الملل والسأم وبطء تقدم الذات، كما يعانون من التوتر والخجل الشديد والعجز عن التصرف الكفء عندما تضطرهم الظروف إلى التفاعل مع الآخرين (2 :57) كما قال الإمام علي(ع): (خالطوا الناس مخالطة إن عشتم معها حنّوا إليكم وإن متم معها بكوا عليكم) (3 :44) ويرى الإمام الشيرازي أن الانسجام بين الجماعة يقوى بكثرة التبادل والمشورة، كما أن السير نحو الهدف يزيد من الارتباط والانسجام (4 :150)، فالصداقة إذن هي البذرة الأولى في تكوين حياة المجتمعات وتقارب وجهات نظر الناس حول قضية ما أو موضوع ما، أو إقامة صلة القربى... وعند الإبحار في تكوين مفهوم الصداقة تاريخياً وانثروبولوجياً لوجدناها تدل على بداية تكوين الإنسان للمجتمع، وامتداد هذا المجتمع إلى المجتمعات الأخرى... فالإنسان قديماً مارس أول مهنة في التاريخ وأقدمها، وهي الزراعة، فقد كانت الأرض هي الصديق الوفي الذي ظل يرعاه أكثر من نفسه أحياناً.. فالأرض هي الأم والصديق.. وهي التي سهر من أجلها ورواها بالدم الزكي دفاعاً عنها.. وحفظ علاقته بها وضحى من أجلها.. فكانت الصداقة الأولى بين الفلاح والأرض، صداقة امتدت إلى عمق جذور الإنسان في التاريخ.. هذا الإنسان الذي يتغير كيانه عندما يترك أرضه أو وطنه.. ولن يجد في هذه الأرض الواسعة متسعاً له.. إن الأرض هي أفضل تعبير عن إخلاص الإنسان، بعد أن بنى عليها منزله، وأقام عليها أمنه، وتزوج عليها، وأنجب أولاده، وعلمهم الإخلاص لها والتضحية من أجلها.. وعليها تقارب مع الآخرين وتجاور معهم.

إن التعبيرات الرمزية عن الصداقة كثيرة، وشواهدها متعددة، فصداقة الرجل مع الأرض تأخذ منحى الوفاء لهذه الصداقة.. وصداقة الرجل مع الزوجة لها أبعاد أكثر مما هي امتداد روحي لأجل البناء الدنيوي وتكوين أسرة.. وصداقة الإنسان مع الآخرين المحيطين به ومشاركته لهم في السراء والضراء.. في الأزمات والأفراح والأتراح.. تلك العلاقة التي لا يعيها الإنسان حق الوعي إلا عندما تنفصم إحدى وشائجها وتتحول إلى النقيض من ذلك.

فالروابط بين الناس قائمة على أساس حاجة الناس لبعضهم البعض، فالبشر يقدم كل منهم للآخر أعظم مسرات الحياة وأفراحها وأتراحها، وربما تكون هذه الروابط أحد الأسباب الرئيسية في ملاحظة كل منا للآخر ومحاولة فهمه، ومعرفة ما يدور بداخله، ليمتد هذا الفهم ويتحول إلى صداقة أكثر عمقاً... فالناس تحتاج للناس من خلال ما يقدمونه لهم من مساندة اجتماعية تسهل بالفعل عملية التوافق مع الآخرين والاستمرار بالحياة والتكيف رغم المصاعب، لذا فإن الحياة الاجتماعية والصداقات قائمة على أساس الاستقامة، والذي لا يستطيع الصبر عليها، لن يستطيع كسب الأصدقاء وتوسيع رقعتهم (3 :459) حيث قال الإمام جعفر الصادق (ع): (صلاح حال التعايش والتعاشر ملء مكيال ثلثاه فطنة وثلثه تغافل) (5 :261).

مراحل تكوين الصداقة

التساؤل الذي نطرحه الآن هو لماذا يبحث الناس عن صداقات، أو إقامة علاقات اجتماعية؟، هل هي الحاجة للاتصال البشري؟ أم أن الناس تجد السعادة في التآلف والاجتماع مع بعضهم البعض؟ هل هي حالة غريزية فطرية قد جبل الإنسان على ممارستها..؟ أم أنه مدفوع نحو حاجة من حاجات تكوينه البيولوجي؟.

هذه التساؤلات، سنحاول الإجابة عليها، ثم نتطرق إلى المراحل اللاحقة لتكوين سلوك التقارب والتجاذب الاجتماعي بين الأفراد، ومحاولة بناء علاقة صداقة.

إن السلوك الاجتماعي لدى الناس يعد أولى لبنات تكوين صداقات وإقامة روابط بين الأفراد أو الجماعات في البيت أو الشارع أو المدرسة أو الجامع أو العمل، وتحكم هذه الروابط معايير معينة.

فكل فرد يحتفظ بمستوى معين من الحدود لإقامة العلاقة، فالبعض يتكلم داخل أسرته بطريقة معينة، ومع الآخرين في الشارع بطريقة أخرى، ويتعامل مع الناس بطريقة مختلفة، وربما يتجنب التحدث بموضوعات خاصة في أماكن معينة، بل حتى طريقة ارتداء الملابس أو ألوانها تحتمها الظروف والمناسبات المعينة.. فالسلوك الاجتماعي تتحدد آفاقه الآنية من خلال الفعل الصادر عن الإنسان والحاجة إلى ذلك السلوك في التعامل، وإدراكاتنا في التفاعل الاجتماعي؛ فالفرد يتأثر إلى حد كبير بإشارات الاتصال غير اللفظي، المشتملة على تعبيرات الوجه ووضع الجسم والتلميحات واتجاه النظرات والمظاهر غير اللفظية للحديث (كالنبرة والارتفاع في الصوت والتوقيت وفترات الصمت وما شابه ذلك) (6 :748)، وهذه مؤثرات يراقبها الفرد كسلوك عند الآخرين؛ يستخلص منها الأسباب والنتائج لإقامة علاقة، ومن ثم التغلغل إلى فهم الصحبة أو إقامة حواجز نفسية قبل الموافقة لامتداد العلاقة، وتتدخل في هذه العملية عدة عوامل أهمها:

الإعجاب - التقارب - التشابه - الشخصيات المتممة - الألفة والحب.

الإعجاب: على الرغم من أن الناس بحاجة إلى الناس، ويحتاج كل منهم للآخر، إلا أن الفرد منا يتمتع بصفة خاصة لديه، وهذه الصفة هي الانتقاء أو دقة الاختيار، فالاختيار هو حرية الفرد بأن ينتقي أو يفضل شخصاً على آخر، ولكن ما الذي يجذب البعض بفعل عامل الإعجاب؟، هل هي السمات المرغوبة التي يظهرها الآخر بحيث تجذب المقابل؟ أم أن عامل الوسامة (الجمال) ذو تأثير فعال على الإعجاب؟، أم هي جاذبية الحديث والمنطق الذي يتكلم به الشخص؛ مما يثير لدى المقابل عامل الإعجاب ثم الانجذاب...؟ أو ربما لمحات الذكاء التي يبديها بحيث تترك تأثيراً واضحاً على الآخرين؟.

إن لمنطق التحدث والكلام تأثيراً قوياً على الآخر، وهذا أمر لا شك فيه، فضلاً عن الأسلوب الذي يؤثر في الآخرين ويأسرهم بجمالية خاصة، أو لهجة معينة منطوقة، أو رؤية مؤثرة ذات منطق آسر.. وكذلك يتدخل عامل آخر يزيد من الإعجاب ويرجح كفته على العوامل الأخرى، وهو الجاذبية التي يتمتع بها الفرد وتؤثر على الآخرين... كل تلك المؤثرات التي تثير الإعجاب في الآخرين عموماً، أو في شخص ما خصوصاً، يجتمع معها الشخصية وتأثيراتها، ولمحات الذكاء وآثارها، والقدرة على التأثير اللغوي والسمعي على الآخر أيضاً... فالناس دائماً يؤثر فيها - على الأقل - أساس الكمال، وإذا ما اجتمعت لدى الفرد هذه العوامل مع الصدق الذي يوحي به الفرد كقوة تأثير، يتحقق عامل الإعجاب.. ولكن نستطيع أن نقول إن قوة التأثير المعروضة تؤثر على بعض الناس وليس على كل الناس.. كذلك فإن هذا التأثير ينجذب إليه بعض الناس بوجود عدة عوامل - فضلاً عما تقدم -، وهي: المظهر الجسمي والكفاءة المعتدلة بالإضافة إلى سمات الجمال الممزوجة بالكفاءة والطلاقة اللغوية؛ فالأفراد الذين يحملون تلك السمات الإيجابية من المحتمل أنهم يكسبون الامتياز ويحققون المكاسب الثمينة في إقامة علاقات واسعة مع معجبيهم، وأخيراً فإذا كان الفرد ذا القيمة الإيجابية يحبنا في مقابل حبنا له، فإننا نفخر بتقديرنا لذاتنا(6 :752)، وإلى ذلك فقد قال النبي الأكرم(ص): (حسن الخلق يثبت المودة) (5 :38)، وقال الإمام علي بن أبي طالب (ع):(جُبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها) (7 :170)، لذا فإن الارتياح لشخص ما يولد الإعجاب، والإعجاب إذا اقترن بالإخلاص، فإنه يولد المحبة والصداقة، فالإنسان يعتقد أنه إذا تزايد إعجابه بشخص آخر تدريجياً، فإنه ينجذب أكثر نحوه، ويزداد ذلك أيضاً لدى المقابل بنفس الدرجة وباستمرار، ويتوطد هذا الإعجاب بالاهتمامات التي يبديها الشخص المقابل وخاصة عند التعرض لمواقف غير سارة في الحياة... وقد قال الإمام الباقر (ع): (اعرف المودة في قلب أخيك بماله في قلبك)(5 :212).

التقارب: إن من نعم الله تبارك وتعالى العظيمة على الانسان، وكل نعمه عظيمة، أن جعله اجتماعياً بالفطرة، مجبولاً على الميل إلى نظرائه في الخلق، وهذه غريزة من الغرائز، موجودة في كل فرد من بني البشر، وبناءاً عليه فإن فلسفة التعامل بين الناس تقوم على أساس الصبغة أو الفطرة الاجتماعية التي جبلهم الله عليها؛ والفطرة الاجتماعية توجب التعامل بين الناس، والتعامل يقتضي الاتصال بينهم، ومن أبرز وجوهه الاتصال الشخصي؛ أي حضور الأشخاص أثناء التعامل، ومن وجوه الاتصال في التعامل مع الناس المكاتبة (المراسلة) (7 :15)؛ حين قال الله سبحانه وتعالى: (أحسن كما أحسن الله إليك) (القصص:77) وقال أمير المؤمنين(ع): (كل امرء يميل إلى مثله)، وقال أيضاً (ع): (لا يصحب الأبرار إلا نظراؤهم) (11 :1583) ولذلك فإن أحد أبعاد التقارب هو البعد المكاني الذي يعد عاملاً قوياً ومؤثراً لدى الفرد.

فمعظم الأفراد الذين يتقاربون معنا مكانياً ستكون لنا بهم صلة صداقة أو معرفة اجتماعية أو سيصبحون حتماً أصدقاء؛ فأصحاب البيوت المتجاورة يكونون أكثر صداقة مما لو عاشوا متباعدين،وتنشأ علاقات بينهم أكثر قوة من أولئك الذين تتباعد بيوتهم، وتزداد عند الفرد قوة التقارب عندما يكون الحاجز المكاني غير مؤثر؛ فالقرب المكاني معناه أن الأفراد الذين يعجب كل منهم بالآخر قد يزداد تفاعلهم وبشكل مستمر، وتتراكم لديهم الخبرات المشجعة عن الآخرين، وتتعزز بينهم الصداقات أكثر، ورغم أن هذا العامل مؤثر جداً في إقامة الصداقة وتقويتها لكنه ليس كافياً تماماً للتآلف.. ويبقى عاملاً مساعداً في التقارب فحسب، وهناك بعض السلبيات الناجمة عن التصاق المساكن ببعضها؛ حيث تتولد باستمرار إحساسات غريبة تثير أحياناً الغضب وأحياناً أخرى الملل لدى بعض الناس.

وهذه هي طبيعة البشر؛ حيث قال الإمام جعفر الصادق (ع): (ما من شيء إلا وقد جعل الله له حداً) (8 :39).

التشابه: في قناعاتنا أنه لا يوجد ناس شريرون تماماً ولا خيرون بالكامل، كما لا يوجد أشخاص فعالون دائماً أو أشخاص فاشلون على الدوام؛ فكل إنسان منا يملك خصالاً جيدة وأخرى سيئة، والمشكلة هي أننا في مواقف التفاعل الاجتماعي مع الآخرين نتجه غالباً إلى نواحي قصورنا بدلاً من التركيز على نقاط قوتنا الكامنة، ومن أجل تجنب ذلك نحاول أن نحدد لأنفسنا المزايا التي نتمتع بها ونقاط الضعف التي ندركها في علاقتنا مع الآخرين، ومن المهم هنا أن نحاول الإفادة من الجيد وأن نتجنب ذلك الضعيف منها، حيث قال النبي الأكرم (ص) في الحديث الشريف: (المؤمن كيس فطن حذر.. المؤمن ينظر بنور الله) (9 :91)، لذا فإن تشابه الأشخاص في تكويناتهم يؤدي إلى التقارب وإقامة علاقة صداقة مؤكدة بينهم، كما أن تشابه سلوك الناس وتعاملاتهم يثير الإعجاب لدى أغلب الناس، فنحن نميل إلى الأفراد الذين يتشابهون معنا في أخلاقهم واتجاهاتهم وشخصياتهم وقيمهم، ويزداد إعجابنا بهم كلما تداخلنا أكثر معهم، ويبدو أن التشابه مهم جداً وخاصة في إقامة علاقات دائمية كالزواج أو الصداقات المبنية على الود والتفاهم، فكثير من الناس يختلفون من حيث الدين أو المذهب ولكنهم يتشابهون من حيث الخصائص الإنسانية الأخرى... فقد قال الإمام علي (ع): (النفوس أشكال، فما تشاكل منها اتفق، والناس إلى أشكالها أميل) (11 :1682).

الشخصيات المكملة (المتممة): إن الأفراد الذين تتشابه شخصياتهم ربما يكونون أصدقاء في الواقع الحالي أو ربما في المستقبل، وكذلك الحال إذا توفرت عناصر الجذب في إحدى الشخصيات فإن الآخر ينجذب إليه، أما في هذه الخاصية فتطرح الشخصيات المتممة، حيث ينشأ عن طريق التبادل الكلي بين الناس أساس في إقامة الصداقات والصلات القوية، وتقوم فكرة التبادل على أساس التكافؤ في العلاقة بين الأفراد، مما يزيد من فرص إقامة الصداقة. وتؤيد الدراسة العلمية أن الناس يميلون إلى الإعجاب بأولئك الذين يتعاونون معهم من أجل مصالح متبادلة، ولا يظهرون روح التنافس في حياتهم، فهؤلاء الأفراد يتمتعون بفرص إقامة العلاقات والصداقات المتكافئة مع الآخرين بنفس الدرجة؛ فقد قال رسول الله(ص): (الخلق الحسن نصف الدين) (7 :74)، وقال الإمام علي بن أبي طالب (ع): (طوبى لمن يألف الناس ويألفونه على طاعة الله) (5 :153).

الألفة والحب: إن مفهومي الألفة والحب يدخلان مدخلاً قوياً في الصداقة بكل أنواعها؛ فمفهوم الألفة يذهب بعيداً إلى توق النفس للاتصال عن قرب بإنسان موثوق به يحمل صفات الإنسانية؛ مما يؤدي بالتالي إلى اندماج العلاقة بالمساندة الانفعالية مع الآخر..

أما مفهوم الحب فيستخدم عادة لوصف المشاعر تجاه عدد قليل من الناس، يشعر الفرد نحوهم بالانجذاب والتعلق الشديد.

وببساطة يمكن القول إن الحب هو شكل حاد من الانجذاب، ونقصد به هنا ما نشعر به في حياتنا اليومية كالحب الوالدي والحب الأخوي، بعيداً عن الحب الرومانسي والعاطفي... ونعني به أيضاً حب الأصدقاء، حب الإنسانية، حب الوطن، حب آل البيت(ع)، حب الله.

ويدخل هذان المفهومان (الألفة والحب) ضمن تصنيف المدعمات الاجتماعية، وهي مفاهيم تتعلق بمفهوم البناء في العلاقات المتبادلة، وتصنف هذه المدعمات إلى:

أ) الحب: أو الوجدان الإيجابي.

ب) المكانة: وتشمل التقويمات التي تشعر بالنفوذ والاحترام أو التقدير.

ج) المعلومات: وتتضمن الآراء والنصائح والمعارف.

د) الخدمات: وتعني النشاطات المؤثرة في الشخص الآخر؛ من قبيل إسداء جميل أو عمل معروف (2 :114)؛ فقد قال الإمام الشيرازي: (إن الإنسان لا يتعلم حاجاته الأولية وأصول معاشرته من المجتمع فقط، بل يتعلم الحاجات الثانوية، مما يحتاج إليه في معاشرته الاجتماعية أيضاً كالآداب والتقاليد والعادات الاجتماعية).

الصداقة مهارة اجتماعية وإنسانية

تعد الأسرة الوسيلة الرئيسية لعملية التنشئة الاجتماعية وعن طريقها يكتسب الأبناء المعايير العامة التي تفرض أنماط الثقافة السائدة في المجتمع (10 :95) وجمود المعايير أو مرونتها تحددها الأسرة لأفرادها، ويتحدد على ضوئها سلوكها العام في التصرف والتعامل، ومن تلك الأنماط والمعايير التي تغرسها الأسرة لدى أبنائها، مهارة التواصل مع الآخرين وبنجاح، وإقامة علاقات تؤدي إلى الصداقة... وهذه المعايير مهارات يكتسبها الأبناء؛ فالتعامل مع الناس - باعتباره ميداناً ضرورياً هاماً لا غنى للإنسان عنه - لكي يكون سليماً وحسناً، يلزم أن يقوم على أسس أولية سليمة وراسخة، ومن هذه الأسس الأخلاق الحسنة، والخلق الحسن هو حد التوسط والاعتدال (7:75) وتورد لنا الدراسات الميدانية في مهارات الصداقة ومواصلتها أمثلة واقعية، حيث تقوم هذه الدراسات على تدريب المهارات الاجتماعية socialskills والتي يستهدف بعضها تحسين مهارات التفاعل الاجتماعي مع الأقران وتعتمد على:

1- فهم الإدراك الاجتماعي:

ويشمل الجانب المعرفي المتصل بمهارات الصداقة، والمتمثل في القدرة على الاندماج أو فهم مشاعر وأفكار الآخرين، باعتباره أحد الشروط الأساسية اللازمة لإقامة علاقة اجتماعية ناجحة تتسم بالمودة والتدعيم المتبادل الناتج عن الإدراك الصحيح لحاجات ورغبات الآخرين ثم إشباعها إشباعاً مناسباً، ويشير (بورك) إلى أن الاندماج مع الآخرين يمثل لب عمليات التفاعل بين الأشخاص.

2- فهم قدرة مهارات الصداقة:

يجب أن تتكون الأفكار حول العمليات التي تؤدي إلى الصداقة، وعلاقتها بقدرات الأشخاص على فهم منظور الآخرين للصداقة.

وقد أظهرت هذه العمليات وجود علاقة بين القدرة على فهم منظور الآخرين وارتقاء التصورات حول الصداقة.

3- فهم خصال الصديق:

هناك ضرورة لفهم الخصال الشخصية للصديق، والتنبؤ بدقة المعلومات الخارجية عنه، مع دوام الصداقة معه من خلال:

1) المشاركة الاجتماعية.

2) التعاون: ويستلزم قدراً من فهم منظور الشخص الآخر.

3) التخاطب: ويتضمن مهارتي الحديث والاستماع.

4) التصديق: أو المساندة الاجتماعية، وينطوي على جانبي إظهار الاهتمام وتقديم المساعدة (2 :144).

ما الذي تقدمه الصداقة؟

قال رسول الله (ص): (من صاحب الناس بما يجب أن يصاحبوه، كان عادلاً ) (3 :540) وقال الإمام علي (ع): (الصديق أقرب الأقرباء) (11 :1582) كما قال الإمام جعفر الصادق(ع): (صحبة عشرين سنة قرابة) (5 :261) فالصديق إذن أقرب الأقرباء، والصحبة قرابة، وهي تقوم بوظيفتين أساسيتين:

1- خفض مشاعر الوحدة، ودعم المشاعر الإيجابية السارة.

2- الإسهام في عمليات التنشئة الاجتماعية.

إن الناس تبحث عن من يتفق معها ويخفض لديها مشاعر الغربة، ويعزز عندها المشاعر الإيجابية، وهذه العملية سميت بالتفاعل الاجتماعي الذي يمارسه الفرد بالفعل؛ فهو بحاجة إلى الآخرين، وإقامة العلاقات معهم، كحد أدنى للتفاعل الاجتماعي، بغض النظر عن ما يقدمونه من خدمات إيجابية واضحة أو مستمرة في ظروف الحياة العادية؛ هذا وتزداد أهمية الأصدقاء عند التعرض لظروف قاسية أو مشقة عالية؛ لذا كانت المساندة الاجتماعية تسهل بالفعل عملية الشفاء من المرض وشدة الضغوط، وتبدو على الأفراد الموجودين في مواقف ضاغطة ردود فعل أقل حدة بدنياً حينما يكونون في صحبة الآخرين من الناس (6 :747)، ولكن يبقى من المهم أن نحلل الآليات التي تخفض مشاعر التوتر وعدم الارتياح من خلال قوة فعل الصداقة وما تقدمه، وهذه الآليات هي:

1- المقارنة الاجتماعية.

2- الإفصاح عن الذات.

3- المساندة الاجتماعية.

4- المشاركة في الاهتمامات.

إن المقارنة الاجتماعية تعني معرفة الأشخاص المقربين جداً والآخرين الذين يبتعدون عنا عند حدوث مشكلات انفعالية أو طوارئ غير مألوفة، أو عندما يبتعد البعض في الشدائد ولا يبدي مساعدة واضحة، يقول الإمام علي (ع): (من لم يصحبك معيناً على نفسك فصحبته وبال عليك إن علمت) ) (11 :1585)، فالصديق يظهر واضحاً أثناء الأزمات أو تحت وطأة الشعور بالوحدة، وخاصة عندما تهتز ثقة الأفراد في قدراتهم على تحمل الضغوط والمشقة ويصبح من الصعب السيطرة عليها، لا سيما عند الأزمات الطويلة؛ فالفرد هنا يحتاج إلى الصديق كمعين له، وسند له في الأزمة..

وقد قال الإمام زين العابدين (ع) في وصية لابنه الإمام الباقر (ع): (إياك ومصاحبة القاطع لرحمه، فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله في ثلاثة مواضع) (11 :1587)، أما الإفصاح عن الذات فهو أحد الأساليب التي تساعد على خفض التوتر والمشقة وتقليل مشاعر الوحدة في الأزمات، وأهم وسائلها التكلم والتحدث والتخاطب، ومحاولة تخفيف مشاعر الشد النفسي التي تنتاب الإنسان أثناء الأزمة، فيقف الصديق حينها موقف المعالج من خلال مشاركته في أدق تفاصيل الحياة الشخصية مستنداً إلى الحب و الألفة اللتين تربطانه بصاحبه؛ مما يساعد كثيراً في تخفيف مشاعر الحزن وشدة النوائب.. ويرجع علماء النفس أهمية الإفصاح والحديث والتكلم عما يدور في الذات، وما يحدثه من آثار نفسية إيجابية، إلى تخفيف وطأة الأزمات من خلال:

1- التعبير: التخفيف عن النفس بعد الإفصاح عن المعاناة وظروف المشقة.

2- التوضيح: من خلال الإفصاح عن الذات، يتمكن الشخص من تقديم صورة واضحة عن نفسه لصديقه مما يمكنه من التفاعل معه.

3- تنمية العلاقات الاجتماعية مع الآخرين: وبهذه الطريقة عندما يكشف الفرد عما يدور بداخله، تقوى العلاقة مع الصديق وتظهر لديه رغباته وحاجاته وآماله، فإذا أشبعت تلك الحاجات أو بعضها تقوى العلاقات.

4- الضبط الاجتماعي: يعبر الفرد عن حاجاته ورغباته أثناء التخاطب الاجتماعي، وهو يعبر أيضاً عن معتقداته وقيمه وحدوده الشخصية؛ لذا فإن الإفصاح عما يدور بداخل الفرد، إنما يمكن من ممارسة ضبط أكبر على سلوك الآخرين(2 :63).

أما المساندة الاجتماعية فهي من أهم وظائف الصداقة؛ فمواقف الصديق تعد أقوى مساند للإنسان في كل نواحي الحياة؛ في المسرات وفي مواقف أخرى.. فما يقدمه الصديق من مساندة من خلال النصيحة والفهم والتوجيه، هو وقاء للإنسان منة الوقوع في الخطأ.. ويطرح المتخصصون في هذا المجال نوعين من المساندة:

-المساندة المادية.

- المساندة النفسية.

ويرى (ارجايل) أن الناس يحتاجون إلى الأصدقاء لأسباب، من بينها الرغبة في الحصول على المساعدة أو المعلومات أو المساندة الاجتماعية بمظاهرها المختلفة، سواء في شكل نصائح أو تعاطف أو اتفاق في وجهات نظر.

وقد أثبتت الدراسات الميدانية أن المساندة الاجتماعية تؤدي إلى خفض مشاعر الضغوط وتقوية إرادة الشخص وقدرته على التحمل، كما تقوّي التجاذب، وتعزز الرغبة في زيادة الارتباط بالآخرين(2 :64)، ويقول الإمام أمير المؤمنين(ع): (لا يعرف الناس إلا بالاختبار، فاختبر أهلك وولدك في غيبتك، وصديقك في مصيبتك، وذا القربى عند فاقتك، وذا التودد والملق عند عطلتك، لتعلم بذلك منزلتك عندهم) (11 :1590).

أما المشاركة في الميول والاهتمامات الشخصية، فتعتمد على قوة الصديق في المشاركة والتخفيف من مشاعر الضيق والملل والتوتر، بل وتنمية المشاعر الإيجابية السارة، حيث تؤدي المشاركة في الميول والاهتمامات الشخصية إلى إثارة المشاعر الإيجابية السارة متضمنة التسلية والترفيه.

ويعتقد بعض المختصين بأن الصداقة وإقامة العلاقات، لا بد وأن يتخللها الكثير من المرح واللعب، وهما مصدران حيويان للتنبيه والاستثارة المعرفية.

الصداقة ومحكات الاستمرار

يقول الله سبحانه وتعالى: (فما لنا من شافعين، ولا صديق حميم) (الشعراء:100-101) فالصداقة تحتاج لمحكّات واقعية لثباتها أو عكس ذلك.

وقد قال الإمام علي (ع): (عند زوال القدرة يتبين الصديق من العدو) )، وقال أيضاً (ع):(في الشدة يختبر الصديق) (11 :1590)، وقال (ع): (لا يكون الصديق صديقاً حتى يحفظ أخاه في ثلاث: في نكبته، وغيبته، ووفاته) (8 :39)، فما يجمع الصداقة من سمات معينة لدى الطرفين، يخضع لمحك الاختبار في الحياة وفي الشدائد؛ فلا يمكن أن تكون الحياة كلها سهلة وسلسة، بل لابد أن تتخللها الشدائد والصعاب، ويتمخض عنها الغث والسمين؛ فالحياة وعاء يحتوي على كل متطلبات الوجود واستمرار بقائه.. ومن تلك المحكات - لغرض الاستمرار - هو حسن الظن بالناس حتى آخر لحظة ممكنة قبل إطلاق الحكم.. فيقول الله سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم) (الحجرات:12)، وقال الرسول الأكرم(ص): (اطلب لأخيك عذراً فإن لم تجد له عذراً فالتمس له عذراً) ) (7 :278) وقال الإمام علي بن أبي طالب(ع): (من حسن ظنه بالناس حاز منهم المحبة) (7 :278). إذن الصداقة قيمتها بحسن الظن، وهو أحد محكات استمرارها وبقائها.. فضلاً عن النوائب وما تظهره تلك المواقف من وجوه للتعامل والرؤى المختلفة إلى الحقائق.. ولكن يبقى الحكم أقوى عند الامتحان في محكات الحياة.. لذا فإن المواقف من الناس تكون على نوعين: إيجابية وسلبية؛ فالأولى هي التي توافق الناس على ما يصدر منهم من أفعال، والثانية هي التي لا توافقهم على ما يصدر منهم.

كما أنه يجب على المرء أن يكون متأنياً في اتخاذ المواقف الإيجابية من الناس، وعليه أيضاً أن يكون متأنياً في اتخاذ المواقف السلبية منهم، خصوصاً وأن هذه الأخيرة قد يؤثم عليها صاحبها، وقد تجلب المضرة للطرف الآخر؛ الأمر الذي يتطلب من المرء التبين والتأمل والاستقصاء قبل اتخاذها(7 :315) ووضعها على المحك الذي يجب أن يكون موضوعياً في الحكم، ومن ثم نعرض الشواهد التي تدعمه.. رغم أن الحياة أثبتت في الكثير من تجاربها صدق المحكات، ونكث الأصدقاء لعهودهم.. ويدلنا على ذلك قول الإمام الصادق(ع):(إذا كان الزمان زمان جور، وأهله أهل غدر، فالطمأنينة إلى أحد عجز) ) (11 :1589)، وقول الإمام الباقر (ع): (تجنب عدوك واحذر صديقك من الأقوام، إلا الأمين من خشي الله) (11 :1589).

الصداقة والإيمان وأهل البيت(ع)

يرى الإمام الشيرازي بأن التخطيط لإصلاح المجتمع يبنى على دعائم أهمها:

1- الإيمان.

2- اقتسام القدرات.

أما الإيمان فإنه الوحيد الذي يمكن به تعديل الصفات والملكات والعواطف والأعمال (4 :260) فالإيمان ركن من أركان الصداقة، وهو أساس في إصلاح المجتمع والتخطيط لبنائه.. فالإيمان يشمل أساساً كل العواطف الإنسانية والأحاسيس والجوارح فضلاً عن الحواس الموصلة إلى اليقين، كالقلب واللسان والسمع والبصر واليدين (حاسة اللمس)، وهي ذات قوة فاعلة في تقوية الإيمان من خلال تثبيت ذلك اليقين ومجاهدة النفس، وتعد هذه أولى مسلمات قوة الإيمان لدى المؤمن بالله.

إن قوة الإيمان لدى المسلم المؤمن والمعزز ثباته على دينه، تجعله يستطيع أن يجاهد في إعلاء شأن معتقده من خلال ما يؤمن به من مبادئ وقيم أهل البيت(ع).. فأهل البيت(ع) خير معين في الدنيا وخير شاهد على قوة ومدى الصداقة... وعناصرها الموصلة للثبات، فالإيمان عند أهل البيت(ع) لا يختص بالقلب وحده، بل يعم ويشمل وظائف أعضاء الجسم الإنساني بالكامل؛ حيث قال الإمام جعفر الصادق (ع): (يحدد الإيمان بآثاره وثماره، وإن هذه الآثار والثمار تظهر واضحة في كل عضو من أعضاء الإنسان) (9 :15)؛ فالصداقة إيمان بالقلب، وتتجلى هذه الصفة بوضوح لدى آل بيت الرسول(ص)، فالقلب محل القبض والبسط، وموضع الخوف والرجاء، والمنبع للإرادة الباعثة على العمل والنشاط.

ومن أظهر علامات القلب المؤمن بالله ورسوله (ص) أن ينشد الحق، ويرغب في عمل الخير، ويضحي بكل عزيز من أجله، فضلاً عن إيمان اللسان فيما يعلن، أولاً وقبل كل شيء، ما يعتقده المرء بالله والتسليم لأمره والتوكل عليه وحده؛ حيث قال الله سبحانه وتعالى: (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً، وقال إنني من المسلمين) (فصلت:33)، ومن إيمان اللسان أن يقول الحق والصدق (9 :16)، فالصداقة عنوان للإيمان، وأدواتها حواس الإنسان التي بها يهتدي إلى اليقين، وقد عبر أهل بيت الرسول(ع) أحسن تعبير عن تلك الصفة بقوة إيمانهم، وقوة صداقتهم، كما قال الإمام علي (ع): (المعين على الطاعة خير الأصحاب) (11: 1590) وقال الإمام الحسين (ع): (الوفاء مروءة) (12 :2879)، وإلى ذلك يرى الإمام الشيرازي قوة اقتران الصداقة بالإيمان الديني بقوله: (إن من طبيعة الإنسان تطلب الدين، فإذا كان محلاً مرتبطاً بالدين، التف الناس حوله وكثروا) (4 :284)، كما قال سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) (آل عمران:159).

إذن تحدد مسارات حركة واستمرار الوجود الإنساني النقي من خلال وجود أهل البيت(ع) وبالذات من خلال قوة الإيمان الراسخ الذي تستمد عظمته من تعاليم الدين الإسلامي وسنة الرسول الأعظم(ص)، وقوة شخصيته في التأثير، وقدرته على كسب الإعجاب ممن حوله، بمن فيهم المشركون أيضاً.. فكان رسول الله (ص) يردد دائماً: (خير الأصحاب من قل شقاقه وكثر وفاقه) ) (11 :1591)، وكذلك مدى استمرار هذه الصداقة وقيمتها المتصلة بالاستقامة والمداومة عليها؛ إذ كما يطالبنا الإسلام بأن لا نمل من الأصدقاء القدامى، فهو يطالبنا أيضاً بأن لا نصادق الملولين في الصداقة(3 :458) وعن ذلك ينبئنا قول الإمام جعفر الصادق (ع) بقوله: (ليس لمملول صديق، ولا لحسود غنى، وكثرة النظر في الحكمة تلقح العقل) (5 :266).

الخاتمة:

كان أهل بيت الرسول(ع) ومازالوا مناراً يضيء للبشرية في سلوكهم وتعاملاتهم أسمى صور العلاقة والصداقة، وكيف تكون، وكيف تنمو هذه المهارات... حتى أنهم جعلوا الحياة قائمة على أساس الصداقة والمحبة والتآلف..

إن الصداقة تختلف من حيث مراحل ارتقائها، وأنواعها، وحدودها، حتى باتت تشكل لحياة الناس مقومات وجودهم وأساس قوة تفاعلهم وإيمانهم.

المصادر:

1- نحو نظام معرفي إنساني: فتحي حسن ملكاوي، المعهد العالي للفكر الإسلامي، عمان (2000).

2- الصداقة: أسامة سعد أبو سريع، سلسلة عالم المعرفة العدد (179) الكويت (1993).

3- الصداقة والأصدقاء: هادي المدرسي، مؤسسة الوفاء، بيروت (1985).

4- فقه الاجتماع: ج1 السيد محمد الحسيني الشيرازي، دار العلوم، بيروت (1992).

5- تحف العقول: أبو محمد الحسن الحراني، مطبعة شريعت - إيران 1421هـ.

6- مدخل علم النفس: ليندا، ل، دافيدوف، ترجمة: سيد الطواب وآخرون، دار ماكجروهيل، القاهرة (1983).

7- فن التعامل: رضا علوي سيد أحمد، دار البيان، بيروت (1993).

8- الصحبة، الصداقة، الأخوة: عبد الحسن الضاحي - بدون دار نشر - دمشق (1997).

9- قيم أخلاقية في فقه الإمام جعفر الصادق(ع): محمد جواد مغنية، دار التعارف، بيروت (1997).

10- العلاقة بين الرعاية الوالدية كما يدركها الأبناء وتوافقهم وقيمهم: يوسف عبد الفتاح، مجلة العلوم الاجتماعية، خريف- شتاء (1992).

11- ميزان الحكمة: ج4 محمد الريشهري، مؤسسة دار الحديث، إيران (1416) هـ.

12- ميزان الحكمة: ج7 محمد الريشهري، مؤسسة دار الحديث، إيران (1416) هـ.