nba

 

من هدي المرجعية

 ظهور الحق وزهوق الباطل

 سنة تكوينية وتشريعية

الحق دائماً ينتصر على الباطل، وهذا ما تدلّ عليه فلسفة التاريخ في مختلف القصص، وما نراه اليوم في العالم من نصرة الحق في مختلف أبعاده من حرية وقوة وعطاء كثير من الناس وتقارب الأمم بعضها إلى بعض.. إلى غير ذلك، كله من هذه الفلسفة التي هي الروح العام بالنسبة إلى التاريخ، ولو لم تكن هذه الروح لم تكن هناك حرية ولا أخوة ولا مساواة في مواردها ولا أمن ولا ما أشبه ذلك لأن التاريخ في فلسفته وحقيقته قائم على مبادئ معنوية تستهدف فهم الحقيقة والفصل بين الحق والباطل، وإلا فإن السرد المادي للتاريخ

لا يمثل إلا وسيلة لاستنتاج الحقائق المعنوية، فقد ذكر القرآن الحكيم آيات بهذا الصدد مثل قوله تعالى: (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً)(1)، ومعنى (كان زهوقا) ما من طبيعته الاضمحلال، لأن الباطل لا يساوق الحياة العامة حسب تقرير الله سبحانه وتعالى، ولذا ليس من طبيعة الباطل البقاء، وإنما البقاء بجهة القسر، والقسر لا يدوم كما قاله الحكماء.

وقال سبحانه: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) (2)، أي: زهوقاً مظهرياً، وإن كان في واقعه هو عدم وسراب.

وقال سبحانه وتعالى: (قل إن ربي يقذف بالحق علاّم الغيوب قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد) (3).

وقال جل وعلا: (ويمحُ الله الباطل ويحقّ الحق بكلماته) (4)، فإن محو الله الباطل تكويني وتشريعي حيث إن الله سبحانه وتعالى جعل الحياة بصورة لا يدوم فيها الباطل فإذا دام فهو وقتي، وقال تعالى: (فإن حزب الله هم الغالبون)(5)، وقال سبحانه: (ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقاً علينا ننج المؤمنين) (6)، وهذه هي طبيعة الحياة، وهذه هي جوهر فلسفة التاريخ، حيث يموت الباطل باندثار سلطانه المادي ويخلد الحق بمبادئه وقيمه.

ولا يقال: لم قتل النبي الفلاني أو ما أشبه ذلك، حيث قال تعالى: (فلم تقتلون أنبياء الله إن كنتم مؤمنين) (7)، في حين قال تعالى في موضع آخر: (ولينصرن الله من ينصره) (8)، لأن نصر الإنسان لله سبحانه وتعالى هو الذي يواكب الحياة حسب ما قرره الله تعالى.

وقال تعالى: (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين) (9)؛ نصراً ماديا ًومعنوياً، ولكن من الواضح أن الله تعالى جعل الدنيا دنيا أسباب، فاللازم أن يتبع المؤمنون الأسباب حتى يصلوا إلى النصر.

قال سبحانه وتعالى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) (10) والنتيجة: إن المرسلين وجند الله هم الغالبون وإن كان في طريق ذلك بعض المشكلات.

وقال جل وعلا: (إننا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) (11)، ففي الحياة الدنيا ينصرون بالتقدم العسكري والعلمي أما يوم يقوم الأشهاد فهو يوم المحشر، فالنصر للرسل وللذين آمنوا بدون أي تأخير.

وقال سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم) (12)، فإن الذين آمنوا يعلمون بأن الله ينصرهم وأن الحق لهم ومعهم وأن الغلبة في النهاية من نصيبهم، كما قال سبحانه: (الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) (13) وقال تعالى: (فاستقيموا إليه) (14)، وقال سبحانه وتعالى: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) (15) ولا شك أن الغلبة لله سبحانه وتعالى، فإن الأمر لا يفوته مهما طال الزمن. وقال سبحانه وتعالى: (وكأيّن من نبي قاتل معه ربيّون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين) (16)، وثواب الدنيا عبارة عما يعود إلى المرسلين والمؤمنين، من ثاب يثوب يعني: رجع، هذا بالنسبة إلى ثواب الدنيا المحدودة، أما بالنسبة إلى ثواب الآخرة فحسن ثواب الآخرة من نصيبهم، والآية الكريمة تشمل النصر والغلبة والفتح وخيرات الدنيا.

فليست الغلبة غلبة أخروية فقط، كما ورد في القرآن الكريم: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) (17) وقال سبحانه وتعالى: (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.. وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا) (18)، فإن الصبر مفتاح الفرج(19)، والإنسان الضعيف دائماً يوفر لنفسه أسباب القوّة والغلبة، ولهذا يرث طرف الشرق وطرف الغرب من بلاده سواء كان مصر أو العراق أو إيران أو غير ذلك.

وقال سبحانه وتعالى: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون) (20)، فإن الإنسان المتقي هو الذي ينجح ويغلب كما قال تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه) (21)، وقال تعالى: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم إني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) (22)، فالملائكة من وراء الذين يستغيثون ربهم في إنجاحهم وتحقيق إنجازهم.

انتصار الشهادة على القوى المادية:

فإن قلت: كيف قتل الإمام الحسين (ع) مع جميع هذه الوعود الإلهية؟

الجواب: إن الإمام الحسين (ع) هو الذي اختار الشهادة ليكون رمزاً للمظلومية وليكون دين الله هو الحاكم، ويزهق الحكام الأمويون ومن أشبههم على طول التاريخ بدمائه الزكية الطاهرة. وقد انتصر الإمام (ع) لأن نهضته امتدت عبر القرون لتنتج ثورات وانتفاضات رافعة شعارات الحرية، ولا زال الأحرار في العالم ينتهلون من معين قيمه ومبادئه.

وقال سبحانه وتعالى: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم) (23)، فإن العجب لا يوجب النجاح بل يوجب السقوط، كما قال الإمام علي(ع): (أوحش الوحشة العجب)(24)، وقال سبحانه وتعالى: (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض) (25) وكل شيء في الكون جند لله تعالى قدّر الله لها أن تسير مسيرة خاصة في الحياة.

ومن الواضح أن الشخص الذي يواكب الحياة هو الذي ينجح في النهاية وإن تأخر ذلك زماناً ما وقد يكون انتصاره بعد أجيال تحقق انتصاره المادي والمعنوي.

وقال سبحانه وتعالى: (فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً ومغانم كثيرة يأخذونها) (26) ومن الواضح أن المغانم هنا ليست مغانم حربية وحسب، فكل شيء يستفيد منه الإنسان في حياته هو غنيمة وفائدة.

وقال سبحانه وتعالى: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحميّة حميّة الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحقَّ بها وأهلها) (27)، فإن الإنسان الذي يسير فيما يرضي الله تعالى يكون في قلبه السكينة والاطمئنان والهدوء، لأنه يعلم ارتباطه بالله سبحانه وتعالى ويعلم أنه يسير في مسير الحياة الصحيحة ويواكب التقدير الإلهي.

وقال سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا * إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديدا) (28)، فمن الواضح أن الهجوم عليهم من فوق وأسفل ليس خاصاً بذلك الوقت بل من يكون مع الله سبحانه وتعالى يكون نصيبه الغلبة حتى إذا جاءهم الأعداء من فوقهم ومن أسفل منهم وحتى إذا زاغت أبصارهم بسبب الرعب وبلغت قلوبهم الحناجر، حيث إن الإنسان الذي يخاف خوفاً شديداً تتوتر أنفاسه، وينشأ من ذلك ضغط الرئة على القلب فيرتفع القلب إلى الحنجرة قليلاً، وهكذا قوله سبحانه وتعالى: (وقذف في قلوبهم الرعب) (29)، فالأعداء دائماً مرعوبون مهما كان عددهم وعدّتهم بينما المؤمنون دائماً في سكينة وهدوء واطمئنان.

فأهل الآخرة وأهل الحق دائماً يصيبهم خير الدنيا والآخرة بينما أهل الباطل وأهل الدنيا ليس من نصيبهم ذلك، قال تعالى: (لتبلونّ في أموالكم وأنفسكم ولتسمعنّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور) (30)، حيث إن الإنسان الذي يعلم أنه على الحق وأنه ينتصر في النهاية له في الأمور العزم والجزم.

وقال سبحانه وتعالى: (والذين هاجروا في الله من بعدما ظلموا لنبوّئنّهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون) (31) فإن (الصبر مفتاح الفرج)(32)، والتوكل على الله هو سبب الغلبة كما قال الرسول (ص) لأبي ذر: (يا أبا ذر إن سرك أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله)، وليس المراد لقلقة اللسان فقط بل الأخذ بموازين التوكل عملياً ونفسياً وروحياً وفكرياً.

وقال سبحانه وتعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة.. ) (33).

انتصار الحق سنة دائمة:

ومن سنن التاريخ أن أهل الحق دائماً منتصرون وغالبون لأن الحق يواكب الحياة، فكل شيء في الحياة مبني على الحق والعدل والصدق والواقعية، وأهل الحق أهل هذه الأمور؛ فلذا فهم منتصرون وغالبون في هذه الحياة الدنيا وهذا أصل كلي أولي بينما ما يكون خلافه فهو استثناء وثانوي ككل الأمور الطبيعية، فإن الأصل في الدواء هو الشفاء لكنه قد لا يشفي، والأصل في موجبات الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة المزاجية أن تكون الأمور على وفقها، والاستثناء هو العكس، وكذلك بالنسبة إلى سائر الأصول الأولية فإن معنى الأصل هو الأولية والدائمية ويكون خلاف الأصل من الاستثناء لا من القاعدة.

وعلى كل حال؛ فإن جملة من الآيات تدلّ على هذه الحقيقة فقد قال تعالى: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) (34)، ومن الواضح أن شرط العلوّ أن يكون الإنسان مؤمناً لأن المؤمن هو الذي يواكب الحياة لا غير المؤمن، ولهذا قال رسول الله (ص): (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه) (35).

هذا بالنسبة إلى الأمور المادية، وأما بالنسبة إلى الأمور المعنوية فأهل الحق دائماً هم الأعلون لأنهم هم الواقعيون، قال تعالى: (إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوّان كفور * أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز * الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) (36)، فإن الله سبحانه وتعالى يدافع عن الذين آمنوا ودفاع الله مادي ومعنوي كما إن الإذن للذين يقاتلون بأن يتقدموا ويرتفعوا لأنهم ظلموا، والمظلوم دائما يكون في تحفّز وواقعية بينما الظالم يكون في غرور وانحراف؛ والذي يقاتل حيث أنه ظلم يكون منصوراً، فالقدرة من الله تعالى والتحفّز من الإنسان المظلوم وهما يسيران به إلى رفع الظلم.

ومصداق الذين ظُلموا (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) (37)، ولا يقولون (ربنا الله) بمجرد اللفظ، وإنما العمل أيضاً كما تقدم، فإن القول باللغة العربية يطلق على العمل أيضاً.

ومن الواضح أنه لولا أن الله تعالى يدفع غير المستقيم بسبب المستقيم لهدّمت صوامع للمسيحيين وبيع لليهود وصلوات للمجوس وهؤلاء هم أصحاب الأديان الأولى وإن حرّفوا وبدّلوا ونسوا حظاً مما ذكروا به، ومساجد للمسلمين، ولينصرن الله من ينصره فإن من ينصر الله يواكب الحياة ويكون واقعياً حقيقياً، ومن الواضح أن الذي يواكب الحياة ويسير وفق موازين الكون يكون منصوراً، ومنهم الذين ينصرون الله هم الذين مكّنهم الله وصار بيدهم الحكم والسيادة والسلاح والعزّة فإنهم (يقيمون الصلاة) وهي الارتباط بين الإنسان والله (ويؤتون الزكاة) وهي الارتباط بين الإنسان والإنسان، و(أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الباطل هي السفلى ولله عاقبة الأمور، لأن كل شيء ينتهي إلى الله، كما قال سبحانه وتعالى: (وإن إلى ربك المنتهى) (38).

وفي آية أخرى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفّنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدّلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون * وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلّكم ترحمون) (39) فإن رحمة الله إنما تشمل مثل هؤلاء الأفراد. وقد ذكرنا سابقاً أن غير هؤلاء طفيليون بالنسبة إلى هؤلاء، حيث إن غير أمثال هؤلاء لا يستحقون الحياة المرفّهة والرحمة.

وقال سبحانه وتعالى: (ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكّن لهم في الأرض) (40)، حتى يكونوا هم سادة الأرض وبيدهم المال والسلاح والحكم وغير ذلك.

وقال سبحانه وتعالى: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمّ نوره ولو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) (41)، فإن أهل الباطل هم الذين يريدون أن يقولوا قولاً ضد الحق، ويريدون إطفاء نور الله بالقول، وهيهات أن يطفأ نور الله بالقول كما إن نور الشمس وهو شعبة من شعب نور الله تعالى لا يمكن أن يطفأ بسبب ما يروّج من أقاويل وأراجيف.

وقال سبحانه وتعالى: (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) (42)، فإن الباطل وإن مشى مدّة وهرّج زماناً لكن العاقبة للذين يواكبون الحياة ويتّقون الله في أوامره ونواهيه، كما إن العاقبة بالنسبة للذين يستعملون الدواء، وإن كان غير مستعملي الدواء يهرجون، أنهم يبرأون.

الأرض يرثها الصالحون:

وفي آية أخرى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) (43) وهم الصالحون للحياة أيضاً، والله تعالى بعد أن ذكّر بالأحكام والعقائد والأخلاق وما أشبه ذلك في كتاب الزبور الذي هو كتاب داود، كما قال تعالى: (وآتينا داود زبورا) (44) ذكر هذه الحقيقة بأن الأرض تكون للصالحين من عباد الله تعالى الذين يصلحون للحياة. وقال سبحان وتعالى: (ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوء أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون) (45) فإن الضلالة تزيد عليهم كما أن الهداية تزيد عليهم على ما ذكرناه سابقاً حيث أن كل شيء من الماديات والمعنويات في حالة تنامي، فمن الطبيعي أن الذين يعملون السيئات ينتهي حالهم إلى التكذيب بآيات الله فالذي يكذب بآيات الله يستهزئ بها فثمرة عصيانهم وظلمهم أنهم يسلب منهم نور الهداية مطلقاً، فيتجهون للتكذيب والكفر والانحراف والاستهزاء، وتكون عاقبة مثل هؤلاء السقوط في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى في آيات أخرى: (الله يستهزئ بهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون) (46) وقال سبحانه وتعالى: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين) (47) فإن المنحرف في أعماله ينحرف في قلبه أيضاً، كما جاء في الحديث: (فجعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه) (48)، ومن الواضح أن الله سبحانه لا يشمل الفاسقين برعايته وعنايته، وإن كانت الهداية العامة تشملهم جميعاً، إذ إن الهداية عامة وخاصة، فالهداية العامة هي تذكير الأنبياء ومن إليهم بموازين الهدى ثم قد يقبل بعض الناس بذلك وقد لا يقبل، كما قال سبحانه وتعالى: (أما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) (49) أما الهداية الخاصة فهي الإيصال إلى المطلوب من الحق والعدل والسعادة وخير الدنيا والآخرة، ومن الواضح أن المنحرفين يزيّن لهم الشيطان أعمالهم فيمضون في طريق الجهالة والشر، حيث قال جل شأنه: (قال ربي بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) (50). وفي آية أخرى: (وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) (51) وفي آية ثالثة: (وزين لهم الشيطان أعمالهم) (52)، وفي آية أخرى: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم) (53) فإن الشركاء الذين هم ينسبونهم إلى كونهم شركاء زينوا لهم قتل أولادهم ذكوراً وإناثاً؛ الأنثى بسب العار والذكر بسبب الفقر، على الأغلب. وفي آية أخرى: (وقيّضنا لهم قرناء فزيّنوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم) (54) والقرناء هم من الجن ومن الإنس، فالجن يوسوس في قلوبهم، والإنس يقول لهم ويعمل ما يسبّب لهم الانحراف. كما قال تعالى: (بل مكر الليل والنهار) (55) وبعد أن تتم الحجة على جميع الناس نتيجة عمل الأنبياء والرسل ونصر الأنبياء والأوصياء وإنزال الكتب يتّخذ أهل الباطل طريق الانحراف والضلال بمحض اختيارهم وإرادتهم وحينئذٍ ينشط الشيطان للوسوسة لهم ويصوّر أعمالهم في أعينهم بأشكال جميلة وحسنة؛ كما قال سبحانه وتعالى: (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً) (56)، وقال سبحانه وتعالى: (إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) (57) ولما كان خلق الشيطان وأعماله أيضاً ترك الله سبحانه وتعالى الإنسان بعد إتمام الحجة كأن يكون خيّراً، مستنداً كل ذلك إلى الله تعالى، المقدّر في إطار القدر، ولذا نسب هذا التزيين في بعض آيات القرآن إلى الله تعالى كما في الآية السابقة، حيث قال عز وجل: (ربّ بما أغويتني لأزينن لهم) (58) وقال تعالى: (وكذلك زينا لكل أمة عملهم) (59)، وقال عز وجل: (وقيضنا لهم قرناء) (60) وقال تعالى: (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون) (61) وقال عز وجل: (زين للذين كفروا الحياة الدنيا) (62) وقال تعالى: (كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) (63) وقال تعالى: (زين لهم سوء أعمالهم) (64) وقال تعالى: (كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون) (65) والمراد بالإسراف الانحراف عن طريق الله سبحانه وتعالى، كما قال بالنسبة إلى فرعون: (لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين) (66) وقال تعالى: (بل زين للذين كفروا مكرهم وصدّوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد) (67) لأن الهداية خاصة بالله سبحانه وتعالى؛ إذ لا هداية فيما سواه، كما قال تعالى: (والذي قدّر فهدى) (68)، وقال تعالى: (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً) (69)، وقال عز وجل: (أفمن كان على بيّنة من ربّه كمن زُين له سوء عمله واتّبعوا أهواءهم)(70).

الهـــوامـــش:

(1) سورة الإسراء: 81.

(2) سورة الأنبياء: 18.

(3) سورة سبأ: 48-49.

(4) سورة الشورى: 24.

(5) سورة المائدة: 56.

(6) سورة يونس: 103.

(7) سورة البقرة: 91.

(8) سورة الحج: 40.

(9) سورة الروم: 47.

(10) سورة الصافات: 171-173.

(11) سورة غافر: 51.

(12) سورة محمد: 7.

(13) سورة فصلت: 30.

(14) سورة فصلت: 6.

(15) سورة المجادلة: 21.

(16) سورة آل عمران: 146-148.

(17) سورة البقرة: 201.

(18) سورة الأعراف: 128 و137.

(19) إشارة إلى الحديث الوارد: (الصبر مفتاح الفرج) شرح نهج البلاغة: لابن أبي الحديد ج20 ص307 ب514.

(20) سورة آل عمران: الآية 123.

(21) سورة الطلاق: 3.

(22) سورة الأنفال: 9.

(23) سورة التوبة: 25.

(24) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج88 ص157 ب31.

(25) سورة الفتح: 4.

(26) سورة الفتح: 18.

(27) سورة الفتح: 26.

(28) سورة الأحزاب: 8-11.

(29) سورة الأحزاب: 12، سورة الحشر: 2.

(30) سورة آل عمران: 186.

(31) سورة النحل: 41.

(32) شرح البلاغة لابن أبي الحديد: ج20 ص307 ب514.

(33) سورة فصلت: 30.

(34) سورة آل عمران: 139.

(35) من لا يحضره الفقيه: ج4 ص243 ح2، المناقب: ج3 ص241، غوالي اللئالي: ج3 ص496، نهج الحق: ص515 الفصل الحادي عشر.

(36) سورة الحج: 38-41.

(37) سورة الحج: 40.

(38) سورة النجم: 40.

(39) سورة النور: 55-56.

(40) سورة القصص: 5-6.

(41) سورة الصف: 8-9.

(42) سورة الأعراف: 128.

(43) سورة الأنبياء: 105.

(44) سورة الإسراء: 55.

(45) سورة الروم: 10.

(46) سورة البقرة: 15.

(47) سورة الصف: 5.

(48) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج19 ص312 ب381.

(49) سورة فصلت: 17.

(50) سورة الحجر: 39.

(51) سورة الأنعام: 43.

(52) سورة النمل: 24.

(53) سورة الأنعام: 137.

(54) سورة فصلت: 25.

(55) سورة سبأ: 33.

(56) سورة الأنعام: 112.

(57) سورة الأنفال: 121.

(58) سورة الحجر: 39.

(59) سورة الأنعام: 108.

(60) سورة فصلت: 25.

(61) سورة النمل: 4.

(62) سورة البقرة: 121.

(63) سورة الأنعام: 122.

(64) سورة التوبة: 37.

(65) سورة يونس: 12.

(66) سورة يونس: 83.

(67) سورة الرعد: 33.

(68) سورة الأعلى: 3.

(69) سورة فاطر: 8.

(70) سورة محمد: 14.