مجلة النبأ - العدد61

 

الإتقان ونهوض الأمة

 

 

 

السيد مرتضى الشيرازي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله أجمعين..

في الحديث الشريف: (رحم الله امرءاً عمل عملاً فأتقنه).

لقد تعلّقت إرادة الله سبحانه وتعالى ببناء الكون على فلسفة قد تبدو في بادئ النظر وكأنها تجمع بين نقيضين، تلك الفلسفة هي: إن أكثر الحلول عبقرية هي أشدها بساطة، وإن أعتى الشفرات تعقيداً تفك عبر أكثر الأدوات بساطة، هذه الفلسفة التكوينية الإلهية سارية في الكون في الجانب التكويني كعملها في الجانب التشريعي..

فمن عرف هذه الفلسفة وهضم حقيقتها وتفاعل بكيانه كله معها، استطاع أن يحقق قفزات في حياته.

وعلى الأمة التي تتوخى النهوض أن تدرك هذه المعادلة المعبّر عنها بـ(السهل الممتنع) التي يعد القرآن الكريم أجلى مصداق لها، وبعده مباشرة تأتي كلمات الرسول الأعظم (ص) وكلمات أمير البلاغة والكلام (ع)، وسنشير إشارة عابرة إلى قاعدة (أكثر الحلول عبقرية أكثرها بساطة) كتمهيد للوصول إلى صلب الموضوع.

الإتقان في دراسة النصوص:

مما لا شك فيه أن القضايا الفطرية هي تلك المفاتيح المبسطة والمعمقة في الوقت نفسه لأشد المسائل عسرة وصعوبة، ذلك أن الفطرة هي فطرة الله التي فطر الناس عليها، والتي تجسد (المفاتيح) التكوينية التي تفك أعقد الشفرات في هذه الحياة، و(الإتقان) من هذه العناوين، بسيط في مظهره لكنه عميق في جوهره إلى حد الإعجاز، وهكذا القضايا الفطرية: وحدانية الله، العائلة، الخلق الرفيع... هذه كلها قضايا فطرية لا تجد أشد منها بساطة، لكنها تمثل الحلول الحقيقية لأعتى وأصعب المشاكل التكوينية أو التشريعية.. ولذلك ورد في الحديث: (رحم الله امرءاً عمل عملاً فأتقنه) إذ إن عامل الإتقان من أهم عوامل النهوض بالأمة وسنركز على مصداق واحد وجانب واحد من جوانب هذا المصطلح - المفتاح (الإتقان) وهو استخدام المنهج العلمي في التحليل وهو ما يعبر عنه بفقه الحديث، وسوف نضرب أمثلة عديدة - وبشكل موجز - ثم نشير إشارة عابرة آخر البحث إلى بعض مصاديق الإتقان الأخرى، فلنبدأ بنفس الرواية (رحم الله امرءاً عمل عملاً فأتقنه):

تارة يتلقى الخطيب أو المؤلف أو المفكر هذه الكلمة على عفويتها أو على بساطتها ووضوحها، وتارة يتوغل في أعماقها لكي يسبر بعض أغوارها، فلنتأمل بشكل بسيط - على حسب المصطلح الذي يسمى بفقه الحديث - ونستخدم بعض المنهج العلمي في تحليل هذه المفردات، فـ(رحم) هل هي جملة إخبارية أم أنها جملة إنشائية؟!.

للإجابة على ذلك نقول: الخبر والإنشاء كلاهما ممكن وصحيح أيضاً في هذا المقام؛ فتارة تعتبر خبرية أي أن الجملة سيقت للإخبار عن شمول الرحمة الإلهية لمن أتقن هذا العمل، لكن هذا الإخبار من باب أن المضارع المحقق الوقوع قد نزل منزلة الماضي؛ أي إن المضارع والمستقبل المحقق الوقوع ينزل منزلة الماضي، ولكن هل هذا مجاز؟ - والمجاز قد يكون مجازاً بالأَوْل وقد يكون مجازاً بالمشارفة-؛ لا ضرورة للالتزام بالمجازية في التعبير، إذ قد يكون من نمط الحقيقة الادعائية، ويمكن القول أن تعلق الرحمة الإلهية في (رحم الله) قديم والمتعلق به هو الحادث فتكون (رحم) قد استخدمت في معناها الحقيقي حقيقة.

وأؤكد مرة أخرى أننا باستخدامنا منهج التحليل نجد أن هناك مخزوناً هائلاً من الثروة العلمية تتضمنه كل مفردة من هذه المفردات وكل المفردات الأخرى التي تضمنتها الآيات الشريفة والروايات، واكتشاف هذا المخزون الهائل يعد من أهم مسؤوليات المفكرين والموجهين والخطباء والكتاب الذين يعدون في طليعة حركة الأمة.

ومن الممكن أن تكون (رحم) جملة إنشائية؛ وهي تعني: دعاء الإمام المعصوم(ع) بالرحمة الإلهية هو لكل من أتقن العمل.. وهكذا فمن الممكن أن نتوقف عند كل مفردة من المفردات؛ لنكتشف بعض المخزون، وهذا المخزون يتجدد باستمرار؛ أي كلما توقفنا على كلمة من جديد، كلما اكتشفنا آفاقاً جديدة..

ولكن لماذا لم يقل (رحم الرب) إذ ربما يقال بأن الرب أنسب نظراً لمقام الربوبية، أو لِم لم يقل رحم الرازق أو الخالق؟ هنا محطة توقف؛ فكل كلمة توزن بميزان وتقاس بمقياس دقيق. ربما يكون السبب في ذلك هو أن (الله) تلك الذات المستجمعة لجميع صفات الجمال والجلال، فنسبة كلمة الرحمة وإضافتها إلى الله سبحانه ستعطيك معنى شمولياً للرحمة كما أن المنسوب إليه ذات لها تجليات مختلفة ومنها الرزق والعلم و..

إن نسبة الرحمة إلى العالِم، بما هو عالِم، تعني التجلي العلمي، ونسبتها إلى المتمول والجواد، تعني التجلي المالي، ولذي الوجاهة تعني ذلك التجلي الذي يرتبط بالوساطة وتعبيد الطريق للآخرين، لكن نسبتها إلى الذات المستجمعة لجميع صفات الكمال والجلال، تفيد معنى شمولياً في كل التجليات التي يمكن أن يكون العبد محطةً لها...

ثم لماذا (امرءاً) وليس (مسلماً)؟ ذلك لأن الرواية هي في معرض إفادتنا بسنة كونية (ولن تجد لسنة الله تبديلاً) و(ولن تجد لسنة الله تحويلاً)، أي لا فرق بين أن يكون الشخص مسلماً أو كافراً؛ و(رحم الله امرءاً) قاعدة عامة ومضطردة في هذا العالم..

أما (عمل) فيمكن أن نتوقف عندها أيضاً؛ إذ العمل يشمل عمل الجوارح وعمل الجوانح، يعني أن التفكير من مصاديق العمل، وما يعتمل في القلب ويدور فيه من مصاديق العمل، فالتفكير عمل بلا شك، ولكن هل أن تفكيري متقن، يعني هل أفكر بإتقان أم بشكل مهلهل؟ لنتوقف عند شاهد لطيف؛ فقد أجرى أحد الصحفيين لقاءً مع (أنشتاين) صاحب النظرية النسبية المعروفة، والصحفي - وهو محمد حسنين هيكل - يقول: أعطاني ربع ساعة فقط، وهو الوقت المخصص لكي يتمشى في الغابة المحيطة بمنزله.. وبدأته بالسؤال سألته: كيف توصلت إلى النظرية النسبية؟ فضحك وقال: إنها نظرية معقدة وعميقة وقد عجز المتخصصون عن فهمها، إلا القليل منهم، وأنت شاب لا يتجاوز عمرك (25) سنة تريد أن تفهمها هكذا، فقلت له: لا أريد أن أعرف ما معنى النظرية النسبية، ولكني أريد أن أعرف كيف توصلت إليها، وما هي الآلية والسبل التي استخدمتها للوصول إليها؟ فأجاب قائلاً: هذا السؤال يستحق الإجابة عليه، فعلى مدى سبع سنين كاملة، كنت في طور البحث والتنقيب والسعي لحل هذه العقدة، وعلى مدى سبع سنين أخرى كنت منشغلاً بمحاورة العلماء من شتى المستويات ومختلف التوجهات، سواءٌ في داخل أمريكا أم خارجها..

استمر أنشتاين لمدة سبع سنين بالبحث العلمي ومطالعة الكتب، أعقبها بسبع سنين أخرى بالحوار والحديث مع مختلف العلماء، وبعد ذلك قال بأنه كان ينتظر لحظة (إلهام إلهي) كجانب غيبي، وأنه كان بانتظار تلك اللمسة الإلهية التي تفيض عليه بتلك المعلومة، ويؤكد أن القضية أشرقت في ذهنه فجأة وخلال أيام قليلة توصل إلى ما بحث عنه مدة 14سنة. فكان قوله: كنت انتظر لحظة إلهام... لكن هذا الإلهام لا يأتي عفوياً بل يحتاج إلى بحث مستمر أو (متقن)؛ فلم يكن الاكتشاف الذي هزّ العالم إلا بعد ملاحظة وبحث ولقاءات وتفكير وتدبر ومناقشة، ثم بعد ذلك تجده ينتظر لحظة إلهام إلهي.

فالإتقان في التفكير يعني - مثلاً - أنني كرجل دين أو كخطيب، أو كمفكر، أو كأي رجل آخر، لا بد لي أن ألتفت أولاً كيف أتحرك، كيف أسير وأعمل، هل أن عملي عمل فكريٌ متقن، أو عملي عمل عضلي متقن؟ وهل أن تخطيطي متقن وحديثي متقن وكتاباتي متقنة؟ وهكذا.. فـ (رحم الله امرءاً عمل عملاً - سواء أكان مادياً، أم معنوياً دنيوياً، أم أخروياً جوارحياً أم جوانحياً - فأتقنه.

استخدام منهج فقه الحديث:

قلنا إن من مصاديق الإتقان استخدام منهج فقه الحديث ويعني وزن كل كلمة بميزان.

أحد تلامذة الشيخ الأنصاري سأله عن عطائه الهائل ونتاجه الذي لا يتصور، فقال له: إن مصادرك التي تطالعها كالجواهر والمسالك نطالعها نحن أيضاً ولكن من أين لك كل هذا العطاء؟ فأجابهم قائلاً: نعم إن المصادر موحدة، لكن الفرق بيننا هو إنكم تطالعون الجواهر صفحةً صفحة وأنا أطالعها كلمةً كلمة، أتأمل في كل واحدة منها؛ في دلالاتها المطابقية، التضمنية، الالتزامية، وهل لها دلالة اقتضاء أم لا؟.. فالمنهج العلمي منهج للتصدي لحل أية قضية فكرية أو علمية، وهو أحد أهم ركائز التقدم والنهوض الفردي والاجتماعي؛ أعني النهوض على صعيد الأمة أو على الصعيد العائلي أو على الصعيد الفردي.

ولنأخذ مثالاً آخر عن كيفية التأمل والإتقان في مرحلة التفكير ومرحلة تحليل النصوص، لعلنا قرأنا ولمرات عديدة الآية 29 من سورة البقرة (خلق لكم ما في الأرض جميعاً) وهي آية واضحة، والكلمة (لكم) ذات الثلاثة أحرف، تحتاج إلى تأمل وتوغل؛ فتأمل الإمام الشيرازي - في الفقه الاقتصاد - في كلمة (لكم) وبطريقة مباشرة من القرآن الكريم أدى إلى استنباط بعض الأحكام الفقهية الاقتصادية التي تعد من البنى الاقتصادية الأساسية هذا اليوم، ويمكن القول بأن الغرب يعد هذه الاكتشافات الفكرية من أهم إنجازاته على الصعيد الفكري والحضاري، وهي موجودة في القرآن الكريم من قبل وبكل سلاسة وبساطة، لكنها تحتاج إلى نوع من التأمل واستخدام منهج فقه الحديث، فلو تفحصنا هذه الكلمة لاكتشفنا منها إشارة قوية جداً لـ(حق الأجيال القادمة) في ثروات الأرض وعدم جواز استهلاك جيل أو جيلين للثروات والمعادن الطبيعية كالنفط وغيره، ولم تكن هذه القضية متداولة في السابق كما هو الحال الآن، بل لم تكن مطروحة، ولم يكن في حسبان أحد أن يقتنصها من القرآن الكريم مباشرة.

لنفرض أن دولة ما بإمكانها استخراج واستثمار ثروات الأرض وإنفاقها في مصالح العباد، فإن كانت هذه الدولة شرعية فسوف تصرفها في مكانها المناسب، وإن لم تكن كذلك فسوف تصب ثروتها في حسابها الخاص، فأين موقع الأجيال القادمة إذن؟ وما هو مصيرها؟ إذ لا بد من أخذها بنظر الاعتبار؟.

الخطاب القرآني (خلق لكم) ليس خاصاً بجيل معين، بل يشمل البشرية على مرّ التاريخ - وهذه حقيقة مسلمة في الخطابات القرآنية عامة -، فإن كان كذلك فالخطاب للبشرية على مر التاريخ (وما في الأرض جميعاً) قد خلق (لكم) أي للبشرية على امتداد أجيالها وليس لجيل واحد فقط، فكيف يحق التصرف بكل ثروات الأرض وصرفها على جيل معين فقط؟!.

هذا الاستنباط أساسي في البنية الفكرية الاقتصادية، وهو واضح جداً، وهذه إضاءة واحدة لكلمة (لكم)، وللإمام الشيرازي استنباطات عدة من هذه الكلمة، وكلنا يستطيع الاستنباط، ولكن بشرط التمسك بالحديث (رحم الله امرءاً عمل عملاً فأتقنه) ورحمة الله تتجلى بأشكالها المختلفة؛ ومنها أن يفيض علينا من مخزون علمه...

الإتقان شرط لنجاح الأعمال:

لنتوقف قليلاً عند الخطباء والمبلغين في إطار الإتقان، ونؤكد على ضرورة الإتقان في البحث وفي دراسة النصوص فمثلاً الحديث الشريف (من عرف نفسه فقد عرف ربّه) قد نمر عليه مرور الكرام ونذكر له معنى معيناً، بينما يذكر أحد الحكماء المعاصرين اثنين وسبعين وجهاً له، وهو ليس بالرقم القليل؛ ومن هنا ينبغي أن يتأمل الخطيب ويتدبر في ما يصادفه من كلمة وما لها من معان، وكذا الكاتب والمبلغ...

الشيخ الفلسفي (رحمه الله) ذلك الخطيب المعروف الذي كان باستطاعته الارتجال في خطاباته، يقول: (رغم الخبرة والمخزون الهائل من المعلومات لدي، فإن الإعداد والتحضير للمحاضرة الواحدة كان يأخذ مني (18) ساعة)، إضافة إلى أنه كان يعقد بشكل دوري في منزله مجلساً يحضره العديد من كبار الخطباء لتداول شؤون المنبر وللبحث في سبل تطويره وتنميته؛ فذلك الذي هزّ إيران، قد هزّها (بشرطها وشروطها؛ ومن شروطها الإتقان).

نموذج آخر: الشيخ راشد كان من أهم خطباء إيران المتعمقين، وكان يلقي أسبوعياً محاضرة واحدة تبث ليلة الجمعة من راديو طهران، ورغم أن المحاضرة كانت تستغرق ساعة من الزمن إلا أنه كان يعد لها أسبوعاً كاملاً! فلو كان الموضوع الذي سيتناوله هو الصبر - مثلاً - فإنه كان يبدأ منذ يوم السبت باستقصاء واستقراء الآيات القرآنية التي تتحدث عن الصبر، حتى يكتشف مفهوماً عميقاً مبتكراً يطرحه، ويخصص يوم الأحد للأحاديث الشريفة التي منها يكتشف معنى جديداً لحديث معين، ويوم الاثنين يلاحظ كلمات الحكماء على مرّ التاريخ حول الموضوع، والثلاثاء لأقوال العلم الحديث والجوانب النفسية له، والأربعاء يبحث فيه عن قصص وإحصاءات ونوادر تاريخية، وفي يوم الخميس يبدأ بـ(هندسة المحاضرة).

الإمام الشيرازي رغم أنه موسوعة بحد ذاته، إلا أنه كان مواظباً على استماع محاضرات الشيخ، وعند حدوث طارئ ما، كان يوصي بتسجيلها؛ فمثل الشيخ الذي يجهد في ستة أيام لإعداد محاضرته، يستطيع أن يوجه حتى عمالقة الأمة بحديثه، فاستثمار الطاقة الكامنة مرهون بشرط العمل بالحديث الشريف (رحم الله امرءاً عمل عملاً فأتقنه).

ونموذجنا الآخر؛ المبلّغ الذي يحاول الإتقان في تبليغه، فهو حين يقضي سنة أو أكثر في منطقة ما أو دولة ما، يجب عليه أن يكتشف النخبة من بين الجمع الغفير الذي يبلغ له، ويحاول أن يبذل وقتاً جيداً لتحويلهم إلى ركائز تبليغية؛ فهكذا عمل هو نوع من الإتقان، وللمنبر أهميته الخاصة، وهو يمثل جناحاً يحتاج إلى آخر كامتداد للعمل؛ فينبغي بناء ركائز حقيقية تحمل الفكر وتنطلق إلى الأمام بكل قوة، وهذا البناء بحاجة إلى بذل الوقت والجهد والتخطيط له، وهو من مصاديق الإتقان في العمل.

أما بالنسبة للنموذج المبلغ الذي يعاني من حالة (التشكيك) بالنسبة إلى الكثير من الأحاديث، فإن تشكيكه قد يكشف عن عدم الإتقان ذلك أن ضحالة المعلومات ومنهجية التسرع في رفض الأحاديث لمجرد عدم انسجامها؛ مع قناعات الفرد وضعف النفس قد تكون هي وراء التشكيك وفي مقابل ذلك نجد أن العلامة المجلسي(رحمه الله) صاحب البحار كان نموذج العالم المتقن، ومع أن له تعليقات قيمة متقنة امتدت حتى أواسط البحار إلا أن عمره الشريف لم يسمح له بالتعليق على سائر مجلدات البحار.

وقد وردت روايات وأحاديث كثيرة في البحار تثير الاستغراب لدى سامعها، إلا أن العلامة(رحمه الله) نظراً لكونه قد اشرب من كأس اليقين ولأنه كان العالم العميق التفكر الذي كان يعرف أن العالِم بما أوتي من العلم فإن علمه لا يساوي قطرة في بحر علم الرسل وأوصيائهم، فكان يقول عند وصوله لهكذا روايات: (إننا حيث لا نفهم هذه الرواية ولا السّر الكامن وراءها، فيجب أن نترك علمها لأهلها، ولا يحق لنا أن نرفضها).

فمثلاً: كان العلم يرى منذ زمن بطليموس أن الأفلاك مثل أقشار البصل، على حين صرحت رواية في البحار بخلاف ذلك؛ فهل يصح منا أن نضرب بها عرض الحائط لمخالفتها للعلم الحديث؟! كلام العلم الحديث صحيح وفق الموازين العلمية الطبيعية، ولكن ألا يمكن أن تكون هنالك آفاق وعلوم كونية أسمى؟! وهذا وضع الأدلة على ذلك النقوض العديدة التي توصل إليها العلم الحديث على نظرية أنشتاين النسبية - بعد أن كان مسلماً بها تماماً - كما في قضية البؤر والحفر السوداء في الفضاء، وقد يكون هناك عالم له عمق ودقة في كشف الحقائق يرى أيضاً ترك علم هذه الرواية لأهلها، دون إهمالها، وعليه فظاهرة التشكيك تدل على نقص في الوعي والإتقان، والحديث حول ظاهرة التشكيك يحتاج إلى دراسة مستقلة.

ونموذج آخر يتمثل في العمل المؤسساتي؛ وهو - بلا ريب - نموذج آخر من نماذج الإتقان في العمل، وهو أيضاً أحد شرائط نهوض الأمة، وهذا الموضوع يتضمن مجموعة كبيرة من المفاهيم التي تدخل في إطار نهوض الأمة.

فالإتقان مفتاح بسيط - مع عمقه - لأكثر المسائل صعوبة وتعقيداً.. والتفكر والتخطيط وبذل الجهود، وبناء الركائز الحقيقية التي تحمل الفكر وتنطلق نحو الأمام، كلها من مصاديق الإتقان الذي به يتحقق نهوض الأمة في ميادين كثيرة، وأخيراً فإن التمسك بالحديث الشريف: (رحم الله امرءاً عمل عملاً فأتقنه) يوجب تنزل الرحمة الإلهية التي تتجلى بأشكالها المختلفة، ومنها إفاضاته علينا من مخزون علمه سبحانه وتعالى، نظراً للوعد الإلهي الذي ضمن (الرحمة) لمن أتقن، والرحمة مطلقة في الحديث الشريف فتشمل الرحمة الدنيوية والأخروية، كما تشمل الرحمة في شتى الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها..

فالحاكم الذي (يتقن) عمله السياسي عبر (الاستشارة) و(الشورى) وعبر فسح المجال للتيارات السياسية الأخرى سيحصل على (الرحمة الإلهية) التي تتجلى بصور الاستقرار السياسي.

والتاجر الذي يتقن عمله الاقتصادي عبر (تجنب الخيانة والغش والتدليس والربا..) سينال الرحمة الإلهية التي تحقق له ثقة الناس التي تمنحه فرصاً أكبر للتقدم.

والمرأة التي تتقن عملها في نطاق الأسرة وتربية الأجيال الصاعدة سيمنحها الرب رحمته التي تتجلى في أروع صور الحياة الزوجية السعيدة، وفي المستقبل المشرق للأبناء.

والتجمعات التي تتقن عملها عبر (نظام الانتخابات) و(تقبل النقد البناء) وما أشبه ذلك ستحصل على رحمة الرب متجلية بالحب الذي ستزرعه في قلوب الجماهير وبالتقدم والتوسع والتطور الذي ستناله في مسيرتها الطويلة نحو الغد الأفضل.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..