مجلة النبأ - العدد61

 

النزعة العقلية في فلسفة التربية الإسلامية

 

 

 

د. صابر عوض جيدوري(*)

  ‡ مقـــدمـــة ‡ 

حين استقر الرأي على أن أجعل من النزعة العقلية في فلسفة التربية الإسلامية موضوعاً لهذه الدراسة، كنت في الواقع مدفوعاً إلى ذلك بالعوامل الآتية:

أولاً: إن دراسة مفهوم النزعة العقلية في فلسفة التربية الإسلامية تعتبر من الدراسات الهامة، إذا أردنا أن نستلهم ما في تراثنا من أنماط فكرية، ونكتشف ما فيه من جذور عقلية، حتى يكون ذلك معيناً لنا على أن نواكب تيار الحضارة، وعلى دفع أمتنا إلى الأمام. فنحن بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن نرتضي السير قدماً نحو الحضارة، وهذا سبيله التمسك بالعقل، وهنا تكون الحياة، وإما أن لا نرتضي التقدم بتخلينا عن العقل، وفي ذلك الجمود والموت.

ثانياً: إن دراسة مفهوم النزعة العقلية في فلسفة التربية الإسلامية، وفهمه يوفر لنا أرضية واسعة لفهم الجوانب الكثيرة من جسد التربية الإسلامية في ماضيها وحاضرها ومستقبلها.

ثالثاً: إن دراسة مفهوم النزعة العقلية في فلسفة التربية الإسلامية تكشف لنا النقاب عما تحمله أفكار الفلاسفة والمفكرين التربويين الإسلاميين من ثراء لا يمكن أن ينكر، والتي نحتاج إلى التعرف إليها وإبرازها وفهمها ومحاولة الاستفادة منها ما أمكن ذلك.

لكل ما سبق اختارت الدراسة مفهوم النزعة العقلية في فلسفة التربية الإسلامية مجالاً لها، ومن ثم سوف تقوم الدراسة بمناقشة هذا المفهوم وتحليله، من أجل الوصول إلى أهم الجوانب التربوية التي يمكن الاستفادة منها في تعليمنا المعاصر، مستخدمة في ذلك منهج التحليل الفلسفي.

  ‡ مفـــهوم النزعـــة العقليــة ‡ 

يطلق لفظ (العقل) في اللغة ويراد به معان متعددة، فقد ورد في المعجم الوجيز: إن العقل هو إدراك الأشياء على حقيقتها(1). ومنها العقل: التثبت في الأمور، وسمي عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك. ويقال عقل فلان: أي عرف الخطأ الذي كان عليه، والعاقل هو المدرك الفاهم الحكيم(2).

فالعقل وفق مدلول لفظه العام، قوة يناط بها الوازع الأخلاقي أو المنع عن المحظور والمنكر، ومن وظائفه أيضاً الإدراك، التي يناط بها الفهم والتصور، ثم إنه يتأمل فيما يدركه ويقلبه على وجوهه ويستخرج منه بواطنه وأسراره، ويبني عليها نتائجه وأحكامه، وهذه الخصائص في جملتها تجمعها وظيفة(الحكم). ومن أعلى خصائص العقل البشري (الرشد)، وهو مقابل لتمام التكوين في العاقل الرشيد، ووظيفة الرشد فوق وظيفة العقل الوازع والعقل المدرك والعقل الحكيم، لأنها استيفاء لجميع هذه الوظائف، وعليها مزيد من النضج والتمام، والتميز بميزة الرشاد حيث لا نقص ولا اختلال، وقد يؤتى الحكيم من نقص في الإدراك، وقد يؤتى العقل الوازع من نقص في الحكمة، ولكن العقل الرشيد ينجو به الرشاد من هذا وذاك(3).

وفي كتاب الطب الروحاني لأبي بكر محمد بن زكريا الرازي، يتجلى مفهوم العقل ومقامه عند علماء العرب وفلاسفتهم في الفصل الأول في فضل العقل ومدحه، قال الرازي:(..إن غاية الباري عزّ اسمه إنما أعطانا العقل وحبانا به لننال ونبلغ به من المنافع العاجلة والآجلة غاية ما في جوهر مثلنا نيله وبلوغه. وأنه أعظم نعم الله عندنا وأنفع الأشياء لنا وأجداها علينا... فبالعقل أدركنا الأمور الغامضة البعيدة منا المستورة عنا، وبه عرفنا شكل الأرض والفلك وعظم الشمس والقمر وسائر الكواكب وأبعادها وحركاتها، وبه وصلنا إلى معرفة الباري عزّ وجل الذي هو أعظم ما استدركنا وأنفع ما أصبنا. وبالجملة فإنه الشيء الذي لولاه لكانت حالتنا حالة البهائم والأطفال المجانين، والذي به نتصور أفعالنا العقلية قبل ظهور للحس فنراها كأننا قد أحسسناها، ثم نتمثل بأفعالنا الحسية صورها فتظهر مطابقة لما تمثلناه وتخيلناه منها..)(4).

وإذا أردنا شيئاً من التوضيح الذي يفرق لنا بين نزعة(عقلية) وأخرى(عاطفية)، فحسبنا أن نرتكز على العلامة المميزة الآتية: فصاحب النزعة العقلية يشترط في خطوات سيره أن تكون الخطوات التالية مكملة للتي سبقتها وممهدة للتي تلحق بها، بحيث تجيء الخطوات معاً في تضامن يجعلها وسيلة مؤدية آخر الأمر إلى هدف مقصود ولا فرق في ذلك بين أن يكون السير سيراً بالقدمين على سطح الأرض ليصل السائر إلى مكان يريد الوصول إليه، وأن يكون السير سيراً عقلياً ينتقل به صاحبه من فكرة حتى ينتهي إلى حل لمشكلة أراد حلها، ذلك هو السير(العقلي) وعلامته المميزة. ولكن ليس كل السلوك الإنساني على هذا النمط الهادف؛ إذ كثير ما يريد الإنسان شيئاً ويعمل بما ليس يحقق له ما أراد، فإذا سألته كيف؟ أو سأل نفسه، كان جوابه أنه يحس(ميلاً) لا قبل له برده، يميل به نحو جانب مضاد لما يظن بادئ الأمر أنه ما يريد.

النزعة العقلية - بعبارة أخرى - نزعة تتقيد بالروابط السببية التي تجعل من العناصر المتباينة حلقات تؤدي في النهاية إلى نتيجة معينة، سواء أكانت تلك الحلقات المؤدية محببة أو غير ذلك عند من أراد الوصول إلى تلك النتيجة المطلوبة، وأما النزعة(العاطفية) أو(اللاعقلية) فهي التي يؤثر صاحبها اختيار الطريق المحبب إلى النفس بغض النظر عن تحقق النتائج أو عدم تحققها(5).

وإذا كانت النزعة العقلية اتجاه فكري يهدف إلى تفسير العالم وظواهره والإنسان وأفعاله على أساس من النظر، إلا أن ذلك لا يعني الاعتراض على إمكان وجود نزعة عقلية في حدود فكر ديني بدعوى التعارض بين الثقة المطلقة في العقل- وفقاً للنزعة العقلية - وبين التصديق بقوة غير منظورة وفق الإيمان الديني؛ لأن الاتجاه العقلي ليس في إرجاع الأشياء إلى أنماط تصورية، وإنما في تفسير الظواهر- طبيعية أو إنسانية - وفقاً لقوانين عقلية. ومن ثم أمكن قيام اتجاه عقلي في نطاق عقيدة ما، إذا استدل على النصوص الدينية بحجج عقلية، وهوجمت الآراء المخالفة على أساس عقلي.

تأسيساً على ما سبق يمكن الإشارة إلى أهم الجوانب التي تؤكد النزعة العقلية في فلسفة التربية الإسلامية:

أولاً: الثقة بالعقل وتقدير العلم والعلماء:

لعل أول الجوانب التي تؤكد النزعة العقلية في فلسفة التربية الإسلامية، تلك المكانة الرفيعة التي يحتلها(العقل) في مصادر هذه الفلسفة الرئيسة (القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة)، وما حظي به العلم والعلماء من آيات التقدير ومظاهر الثقة والتبجيل؛ وما كان لأحد أن يعجب لو أن القرآن الكريم كله نزل نصحاً وتشريعاً، وقصصاً وتوجيهاً في صيغ من الأمر والنهي ليست مقرونة بحض على تعقل أو علم أو فكر، لأنها تكليف من الخالق عزّ وجل يلزم بالتصديق وبالطاعة والانقياد، ولكن القرآن الكريم جاء كذلك تارة، وجاء تارة أخرى مصحوباً بالدعوة إلى التعقل، والتنويه بالفكر، والإشادة بالتدبر، والتقدير للعلم والعلماء، والتقريع للجهال والغافلين، والسخرية ممن لا يفكرون(6).

والذي ينبغي أن نؤكد عليه، أن التنويه بالعقل على اختلاف خصائصه، لم يأت في القرآن عرضاً، بل كان هذا التنويه بالعقل نتيجة منتظرة يستلزمها لباب التربية الإسلامية وجوهرها، ويترقبها منها كل من عرف جوهر الدين الإسلامي، وعرف جوهر الإنسان في تقديره. فالدين الإسلامي دين لا يعرف بالكهانة ولا يتوسط فيه السدنة والأحبار بين المخلوق والخالق، ولا يفرض على الإنسان قرباناً يسعى به إلى المحراب بشفاعة من ولي متسلط أو صاحب قداسة مطاعة، فلا ترجمان فيه بين الله وعباده يملك التحريم والتحليل ويقضي بالحرمان أو بالنجاة، فليس في هذا الدين إذاً ما يتجه إلى الإنسان عن طريق الكهان، ولن يتجه الخطاب إذاً إلا إلى عقل إنسان حر طليق من سلطان الهياكل والمحاريب، أو سلطان كهانها المحكمين فيها بأمر الإله فيما يدين به أصحاب العبادات الأخرى(7). ومن الآيات التي تبين إشادة القرآن بالعقل والثقة به قوله تعالى: (ولقد آتينا لقمان الحكمة) (8) أي آتيناه الفقه والعقل وإصابة القول.

(فاتقوا الله يا أولي الألباب)(9).

(كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون) (10).

(فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (11).

وفي القرآن الكريم آيات ترفع من شأن العلم والعلماء، قال تعالى:

(هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) (12).

(وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور) (13).

(يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) (14).

والعلماء هم الذين يتفقهون في الدين يرشدون قومهم، ويبصرونهم بالحق ليتبعوه، ويحذرونهم الشر ليجتنبوه، قال سبحانه وتعالى(وما كان المؤمنون لينفروا كافة، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم، لعلهم يحذرون) (15). وذلك أنه بعد غزوة تبوك، وبعد أن أنزل الله تقريع المتخلفين، جعل المسلمون يستبقون إلى الجهاد، وينقطعون عن التفقه في الدين، فنزلت الآية الكريمة تبين أنه ليس من الصواب أن يذهب المسلمون جميعاً إلى الجهاد، بل يذهب بعضهم، ويبقى آخرون ليتعلموا الدين، وليعلموا أخوانهم بعد عودتهم(16).

والعلماء هم الذين يخافون الله ويقدرونه حق قدره، لأنهم يوقنون بوحدانيته وقدرته وعدله وحكمته وكماله المطلق، قال تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء، فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلفٌ ألوانه كذلك، إنما يخشى الله من عباده العلماء، إن الله عزيزٌ غفور) (17).

وكان الرسول (ص) ينظر إلى العقل نظرة كلها تعظيم وإجلال، فقد رأى فيه أنه أصل الدين وأساسه، وأنه لا دين لمن لا عقل له، فقد روى أنس بن مالك فقال:(أُثنيَ على رجل عند رسول الله بخير، فقال: كيف عقله؟. قالوا: يا رسول الله إن من عبادته.. إن من خلقه.. إن من فضله.. إن من أدبه.. فقال: كيف عقله؟ قالوا: يا رسول الله نثني عليه بالعبادة وتسألنا عن عقله؟ فقال رسول الله: إن الأحمق العابد يصيب بجهله أعظم من فجور الفاجر. وإنما الناس من ربهم على قدر عقولهم)(18).

وكان من الطبيعي أن تشيع هذه الروح في أرجاء العالم العربي والإسلامي بحيث يحظى العلماء في كل ركن من أركانه بالتقدير والاحترام، ومن أمثلة ذلك أن أحد العلماء الزهاد دخل خراسان فخرج أهلها بنسائهم وأولادهم يمسحون أردائه، ويأخذون من تراب نعليه، ويستشفون به، وكان يخرج من كل بلد أصحاب البضائع وينثرونها، ما بين حلوى وفاكهة وثياب وغير ذلك، وهو ينهاهم حتى وصلوا إلى الاساكفة، فجعلوا ينثرون المتاعات، وهي تقع على رؤوس الناس، وخرج إليه متصوفة البلد بمسابحهم وألقوها إليه، وكان قصدهم أن يلمسها، فتحصل لهم على البركة فكان يتبرك بهم ويقصد في حقهم ما قصدوا في حقه(19).

ويعد المعتزلة من أبرز المعبرين عن النزعة العقلية في الفكر الإسلامي، ليس لأنهم استدلوا على العقائد السمعية بأدلة عقلية فحسب، ولكن لأنهم وثقوا بالعقل إلى حد أن لو تعارض النص مع العقل رجحوا دليل العقل ولجأوا إلى تأويل النص، فقد أقاموا مذهبهم على النظر العقلي(20). وكان لهم الفضل في أن كانوا الأوائل في الإسلام الذين رفعوا العقل إلى منزلة أن يكون مصدراً للمعرفة الدينية(21)، فإن الإنسان إذا كان مفكراً عاقلاً، فقد وجب عليه تحصيل معرفة الباري بالنظر والاستدلال قبل ورود السمع(22).

وذهبت مذاهب إسلامية أخرى إلى أن هناك ملازمة تامة بين ما نصل إليه(بالعقل) وما نتلقاه عن (الشريعة).. من ذلك ما تذهب إليه الإمامية من أنه كلما استقل العقل بدركه، وحكم بمدح فاعله أو ذمه، فلا بد أن يكون حكم الشارع على طبقه، ولا يمكن أن يخالفه بأي حال من الأحوال(23).

أما (ابن رشد) فقد حاول إثبات وجود قوة ناطقة في الإنسان تختلف عن القوى الأخرى كالحس مثلاً، إذ يدرك الحس الصور من حيث هي شخصية، وبالجملة من حيث هي هيولى ومشار إليها، وإن كان لا يقبلها قبولاً هيولانياً على الجهة التي هي عليها خارج النفس، بل هي على جهة أكثر روحانية، أما العقل فشأنه انتزاع الصورة من الهيولى المشار إليها وتصورها مفردة على جوهرها، وبذلك أمكن له أن يعقل ماهيات الأشياء وإلا لم تكن هنا معارف أصلاً(24).

وقد رأى كثير من العلماء أن الحسن والقبح أمران عقليان، فالحسن ما حسن في العقل، والقبيح ما قبح في العقل، وأن كلاً من الوصفين أمر ثابت للعقل في نفسه وليس متوقفاً على أمر الشارع به أو نهيه عنه، ولكن العقاب على القبيح لا يكون إلا بعد إقامة الحجة عليه بالرسالة.

ويلفت (محمد عبده) نظر المسلمين إلى أن الإسلام في دعوته إلى الإيمان بالله ووحدانيته لا يعتمد على شيء قدر اعتماده على الدليل العقلي، وهو إذ يعدد الأصول التي يقوم عليها الإسلام، ويضع في مقدمتها أصلين هامين:

الأول: النظر العقلي لتحصيل الإيمان.

الثاني: تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض.

وقد بلغ الأصل الأول بالمسلمين أن قال قائلون من أهل السنة إن الذي يستقصي جهده في الوصول إلى الحق ثم لم يصل إليه ومات طالباً غير واقف عند الظن فهو ناج.

أما بالنسبة إلى الأصل الثاني، فقد اتفق أهل الملة الإسلامية - إلا قليلاً ممن لا ينظر إليه - على أنه إذا تعارض العقل والنقل، أخذ بما دل عليه العقل، وبقي في النقل طريقان: طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر إلى الله في علمه، والطريق الثانية: تأويل النقل، مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل، وبهذا الأصل الذي قام على الكتاب وصحيح السنة وعمل النبي(ص)، مهدت بين يدي العقل كل سبيل، وأزيلت من سبيله جميع العقبات، واتسع له المجال إلى غير حد(26).

فإذا كان (العقل) هو أداة الإيمان بالله، فمن باب أولى فهو أداة الإنسان فيما يخص تكوينه وتربيته، بمعنى تحصيل العلم دون حجر، يقلب المسائل على مختلف وجوهها، يعلل ويحلل، يوازن ويقارن، ويعترض وينحي، ويجزىء ويضم، وغير ذلك من العمليات العقلية التي تحفظ للإنسان حياته وكرامته وبقاءه واستمراره وتطوره.

ثانياً: الشك المنهجي والدعوة لتحرير العقل من التقليد والبدع:

وفي مواضع متعددة في فكرنا الإسلامي، نجد دعوة حارة لأن نحرر عقولنا مما علق بها من تقاليد وعادات وأوهام انحدرت إلينا من موروث الآباء والأجداد، أو من البيئة التي تحيط بنا منذ الطفولة، وبهذا نستطيع أن نفكر ونبحث في حرية وإطلاق؛ وهذا يستدعي منا أن نشك في كل شيء ونضعه موضع التجربة والاختبار، قبل أن نصل إلى مرتبة اليقين، وهذا ما نادى به (ديكارت) بعد نزول القرآن الكريم بعدة قرون، حيث نادى بأن الشك أول مراتب اليقين(27).

لقد كانت الدعوة الإسلامية تثير أهل الجاهلية ضد الرسول الكريم(ص)، وأشد ما كان يثيرهم من دعوته أنه يسفه بها أحلام الآباء والأجداد، فقلما كانوا يقولون في مجال الغضب منه والتحريض عليه: أنه يسفه أحلامنا ويستخف بعقولنا، وإنما كان غضبهم كله منه وتحريضهم كله عليه إذ يقولون عنه أنه يسفه أحلام آبائنا ويستخف بعقول أسلافنا. والإسلام حين يطلب من الإنسان أن يهتم بعقله، إنما يطلب هذا من منطلق أن العقل إنما يمده بالحجة التي تعينه، وحين يقول الإسلام للإنسان.. يجب عليك أن تفتح عينيك فكأنه يقول له: يحق لك أن تنظر في شأنك، بل في أكبر شأن من شؤون حياتك، ولا يحق لآبائك أن يجعلوك ضحية مستسلمة للجهالة التي درجوا عليها(28). ومما يدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير، إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون، قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم، قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون) (29).

(وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله، قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) (30).

ووصف الله سبحانه وتعالى المقلدين بأنهم يرددون ما تلقوه كالببغاوات والعجماوات: (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، صم بكم عمي فهم لا يعقلون) (31). والرسول(ص) كان يقول: (لا يكن أحدكم إمعة يقول: إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا أن تتجنبوا إساءتهم) (32).

وليس الشك إثماً ولا قبحاً، وإنما يقبح الشك لو ظل المتعلم على حالة من الشك، وهو يحسن في ابتداء حال المتعلم حتى يتسنى له أن يصل إلى العلم الذي عنده تسكن النفس، بل لم يكن يقين قط إلا وسبقه شك، ولم ينتقل أحد من اعتقاد إلى اعتقاد غيره، حتى كان بينهما حالة شك، ومن ثم فقد وجب معرفة مواضع الشك وحالاته الموجبة له لتعرف بها مواضع اليقين وحالاته الموجبة له(33).

ولا يلزم الشك لتعرف مواضع اليقين فحسب، بل للتوقف والتثبت فيما يصل الإنسان من أخبار وما يرثه من اعتقادات، ولكن فيم ينبغي أن يكون الشك؟ ذهب ديكارت إلى وجوب التخلص من الآراء القديمة عدا الدين لأن حقائقه موحى بها، والأخلاق لدواعي عملية لا تجتمع مع الشك والتردد. أما (المعتزلة) فقد ذهبوا إلى العكس فإن هذه الدواعي العملية ذاتها هي التي تفرض على المتعلم الشك في أصول الاعتقادات والعادات الأخلاقية من حيث أنها تتعلق بسلوك المتعلم في الدنيا ومصيره في الآخرة، أنه لا يلزم كل متعلم النظر في الجزء والمداخلة والكمون، وإنما يلزمه النظر في كل علم يخشى المضرة بتركه، فحال المتعلم كحال المسافر، عليه أن يسأل ويبحث قبل أن يقدم حتى لا يضل أو يسلك طريقاً فيه هلاكه.

فالغرض من الشك أن يتحرز المتعلم من الضرر بما يتولد عن الشك وعن التفكر من معرفة تمكنه من أداء الواجبات العقلية والشرعية، ويكون عندها أقرب إلى الفضائل والطاعات، وأبعد عن الرذائل والمعاصي، ولن يتسنى للمتعلم أداء ما افترض عليه إلا بعلم توصل إليه بالنظر(34).

ومن المبادئ الأساسية في فلسفة (أخوان الصفا)، دعوتهم إلى اعتماد الإنسان على نفسه في البحث والكشف عن الحقائق والابتعاد عن تقليد غيره، وكلما أمكنه البحث والكشف عما يريده من علوم بالبرهان، فعليه أن يترك التقليد لهؤلاء الذين يرتضونه لأنفسهم ألا وهم الصبيان والنساء وضعاف العقول(35).

وإذا كان هناك طريقان للتعلم، تعلم يبدأ بالمحسوسات حتى يصل إلى حصول المعقولات في عقلنا، وتعلم على القول بأنه موهبة إلهية لا تتيسر إلا للسعداء، فإن ابن رشد يقول بالطريق الأول طبقاً لمذهبه في تدرج المعرفة الإنسانية في المحسوسات حتى المعقولات، أي يقول بتطور طبيعي للمعرفة، وينكر الطريق الثاني لأنه لا ينزع منزعاً حسياً أو عقلياً، بل يفسر المعرفة بنوع من العجائب والخوارق، وهو التفسير الذي لا يمكن القول به في مجال العلم، وبهذا تم له نقد طرق الصوفية التي تعتمد على القول بالطريق الثاني، أي ترى أن الإنسان لا يستطيع الصعود إلى مرتبة الاتصال بالعلم والبحث، بل بالتقشف والزهد يصل الإنسان إلى هذه المرتبة(37).

ويعارض (ابن مسكويه) الرهبنة والتصوف من حيث لا تحصل الفضائل للذين تركوا مخالطة الناس وتفردوا عنهم، حيث لا تتوجه ملكات الإنسان إلى خير أوشر، فليست حياة الإنسان حياة زهد وإعراض، وإنما هي حياة انسجام وتوافق بين مطالب الجسد والروح ومن ثم فإن الحكيم لا يتجرد عن لذة الدنيا تماماً وإنما يضيفها إلى لذة الروح(38).

وشغلت قضية تحرير الفكر العربي الحديث من الخرافات التي لحقت به في العصور المتأخرة والتي عاقته عن الانطلاق وقيدته بمختلف القيود، وكذلك تحريره من البدع المنافية للدين، نقول شغلت هذه القضية المفكرين في سائر أنحاء العالم العربي من أمثال (جمال الدين الأفغاني) و(عبد الرحمن الكواكبي)، والشيخ (محمد عبده). وكانت مدرسة التجديد الإسلامي التي ظهرت في القرن 19 قد ركزت عملها على مقاومة الخرافات التي شوّهت هذا الفكر، ووصمته بالتأخر والجمود، كما ركزت عملها في بعث الحياة في أوصال العالم الإسلامي، حيث كان (عبد الحميد بن باديس) (1889 - 1940) من بين أتباع هذه المدرسة الذين استهدفوا في عملهم نهضة العرب عن طريق الإصلاح الديني والتربية الإسلامية، ومقاومة الخرافات والبدع والعودة بالإسلام إلى ينابيعه الأولى وهي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة(39).

ثالثاً: تعليم المنطق والفلسفة والرياضيات:

ولا شك في أن المنطق والرياضيات من المواد التي تلعب دوراً كبيراً في تدريب العقل ومن هنا كانت الدعوة إلى تعليم هذه المواد، مقياساً هاماً لقياس النزعة العقلية في ثقافة ما .

وقد عنى (ابن رشد) بدراسة قضية تعليم الفلسفة والمنطق من الناحية الشرعية، وفي ذلك يقول (إن الفلسفة إذا كانت عبارة عن النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، وأن الموجودات تدل على الصانع لمعرفة صنعتها، وكلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم، فإن هذا يؤدي إلى القول بأن الشرع قد دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل، وتطلب معرفتها به. وهذا يتبين من آيات كثيرة، منها قوله تعالى: (أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء) (42) وقوله أيضاً : (فاعتبروا يا أولي الأبصار) (43). فالآية الأولى تحث على النظر في جميع الموجودات، والآية الثانية تنص على وجوب استعمال الاستدلال العقلي. وعلى هذا يكون الدين قد حث ووصى على عمل الفلسفة، لأن الله يأمر بالبحث عن الحقيقة(44).

وإذا كان الاستدلال العقلي يعد ضرورياً، فإنه يجب علينا الاستعانة على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك، سواء أكان ذلك الغير مشاركاً لنا أو غير مشارك في الملة.

وهذا المبدأ يعد مبدءاً هاماً، إذ فيه دعوة إلى البحث عن الحقيقة بصرف النظر عن كونها إسلامية أو كونها غير إسلامية، أو كونها عربية أو غير عربية، كما تتضح أهميته حين ندرك أن من أسباب الهجوم على المنطق أنه أتى من اليونان وأن صاحبه كافر(45).

وشارك (ابن رشد) في الدعوة إلى ضرورة تعليم وتعلم المنطق، فقال: إنه لما كانت العلوم النظرية (الطبيعية والرياضية والإلهية) إنما تقوم أصلاً على البراهين العقلية لا النقلية فلا بد أن يدرس الطالب (علم المنطق) الذي هو آلة الطالب الموصلة إلى اليقين عن طريق أحكام القياس ومعرفة المنطق الذي يقيه من السهو والغلط، ويرشده إلى الطريق الذي يجب أن يسلكه حتى يعرف حقيقة الحد الصحيح والدليل الذي هو البرهان العقلي، وبالتالي يستطيع التفريق بين البرهان العقلي والبرهان الجدلي المقارب له(46).

ويذكر (الغزالي) في مفتتح الجزء الأول من كتابه (المستصفى) من شروط العالم المجتهد غير المقلد أن يحيط بعلم النظر ويحسن إيراد البرهان وإجراء القياس. وكان يأخذ على العلماء أنهم لا يشتغلون بتحصيل هذا العلم فقال في كتابه (المنقذ من الضلال): (إني ابتدأت بعد الفراغ من علم الكلام بعلم الفلسفة، وعلمت يقيناً أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم من لا يقف على منتهى ذلك العلم حتى يساوي أعلمهم في أصل العلم. ولم أر أحداً من علماء الإسلام صرف همته وعنايته إلى ذلك، ولم يكن في كتب المتكلمين من كلامهم حيث اشتغلوا بالرد عليهم، إلا كلمات معقدة مبددة ظاهرة التناقض والفساد لا يظن الاغترار بها بغافل عامي فضلاً عمن يدعي حقائق العلوم، فعلمت أن رد المذهب قبل فهمه والاطلاع على كنهه رمي عماية، فشمرت عن ساعد الجد في تحصيل ذلك العلم من الكتب بمجرد المطالعة من غير استعانة أستاذ ومعلم، وأقبلت على ذلك في أوقات فراغي من التدريس) (47).

وبعد دراسة المنطق رأى (الغزالي) أن خطأ المناطقة إنما يعتريهم من ناحية التطبيق ولا عيب في أصول النظر على استقامة فهمها وصدق الرغبة في المعرفة الصحيحة، ومن ذلك قوله في كتاب (مقاصد الفلاسفة): (فأما المنطقيات فأكثرها على منهج الصواب، والخطأ نادر فيها، وإنما يخالفون أهل الحق فيها بالاصطلاحات والإيرادات دون المعاني والمقاصد) (48).

ومن هذا المنطلق نجد (ابن حزم) - في ثنايا مؤلفه الشهير المسمى بالفصل في الملل والأهواء والنحل- يدافع عن تعلم وتعليم كل من الفلسفة والمنطق فيقول: (إن الفلسفة على الحقيقة إنما معناها وثمرتها، والغرض والمقصود نحوه بتعلمها، ليس هو شيئاً غير إصلاح النفس.. وهذا نفسه لا غيره هو الغرض في الشريعة، هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من العلماء بالفلسفة ولا أحد من العلماء بالشريعة.. اللهم إلا لمن انتمى إلى الفلسفة بزعمه، وهو ينكر الشريعة بجهله على الحقيقة بمعاني الفلسفة، وبعده من الوقوف على غرضها ومعناها).

وواضح من هذا النص أن (ابن حزم) لا يرى داعياً لمعاداة الفلسفة: فإن غاية الفلسفة الحقيقية إنما هي الحكمة العملية _ أو إصلاح النفس _ وتلك الغاية بعينها هي غاية الشريعة، فلا تعارض إذن بين الاثنتين(49). وأما عن المنطق، فإن (ابن حزم) أعرف الناس بقيمته، إذ نراه يقرر بصراحة أن (الكتب التي جمعها (أرسطو طاليس) في حدود الكلام.. كلها كتب سالمة مقيدة دالة على توحيد الله عز وجل وقدرته، عظيمة المنفعة في انتقاد جميع العلوم، وعظم منفعة الكتب التي ذكرنا في الحدود، ففي مسائل الأحكام الشرعية بها يتعرف كيف التوصل إلى الاستنباط، كيف تؤخذ الألفاظ على مقتضاها، وكيف يعرف الخاص من العام والمجمل من المفسر، وكيف يتم تقديم المقدمات، وإنتاج النتائج، وما يصح من ذلك صحة ضرورية أبداً وما يصح مرة وما يبطل أخرى، ومالا يصح البتة، وضرب الحدود التي من شذ عنها، كان خارجاً عن أصله ودليل الخطاب، ودليل الاستقراء، وغير ذلك مما لا غناء بالفقيه المجتهد لنفسه ولأهل ملته عنه)(50).

رابعاً: تعقيل طريقة التعليم:

كانت (البصرة) هي موطن (العقل) الذي يحاول ألا ينثني مع عاطفة أو تزمت أو عصبية، فلا غرابة إن وجدنا طريقتها التربوية تهدف إلى صب الفكر في قوالب المنطق، أو إن شئت فقل صبه في أطر رياضية (والمعنى واحد)، وكان اهتمامهم بعلم النحو، أي بالتماس القواعد التي يطوع لها كلام العرب سواء تحقق لهم هذا التطويع على صورة طبيعية أم افتعلوه افتعالاً بقسرهم الشاذ - والشواذ عن قواعدهم كانت أكثر من أن تهمل أو يغض عنها النظر - على أن يجد إلى القاعدة طريقاً حتى ولو كان طريقاً غير مباشر، وفيه كثير من التكلف والتعسف، فما استحال معهم أن يجد طريقه إلى قواعد النحو حتى عن هذا الطريق الملتوي المتعسف، قالوا أنه لا يصلح أن يقاس عليه لأنه خطأ(51).

وكان موقف (المعتزلة) يسمح بقيام مختلف العلوم على أسس عقلية دون إنكار لله، فالظواهر تحكمها قوانين أو علل ضرورية بما طبعها الله عليها، بعكس موقف (الأشعري) الذي لا يثبت إلا إرادة الله فيجعل إمكان قيام العلم متعذراً، ففي علم الاقتصاد، الله هو المسعر لدى الأشاعرة وبذلك ينتهي القول في هذا العلم، ولكن رأي (المعتزلة) يدع الإمكان بقولهم، السعر فعل مباشر من العبد، إذ ليس ذلك إلا مواضعة منهم على البيع والشراء بثمن مخصوص، فهو تقدير الثمن الذي تباع به الأشياء على وجه التراضي(52).

وأكد بعض المفكرين على هدف التدريب العقلي عند تعليم بعض المواد كالمنطق والرياضيات، فتعليم المنطق - مثلاً وكما بينا - يعطي (جملة القوانين التي من شأنها أن تقوم العقل وتسدد الإنسان نحو طريق الصواب، ونحو الحق في كل ما يمكن أن يغلط فيه من المعقولات، والقوانين التي تحفظه وتحوطه من الخطأ والزلل والغلط في المعقولات)(53).

وذهب (ابن خلدون) إلى مدى بعيد في تعليم التاريخ بطريقة عقلانية، فلقد أوجب على أصحاب التاريخ أن يجعلوا من الوقائع موضوعاً للتأمل، وأن يستخرجوا منها قوانين عامة تطبق على سير الحوادث في الزمن أو الحياة الاجتماعية، إن الهدف من تعليم التاريخ ليس هو هز المشاعر أو سحر الألباب أو خدمة الحكومات. وهو ينتقد هؤلاء الذين يكتفون بتعداد الحوادث التي تقع أثناء حكم هذا الملك أو ذاك، وسرد شجرة أنسابهم وأسماء وزرائهم، أما الهدف الصحيح فهو التفسير والإفهام(54).

وانتقد (ابن باديس) أساليب التربية ومناهجها في المعاهد الإسلامية في عهود التدهور كجامع الزيتونة والجامع الأزهر، وعاب عليها جفاف أسلوبها واشتغالها بالمحاكاة اللفظية، كما عاب عليها مبالغتها في العناية بالفروع مع إهمال الأصول، وقد ضرب لنا مثلاً على عقم أساليب التعليم في جامع الزيتونة بحالته هو شخصياً عندما كان طالباً فيه (1908 - 1912) فذكر أنه حصل على شهادة عالية من الزيتونة، ومع ذلك لم يدرس آية واحدة من تفسير القرآن الكريم، ولم يمل قلبه إلى دراسته لعدم تشجيع أساتذته وتوجيههم له (55).

وقد عرف العرب فكرة توجيه التلاميذ على حسب مواهبهم، وكانت عملية التوجيه هذه تبدأ بعد أن يجتاز التلميذ المرحلة الأولى للتعليم، وقد ذكر (حاجي خليفة) و (أبو يحيى الأنصاري) أن على كل صبي أن يعرف طرفاً من العلوم الضرورية في الحياة كالقراءة والكتابة والحساب، ثم عليه بعد ذلك أن يتجه إلى العلم أو الحرفة على حسب استعداده وتكوينه، إذ ليس كل فرد يصلح لتعلم العلوم يصلح لجميعها.. وإلى نفس المعنى ذهب (جابر بن حيان)، إذ أوجب على المعلم أن يمتحن قريحة المتعلم، ويعني بالقريحة،جوهر المتعلم الذي طبع عليه ومقدار ما فيه من القبول، والإصغاء إلى الأدب إذا سمعه وقدرته على حفظ ما قد تعلمه وعلى تذكره، فإذا وجد المعلم في تلميذه قبولاً، ذا أرض زكية وجوهر ترتضع فيه المعلومات كلما ارتسمت فيه أخذ يسقيه أوائل العلوم التي تتناسب مع قدرته على القبول وتتناسب مع سنه وخبرته، ولم يزل به يلقنه العلم أولاً، وكلما احتمل الزيادة زاده، مع امتحانه فيما قد تعلمه، فإن كان حافظاً لما كان سقاه وغير مضيع له، زاده في الشرب والتعليم، وإن وجده ينسى ويتخبل في حفظه، أنقص له المقدار، وعاتبه على ذلك، ثم امتحنه بعد ذلك ثانياً وثالثاً فإن وجده على ما كان عليه سابقاً، هزه بالعتاب وأوجعه بالتقريع(56).

ولا يرى علماء العرب شراً في الغرائز أو الشهوات إلا إذا خرجت عن حد الاعتدال، فيرى (الغزالي) مثلاً أن الشهوة خلقت لفائدة، وهي ضرورية في الجبلة. ويرى آخرون أن جميع ما وضع في الآدمي إنما وضع لمصلحة أما لاجتلاب نفع كشهوة الطعام أو لدفع ضر كالغضب، فإذا زادت شهوة الطعام صارت شرهاً فآذت، وإذا زاد الغضب أخرج إلى الفساد(57).

ولابن سينا حديث ممتع عن أنواع الرياضة في عصره والتي يرى أهميتها في حياة الصبي حسب سنه وقدرته، فهو يتحدث عن المنازعة والمباطشة وسرعة المشي والرمي من القوس والقفز إلى شيء ليتعلق به والحجل على إحدى الرجلين، والأراجيح وركوب الخيل..الخ، كما أنه يرى ضرورة أن تخلط الرياضات الشديدة والسريعة بفترات من الرياضة أو برياضات فاترة مع وجوب تنقل الطفل بين الرياضات المختلفة، إذ لكل عضو رياضة تخصه.

وقد أهتم باللعب والرياضة في تعليم الأطفال، وليست المسألة في التعليم مسألة قدرة فقط، وإنما لا بد كذلك من مراعاة (الميل)، ومن هنا فقد رأى (أخوان الصفا) أن العلوم لما كانت كثيرة ولا يستطيع الإنسان أن يحيط بها كلها، وكان منها ما لا تقبلها نفسه ولا تميل إلى معرفته وما لا يشعر برغبة تجاه تعلمه البتة، فإن الواجب على الإنسان أن يتعلم العلوم التي يجد في نفسه الرغبة والميل لأن يتعلمها، وعليه أن ينظر بعقله ويميز بينها ليختار مالا بد له من تعلمه ويتلائم مع ميوله(59).

وللإخوان طريقتهم، إذ يقوم الداعية لجماعتهم أو الحكيم أو المعلم بقراءة أجزاء من الرسائل على الأخ الجديد - بعد مراقبته من أفراد الجماعة وثبوت صلاحيته - فيقوم بمحاورته في محتوى هذه الأجزاء دون أن يعطيه إجابة كافية أو نهائية في موضوعات مختلفة، مما يثير فضول الأخ ويدفعه لمحاولة معرفة حقائق ما أثير أمامه من قضايا أو ليتوجه للبحث عن مزيد التفصيلات، وقد جاءت الرسائل فيما يقررون بمثابة التطبيق لهذه الخطوة، ذلك أنهم قد ذكروا من كل علم فيها (نسبة المقدمة والمدخل إلى باقيه ليكون تحريضاً لإخواننا على التمهر فيه والشوق إليه لأن بالشوق إلى الشيء يكون الحرص على الاطلاع عليه والمعرفة به، مما يدفع بالتلاميذ الجد في طلب علومهم ويتجهون لسؤال أهل العلم من الأخوان عما لا يعلمون)(60).

أما (موفق الدين البغدادي) فهو يشير إلى ضرورة التفكير والبحث في العملية التعليمية، ومن هنا يقول (ولا تظن أنك إذا حصلت على علم فقد اكتفيت، بل تحتاج إلى مراعاته لينمو ولا ينقص ومراعاته تكون بالمذاكرة والتفكر واشتغال المبتدئ بالحفظ والعلم ومباحثة الأقران واشتغال العالم بالتصنيف. وينبه الشيخ (برهان الإسلام) المتعلم ألا يكتب شيئاً لا يفهمه لأن ذلك يورث كلال الطبع ويذهب الفطنة، وينبغي له أن يجتهد في الفهم من الأستاذ ويكثر من التأمل والتفكر)(61).

والمتتبع لطريقة التعليم في المراحل العالية يلمس ما كانت تتميز به من كثرة النقاش والجدل بين أطراف العملية التعليمية، فما أن ينتهي المعلم من درسه، حتى توجه إليه الأسئلة من كل صوب، وينصح البعض بأن تكون الأسئلة في نهاية الدرس، ومن ثم فلا يصح أن يقاطع الطالب معلمه بسؤال ما وإنما يصبر حتى ينتهي الدرس.

وهاجم (ابن خلدون) بشدة، الطريقة اللفظية في التعليم، ونعني بها الحفظ من غير فهم مما يدل عليه المحفوظ من خبرات حسية، ويرى أن الحفظ بهذه الطريقة معوق لملكة الفهم، ولذلك فهو يلوم المدرسين الذين يعتمدون على طريقة الحفظ والتسميع لأن التعليم بهذه الطريقة لا يترك أثراً في عقول التلاميذ، ويستدل على ذلك بأن مدة التعليم في بلاد المغرب كانت ست عشرة سنة، ومع ذلك لم يحصل الناشئون على المهارة في العلم، وكسب الملكة فيه بسبب اهتمام المدرس بالحفظ دون سواه، وعكس ذلك النظام التعليمي في تونس، إذ لا تزيد مدة الدراسة التونسية على خمس سنوات، ومع ذلك يحصل الناشئون على ملكة العلم بسبب اهتمام المدرسين بالمناظرة والبحث(62). ويقول ابن خلدون: (ومما يشهد بذلك في المغرب بأن المدة المعينة لسكنى طلبة العلم بالمدارس عندهم (ست عشرة سنة) وهي بتونس خمس سنين، فطال أمدها في المغرب لهذه المدة لأجل عسرها من قلة الجودة في التعليم خاصة لا مما سوى ذلك).

ولذلك يدعو (ابن خلدون) إلى نبذ هذه الطريقة وإتباع ما يشبه الطريقة العلمية في مناقشة مشكلات العلم، ويكون ذلك بطريقة المحاورة والمناظرة في المسائل العلمية والاعتماد على ملكة الفهم عند التلاميذ مع دراسة النمو العقلي لهم ومراعاته والاستعانة ما أمكن بالأمثلة الحسية التي تقرب الموضوعات إلى أذهان التلاميذ، وفي ذلك يقول (ابن خلدون): (وأيسر طرق هذه الملكة، ملكة الفهم وهو فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية، فهذا الذي يقرب شأنها ويحصل مرادها)، كما يقول في موضع آخر: (فنجد طالب العلم منهم، بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية - سكوتاً لا ينطقون ولا يفاوضون، وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة، فلا يحصلون على طائل من ملكة التصريف في العلم والتعليم، ثم بعد تحصيل من يرى منهم أنه قد حصل، نجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو علم، وما أتاهم من قصور إلا من رداءة طريقة التعليم وانقطاع سنده، وإلا فحفظهم أبلغ من حفظ سواهم لشدة عنايتهم به وظنهم بأنه المقصود في الملكة العلمية وليس كذلك) (63).

ويذكر (الغزالي) أنه تناظر مع مشاهير العلماء وقادة الفكر في معسكر الوزير نظام الملك وانتصر عليهم جميعاً، ويصف (السبكي إسماعيل بن يحيى) المتوفى سنة (175هـ) بأنه جبل من العلم على جانب عظيم من المهارة في المناظرة، قال عنه (الإمام الشافعي) أنه لو ناظر الشيطان لغلبه. ويقول (المقريزي) عن أحد العلماء المشهورين أنه كان يشجع المناقشة بين تلاميذه بل كان يصر عليها، ويرى (الزرنوجي) أنه لا بد للطالب من المذاكرة والمطارحة والمناظرة: (فإذا كانت نيته إلزام الخصم وقهره، فلا يحل ذلك، وإنما يجوز ذلك لإظهار الحق) (64).

ولقد أكسب الاهتمام بالمناظرة والمناقشة عملية التعليم نشاطاً وحيوية، وقوّى الناحية الإيجابية والتلقائية إذ جعل المتعلم يساهم في تعليم نفسه، وشحذ ذهنه وأطلق لسانه وعوّده القدرة على النقد والتفكير وجودة التعبير وقوة الإقناع، كما أكسبه جانباً كبيراً من حرية الفكر والثقة بالنفس وعالج كثيراً من العيوب الناشئة عن طريقة الحفظ الآلية.

وتمثلت الروح الديموقراطية في طريقة التعليم في المعاهد الإسلامية من جانب آخر، إذ لم يكن هناك مكان مميز في حلقات الدرس لآحاد الناس، بل كان الجميع عند المعلم سواء ومن سبق من الطلاب إلى موضع من المكان المخصص لهم جلس فيه، وليست المسألة مسألة الجلوس فحسب وإنما كان على المعلم أن يعامل الفقير معاملة الغني، فقد ورد في الحديث الشريف ما يحتم أن يكون المتعلمون أمام المعلم على حد واحد لا فرق بين غني وفقير(65).

وكانت توجه عناية خاصة للطلاب الذين تبدو عليهم مخايل الذكاء والفطنة، وكان من الظلم أن يحرم طالب نابغ من تلقي العلم لأي سبب من الأسباب، وذكر (الغزالي) أنه ليس الظلم في إعطاء العلم المستحق بأقل في منع المستحق، وكانت عناية المدرسين بتلاميذهم الفقراء تصل بهم إلى حد الإنفاق عليهم من مالهم الخاص.

  ‡ وبعــــد ‡ 

إن الأمثلة تتعدد وتكثر مؤكدة أن الفكر التربوي الإسلامي قد عرف النزعة العقلية بأبعاد مختلفة.. لكننا في نفس الوقت نكرر القول بأن هذا لا يعني أن هذا الفكر كان في مجموعه، وفي كل ما قاله عقلانياً، إذ لا بد من الاعتراف بأن هناك تيارات أخرى وأمثلة أخرى مغايرة، وإنما أردنا أن نقول بوجود تيار عقلاني، وإن هذا التيار كان واضحاً وقوياً ومؤزراً، وأنه أمتد على فترات طويلة من تاريخنا الإسلامي.

المصـــادر:

(*) أستاذ في جامعة دمشق - كلية التربية.

(1) مجمع اللغة العربية: المعجم الموجيز، دار التحرير للطباعة والنشر، القاهرة، 1980، ص 428.

(2) قدري حافظ طوقان: مقام العقل عند العرب، دار القدس، بيروت، بدون تاريخ، ص 9.

(3) عباس محمود العقاد: التفكير فريضة إسلامية، دار القلم، الطبعة الأولى، بدون تاريخ، ص 7.

(4) قدري حافظ طوقان: مرجع سابق، ص 10.

(5) زكي نجيب محفوظ: المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري، دار الشروق، بيروت، بدون تاريخ، ص 17.

(6) أحمد محمد الحوفي: القرآن الكريم والتفكير، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1975، ص 9.

(7) عباس محمود العقاد: مرجع سابق، ص 20.

(8) سورة لقمان، آية 12.

(9) سورة المائدة، آية 100.

(10) سورة الروم، آية 28.

(11) سورة النحل، آية 43.

(12) سورة الزمر، آية 9.

(13) سورة فاطر، آية 19، 20.

(14) سورة المجادلة، آية 11.

(15) سورة التوبة، آية 122.

(16) أحمد محمد الحوفي: مرجع سابق، ص 26.

(17) سورة فاطر، آيات 27، 28.

(18) قدري حافظ طوقان: مرجع سابق، ص 30.

(19) آدم ميتز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، نقلها إلى العربية محمد عبد الهادي أبو ريده، دار الكتاب العربي، بيروت، 1967، المجلد الأول، ص 321.

(20) ت .ج .دي بور: تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة وتعليق محمد عبد الهادي أبو ريده، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1954، ص 97.

(21) جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام، ترجمة وتعليق: محمد يوسف موسى وآخرون، دار الكتاب العربي، 1964، ص 105.

(22) الشهرستاني: الملل والنحل، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، ج1، ص 45.

(23) رشدي محمد عرسان عليان: العقل عند الشيعة الإمامية، جامعة بغداد، 1973، ص 57.

(24) محمد عاطف العراقي: النزعة العقلية في فلسفة ابن رشد، دار المعارف، القاهرة، 1968، ص 57.

(25) محمد عبده: الأعمال الكاملة، حققها وقدم لها محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1972، ج3، ص 282.

(27) علي عبد العظيم: فلسفة المعرفة في القرآن الكريم، مجمع البحوث الإسلامية، القاهرة، 1973، ص 31.

(28) عباس محمود العقاد: مرجع سابق، ص 26.

(29) سورة الزخرف، آية 23، 24.

(30) سورة البقرة، آية 170.

(31) سورة البقرة، آية 171.

(32) رواه الترمذي في باب الإحسان والعفو من كتاب البر والصلة.

(33) أحمد محمود صبحي: الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي، دار المعارف، 1969، ص 120.

(34) المرجع السابق، ص 121.

(35) نادية يوسف جمال الدين: فلسفة التربية عند أخوان الصفا، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة عين شمس، 1973، ص 228.

(36) زكريا إبراهيم: ابن حزم الأندلسي، أعلام العرب(56)، الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1966، ص 148، 149.

(37) محمد عاطف العراقي: مرجع سابق، ص 78.

(38) أحمد محمود صبحي: مرجع سابق، ص 31.

(39) تركي رابح عمامرة: الإمام عبد الحميد بن باديس، فلسفته وجهوده في التربية والتعليم، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة عين شمس، 1969م، ص 229.

(40) عباس محمود العقاد: مرجع سابق، ص 71.

(41) المرجع السابق نفسه: ص 71.

(42) سورة الأعراف، آية 185.

(43) سورة الحشر، آية 2.

(44) محمد عاطف العراقي: مرجع سابق، ص 272.

(45) المرجع السابق نفسه، ص 275.

(46) عبد الرحمن النقيب: الآراء التربوية في كتابات ابن سينا، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة عين شمس، 1969، ص 159، 160.

(47) أبو حامد الغزالي: المنقذ من الضلال، ضمن رسائل للغزالي بعنوان العقود واللآلئ من رسائل الإمام حجة الإسلام الغزالي، المكتبة المحمودية التجارية، القاهرة، بدون تاريخ، ص 9، 10.

(48) عباس محمود العقاد: مرجع سابق، ص 46.

(49) جولد تسيهر: موقف أهل السنة القدماء بإزاء علوم الأوائل، بحث منشور بكتاب (التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية) ترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي، النهضة المصرية، 1940،ص 151.

(50) زكريا ابراهيم: مرجع سابق، ص 107.

(51) زكي نجيب محفوط: مرجع سابق، ص 92.

(52) أحمد محمود صبحي: مرجع سابق، ص 189.

(53) أسماء فهمي: مبادئ التربية الإسلامية، ص 77.

(54) عبد الرزاق المكي: الفلسفة عند ابن خلدون، مطابع رويال، الإسكندرية، 1970،ص 97.

(55) تركي رابح عمامرة: مرجع سابق، ص 261.

(56) زكي نجيب محفوظ: جابر بن حيان، سلسلة أعلام العرب (3)، مكتبة مصر، 1962، ص 49.

(57) أسماء فهمي: مرجع سابق، ص 104.

(58) عبد الرحمن النقيب: مرجع سابق، ص 229.

(59) ناديا يوسف جمال الدين: مرجع سابق، ص 229.

(60) المرجع السابق نفسه، ص 268.

(61) المرجع السابق نفسه، ص 122.

(62) عبد الرزاق المكي: مرجع سابق، ص 319.

(63) المرجع السابق نفسه، ص 322.

(64) أسماء فهمي: مرجع سابق، ص 132.

(65) تاريخ التربية الإسلامية، ص 292.

(66) المرجع السابق نفسه، ص 293.