nba

 

الهجرة إلى الغرب ومعالم التكيف النفسي مع الحياة الجديدة

إعداد: د.سعد العبيدي

عــــام...

(1)

لق الله سبحانه وتعالى الإنسان وباقي الكائنات، وفضّله عليها بنعمة العقل، التي جعلته متميزاً عنها بأمور عديدة بينها قدرته على التكيف مع الظروف التي يعيشها، وإمكانياته في التعامل مع البيئة المحيطة، وفي مجالهما تشير الحقائق العلمية، والخبرات الحياتية إلى أنه - أي الإنسان - قد حقق نجاحا منقطع النظير في ذلك عندما قهر الطبيعة في أكثر من مجال، وسخر معالم البيئة لخدمته وأبناء جنسه في أكثر من حالة، لمستوى حافظ فيه على وضعه التكويني، وعلى بقائه، عكس ما جرى لبعض المخلوقات الأخرى التي لم تستطع أن تصمد، أو تتكيف لمتغيرات البيئة القائمة، أو التي تحدث عرضا فانقرضت سريعا بسبب ضعف مقدرتها تلك، ورغم ذلك فإن انتصارات الإنسان هذه على الطبيعة لم تقربه كثيرا من حالة الرضا والاستقرار التي استمر - حثيثاً - ينشدها منذ بداية وجوده على الكرة الأرضية وحتى وقتنا الراهن، لأسباب أهمها:

أ) تركيبته النفسية التي تدفعه إلى السعي الدائب للمعرفة والاكتشاف، وإلى التوتر وخفض التوتر(1).

ب) هامش الغموض في داخله، وبقاء الكثير مما يتعلق بجوانبه العضوية والنفسية مجهولا حتى وقتنا الراهن، أو بمعنى آخر عدم معرفته معرفةً كاملة بوضعه النفسي وبحالة الآخرين النفسية من حوله.

وتلك أسباب وأخرى غيرها جعلته مدفوعا في مسعى دائم بغية الحصول على المعرفة وفك الرموز التي تسهل في محصلتها عملية توافقه، واتزانه وقبوله الواقع الذي يعيشه، أي تكيفه معه بأقل الأضرار العضوية والنفسية.

(2)

إن الإنسان ذا المقدرة الجيدة على التكيّف، والدافعية العالية للاكتساب والتعود، يؤكد العلماء والمختصون في مجاله:

أ) أن حياته برمتها عبارة عن عمليات تكيف تتابعية، أو مستمرة بدءا من إطلالته الأولى على الحياة (الولادة) وانتهاء بتعوده الشيخوخة، وفهمه المرض ومحاولاته قبول واقع الموت آخر العمر.

ب) أن عمليات تكيفه المستمرة بحاجة إلى معلومات مستمرة وخبرات تراكمية لفهم الواقع المحيط، وإدراك المتغيرات ذات الصلة بالبيئة التي يعيشها.

ج) أن المعلومات والخبرات وحدها ليست كافية لإتمام عملية التكيف، بل تقتضي الحاجة وجود الاستعداد النفسي والمرونة الشخصية كأحد الخصائص في الذات الإنسانية التي تسهل توظيف تلك المعلومات والخبرات لإنجاز التكيف بالسرعة المناسبة، وتقليل نسبة الضرر جهد الإمكان(2).

التكيف..

(3)

التكيف اصطلاح اكتسبه علم النفس من البيولوجيا وفقا لما جاء في نظرية النشوء والارتقاء لدارون التي تؤكد أن الكائن الحي يحاول وبشكل مستمر أن يوائم بين نفسه والعالم الطبيعي الذي يعيش فيه من أجل البقاء.

وهذا أمر لا يقتصر على الجوانب البيولوجية من الحياة الإنسانية، بل ويتعمم أيضا على الجوانب النفسية، أي على السلوك وردود الفعل (الاستجابات) في التعامل مع متطلبات البيئة وضغوطها المتعددة.

والموائمة التي استخدمها دارون للتعبير عن وجهة النظر البيولوجية، استخدمها علماء النفس والاجتماع في مجالهم الإنساني تحت مفهوم التكيف أو التوافق استنادا إلى حقيقة علمية مفادها:

إذا كان الإنسان قادراً على التلاؤم مع البيئة الطبيعية فإنه قادر أيضا على التلاؤم - أي التكيف - مع المتغيرات والظروف الاجتماعية والنفسية التي تحيط به.

وهذه حقيقة تحتم قيامه بأنشطة مستمرة تهدف إلى التفاعل بينه وبينها (الظروف والمتغيرات) بهدف الحصول على قدر من الرضا والاتزان تعتمد مستوياته بوجه عام على التداخل والتفاعل الحاصل بين جانبين هما:

أ) ظروف البيئة، ومتطلبات الحياة المحيطة بالإنسان التي تحتم نوعا من التكيف يقتضيه الاستمرار في البقاء.

ب) مقدرة الإنسان على التكيف، من خلال ما يتمتع به من قدرات عقلية كفوءة لهذه المهمة النفسية.

ومن هذا المنطلق جاءت بعض التفسيرات للسلوك الإنساني والصحة النفسية منسجمة وهذا الاتجاه عندما عد قسم من المختصين في مجالها أن التكيف لمطالب الحياة ومتطلباتها أحد معايير هذه الصحة وركن من أركان السواء في السلوك البشري(3).

هذا وإن التكيف اصطلاح في علم النفس يعني تلك العملية الديناميكية المستمرة التي يهدف بها الشخص إلى أن يغير سلوكه ليحدث علاقة أكثر توافقاً بينه وبين البيئة المحيطة؛ وبناءا على هذا الفهم يمكن تعريف هذه العملية:

بأنها القدرة على تكوين العلاقات المقبولة بين الفرد وبيئته.

البيئة..

(4)

التكيف وعلى ضوء ما ورد في أعلاه مرتبط تماما بالبيئة التي تعني هي أيضاً:

كافة المؤثرات، والمتغيرات، والقوى المحيطة بالفرد والجماعة أينما كانوا، وفي أي مجال وجدوا، التي باستطاعتها التأثير على محاولاتهم الحصول على الاتزان النفسي والعضوي في حياتهم العامة(4).

(5)

إن البيئة كمفهوم شامل تتكون عادة من عدة أوجه أو جوانب هي:

أ) الجوانب الطبيعية:

كل ما يحتاجه الإنسان من مواد وأدوات وآلات تساعده على الاستمرار في الحياة، أو ما يحيط به من أمور مادية وحالات الطبيعة التي يعيش خلالها؛ فالطقس على سبيل المثال عامل من عوامل البيئة يؤثر مباشرة على اتزان الفرد وأدائه، ففي حالة ارتفاع درجات الحرارة يكون النشاط الإنساني مختلفا عنه فيما إذا انخفضت، وحاجة العامل في البيئة الغربية القريبة من القطب مثلا إلى التجهيزات والمعدات ووسائل التدفئة لغرض تجاوز آثار انخفاض درجات الحرارة، ستكون هي الأخرى مختلفة والخلل فيها سيكون مؤثرا على عملية تكيفه نفسيا، رغم أنه قد لا يشكو علنا من عدم حصوله عليها في تلك المنطقة الشديدة البرودة لاعتبارات قيمية، إلا أن إحساسه بالبرد يدفعه إلى الاستفسار عن ذلك، عندما لا تؤمن لـه بشكل كاف، وكذلك عندما لا يجد جواباً مقنعاً من وجهة نظره، فسيؤدي به ذلك إلى الانفعال، ومن ثم عدم الرضا، وربما التقصير في عمله الذي يسبب لـه مشاكل من نوع آخر، ومصاعب في التكيف من نوع جديد وهكذا يصبح الطقس وعوامل الطبيعة مؤثرا في عملية التكيف.

ب) الجوانب الاجتماعية:

يعيش الإنسان في المجتمع أي مجتمع، شرقياً كان أم غربياً، متحضراً كان أو متخلفاً، بطريقة يكون على أساسها محكوما بالعديد من الضوابط والالتزامات والتقاليد والأعراف والقوانين التي تنظم وجوده في ذلك المجتمع وتحدد علاقاته الاجتماعية مع أقرانه وأصدقائه، ومديريه في العمل، والدور الذي يؤديه في المنظومة الإدارية والاجتماعية والسياسية، والمالية لذلك المجتمع، لأنه فرد بين جماعة يؤثر فيها ويتأثر بها وفق حدود مسموح بها، وأخرى غير مسموح بتجاوزها، وسلوكه في إطارها محكوم أيضا بمعطيات القيم والتقاليد السائدة في عموم البيئة المحيطة، وحريته الفردية التي كثر الحديث عنها مقيدة بالهامش الواسع للحرية الجماعية. وتلك معطيات ربما يؤدي الخلل في بعض جوانبها، إلى اضطراب في بعض جوانب عملية التكيف، والعكس صحيح أيضاً؛ إذ إن استيعابها وقبولها بمرونة معقولة يسهل عملية التكيف ويوفر قدرا من الرضا عن الحياة التي يعيشها وفي أية بقعة من بقاع العالم.

ج) الجوانب الذاتية:

لكل فرد خصائصه النفسية وإمكاناته الذاتية في السيطرة على مشاعره وانفعالاته وضبط علاقاته مع الآخرين، وله أيضاً مفهومه عن ذاته الذي يلعب دورا كبيرا في تلك العمليات التي تجري في الحياة بدون توقف، إذ إن فكرة المرء السوية عن نفسه (مفهوم الذات) تعتبر النواة الرئيسية التي تتأسّس عليها شخصيته السليمة القادرة على التكيف مع ظروف البيئة أينما كانت. علما أن الصورة التي يكونها الإنسان عن نفسه تنشأ من طبيعة تكوينه الوراثي متفاعلا مع متغيرات البيئة المحيطة لتتحدد في النهاية بأبعاد ثلاثة تؤثر بشكل كبير على درجة تكيفه مع البيئة المحيطة وهي:

أولاً: البعد الأول ويتعلق بتقييم الفرد لقدراته الذاتية، وإمكاناته الخاصة، وعلى أساس هذا التقييم يمكن أن يتصور أحد المهاجرين وهو في الطريق إلى أستراليا أنه قادر على العيش وعائلته أيضا في صحرائها المترامية، وأن بإمكانه الحصول على فرصة عيش مناسبة وإن وَقفَ في بداية الخط مع أبنائها الأستراليين، وآخرٌ قد قيَمَّ قدراته بصورة مغايرة تماما عن تقييم زميله الذي يجلس بقربه قوامها: أن قدراته محدودة، وإن إمكانياته لا تضاهي القريبين من عمره من السكان الأستراليين، وإنه غير كفوء على التفاعل مع أولئك الناس الذين يتكلمون لغة مختلفة، ويدينون بديانة مختلفة.

هذا وإذا ما أردنا متابعة مستويات التكيف للتقييمين المتناقضين المذكورين، نجد ومن الناحية النفسية أن:

- للأول فرصة أكبر للتكيف مع الحياة الجديدة في أستراليا أو غيرها، إذا ما كان تقييمه ليس بعيدا عن الواقع، أي لم يكن مغالياً فيه؛ لأنه سيكون في حياته الجديدة مدفوعا بتقييمه المنطقي لنفسه، وسيحاول استخدام كل الاحتياطي المخزون في داخله من الطاقة النفسية للتعامل مع ظروف البيئة الجديدة بهدف التكيف سريعا لمتغيراتها.

- في حين يكون الثاني محبطا منذ بداية الشوط، وقد استخدم جل طاقته النفسية والاحتياطي المخزون منها للتعامل مع واقع إحباطه، واليأس الناتج عن ذلك الإحباط، وكذلك العدوان الموجه للذات في مثل تلك الظروف الصعبة، وبالنتيجة سيدخل حياته الجديدة في البيئة الجديدة دون أن يجد بين يديه من الطاقة ما يكفي لمساعدته على عملية التكيف أصوليا.

ثانياً: والبعد الثاني لـه صلة بما يُكَونهُ الإنسان من أفكار عن نفسه في علاقته الاجتماعية مع الآخرين، فقد يتصور أحد بعد اجتيازه حدود دولة أوربية أنه شخص مرغوب فيه ومحترم ومحل تقدير من قبل الآخرين، بينما يشعر زميل لـه بالدونية، وإنه أقل من الأجناس الأخرى، وأكثر تخلفاً.. إلى غير ذلك من الأفكار السلبية التي يُكَونُها البعض عن ذواتهم.

- وفي هذا الإطار نجد أن الظروف أكثر ملائمة للأول بالنسبة لعملية التكيف، لأن تقييمه (إذا ما كان قريباً من الواقع) سيعطيه مزيدا من الثقة بالنفس التي تدفعه للاختلاط، والتفاعل، وتكوين العلاقات، التي تعد أحد أهم عوامل التسريع بعملية التكيف.

- بينما لا نجد ذلك عند الثاني الذي سيصاب مع بدايات وجوده في البيئة الجديدة بالتردد والحيرة والعزلة والانطواء، التي تعرقل جميعها عملية التكيف أصوليا.

ثالثاً: البعد الثالث يرتبط بنظرة الإنسان إلى ذاته كما يتمنى أن تكون، أي من خلال ما كونه في داخله من معايير لمثله العليا وأهدافه السامية وطموحاته التي يرغب في تحقيقها.

- وفي هذا البعد نجد التناقض موجوداً أيضاً بين رؤية المهاجرين وتمنياتهم لما سيحققون مستقبلاً، ففي الوقت الذي نجد فيه أن شاباً وصل ألمانيا مهاجراً، أو لاجئا على سبيل المثال، وقد وضع لنفسه تصورا أن يكون مهندساً ناجحاً، أو طبيبا مشهوراً، أو حتى صاحب ثروة وفيرة، ففي حالته هذه نراه يقاوم كل ضغوط البيئة ومتغيراتها بهدف تجاوزها، وفي كفاحه هذا لم يعد تعلم اللغة مشكلة بالنسبة إليه بعد أن قرر حشد جل وقته لدراستها، ولم يعد غسل الصحون كعمل ميسور مهانة لكرامته بعد أن قرر استثماره مؤقتا لتصريف أموره، وهو على هذه التوجهات والجهود سيكون الأسرع من بين أقرانه على التكيف.

- وعلى نفس الأسس نرى أن البعض يصلون البلد الجديد دون وضوح في أهدافهم، وأن الصورة المستقبلية لوضعهم مشوشة تماما، وعلى أساسها بات همهم إشباع البطون، واكساء الأجساد، وحساب الأيام للحصول على الدعم الاجتماعي لتسيير سبل العيش الرتيبة، وعلى أساسها باتوا يَعدّونَ اللغة الجديدة صعبة لا يمكن استيعابها، والعمل آخر الليل جناية بحقهم لا يمكن ارتكابها، والدراسة تبذير بالوقت لا فائدة منه، عندها سيجدون أنفسهم مقيدين بدوائر مغلقة تضيق من حولهم تدريجيا لتؤدي ليس فقط إلى عدم تكيفهم مع البيئة الجديدة، بل وربما إلى التمرد عليها بأنواع من السلوك غير السوي.

(6)

إن عملية التكيف مع البيئة ورغم إتمام بعض من جوانبها تلقائيا، أو بمعنى آخر لا إراديا، إلا أن إنجازها بشكل صحيح وبسرعة مناسبة، وبأقل الخسائر بالنسبة إلى المهاجرين يكون بأخذ المتغيرات التالية بنظر الاعتبار:

أ) إن المهاجرين الذين يقصدون المجتمعات الجديدة، بحاجة ماسّة إلى فهم طبيعة تلك المجتمعات وإلى معرفة أنفسهم وقدراتهم (معلومات) لتسهيل عملية تكيفهم.

ب) إنّ المعلومات التي يتم الحصول عليها مسبقا، والخبرات التي يتم الإطلاع عليها قبل الهجرة، عوامل مهمة، ولكن ليست كافية لوحدها باتجاه تحقيق التكيف المناسب، بل تقتضي الحاجة تحسسها في البيئة الجديدة، أي عيشها فعلا، وقياس مدى تفاعلها مع جوانب الشخصية والاستعدادات النفسية لعملية التكيف.

ج) إن عملية الفهم والخبرة والمعلومات التي يتم الحصول عليها في المجتمع الجديد تعين المهاجرين ليس على قبول الواقع الآني، والرضا عنه فقط، بل وتساعدهم على سرعة التفاعل معه، ومضاعفة القدرة على العطاء المثمر في مجاله خدمة لأنفسهم وعوائلهم من ناحية ولمجتمعاتهم السابقة من ناحية أخرى.

(7)

ومع تيسر المعلومات والاستعدادات لمواجهة البيئة الجديدة، إلا أن دخولها ومحاولة استيعاب مفردات العيش في مجالها من باب الهجرة، أياً كانت أسبابها وأنواعها، يشكلان في بعض جوانبهما تقاطعات سريعة وحادة مع البيئة التي اعتاد الفرد المهاجر أو العائلة المهاجرة العيش خلالها لسنوات أو عقود من العمر، وأهم تلك التقاطعات النفسية ذات الصلة بعملية التكيف تأتي من زاويتين رئيسيتين هما:

آ) الزاوية القيمية: تكونت في المجتمعات التي تركها المهاجر، قيم، وأعراف، وتقاليد عبر مئات وآلاف السنين، تبعاً لشكل الطبيعة الجغرافية، وماهية الأديان السماوية، وعلاقة التفاعل مع الأقوام المجاورة، ومستوى التحضر، وغيرها من عوامل صاغت القيم التي تضبط السلوك وتتحكم بنوع الاستجابات، وهي كذلك في المجتمع الجديد الذي كونت الجغرافية المختلفة قيماً مختلفة، وأرسى التطور الصناعي قيما متنوعة، وتسبب النمو الحضاري بإيجاد قيم مناسبة، وهكذا أصبح الإنسان الشرقي - على سبيل المثال - مشبعا بقيم محددة، وأصبح سلوكه في مواقف الحياة ذات الصلة بها موسوما باستجابات معينة، وعلى نفس الأسس أضحى الإنسان الغربي مشبعاً بقيم أخرى محددة، وباستجابات يمكن أن تكون مختلفة، وكما مبين في القيم التي نذكرها على سبيل التوضيح منها:

أولاً- قيمة العمل: ينظر بعض الشرقيين إلى العمل كوسيلة عيش، ومصدر كسب في الحياة غير المستقرة، يقضي المعنيون في مجاله ساعات معدودات، دون أن يضعوا في اعتبارهم معايير الإنتاج، ومستويات الجودة، ومقاييس الربح والخسارة، وقد يغالي البعض منهم في نظرته السلبية إلى العمل وصاحبه - دولة كانت أو مؤسسة أهلية - بحيث يراه صراعاً (إقدام - إحجام) بين طرفين غير متجانسين، كما يعتقد البعض الآخر أن الرضا عن العمل والتكيف لواقعه يأتي أحياناً من خلال الوقت المستقطع خلسةً من ساعاته المحددة لشرب السيجارة تارة، والذهاب إلى المرافق الصحية تارة أخرى، ونحو ذلك من ذرائع يتذرع بها لإتلاف الوقت.

بينما نجد العكس من ذلك في البيئة الغربية، إذ يعد العمل قيمة عليا، والإخلاص في مجاله معيار من معايير الشرف، والرضا عنه أو التكيف معه يأتي من الجهد الذي يوازي الأجر، ومن اكتساب المزيد من الخبرة والتطور، ومن المساهمة في تحسين نوع الإنتاج وزيادة كمه.

وهذه قيمة إن لم يدركها المهاجرون، ويحاولوا الالتزام بتحديداتها ستكون من بين عوامل إعاقة التكيف للبيئة الجديدة.

ثانياً- قيمة الوقت: تقدير الوقت، أو التعامل الدقيق معه قيمة تختلف مستوياتها هي الأخرى بين منطقتنا العربية والإسلامية والبيئة الغربية، فهي في الأخيرة تطورت نتيجة للتقدم العلمي ومقتضيات التعامل مع الآلة في الثورة الصناعية لتصل حد التقيد الدقيق بمستلزماته والتنظيم الشديد لجوانبه، وأصبح الوقت منذ بدايات القرن العشرين وحتى يومنا هذا بالنسبة لغالبية أفراد هذا المجتمع شيئا ثمينا في حياتهم يحاولون استثمار كل دقيقة منه لصالح عملية الرضا والاتزان، يجرون فيه سريعاً منذ نعومة الأظافر حتى بلوغ السن التقاعدية والاعتراف رسميا بضرورة التمتع بالراحة، فكونوا بتعاملهم هذا حضارة متقدمة مادياً، بينما بقي سكان منطقتنا ورغم اعتراف العالم لهم بأولوية صنع آلة قياس الوقت (الساعة) يتعاملون معه برتابة وعدم اكتراث:

* رغم أن الدين الإسلامي يحثّ على العمل لمستوى أنه عدّه عبادة، كما ورد في الآية الكريمة: (وقِل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)(4)، إلا أن تقديرات البعض للعمل ليست كذلك حيث الضعف الملموس في الإنتاجية، والتبذير الواضح في الوقت، وعدم الدقة البَيّنْ في النوع، وهذه كونت نظرة إلى العمل، أو قيمة متدنية بالقياسات الحديثة، جاءت على الأغلب من طبيعة إدارة الحكومات للمجتمع العربي، ومن النقص الحاصل في فهم أصحاب العمل لطبيعة أعمالهم والعاملين معهم، زادها سوءاً المحاولات الجديدة لبعض العرب والمسلمين لفرض نظم اقتصادية أعطت العمال والموظفين سلطات تفوق إمكاناتهم الثقافية والتحصيلية؛ الأمر الذي كون علاقة غير متجانسة بين الطرفين، وقلل كثيرا من قيمة العمل.

- الموعد مع كثير منهم يتحدد بعبارة عائمة (بعد العصر، أو قبل الظهر).

- الحضور إلى الموعد يأتي بعد حلوله بفترة زمنية تصل إلى الساعة وربما أكثر في أحيان ليست قليلة.

- بداية الدوام في الدوائر الرسمية وأوقات الانصراف مشكلة يصعب التقيد بتحديداتها بالنسبة لكثير من العاملين.

- هدر الوقت في المقاهي لمتوسطي العمر وكباره مسألة شائعة بين العديد من السكان.

- أما بالنسبة للمرأة؛ النصف الثاني للمجتمع فالأمر أكثر تعقيدا وسعة في التعامل السلبي مع الوقت لأن البيئة في الأصل لم تدفعها إلى العمل والإنتاج كما يجب حتى وقتنا الراهن.

من هنا نرى أن هناك اختلافاً كبيراً في النظر إلى الوقت كقيمة بين البيئتين، يمكن أن تعيق عملية التكيف، أو تعين على تسهيل حصولها تبعا لفهم طبيعتها وجهود المعنيين بتقديرها سريعا أسوة بأبناء المجتمع الجديد.

ب) زاوية العادات في ضبط السلوك: يفسر البعض من علماء النفس السلوكيين على وجه التحديد أن السلوك الإنساني مجموعة عادات تم تعلمها من خلال التعامل مع البيئة المحيطة، والسلوك من وجهة نظرهم يكون طبيعيا، أو أقرب إلى الطبيعي، إذا ما كانت العادات التي تكونت مقبولة من قبل المجتمع، والعكس من ذلك يكون السلوك مضطربا، أو أقرب إلى اللاسواء، عندما تكون العادات المكتسبة سلبية وغير مقبولة بقياسات المجتمع المعني (5). هذا ومهما تكن صحة التفسير من عدمها فإنه يشير إلى:

أولا: أثر العادات في ضبط السلوك الإنساني وتحديد نوع الاستجابة في الموقف المحدد، كما هو الحال بالنسبة إلى القيم المبينة في أعلاه.

ثانياً: تحديد الرفض والقبول لم يكن قياسيا لجميع العادات في كافة الأزمنة ولجميع المجتمعات البشرية وهي على هذا الأساس يمكن أن تختلف النظرة إليها من بيئة لأخرى، ويمكن أن تتغير عبر الزمن في البيئة الواحدة.

ثالثاً: يمكن أن تشترك البيئات المتجاورة، والبعيدة بعادات واحدة أو متقاربة في تأثيرها على السلوك الإنساني.

من هنا نلمس أن في المشرق العربي والإسلامي تكونت وتطورت بعض العادات تختلف عن تلك التي وجدت في الغرب، وهي لم تكن من وجهة النظر المقارنة سلبية في جميع جوانبها، منها على سبيل المثال:

أولاً- العادات ذات الصلة بالتكافل الاجتماعي: نتيجة لنوع الحياة القبلية والزراعية أعطى مجتمعنا إلى الأب سلطة قوية، ودفع الأبناء والأخوة وامتداداتهم إلى الامتثال لتلك السلطة وتعزيز وجودها حتى مجيء الإسلام الذي أضاف لها أبعاداً دينية أكدت وجوبها شرعيا (وقضى ربكَ ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغنَ عندك الكبرَ أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهُما قولا كريما)(6) ومن هنا تكونت بعض العادات إلى مجتمعاتنا تتصل بهذه القيمة، وبات الأب على أساسها واجب الاحترام، وغير مسموح بمخالفته، وأصبح مستقبله مكفولاً من قبل الأبناء ومن بعده الأم في العائلة، وإذا ترك الأبناء بيته في المدينة على وجه الخصوص، فإن استشارته في عديد من الأمور مطلوبة، وزيارته في المناسبات وغير المناسبات واجبة، والسؤال عنه في جميع الأوقات حالة مستمرة، وهذه عادات وقيم أعطته نوعا من الأمان تجاه متغيرات الزمن، وأوجدت صيغة من التكافل الاجتماعي، لا يمكن أن نجدها في المجتمع الغربي الذي نقلها (عملية التكافل) من العائلة والأبناء إلى المؤسسات الحكومية والخيرية، نتيجة لظروف الحياة غير السهلة التي حتمت أن يكون الابن مستقلاً عن أبيه لمجرد بلوغه سن الثامنة عشرة، وألزمته بالبقاء بعيداً تبعاً لفرص العمل المتاحة، وأجبرته على الالتفات إلى محيطه الذاتي نتيجة للانشغال بهموم العيش طوال الوقت الذي لا يجد فيه متسعا لزيارة الأب والأم (إلا في المناسبات) وهما تعودا أيضاً على وتائر هذه الحياة، وارتضى عديد منهم بشكل طوعي العيش في دور العجزة بعد سن التقاعد دون أي تحسّس، في حين يجد الآباء الشرقيون ذلك مؤلماً، ويعتبره الأبناء عارا لا يمكن تحمله، وهذا من العادات والمعايير القيمية التي تؤرق المهاجرين من كبار السن، خاصة مع بدايات هجرتهم، وتعيق عملية الرضا والاتزان في المجتمع الجديد؛ مما يستوجب إدراك طبيعتها، وفهم كافة الجوانب ذات الصلة بها لتسهيل عملية الرضا والتكيف.

ثانياً- العادات ذات العلاقة بإدارة العائلة والأبناء: وهناك أيضا ما يتعلق بوضع العائلة وعاداتها في الإدارة والتربية التي يأخذ الأب والأم في البيئة العربية الدور الرئيسي في مجالها، وفي هذا الدور اعتاد الأب أن يعاقب الأبناء عقابا قاسيا يصل حد الضرب في أحيان ليست قليلة، واعتادت الأم تقليد الأب في طريقته أحيانا، والدفاع عنهم تجاه قسوته أحيانا أخرى، واعتاد الأخ الأكبر أن يحل محل الأب في غيابه ويمارس الكثير من معالم سلطته تجاه الأخوة والأم في بعض الأحيان، وفي مجال الأدوار أخذ الأب دور الإشراف والقيادة والتوجيه، وتحمل مسؤولية تأمين العيش، وأخذت الأم دور التهيئة، وإراحة الأب داخل حدود البيت، وتحملت مسؤولية الأطفال والتنظيف والطبخ.. هذا في الوقت الذي تتعاون الدولة ومؤسساتها في البيئة الغربية مع العائلة فيما يتعلق بتربية الأبناء بدءا من الحضانة فالروضة ومن ثم المدرسة، وفي مجالها اعتاد الأب أن يتكلم مع الأبناء بهدوء لا يؤثر على راحة وحرية الجيران، واعتاد محاججتهم منطقياً دون اللجوء إلى ضربهم والتقليل من قدرهم، وقبل السماح لهم بالسفر مع أقرانهم، وأذعن لتدخل الدولة في سحبهم إلى دورها الخاصة عندما يكون مقصرا في حقهم، وتقاسمت الأم الأدوار في جوانب التربية والتعامل مع الأطفال، وتحملت المسؤولية على قدم المساواة مع الأب بالنسبة لتأمين العيش، واقتربت كثيراً من مساواته في العديد من جوانب الحياة، وهذه عادات ومفاهيم تؤثر كثيراً على عملية التكيف بالنسبة للمهاجرين إلى البيئة الغربية.

وهناك بطبيعة الحال الكثير من العادات والتقاليد والقيم التي تختلف بين البيئتين منها ما يتعلق بالشرف، والتعامل مع المرأة، والعلاقة بين الجنسين، وغيرها الكثير مما لا يسمح المجال بتفصيله، وهي أمور تؤثر على مستويات الرضا والاتزان ومن ثم على التكيف مع المجتمع الجديد.

العوامل المساعدة على التكيف..

(8)

إن بعض جوانب البيئة الغربية المذكورة تؤثر في حياة المهاجر وتحدد أسلوب تفاعله أو تكيفه مع أساليب الحياة فيها، وإذا ما أردنا أن نناقش العوامل المساعدة على التكيف علينا أولا أن نشير إلى أن العوامل نوعان أحدهما خارجي يتعلق بالبيئة ذاتها، والآخر داخلي ذو صلة بالشخص المهاجر نفسه(7) وكما يأتي:

أ) العوامل الخارجية: يقصد بالعامل الخارجي فيما يتعلق بموضوعنا هذا، تلك النظم والقيم والعادات والتقاليد والتعليمات وأساليب الإدارة والتعامل وسبل العيش ومتغيرات الطبيعة وغيرها من الأمور التي تنظم وتؤثر على حياة الإنسان في البيئة الجديدة؛ لذا فإن فرص وجود بعض المستلزمات الخاصة لديمومة الحياة بمستوياتها الاعتيادية، أو القريبة من الاعتيادية، تعد من بين العوامل المساعدة على التكيف، خاصة في الساعات والأيام الأولى من الوصول إلى المكان الجديد، والتي يكون فيها المهاجر أو اللاجئ قلقاً وغير مستقر، ومضطرباً وغير دقيق في قياساته من الناحية النفسية، وهذا ما تؤكده بعض الشواهد لما يقوم به قسم من الدول الغربية في تعاملها مع الذين يدخلون حدودها لاجئين، عندما تضعهم في معسكرات نائية دون أن توفر لهم أبسط مستلزمات العيش، وهدفها في الغالب الحيلولة دون تكيفهم مع المجتمع الجديد، بل وتسجيل علامات للنفرة وعدم الرضا في عقولهم منذ اللحظات الأولى، أملا في أن يتركوا أرضها طواعية، وهذا ما يحصل بالفعل لبعض اللاجئين الذي يغادرون مثل تلك الدول ليتوجهوا إلى أخرى، وهكذا.

ب) العوامل الداخلية: ويقصد بها قدرات الإنسان وإمكانياته العقلية والعضوية وخصائصه النفسية التي تدخل طرفا متفاعلا مع العوامل الخارجية لتنتج مستوى معينا من التكيف، وهنا علينا التفريق بين عمليتي التكيف والتحمل التي يخلط بينهما البعض عند مناقشة مثل هكذا مواضيع، إذ إن التحمل مسألة داخلية، وهي قدرة خاصة، أو قابلية معينة تعين المعني على التعامل مع المتغيرات والضغوط المحيطة بأقل الخسائر الممكنة، وهي عموما من بين العوامل الداخلية التي تساعد على التكيف؛ فالشخص الذي يتمتع بقدرة جيدة على التحمل مثلا يستطيع أن يتجاوز كل مساوئ معسكر اللاجئين في النمسا، أو المجر، لحين البت في موضوعه وتحسين حاله بعد إعلان النتيجة وتمتعه بحق اللجوء قانونياً. هذا ومن المفاهيم ذات الصلة بالعوامل الداخلية مفهوم الرضا الذي يتعلق بكيفية إدراك الإنسان للواقع المحيط به واستعداداته النفسية للتفاعل مع ذلك الواقع أو التكيف معه تكيفاً إيجابياً يؤدي إلى سرعة اكتساب نوع من العلاقات وأسلوب التعامل وشكل من أشكال الانضباط والالتزام وتعلم مناسب للمفردات الفنية والتقاليد السائدة وتقبل لكل النواهي والممنوعات بمستوى من الثقة والالتزام النفسي.

(9)

وعموماً فإن عملية التكيف هذه تتحقق عادة من خلال:

أ) الامتثال لقواعد الضبط الاجتماعي في البيئة الجديدة: الضبط الاجتماعي مفهوم يستدل منه على الاستجابة الإيجابية للمعايير، والامتناع الطوعي، أو السلوك التجنبي لكل النواهي التي تحددها القوانين والتوجيهات والتقاليد السائدة، والمهاجر الراغب في إتمام عملية التكيف بصورة صحيحة عليه أن يتعرف أولا على معطيات تلك الضوابط ويتمثلها جيدا حتى تصبح جزءا من تكوين شخصيته الاجتماعية ونمطاً محددا لأدائه في المجتمع الجديد جهد الإمكان، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن التكوين النفسي للفرد - عسكرياً كان أم أستاذا في الجامعة أو عاملاً في المصنع، مهاجرا كان أم لاجئا - مليء بالانفعالات، والعواطف، والاتجاهات، والميول، والصراعات، ومجرد انطلاقها في البيئة الجديدة يؤدي إلى الفوضى والارتباك في أحيان كثيرة، لذا بات ضروريا أن يتعلم المهاجر كيفية التحكم بها وتوجيهها بالطريقة المعقولة من خلال ما يسمى بالضبط الاجتماعي، وهي الخطوة الأولى في عملية التكيف السوي (الصحي) مع البيئة الجديدة.

ب) التفاعل الاجتماعي: إن الحياة في المجتمعات الجديدة، تكون على الأغلب غريبة بالنسبة للمهاجر، وربما مثيرة لبعض التوترات التي تتطلب خفضها باستمرار، وخفض التوترات، وتقليل أثر الضغوط يأتي عادة من السعي لتكوين علاقات في داخل المجتمعات الجديدة مبنية على الود والإخاء والتقدير والاحترام حتى يتسنى للفرد المهاجر فيها أن ينمو ويتطور فكريا ونفسيا لمستوى يتحمل فيه ضغوطها المتعددة، وفقا لما تتطلبه طبيعة الحياة الجديدة. وعملية التفاعل مع المجتمع الجديد بالنسبة للمهاجر تتم عادة من خلال تعلم كيفية التعامل مع عديد من الأمور منها مثلا ما يتعلق بالبلدية، وكيفية استخدام وسائل النقل والاتصال (إذا لم تكن موجودة في بلده الأصلي) وحدود العلاقة مع الجيران والمؤسسات الاجتماعية وغيرها، وبمعنى آخر فإنه يكتسب داخل البيئة الجديدة أسلوب تكيفه مع إطارها العام، وضوابطها الاجتماعية. هذا ولكي تتم عملية التفاعل هذه بشكل صحيح لا بد أن يعي المهاجر:

أولاً- إنه إنسان؛ لـه أهدافه الخاصة ولـه حدوده، وعاداته وتقاليده، وللمجتمع الجديد ضوابطه، وتقاليده التي ينبغي احترامها وعدم التجاوز عليها.

ثانياً- إن لديه إمكانيات وقدرات إذا ما تم استثمارها استثمارا صحيحا يمكن أن تسهل عملية التكيف، وإن الشعور بالنقص والدونية كفيل بخلق نزعات عدوانية وحالات انفعالية تؤثر على التزامه وتكيفه ومن ثم على حالته النفسية.

ثالثاً- الابتعاد عن سلوك الأنانية، أو الذاتية المفرطة وأن يضع المعنيون نصب أعينهم ما للغير من حقوق وما عليهم من واجبات.

رابعاً- إن البيئة الجديدة يمكن أن تستثمر كأساس لعملية التعلم وبناء العلاقات السليمة، وكمجال مهم لعملية الترويح أو التنفيس الانفعالي، وكمجال مناسب أيضاً لتحقيق الشعور بالأمان والتماسك والتضامن.

ج) تحديد الأهداف العامة: إن وجود هدف معروف وقابل للإدراك من قبل المهاجر في عيشه بالمجتمع الجديد يؤدي إلى توحده مع وسائل وأدوات تحقيق ذلك الهدف، وبالتالي يسهل عملية التكيف مع ظروفه المحيطة. والأهداف في هذا المجال عديدة ومتنوعة يمكن أن يكون بعضها يتعلق بإكمال الدراسة، ويتعلق الآخر بجمع المال، ويكون الثالث بالحصول على الأمان وغير ذلك من الأهداف التي يدفع وجودها المعنيين إلى تحمل الضغوط من ناحية، والتفاعل مع الظروف المحيطة من ناحية أخرى وبما يسهل عملية التكيف.

الإنسان المهاجر في عملية التكيف..

(10)

إن الإنسان الفرد في عملية التفاعل ومن ثم التكيف مع البيئة الجديدة ليس سلبيا، ولا يمكن أن يكون أو يبقى متفرجا، خارج الساحة النفسية للتكيف، وإن خطواته للبقاء في هذه الساحة فاعلا تبدأ بالفهم الصحيح لذاته وكذلك لبيئته الجديدة؛ أي إنه لابد وأن يعي جيدا نواحي القوة والضعف في شخصيه، ويكون قادرا على تحديد معالم بيئته وظروف الجماعة المحيطة وتحليل كافة معطياتها بدقة، فإذا ما تمكن من ذلك فسيكون بمقدوره أن يتبين مدى قبوله لنقاط ضعفه، والعوامل غير المرغوبة في بيئته كخطوة أولى يعقبها السعي لتغيير نفسه بشكل يتواءم والبيئة كخطوة ثانية، دون التوقف عند أخطائها، وهو في مسيرته هذه سيكتسب الكثير من المفاهيم والقيم والاتجاهات التي من خلالها يستطيع أن يعيش متفاعلاً مع جماعته والآخرين من ناحية، وضوابط البيئة والتزاماتها من ناحية أخرى. هذا ومن الخصائص والأمور التي تنعكس إيجابا على عملية التكيف، أو التي يسهل تحقيقها ما يلي:

أ) الالتزام بمعايير المجتمع الجديد، وكذلك إدراك المسؤولية تجاه النفس والآخرين أفرادا ومؤسسات دون أي تردد.

ب) التفكير موضوعيا بما يتعلق بالوضع الخاص، والابتعاد عن المغالاة في تقدير القدرات الذاتية وكذلك عن التقليل منها، كما ينبغي عدم المغالاة في تقدير قدرات القريبين في المجتمع الجديد، وعدم الحط من قدرهم.

ج) البدء بعملية التفاعل مع القريبين جهد الإمكان، وقبولهم بغض النظر عن الدين واللون والقومية، أو المركز الاجتماعي والقدرة الاقتصادية.

د) التوجه نحو التعلم باستمرار، وكذلك الترحيب بنصائح الآخرين، وتقدير خبرة الغير، والاستفادة من أي فشل في الطريق، كما ينبغي الابتعاد عن محاولات إلقاء اللوم على الغير، أو تبرير الأخطاء الذاتية.

هـ) مواجهة الواقع باتزان وتروّي بعيداً عن الانفعال أو الذهاب بعيداً في الخيال.

و) عدم التناقض بين الأهداف الذاتية والأهداف العامة للمجتمع الجديد، وأن تكون تلك الأهداف ممكنة التحقيق، والمستويات التي ينبغي الوصول إليها معروفة في كل مرحلة من المراحل، وأن يعاد على ضوئها النظر في تلك الأهداف كلما زادت الخبرة والنظرة للأمور نضجا وواقعية.

ز) التعاون مع الزملاء والقريبين في المنطقة على طول الخط، وزيادة الولاء لهم كمجموعة يمكن الاتكال عليها في حالات الشدة.

ح) عدم الإخلال بالنظام القائم والقوانين السائدة، احتراماً للنفس والمجتمع الجديد، وتقديرا لقبول العضوية في هذا المجتمع

الخاتمة..

(11)

إن التكيف لظروف البيئة الجديدة مسألة مهمة بالنسبة إلى المهاجرين وكذلك اللاجئين، وأهميتها تأتي من إسهامها المباشر بالوصول إلى حالة الرضا والاتزان التي ينشدها الإنسان بطبيعته، ودفعها باتجاه تحقيق الذات، وتقليل احتمالات الإصابة بالاضطرابات والمشاكل النفسية؛ لأن الفشل في الامتثال للضوابط والمعايير الجديدة، أو التفاعل مع متغيراتها الكثيرة قد يدفع البعض إلى السلوك غير السوي سواء بارتكاب المخالفة، أو العيش تحت وطأة الأمراض النفس جسمية (السايكوسوماتية)؛ إذ إن المهاجر عادة ما يواجه في تلك المرحلة المهمة من حياته بعض الأسئلة، أو المشاكل ذات الصلة بعملية التكيف، منها:

أ) كيفية التخلص من الروابط والعلاقات والحاجات النفسية التي كانت تُشْبعها أو تقدمها لـه الحياة في البيئة القديمة.

ب) كيفية التعامل مع متطلبات البيئة في مواقف حديثة بالنسبة له (لم يكن قد خبرها من قبل) وكيفية الالتزام والتقيد بمستلزماتها أو ضوابطها الشديدة.

ج) كيف يمكن إقامة علاقات مع الأقران والمحيطين، وإدامتها في ظروف الشد والتوتر دون أية خسائر نفسية.

وتلك وقائع عدَّ المختصون في علم النفس أن مصاعب التوافق أو المشاكل الناجمة عن سوء التكيف ومعطيات البيئة الجديدة غالبا ما تعود إلى فشل الإنسان في الاستجابة إلى أحدها أو لجميعها.

وختاما يمكن التأكيد على أن التكيف عملية ذات صلة مباشرة بمستوى أداء المهاجر والتزامه وحالته النفسية على السواء، فإن جرت بشكل طبيعي كان الاقتناع بالواقع والرضا عن الحالة باديا على السلوك، وسرعان ما تظهر آثاره تكيفاً صحيحاً مع البيئة الجديدة، وتوازناً نفسياً، ورضىً مقبولاً عن الحاضر، وتفاؤلاً بالمستقبل.

المصـــادر:

(1) مخيمر، صلاح (1975) المدخل على الصحية، القاهرة: الأنجلو المصرية.

(2) مليكة، لويس كامل (1970) سيكولوجية الجماعات والقيادة، القاهرة: مكتبة النهضة المصرية.

(3) مـخيمر، صلاح (1977) تناول جديد في تصنيف الأعصبة والعلاجات النفسية، القاهرة: الانجلو المصرية.

(4) سورة التوبة، الآية 105.

(5) عبد الغفار، عبد السلام (1973) في طبيعة الإنسان، القاهرة: دار النهضة العربية.

(6) سورة الإسراء، الآية 23.

(7) حنا، عزيز والعبيدي، ناظم (1990) علم نفس الشخصية، بغداد: جامعة بغداد.