مجلة النبأ

 

العلامة الحلي (قدس سره)

فائق محمد حسين

بعد الأنبياء والرسل والأئمة الأطهار(ع) لم يعرف التاريخ مثيلاً للعلامة الحلي، رجل أنعم الله عليه بالموهبة الخارقة والعبقرية الفذة، فامتلك شجاعة كبيرة وذكاءً مفرطاً وعقلاً واعياً مدركاً.

وتفجرت في أعماقه طاقة هائلة من الفكر والمعرفة والعلوم، واكبها عمل دائب وجهد مستمر...

موهبة لا تزال في قمتها العلمية حتى الآن، وشخصية لا تزال عبقريتها تسيطر على أجيال العلماء المتعاقبين بعده.. وكان لها التأثير الفعال على مفكري الإسلام قاطبة، المعاصرين له والمتأخرين عنه..

فقد تلاقت فيه شخصيات علمية عديدة، كل منها شامخة بارزة، فكما كان من أعلام الفقه والشريعة، يؤخذ قوله حجة ويعول عليه، كذلك كان من ابرز مفكري عصره في الكلام والفلسفة.

عالِم دفع قافلة المعرفة الإسلامية وشارك في بناء الحضارة وفي رفع صرحها عالياً، رائد من رواد الحق وحامي من حماته، ومدافع عنيد عن مبدأ أهل البيت الذي تظاهرت عليه قوى الظلام وحاربت أتباعه بكل سلاح، بالافتراءات والدعايات الكاذبة، وبكل أنواع العذاب والتنكيل.. بالقتل والسجن والتشريد.

 ¤  ولادته: 

ولد الحسن بن يوسف بن (زين الدين) علي بن محمد بن مطهر، الملقب بالشيخ (جمال الدين أبو منصور) والشهير بـ(العلاّمة الحلي) و(آية الله) في ليلة الجمعة (28 رمضان 648هـ) في الحلة الفيحاء، المدينة التي بناها أمير العرب سيف الدولة صدفة بن منصور بن مزيد الأسدي..

ونشأ رضوان الله عليه في دار المؤمنين (الحلة) في بيت عريق، هو بيت الزعامة الدينية والعلمية... وفي جو حركة علمية عارمة، سارت عليه أسرته العربية الصحيحة.

وحظي بعناية كبيرة من أبيه (سديد الدين يوسف بن مطهر المحلي) الذي كان من كبار علماء عصره، وعد من أعلم أهل زمانه في الفقه والأصول.

فتلقى منه الفقه والأصول العربية والعلوم الشرعية.... ومن خاله فقيه أهل البيت (الشيخ نجم الدين أبو القاسم جعفر بن سعيد بن يحيى الهذلي) المعروف بالمحقق الحلي (ت 676هـ) صاحب الكتب الفقهية الشهيرة (شرائع الأحكام- المختصر النافع- المعتبر)، كبير الفقهاء ورئيس المذهب، الذي كان يقود زعامة العلم والشريعة في العراق، ويشرف على إدارة الجامعة الشيعية التي كانت الحلة يوم ذاك مركزها الرئيسي، فيغذيها بعقله وروحه ويبذل في سبيلها ما في وسعه من جهد وطاقة.

 ¤  تربيته: 

مع عنايتهما بالعلامة، خصصا له منذ صغره معلماً يلقنه الكتابة والعربية والقرآن، ثم صحبهما صبياً، فدرس عليهما الكلام والمنطق وغيرهما... فتقدم وبرع وأفتى وسبق الفحول ولم يزل في عنفوان الصبا مما لفت إليه الأنظار.

ثم درس على يد المحقق الطوسي (العقليات والرياضيات) وعلى كمال الدين ميثم البحراني شارح نهج البلاغة (الحكمة) و(البلاغة).

كما تتلمذ على يد عمر بن علي الكاتبي القزويني صاحب (مجالس المؤمنين)، ومحمد بن أحمد الكشي وغيرهم من علماء الخاصة والعامة..

عاش العلامة الحلي أواسط القرن السابع الهجري وعقدين من القرن الثامن، يوم اجتاح الجيش المغولي البلدان الإسلامية.

وشهد وهو ابن السابعة فرار أهل المدينة ذعراً و خوفاً من الغزو التتري بعد أن ذاعت أخبار ما ارتكبوه من فظائع في بغداد.. دون أن يأبهوا بنصيحة والده سديد الدين، الذي مضى وحده مع رسل هولاكو القادمين لاستحضار وجهاء البلدة بين يديه.. فعاد بعد أيام يحمل كتاب الأمان لأهل الحلة والمراقد الشريفة في النجف وكربلاء.. فحال بذلك دون استكمال الكارثة التي حلت بالعالم الإسلامي.

وما هي إلا سنوات حتى اتبع الابن طريق والده... فبقدرته الفائقة وعلميته وبما وهبه الله من طاقة فكرية عملاقة ومن قوة علمية قادرة تبدد الظلام إلى نور، صد الموجة الطاغية التترية.. واستطاع التأثير على قادة المغول باعتناق الدين الإسلامي والتشيع، ومن ثم رغبوا في العلم وقربوا العلماء.

 ¤  نبوغه: 

نبغ العلامة الحلي، وبرزت فيه سيماء الزعامة والإمامة الدينية منذ صباه، وتقدم في بداية شبابه على كبار العلماء والفقهاء (وكان آية في الذكاء وأحد النوابغ الأفذاذ وأبرز شخصية علمية، نبغ في الأصول والحكمة والكلام والمنطق والطبيعيات وعلوم الشريعة والعربية) ولا نجازف إذا قلنا: إنه أكبر عالم شيعي أخذ بأسباب المعرفة الإسلامية في نضج واستيعاب ظهر حتى الآن، فقد انتهت إليه زعامة الشيعة الإمامية في عصره في المعقول والمنقول والفروع والأصول، وله في ترويج مذهب أهل البيت مساعٍ حميدة.

واشتهرت تصانيفه التي ساعدت في هبوط اسهم التعصب الطائفي وساهمت في البتليغ لمذهب آل البيت والجهر بآرائهم.. والتأثير على قطاعات واسعة من العلماء والمفكرين والقادة.

 ¤  بقية أساتذته: 

قدم الشيخ نصير الدين الطوسي إلى الحلة ليلتقي بالمحقق الحلي زعيم الحوزة الدينية فالتقى أيضاً بابن أخته العلامة الحلي فناقشه بأمور عديدة وجادله جدالاً طويلاً، فأعجب به غاية الإعجاب ولما سئل الطوسي بعد الزيارة قال: (رأيت خريتاً ماهراً، وعالماً إذا جاهد فاق عني، الخريت المحقق الحلي والعالم ابن المطهر).

كان ابن المطهر وقت ذاك في ريعان شبابه.. فوجد الحاجة تدعوه لانتهال المزيد من العلوم والمعارف من الموسوعي أستاذ البشر الخواجة الطوسي فشد العزم ولحق به إلى بغداد، فسأله الخواجة وهما في الطريق عن اثنتي عشرة مسألة من مشكلات العلوم، فأجاب عليها إجابات وافية، فازداد إعجاباً به.

وهكذا صحب العلامة الحلي أستاذه فترة طويلة، فأخذ منه العلوم الحكمية وقرأ عليه كتبه في الإلهيات والفلك والرياضيات وشيئاً مما كتب ابن سينا، وظل ملازماً له حتى توفي الطوسي سنة (672هـ) وابن المطهر في الرابعة والعشرين، غير أن ذلك لم يمنعه من مناقشة أستاذه الطوسي مناقشة علمية جادة.. مبيناً أنه لم يكن متابعاً له في كل شيء، بل كان حراً في تفكيره، مجتهداً لا مقلداً؛ وقد رد عليه أشياء كثيرة وكتب في معارضته وبيان أخطائه كتاباً أسماه (المباحثات السنية في المعارضات النصيرية)، كما شرح كتبه شرحاً لا نظير له حتى قيل: (لولا ابن المطهر لم يفهم أحد كلام نصير الدين).

 ¤  شخصيته المستقلة: 

لقد تمثلت شخصية العلامة الحلي القوية، بمواقفه المبدئية فهو يحذو في تفكيره حذو أستاذه الفيلسوف الطوسي ولكن بحرية وتجرد، محتفظاً بأفكاره المستقلة، التي ظهرت في معارضته لكثير من آرائه ونقدها والتنظير فيها؛ وذلك في مواضع كثيرة عديدة من (شرح التجديد) و(كشف الفوائد).

 ¤  شهرته: 

وتقوم شهرة العلامة الحلي في الأكثر على الحكمة والكلام والفقه والرجال، وعلى كثرة إنتاجه وغزارة مؤلفاته التي لا تزال حتى اليوم مصدراً للثقافة الإسلامية وفي أكثر فروع المعرفة في جامعات الشيعة العلمية، فهو صاحب مدرسة علمية وفكرية عاشت طويلاً ولا تزال ظلالها بارزة على تفكير الكثير من العلماء إلى اليوم، وبخاصة في التشريع والكلام.

وإن شطراً من آثاره ولا سيما في الفقه والفلسفة الإسلامية لا يزال مرجعاً كبيراً في هذه الجامعات.

وجاء في (سفينة البحار: 734): (اشتهر العلامة بذكائه المفرط وفطنته المرهفة، وحضور جوابه، وقوة حجته، وسعة أفقه ووعيه، كما اشتهر في زهده وعبادته وإخلاصه، ويروى عنه في ذلك ما يشبه الأساطير)!.

أما في التصنيف فكان أعجوبة في القدرة على التأليف واستحضار المحفوظ من العلوم، أعجوبة في كثرة التأليف، وصفه مترجموه فقالوا: (كان في أسفاره يؤلف وهو راكب! ).

وليس عبثاً أن يطلق لقب (علامة) عليه بعد أن بلغ القمة في العلوم وفاق علماء عصره على الإطلاق ولم يسبق لأحد من علماء الشيعة أن لقب بهذا اللقب غيره!!.

فكان (شيخ الطائفة) و(آية الله) و(صاحب التحقيق والتدقيق) و(العلامة ذو الفنون) و(صاحب التصانيف) التي اشتهرت في حياته، وكان إماماً في الكلام والمعقولات، كما اشتهر بحسن الأخلاق والذكاء المفرط، وبعلمه الموسوعي وغزارة تأليفه وتنوعه وسرعته وتصنيفه المنهجي لسائر المراحل الدراسية في شتى أبواب العلوم الإسلامية.

 ¤  كتبه: 

وقد مثل ابن المطهر أيضاً مرحلة هامة وبارزة في تاريخ الفكر الشيعي على ثلاثة أصعدة:

الأول: الحديث وعلومه.

الثاني: علم الأصول.

الثالث: الإصلاح الديني ونشر مذهب أهل البيت.

لقد برع ابن المطهر في المعقول والمنقول، وتقدم في شبابه على علماء عصره؛ وقد فرغ من تصنيفاته الحكمية والكلامية، وأخذ في تحرير الفقه قبل أن يبلغ 26 سنة، كما سبق غيره في فقه الشريعة وألف فيه المؤلفات المتنوعة من مطولات ومتوسطات ومختصرات، فكانت محط أنظار العلماء في عصره إلى اليوم تدريساً وشرحاً وتعليقاً، وفاق أقرانه في علم أصول الفقه وألف فيه المؤلفات المتنوعة التي لا يشبه الواحد منها الآخر.

كما برع في الحكمة العقلية حتى أنه باحث الحكماء السابقين في مؤلفاته وفاقت كتبه على ما نشروه وأورد عليهم، ومثلما ناقش الطوسي فقد باحث الرئيس ابن سينا في كتبه وخطّأه، وحاكم مؤلفه (بين شراح الإشارات أو الأحاديث) وألف كتباً كثيرة في الحكمة وفي علم الأصول وفن المناظرة والجدل، وعلم الكلام من الطبيعيات والإلهيات والمنطق وألف في الرد على الخصوم والاحتجاج المؤلفات الكثيرة.

ويعود سر نجاحه وخلود آثاره - وإن كتبه كانت وما تزال مرجعاً هاماً في الجامعات الدينية ومصدراً من مصادر الثقافة الإسلامية ولها الأثر البالغ عند علماء الإسلام - هو أن مدرسته الفكرية ترتكز على الاستقلال في الرأي وإعمال العقل والنظر، ولأنه من الصعوبة بمكان تدوين كل مؤلفاته.. إذ لا يتسع أي كتاب لذكر علومه وتصانيفه وفضائله ومحامده كلها.. فندرج بعضاً منها، دون التطرق إلى كتبه الأخرى في المنطق وعلم الأخلاق وفي الأدعية المأثورة.

أ) في الفقه: ألف ما يزيد عن عشرين كتاباً وصنف ما لم يسبق إلى مثله ومن ذلك:

1- المختلف: في أقوال علماء الشيعة واختلافاتهم وحججهم.

2- التذكرة: ذكر فيها خلاف علماء غير الشيعة وأقوالهم واحتجاجاتهم.

3- منتهى المطلب في تحقيق المذهب: ذكر فيه جميع مذاهب المسلمين وعد أوسع موسوعة إسلامية في الفقه المقارن.. زخرت بالفقه الاستدلالي إضافة إلى ضمها أقوال مشاهير الفقهاء من الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب في كل مسألة من المسائل.

4- التحرير: جمع فيه أربعين ألف مسألة مختلفة.

5- القواعد: وكان شغل العلماء شرحاً وتدريساً منذ عصره إلى اليوم.

ب) في الأصول: ألف ثمانية كتب، إذ مهر مهارة لم تعرف عند غيره وصنف فيه مصنفات غاية في الدقة والإحكام، منها:

1- النهاية: في مجلدين كبيرين.

2- التهذيب: وكان عليه مدار التدريس في الأصول قبل المعالم.

3- شرح مختصر ابن الحاجب شرحاً جيداً سهل المأخذ غاية في الوضوح أعجب فيه جميع أئمة العلم، فقال فيه ابن حجر العسقلاني: (إنه في غاية الحسن في حل ألفاظه وتقريب معانيه).

4- مبادئ الأصول في علم الأصول.

ج) في التفسير؛ له كتابان هما:

نهج الإيمان في تفسير الكتاب العزيز: وسمي أيضاً (السر الوجيز).

د) في الحديث: كان إماماً بلا منازع؛ وصنف فيه تصانيف لم يسبقه إليها أحد ولا نظير لها، وبلغت خمسة كتب هي:

1- استقصاء الاعتبار في تحرير معاني الأخبار: وذكر فيه كل حديث وصلة وبحث في كل حديث على صحة السند أو إبطاله... وكون متنه محكماً أو متشابهاً... وما اشتمل عليه من المباحث الأصولية والأدبية وما يستنبط منه من الأحكام الشرعية وغيرها.

2- مصابيح الأنوار: قسم فيه الأحاديث على الأبواب.

3- الدر والمرجان: في الأحاديث الصحاح والحسان.

4- النهج الوضاح.

5- جامع الأخبار أو مجامع الأخبار.

هـ) في علم الرجال: له أربعة كتب ومثلها في علم النحو.

و) وفي المعقول والحكمة: أربعة وعشرون كتاباً.

ك) وفي الكلام والاجتماع: ثمانية وعشرون كتاباً.

وله كتب عديدة أخرى متنوعة لم يضبط عددها... علماً أن قسماً كبيراً منها مفقود ولا يوجد له أي أثر بسبب كثرة الأعداء والخصوم الذين كانوا وراء ضياع الكثير من مؤلفاته الرائعة. وكتابه الذائع الصيت (الأسرار الخفية في العلوم العقلية) ظل موضع جدل ونقاش عميق.. وكتب عنه ابن تيمية الحنبلي رداً تحامل في مواضع عديدة منه، حتى أنكر متواتر الأخبار ومسلمات التاريخ.. بلغت تصانيف العلامة الحلي مائة وعشرين مجلداً.

وقد افترى عليه بعض الحاقدين على المذهب، وأسندوا إليه كتباً وأحاديث لا أساس لها من الصحة.. وقال نفر من أتباع المذاهب: (إن العلامة الحلي حصر نشاطه العلمي بتأييد مذهب التشيع وصرف كل همه و اهتمامه إلى انتصاره على بقية المذاهب، ووصفه بعضهم بـ (المتعصب) وآخر بـ(المتحامل) وثالث بـ(طاغية الشيعة)، وقد أخطأوا كل الخطأ وجهلوا شخصية العلامة كل الجهل، فلقد كان عالماً إنسانياً عظيماً يحب الحقيقة ويكره التعصب.. ولو وجد مثله عالم واحد في كل قرن أو في كل قرنين، بل لو قرأ علماء المذهب كتبه بتجرد وإمعان و أعطوها ما تستحق من الاهتمام لما وجدنا بين المسلمين هذا التباعد والتهاتر المشين..

 ¤  علاقاته: 

وكانت للعلاّمة الحلي صلات حسنة وثيقة بعلماء المذاهب الأخرى ومعرفة بقدر العلم وحق أهله، لا تحجزه عن ذلك عصبية ولا يصده هوى ولم يغرق في ظلمات الهوى والتعصب الأعمى، كما حدث لعلماء زمانه وعلى رأسهم ابن تميمة.. فقد تتلمذ على عدد من علماء المذاهب الأخرى وحفظ لهم حقهم وأثنى عليهم كثيراً وعلى رأسهم الشيخ العالم عمر بن علي الكاتبي القزويني الشافعي، والشيخ الفقيه محمد الكشي الشافعي، والشيخ الأديب الفقيه برهان الدين النسفي الحنفي، والشيخ صالح بن عبد الله بن الصباغ الحنفي، وكانت له مع القاضي البيضاوي الشيرازي مكاتبات تفصح عن الخلق الإسلامي والعلمي النبيل.

إن آثار العلامة الحلي تشكل جزءاً كبيراً من التراث الإسلامي والعربي؛ وقد قام بدور عظيم في نشر مبادئ الرسول الأعظم وآله الأطهار وبث تعاليمهم لا يدانيه أي دور منذ عهده حتى اليوم.. وإذا وصف العصر الراهن بعصر الذرة والفضاء فإن عصر العلامة جدير بأن يوصف بعصر إحقاق الحق وإبطال الباطل!!.

 ¤  تفرق المسلمين: 

دافع العلامة الحلي عن الحق بمنطق العقل لا بقوة السلاح، وأخرس كل مبطل ومعاند وأحدث انقلاباً في الآراء والمعتقدات، وتحدى كبار علماء المذاهب وأفحمهم بالحجج القاطعة فلم يسعهم إلا الإذعان له والتسليم ..وملخص الحكاية أن ملوك المغول بعد أن دخلوا الإسلام اتخذوا لهم أعواناً و أنصاراً من علماء المسلمين وأمرائهم على اختلاف مذاهبهم ،فكان علماء كل مذهب يغرون الحاكم المغولي بالدخول في مذهبهم وينفّرونه من المذاهب الأخرى، فاعتنق قازان خان مذهب التشيع وبقى عليه إلى أن توفى، فقام مقامه أخوه السلطان (الجايتو محمد) الملقب بالشاه (خدابنده) المغولي فمال إلى مذهب الحنفية حتى جاء نظام الدين عبد الملك من مراغة إلى السلطان وكان عالماً شافعياً ماهراً في المعقول والمنقول، فعينه قاضي القضاة.. فاغتنم هذه الفرصة مستغلاً منصبه واستمال السلطان إلى الشافعية.. وأخذ يناظر علماء الحنفية في مجلس السلطان بحججه وأدلته مما اقنع السلطان فاعتنق مذهبه.

وسأل قطب الدين الرازي: إذا أراد الحنفي أن يصير شافعياً فماذا يصنع؟.

فقال له: (يكفي أن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله..!! ).

وفي سنة (709هـ) جاء عالم حنفي من بخارى إلى خدمة السلطان، فشكا له الحنفية من نظام الدين قاضي القضاة وقالوا له: لقد أذلنا عند السلطان.. فأضمر هذا الشيخ أن يفحم القاضي أمام السلطان.

وصادف أن اجتمع الشيخان بحضرته يوم الجمعة وأخذا بالمناظرة والجدال وبيّن كل منهما ما في المذهب الآخر من مساوئ فكانت النتيجة نفور السلطان من المذهبين واحتار في الأمر، أي مذهب من المذاهب يختار..!!.

 ¤  ظهور الحق: 

وفي تلك الأثناء وقع السلطان في مشكلة لم يجد لها حلاً.. إذ غضب على إحدى زوجاته فقال لها: (أنت طالق ثلاثاً)، ثم ندم فسأل العلماء، فقالوا: لا بد من (المحلل) فرفض وقال لهم: لكم في كل مسألة أقوال، فهل يوجد هنا اختلاف؟.

فقالوا: لا.. وعندئذٍ تدخل أحد وزرائه قائلاً: في الحلة عالم يفتي ببطلان هذا الطلاق.

فامتعض العلماء وقالوا: إن مذهبه باطل ولا عقل له ولا لأصحابه ولا يليق بالملك أن يبعث إلى مثله والاستماع إليه، فقال السلطان: أمهلوا حتى يحضر ونرى كلامه.

 ¤  في بلاط السلطان: 

فبعث السلطان وفداً وأحضر العلامة الحلي.. وحدد له موعد اللقاء وجمع علماء المذاهب لحضور المجلس، وكان من مراسم البلاط أن الداخل على السلطان ينحني له أو يقبل الأرض بين يديه.. إلا أن العلامة الحلي لم يفعل ذلك.. فحين قدم ودخل البلاط أخذ نعليه بيده ورفع يده بالتحية قائلاً: (السلام عليكم). ثم جلس إلى جانب السلطان.. ولم يكن هذا قد رآه قبل الآن.. مما أثار عجبه واستغراب الآخرين.. فاستغل علماء المذاهب ذلك وقالوا للسلطان: ألم نقل لك أنهم ضعفاء العقول.

فقال السلطان: اسألوه عن كل ما فعل.

فقالوا للعلامة الحلي: لماذا لم تخضع للسلطان بهيئة الركوع وتركت الآداب؟!.

فأجابهم: إن رسول الله (ص) كان سلطاناً وكان يسلم عليه ولم يكن يركع له أحد.

والله تعالى يقول: (فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة) ولا خلاف بيننا وبينكم: إنه لا يجوز الركوع والسجود لغير الله سبحانه وتعالى.

قالوا : فلم جلست عند السلطان؟!.

أجاب: لأنه لم يكن مكان خال غيره..

قالوا: فلم أخذت نعليك بيدك وهو أمر مناف للآداب؟.

أجاب: خفت أن يسرقه بعض أهل المذاهب كما سرقوا نعل رسول الله (ص).

قالوا: إن أهل المذاهب لم يكونوا في عهد رسول الله (ص) بل ولدوا بعد المائة فما فوق من وفاته(ص)!.

فالتفت العلامة الحلي إلى السلطان وقال له: قد سمعت اعترافهم هذا.. ولد أئمتهم بعد مائة عام فما فوق من رحيل الرسول (ص)، فمن أين جلبوا مذاهبهم؟. ولماذا الاجتهاد فيهم ولم يجوزوا الأخذ من غيرهم ولو فرض أنه اعلم؟!.

فتساءل السلطان بدهشة كبيرة: ألم يكن أحد من أصحاب المذاهب في زمن النبي (ص)؟!.

قال: لا.. ولم يكونوا حتى في زمن الصحابة.. ونحن نأخذ مذهبنا عن علي بن أبي طالب نفس رسول الله (ص) وأخيه وابن عمه ووصيه وعن أولاده من بعده..

فسأل السلطان عن مسألته (الطلاق).

فقال العلامة: باطل لعدم وجود الشهود والعدول.

هذه الإجابة المطلقة أفرحت السلطان وعظمت شأن مذهب أهل البيت في نفسه.

وحتى لا يتسرع في اتخاذ القرار المناسب أشار عليه وزيره أن يجمع العلماء من جميع المذاهب ويتناظروا في حضوره.. فأمر السلطان بذلك..

وتقرر أن يحضر من قبل علماء السنة الخواجة نظام الدين عبد الملك المراغي الذي كان أفضل علماء الشافعية وأفضل علماء السنة مطلقاً فحضر وتناظر مع العلامة الحلي.

وكانت المسألة الأولى موضوع الإمامة.. فأثبت لهم العلامة مدعوماً بالبراهين والأدلة القاطعة خلافة الإمام علي (ع) بعد الرسول (ص) بالأفضل.. وبطلان تقليد الأئمة الأربعة وأظهر ذلك للحاضرين جلياً لا لبس فيه بحيث لم يبق أمامهم موضوع للشك وجرى البحث بين العلامة وعلماء المذاهب الأخرى حتى ألزمهم جميعاً وأفحمهم وأثبت الحقائق الناصعة لعقيدته.

فلم يجدوا إلا التسليم له، وشهد له نظام الدين بفضل العلامة واعترف بصواب رأيه وقوة حجته وقال: قوة هذه الأدلة في غاية الظهور أما من حيث أن السلف سلكوا طريقاً، والخلف لأجل إلجام العوام ودفع تفرقة الإسلام أسبلوا السكوت عن زلل أولئك ومن المناسب عدم هتك ذلك الستر، وأعجب السلطان بما سمع من العلامة فأعلن تشيعه في ذلك المجلس واعتنق هو وجميع أمرائه ورجاله مذهب الإمامية، وأقام مذهب أهل البيت في البلاد وخطب بأسماء الأئمة الاثني عشر في جميع أنحاء مملكته التي تمتد في إيران والعراق وأمر بضرب السكة بأسماء الأئمة وأمر بكتابتها على المساجد والمشاهد..

وتعززت مكانة العلامة الحلي عند السلطان وأجرى بخدمته (المدرسة السيارة) تنتقل معه في أنحاء البلاد، فراح يخطب ويعلم ويدرس ويؤلف.. وكان رائده الإصلاح الديني في عصر كثرت فيه البدع الضالة والفتن والدسائس ضد دين محمد (ص) ومع ذلك لم يدفع السلطان إلى إنكار علماء المذاهب الأخرى ولم ينس أحدهم أو يبخسهم حقوقهم احتراماً للدين.

وقد شهد المؤرخون للسلطان بالعدل وحسن السيرة واستقرار بلاد الإسلام مدة حكمه بفضل العلامة الحلي وتوجيهاته، ولأجل هذا السلطان صنف العلامة الحلي كتاب (كشف اليقين) و(تاج الكرامة).

 ¤  مع السيد الموصلي: 

بعد الفراغ من المناظرة الأولى التي أثمرت عن تشيع السلطان، خطب العلامة الحلي (قدس سره) في ذلك المجلس خطبة فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي وآله، وكان في المجلس سيد علوي النسب من أهل الموصل، كان العلامة قد أفحمه في المناظرة فاعترض هنا على العلامة وقطع خطبته متسائلاً: ما الدليل على جواز الصلاة على غير الأنبياء؟.

أجاب العلامة: الدليل قوله تعالى: (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة).

فتساءل الموصلي: أي مصيبة أصابت علياً وأولاده ليستوجبوا الصلاة؟.

فذكر له العلامة مصائب أهل البيت المشهورة ثم أورد حديث النبي (ص): (لا تصلوا عليّ الصلاة البتراء).

وسأله العلامة أخيراً: وأي مصيبة أعظم عليهم من كونك وأنت من أبنائهم تفضل عليهم من لا يستحق التفضيل؟.

بعد ذلك أخذ العلامة في تحرير الفقه والأصول ففاق في تصنيفه علماء عصره وبرع في الاجتهاد وتطرق إلى أبواب لم يسبق إليها.

وبعد أقل من سنتين وهو في السابعة والعشرين من عمره توفي رئيس المذهب خاله (المحقق الحلي) فأجمع علماء الشيعة على إسناد رئاسة المذهب إلى العلامة الحلي، فكان عند حسن الظن.. إماماً وقائداً وعالماً.

قال الأمير مصطفى التفرشي في كتابه (نقد الرجال): (لا يسع كتابي هذا ذكر علومه وتصانيفه وفضائله ومحامده وإن كل ما يوصف به الناس من جميل وفضل فهو فوقه... له أزيد عن سبعين كتاباً في الأصول والفروع والطبيعي والإلهي).

وقال معاصره الحسن داود في (رجاله): (الحسن بن يوسف بن مطهر الحلي شيخ الطائفة علاّمة وقته صاحب التحقيق والتدقيق كثير التصانيف.انتهت رئاسة الإمامية إليه في المعقول والمنقول)، وتحدث عنه آخرون بإعجاب وبما يشبه الإعجاز.

 ¤  تلاميذه: 

تربى على يد العلاّمة الحلي (قدس سره) الكثير من العلماء واستفاد منه جمع غفير من جهابذة وأساتذة عصره من العامة والخاصة، وهاجر إليه العديد من طلبة العلوم لينهلوا من معارفه.

وتتلمذ على يديه:

1- الشيخ محمد بن علي الجرجاني صاحب كتاب (شرح المبادئ). 2- السيد مهنا بن سنان المدني. 3- ولده محمد المعروف بـ(فخر الدين) و(فخر المحققين) صاحب كتاب (الإيضاح في الفقه). 4- ابنا أخته العالمان السيد عميد الدين والسيد ضياء الدين. 5- السيد أحمد بن زهرة الحلبي6-. قطب الدين الرازي البويهي صاحب (شرح الشمسية) و (المحاكمات) و(شرح المطالع). 7- الشيخ تقي الدين إبراهيم الآملي. 9- رضي الدين علي بن أحمد الحلي المعروف بالمزيدي. وغيرهم.. حتى أن الشهيد الأول هاجر إليه من جبل عامل ليقرأ عليه فوجده قد توفي!.

 ¤  مناظراته مع العلماء: 

نظراً لشهرته الواسعة وحججه الدامغة كثر الراغبون في مقابلته، والحضور بين يديه لسماع رأيه أو أخذ مشورته حول مسألة من المسائل، أو مكاتبته لبيان وجهة نظره.

وكان يخصص بعض وقته لهؤلاء العلماء وبعد تلك المناظرة الشهيرة بينه وبين نظام الدين المراغي الشافعي، التي أدت إلى تشيع السلطان محمد المغولي، فقد حازت مناظرته مع القاضي البيضاوي المعاصر له في مسألة أصولية تتعلق بكتاب (قواعد الأحكام) للعلامة الحلي (قدس سره) على إعجاب القاضي واشتهرت في الأواسط العلمية الفقهية، وقد ذكرها صاحب الرياض والسيد رضا القزويني في كتاب (لسان الخواص).

 ¤  العلامة الحلي شاعراً: 

مع كل الجهود التي بذلها في سبيل المذهب لإعلاء كلمة الحق.. ورغم أنه خصص جل وقته للتأليف والتصنيف فإنه وجد الفرصة مراراً لنظم الشعر.. وعلى قلة قصائده فإنها تدل على جودة طبعه في أنواع النظم، كتب إلى ابن تيمية الحاقد عليه والذي كان يشن الحملات ضده:

لو كنت تعلم كلما علم الورى           طرا لصرت صديق كل العالم

لكن جهلت فقلت إن جميع من           يهوى خلاف هواك ليس بعالم

وله في (الروضات):

ليس في كل ساعة أنا محتا           ج ولا أنـت قادر أن تنيلا

فاغتنم عسرتي ويسـرك           فأحرز فرصة تسترق فيها الخليلا

وكتب إلى العلامة الطوسي:

محبتي تقتضي مقامي           وحالتي تقتضي الرحيلا

هذان خصمان لست           أقضي بينهما خوف أن أميلا

ولا يزالان في اختصام           حتى نرى رأيك الجميلا

 ¤  وفاته: 

توفي العلامة الحلي (قدس سره) في مدينة الحلة المزيدية ليلة السبت (21 محرم 726 هـ) عن عمر يناهز 77 سنة، ونقل جثمانه الطاهر إلى النجف الأشرف فدفن في حجرة عن يمين الداخل إلى الحضرة العلوية الشريفة من جهة الشمال .

وقبره ظاهر معروف يزار حتى اليوم.

المصـــادر:

1- مع علماء النجف: محمد جواد مغنية.

2- الشيعة والحاكمون: محمد جواد مغنية.

3- فلاسفة الشيعة: عبد الله نوري.

4- أعيان الشيعة: حسن الأمين.

5- سفينة البحار ج1: القمي.